هيثم رباني
قبل أقل من عامين عن انتهاء عهدته الرئاسية الثانية، فُـوجئ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بظاهرتين حيّـرتاه، ولم يجد لهما وصفا للتعبير عنهما، غير "فقدان الروح الوطنية". وتتمثل الظاهرتان المتفشيتان في صفوف الشباب في الهجرة غير الشرعية باتجاه أوروبا والانتحار عبر تفجير النفس باسم تنظيم القاعدة.
أما الوصف بفقدان الروح الوطنية لكل مهاجر غير شرعي ومنتحر باسم تنظيم القاعدة، فقد قاله الرئيس أمام ولاة الأقاليم، وكم كان متحسّـرا وهو يصف بَـني بلده بهذا الوصف، بل واتهم الأداء الحكومي بالفشل في الإحاطة بمشاكل الشباب، ثم ما لبث بوتفليقة أن أمر الولاة الثمانية والأربعين بالاجتماع مع وزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني في جلسات مغلقة، مُـنعت الصحافة من حضورها وقيل بأن التلاسن الحاد وتبادل الاتهامات، كانا عُـملة هذا الاجتماع.
يقول جابي عبد الناصر، أستاذ علم الاجتماع "هل يُـعقل أن تنظَّـم جلسات مغلقة لدراسة مشاكل من هذا النوع، التي يعرفها الكل وبلغت مداها الأقصى؟ وكيف يجتمع وُلاة لمدة ثلاثة أيام ولا يصدر عنهم أي شيء، لا وثيقة ولا إستراتيجية، وحتى الصحافة لم يُـسمح لها بالدخول، يبدو لي أن الأمور تُـحلُّ بطريقة عجيبة في الجزائر، خاصة وأن هذا المشكل اجتماعي ويهُـم كل العائلات الجزائرية التي تريد معرفة كيفية حلّ مشاكلهم، ما هي الإستراتجية وما هي الأمور المقررة وما هي الأموال المرصودة"..
ولدى اتهام الرئيس الجزائري للمهاجرين والمنتحرين بغياب الروح الوطنية، عدّد بوتفليقة الإنجازات المحقّـقة خلال ولايتيه، ومن بينها تشييد وإقامة المئات من المراكز الرياضية والمنشآت التعليمية والمؤسسات الصحية، وأكد الرئيس أن الدولة تكفّـلت بنقل الطلبة وإيوائهم، حتى أنها تدرس جميع الاختصاصات من اللغة العربية إلى عِـلم الذرة بالمجّـان، بل وتتكفل بطلبة هذه العلوم، نقلا وإطعاما وإيواء، بطريقة لا تقوم بها أي دولة في العالم... وهذا أمر صحيح يُشهد به للرئيس الجزائري.
مشكلة الهجرة غير الشرعية
غير أن حلقة تنقص رئاسة الجمهورية كي ترتبط بالمجتمع بطريقة منطقية، يقول الاجتماعي الأستاذ جابي عبد الناصر : "ظاهرة الهجرة غير الشرعية لم تكن معروفة في الجزائر، التي هي قريبة من غرب أوروبا، ومع ذلك، فإن الجزائريين لم يهاجروا عندما كان الغرب مفتوحا لهم من دون تأشيرة إلى غاية النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، فهناك أسباب جديدة وراء هذه الظاهرة، من بينها نسب البطالة العالية وسوء حالة الشباب، ولكن هناك مشاكل مرتبطة بالوضع الثقافي والدور الذي تقوم به الفضائيات والصورة التي تقدمها وسائل الإعلام للعيش في أوروبا، فهناك نمط عيش مرغوب فيه لدى الشباب، عكس ما هو مقدّم لهم في الجزائر، فمع نِـسب البطالة العالية، ليس هناك ما يقدم لهم على مستوى الترفيه والسياحة والرياضة، فهي إذن سيطرة صورة نمطية عن أوروبا وعن الغرب".
كيف يمكن الربط بين تحليل الأستاذ جابي عبد الناصر وأمر الرئيس الجزائري بتنظيم جلسات مغلقة بين الولاة ووزير الداخلية، لدراسة نفس المشاكل التي تُـزعج المواطن العادي والرئيس والسياسي وعالم الاجتماع؟
بالنسبة للجهاز الرسمي، الجواب واضح ولا يحتاج إلى تعديل، وهو أن الدولة هي التي تقرر وهي التي تحدِّد السياسات المتّـبعة لحلّ مشكلتَـي "الانتحار باسم تنظيم القاعدة" و "الهجرة في قوارب الموت" إلى جنوب القارة الأوروبية.
