منهمكة في قراءة الكتاب الذي بين يديها، كعادتها، من ينظر إليها يجزم أنها في عالم آخر، لا تحس بمن يمر من أمامها و لا بالأحاديث التي تدور حولها.
اليوم هو السبت، وأمل متعودة في هذا اليوم على زيارة المكتبة،بعد أن تقوم باختيار ما ستقرئه، تغادرها لأنها تعتبر الجو بداخلها كئيب، تخرج لتجلس بالساحة التابعة للمكتبة، تحب أن تبدأ بقراءة أحد الكتب على صوت مياه النافورة التي تتوسط الساحة.
غالبا ما يكون المكان يعج بالأشخاص خصوصا بهذا اليوم، وغالبا ما يكون رواد هذه المكتبة من التلامذة و الطلاب، أي من جيل الشباب. وهذا ما يفسر الضوضاء و الضحكات التي تتعالى من وقت لآخر، فبعض الطلبة يستغلون هذه الساحة لاجتماعاتهم و أحاديثهم فقط.
وهذا ما كان يثير غضب أمل دائما. و كأن المدينة قد خلت من الأماكن التي يمكن لهؤلاء الشباب تبادل قصصهم فيها غير ساحة المكتبة، لذا قد تجد نظراتها أحيانا قد تركت صفحات الكتاب و توجهت لمجموعة من المستهترين كما تحب أن تسميهم، ونظراتها الحادة واضحة جدا، تكاد تنطق بكلمتين: أنتم مزعجون .ثم تعود لتنغمس في عالمها الخاص.
كثير من رواد المكتبة كانوا قد تعودوا على هذه الفتاة، صاحبة الطبع و الملامح الهادئة، التي تزور المكتبة كل يوم سبت، وتجلس في نفس المكان، ونادرا ما تخاطب أحدا.
اليوم وقع اختيار أمل على رواية رومانسية، كانت منسجمة معها كل الانسجام، وعيونها تلتهم الصفحات في نهم شديد.
لكن، هل تعرفون ذلك الإحساس الذي يخبركم أن هناك عيونا تراقبكم، ذلك ما أحست به أمل فرفعت رأسها ببطء..
لتقع عينيها على عيني ذاك الشاب، كان يتمعن فيها بكل اهتمام. وما أثار استغراب أمل أنه لم يرتبك لكونها لاحظت نظراته، بل ابتسم ابتسامة جانبية هادئة، وتبادل كلمتين مع فتاة جالسة معه، ثم عادت نظراته لتتمعنها بنفس الاهتمام.
أحست أمل بارتباك شديد ، فلم تجد غير أن ترجع لروايتها، هاربة من نظرات هذا الشخص الغريبة و المستفزة في نفس الوقت، لكنها لم تستطع التركيز ،وكأنها كانت ترى عينيه على صفحات الرواية ترمقها بنفس الطريقة، عيون سوداء عميقة، تجعلك تبحر رغما عنك في أعماقها..
ابتسمت أمل بسخرية على نفسها وهمهمت بصوت خافت: وما يهمني منه، فلينظر كما يشاء، لم أنا مرتبكة هكذا ..
وقبل أن تعاود محاولة تركيزها فيما تقرأ، أضاءت شاشة هاتفها النقال باتصال، بعد أن رأت اسم صديقتها سلمى ردت بسرعة : ألو .. نعم؟
جاءها صوت سلمى من الطرف الآخر صارخا :
أمل..أين أنتِ؟ لا تقولي لي ما زلت بالمكتبة.. ألم نتفق أن تمري علي اليوم..قد أخبرتك بحاجتــي إلى الذهاب لل..
قاطعتها أمل بعد أن غيرت نبرة صوتها قليلا: لحظة، لحظة يا آنسة.. بمن تتصلين؟؟
ردت سلمى بتردد: ألستِ أمل؟
حاولت أمل أن تكتم ضحكتها و هي ترد: من الممكن أن أكون أمل في حالة واحدة، وهي أن لا تصرخي و أنت تتحدثين معي، آلمتني أذني من حدة صراخك..
زادت حدة صراخ سلمى وقالت بغضب: كم أنت سخيفة.. أولا نسيتِ موعدك معي، ثانيا تستظرفين نفسك..أمل يا سخيفة أنا أنتظرك في منزلي أين أنت؟
ضحكت أمل على انفعال صديقتها، هي دائما تجعلها تنفعل وتستمتع بهذا كثيرا.
سلمى: وتضحكين أيضا..حسنا سيكون لي معك حديث طويل، لكن بعد أن تسرعي فأنا أنتظرك و أتوقع أن تكوني عندي في أقل من ربع ساعة..
توقفت أمل عن الضحك كي لا تثير غضب صديقتها أكثر و ردت: أنا لازلت بالمكتبة، ولن أستطيع الوصول لمنزلك في ربع ساعة، أنت من تستظرف نفسها الآن.
سلمى ولا زال صوتها يحمل نبرة غضب : لا أدري لما أحتملك و لم أنت بالذات صديقتي
أمل : لأنني محبوبة و أنت لا تستطيعين غير مصادقتي.
سلمى: أقسم أنك سخيفة..سأمر عليك بالمكتبة بعد قليل، سأطلب من سامي إيصالي بسيارته، ولربما يوافق على إيصالنا معا لوسط المدينة ..
أمل:لا يا سلمى، إلا أخوك سامي، لست في حالة تسمح لي باحتمال كلماته المزعجة و لا الشجار معه.
سلمى وهي تكاد تنفجر: أمل..أنت أساسا السبب في أنني سأرجوه الآن ليوصلني إليك، و أنت تعلمين أنه سيستغل الفرصة لإذلالي، ثم لست أملك الوقت لأنتظرك حتى تمري علي بالمنزل، و لا أن أنتظر سيارة أجرة توصلني إليك، وأنا بحاجة لأشياء كثيرة علي أن أشتريها اليوم، وقد وعدتني أننا سنتسوق اليوم، فكما ترين أنت المخطئة، لذا من الأفضل أن تصمتي و تنتظريني حيث أنت..واضح؟؟؟
ردت عليها أمل وهي تمثل الخوف: حسنا..أرعبتني.. سأنتظرك لكن أرجوك لا تتأخري،
ورمت بنظرة خاطفة إلي حيث يجلس ذاك الشاب، وجدته منشغلا بالحديث مع مجموعة من الفتيات،
ثم أكملت: لا أود البقاء هنا طويلا..
ضحكت سلمى أخيرا وقالت: أمل لا تود البقاء طويلا في المكتبة.. يا سبحان الله. حسنا سأتركك الآن ولن أتأخر.
وضعت أمل الهاتف في حقيبتها و عادت تنظر لذاك الشاب، ليست هذه هي أول مرة تراه فيها، هو أيضا من رواد المكتبة الدائمين.
و إن كان واضحا أن أسباب مجيئه هنا تختلف عن أسبابها، ابتسمت بسخرية وهي ترى تلك المجموعة من الفتيات التي تلتف حوله، ويبدو على كل واحدة منهن استمتاعها بالحديث معه، ولم تخف عليها نظرات الإعجاب بعيونهن.
مما جعلها تتساءل عن سبب هذا الاستمتاع، أتراه حديثه المهم و المشوق كما يظهر، أو مظهره الجذاب. انتبهت أمل لنفسها و أوقفت أفكارها وهي تستعجب اهتمامها المفاجئ به، صحيح هو شخصية من الصعب عدم ملاحظتها، وذلك لمظهره الجذاب و الأنيق، لكنها تراه دائما هنا، وكانت قد لاحظت أنه غالبا ما يكون محاطا بمجموعة من الفتيات لا يتغير أفرادها تقريبا، بالإضافة إلى شاب آخر،حاول مرة أن يحادثها لكنها لم تعطه اهتماما. هي لم تهتم لهم جميعا من قبل، من المؤكد أن طريقة نظره إليها اليوم، هي السبب في أفكارها و تساؤلاتها حوله. إذا فلا مبرر للتعجب ،الموضوع طبيعي و عادي جدا..
منذ أن صعدت أمل السيارة، و سلمى لم تنطق بحرف واحد، كانت تتابع الطريق من النافذة بوجوم، وأمل كانت تنظر إليها و هي مبتسمة، و لم تحاول الحديث معها، لأنها تعلم أن سلمى هي من ستضيق ذرعا من الصمت، وستتحدث بعد دقائق.
لكن سامي هو من تحدث حين لاحظ الصمت المخيم على أخته و صديقتها:
- ما بكما.. من الغريب أن تكونا معا و تلزما الصمت، هل وقعت مشكلة بينكما أم ماذا؟
سلمى لم تهتم بعبارته، أما أمل فرمقته ببراءة مصطنعة وكأنها تقول:ليست هناك أي مشكلة بالنسبة لي.