وفي أغنية لمغني الرّاب الشهير لطفي "دوبل كانون"، وهي كلمة فرنسية معناها المدفع المزدوج، فإن الهجرة غير الشرعية لها سبب واضح، وهو سوء أحوال المعيشة، فقد جاء في بداية هذه الأغنية حوار بين شابة جزائرية تعيش في أوروبا وجزائري وصل للتّـو من البلد، حيث تقول المرأة: لماذا تقبلون العمل كمنظّـفين في المقاهي والحانات في إيطاليا وفرنسا، وترفضون القيام بنفس العمل في الجزائر؟ فكان رد الشاب: أختي العزيزة لا تتعجّـلي اتهامي لأنك لو كنت تعيشين في بلدنا ما قلت هذا الكلام، ففي الجزائر حياتي كلها عمل، لقد كان لي كشك متنقل أبيع فيه السجائر، وإلى متى أبيع السجائر"؟
ويضيف الشاب المهاجر: "هناك من يقضي عمره في الدراسة، ثم لا يجد منصب عمل يليق به، همومنا كبيرة يعشيها، ليس فقط الذي يبيع السجائر وليس فقط الطبيب وليس فقط المتعلم وليس فقط المحامي، كل الناس يشتكون من همّ البلد، كيف أعمل؟ هل أبقى دائما أبيع السجائر؟ أفهميني في هذه".
حياة لا تُـــطاق....
وبالنسبة للأستاذ جابي عبد الناصر، فإن الجواب على هذا الإشكال لا غبار عليه: "ربما يجب طرح السؤال على الشباب كيف ينظرون إلى السياسة والسياسيين؟ أنت كصحفي، اسأل الشباب والشابات كيف ينظرون إلى هذا الجيل الذي سيْـطر على الحياة السياسة منذ استقلال البلاد عام 1962 وما هو تقييمه له، وستعرف أننا أمام مواقف متنافرة وصراع أجيال. فالجيل الكبير يتّـهم الجيل الصغير بأنه غير وطني ولا يحب الوطن ولا يقوم بمجهود إلى آخره، ومن جهة أخرى، يتّـهم الشباب هذا الجيل بأنه جيل لا يسيّـر الأمور بطريقة جيدة ولم يُـحقق الرفاهية للبلد، وبأنه قد يضيع الاستقلال الوطني من الأساس".
تربط الجزائر بالاتحاد الأوروبي اتفاقات تقضي بمُـواجهة الهجرة غير الشرعية، وصرامة القوات البحرية والجمارك الجزائرية لا تخفى على كل من يريد الهجرة في قوارب الموت، بل وعلمت سويس إنفو من طبيب في مستشفى ابن سينا بمدينة عنابة، الواقعة على بعد 500 كلم شرق العاصمة، أن قاربا تابعا للبحرية الجزائرية اضطر إلى الارتطام بشكل خفيف مع قارب هزيل حاول ركّـابه الوصول إلى سواحل إيطاليا.
ويقول الطبيب : "لقد انقلب القارب الصغير، وكم كانت دهشتي عندما رأيت المُـسعفين ينزلون ركّـاب الزورق من سيارات الإسعاف ورائحة الديزل تفوح منهم، كانت هناك شابات في العشرينات بعضهن متعلّـمات، وخلال إسعافهن كنت أسألهن هل أنتن نادمات على ما فعلتن؟ فكانت إجابتهن: لا، سنعود وسنستقل قاربا آخر، الحياة في هذا البلد لا تُـطاق، سنصل إلى إيطاليا مَـهما كلّـفنا الأمر". لقد قالت النسوة هذا الكلام، وهن يعلمن أنهن بعد الإسعاف سيُـحوّلن إلى القاضي الذي سيأمر بحبسِـهن ستة أشهر على الأقل.
تناقُـض صارخ
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد أمر الرئيس الجزائري بفتح الموضوع في وسائل الإعلام التابعة للدولة، ومن بينها راديو البهجة، الذي يبث في العاصمة وما حولها من ولايات قريبة، ومما جاء في حوار لإحدى الصحفيات مع أحد الشباب الذين أنقذوا في البحر وهم في طريقهم إلى السواحل الإسبانية سؤال على لسان الصحفية: "لقد كِـدْت تموت في البحر، هل أنت خائف؟ هل أنت مقتنع الآن بأهمية الحياة في بلدك الجزائر؟ فيرد الشاب المسعف: "هل أنت مجنونة، سأعود إليها ثانية ولن أعيش في هذا البد..."
من جهتها، نقلت يومية "الخبر" الواسعة الإنتشار عن ضابط إيطالي قوله، عندما تسلم عددا هائلا من الجزائريين وصلوا بأعجوبة إلى السواحل الإيطالية انطلاقا من مدينة عنابة الشرقية: "كيف يمكن لهؤلاء أن يفرّوا من بلد غني كالجزائر؟ لا أفهم هذا الوضع إطلاقا".
لقد بلغت احتياطات الصّرف من العُـملة الصعبة حدودا لم تعرفها الجزائر على الإطلاق منذ استقلالها قبل 45 عاما، وهي تقارب لو جمعنا قيمة الذهب وأصول السندات والفوائد المحصلة من استعمال هذه الأموال من طرف البنوك الغربية، مائة مليار دولار أمريكي، وكونها بالدولار لا يؤثر كثيرا رغم انخفاض قيمته في الظرف الحالي، لأن الجزائر تفضل أن يكون مخزون أموالها ذهبا، فلذلك يكون التأثير محدودا بعض الشيء.
وفي تناقض صارخ، يعيش الجزائريون وضعا اجتماعيا قاسيا لا تغني معه أموال الدعم الاجتماعي شيئا، بل وحتى التعليم المجاني والصحة المجانية لا تغنيان شيئا، لأن الوضع يمثل أزمة حكم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولئن تشابهت الجزائر مع العديد من الدول العربية في هذه المسألة، إلا أن التنوع البشري بقبليّيه وحضريّيه وتباعد التجمعات البشرية وتكتلها على شكل شعوب مختلفة، قد يعجل بحدوث تغيير ما، خاصة وأن الجيل القديم الحاكم قد وصل إلى مرحلة التكلّـس المعروفة عند الكثير من الأنظمة العربية.
وهناك عامل آخر قد يساعد على التغيير، ويتمثل في تحوّل الخوف لدى الجيل الجديد إلى شيء آخر، بل وحتى الموت في حدّ ذاته قد تغيَّـر معناه، يقول الأستاذ جابي عبد الناصر: "هذا يدُلّ على حالة يأس يعيشها الشباب، فالسفر عبر البحر بهذا الشكل مقرون بالموت، وهذا يدل على يأس الشباب من إمكانية تحسّـن أوضاعهم في البلد وإدماجهم في المجتمع كي يكونوا أسَـرا، فنسبة الزواج انخفضت ومعدل الزواج بالنسبة للرجال، هو اثنين وثلاثين عاما، وبالنسبة للنساء فهو في حدود ثمانية وعشرين عاما، بمعنى أن الجزائري قد فقد القُـدرة على تكوين أسرة ويعاني من مشكِـل جنسي فظيع جدا، لقد وعَـدوا أكثر من مرّة من قبل، رجال السياسة والأحزاب الذين يتكلّـمون عن أرقام وعن تحسن مستوى المعيشة، ويعطون أرقاما إيجابية لا يجدها الشباب في أرض الواقع". وبما أن "الطبيعة لا تحتمل الفراغ" مثلما يُقال، فإن أسوأ شيء يمكن أن يقع فيه أي نظام سياسي، هو فقدان القدرة على إبداع الأفكار التي تساهم في رفاهية مواطنيه، وقد يكون القمع والخداع من الوسائل التي تطيل بقاء النظام بعض الشيء، لكن حركية المجتمع أقوى من حركية جِـهاز أو مجموعة من الهياكل تتلخص مهمتها في التنظيم وصناعة الأفكار. وبسبب تناقض هذين التيارين، فلا محالة من التأقلم إن أراد شباب الحكم البقاء في كراسيهم، خاصة في بلد كالجزائر، وهو المغرب الأوسط الذي آوى غلاة الشيعة عندما رفضهم المشرق، فأسسوا الدولة الفاطمية، وهو الذي آوى سُـنّة أهل البيت فكانوا الأدارسة، وهو الذي آوى خوارج العراق واليمن، فكانوا الأباضية، وهو الذي يأوي إرهابيي هذا الزمان، ولا يعلم أحد كيف يكون هؤلاء بعد زمن، خاصة إذا لم يتعلم أصحاب القرار دروس الماضي، والتاريخ مُـعذر لِـمن أنذره.