ضحك سامي على رد أمل الصامت وهو يقول:
- من فضلك هذه النظرات البريئة وفريها لغيري، فهي لا تخدعني يا أمل، قولي لي ماذا فعلت لأختي؟
ردت أمل باستنكار: أنا؟؟ أبدا ،لم أفعل شيئا !!
وأخيرا نطقت سلمى وهي تصرخ بوجه أمل :
- لم تفعلي شيئا غير أنك نسيتي أو تناسيتي أني طلبت منك أن لا تذهبي اليوم لتلك المكتبة، و أني بحاجه إليك لنتسوق معا، وقد وافقت، و اتصلت بك أمس ليلا لأذكرك لكن..
قاطعتها أمل:
- نعم أعلم، لكن قلت سأذهب لأحضر بعض الكتب ثم أمر عليك، لا أدري كيف داهمني الوقت حتى وجدتك تتصلين بي.
قال سامي ضاحكا:
- لو طلبت رأيي يا سلمى هذا ليس عذرا، صديقتك هذه لا تعيرك أي اهتمام وتفضل عليك الكتب..
رمته أمل بنظرات حانقة وهي تقول:- من فضلك، لم يطلب منك أحد التدخل أو إبداء الرأي..
هز سامي كتفيه وقال بلامبالاة :- أنا لم أخاطبكِ، أنا أبدي رأيي لأختي العزيزة وليس لك.
تجاهلت أمل عبارته وعادت تبتسم ببراءة لصديقتها وهي تقول:
- حسنا يا سلمى كيف تودين أن أكفر عن هذا الخطأ الكبير، الذي اقترفته في حق صديقتي ؟
ردت سلمى ببرود وكأنها لم تتأثر بأسلوب أمل في الحديث :
- ما يزعج أكثر أني لم أسمع منك حتى كلمة آسفة للآن.
ضحكت أمل على صديقتها وهي تقول:- آسفة..آسفة..آسفة
بدأ شبح الابتسامة يظهر على شفتي سلمى لكنها حاولت الاحتفاظ ببرودها وقالت : لا يكفي.
أمل: وما الذي سيكفي إذا؟
ابتسمت سلمى ابتسامة عريضة و هي تشير لخدها، فاقتربت منها أمل ضاحكة و عانقتها ثم طبعت قبلة على خدها.
استدار سامي إليهما قائلا : ستلتهمين أختي، أتركيها و شأنها...
ردت أمل بحنق: أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة،أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا، ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
لم تكد تنهي عبارتها حتى توقفت السيارة فجأة جعلتها تهتز بقوة في مكانها، وقبل أن تنطق بكلمة، وجدت سامي يفتح باب السيارة أمامها قائلا ببرود شديد : وها قد وصلتي..
ثم استدار لأخته وأكمل: لا تتأخري يا سلمى، فلن آتي لأصطحبكما إن تأخرتما ولم تجدا سيارة أجرة، مفهوم؟
ردت سلمى وهي مازالت أيضا مصدومة من طريقة توقفه بالسيارة: أولا لم يكن عليك أن تتوقف بهذا الشكل.. أرعبتني ، ثانيا أنت وهذه السخيفة- و أشارت لأمل- تتصرفان كالأطفال، و أظنه حان الوقت لتغيرا طريقة التعامل هذه، ثالثا قد أخبرت أمي أني لربما أتأخر، ولا تخشى شيئا لن أتصل بك لتصطحبنا، سنتدبر أمرنا.
فور أن نزلت الفتاتان من السيارة، انطلق سامي بها بسرعة مخيفة، جعلت كل من في الشارع يتابعه بذهول وهو يبتعد.
قالت سلمى و هي تمسك بيد أمل و تجذبها ناحية محل للملابس: لا أدري ما يحدث له أحيانا يتصرف بجنون
ردت أمل ساخرة: أحيانا ؟ !! أخوك هذا.. الجنون صفة ملازمة له..
سلمى : لا أدري، ولكن عليكما أن تغيرا أسلوب حديثكما معا، تتصرفان فعلا كالأطفال.
ردت أمل بملل متعمد لتقفل الحديث بهذا الموضوع : دعينا من هذا الكلام، فليس الأمر بيدي، هو من يجعلني أتحدث بهذه الطريقة بتصرفاته و كلماته المستفزة.
**********
في هذه الأثناء كان سامي قد توقف بالسيارة على جانب أحد الشوارع، فقد شعر بضيق شديد ، كانت كلمات أمل تترد في ذهنه : أتركنا أنت وشأننا و استدر و أنظر أمامك ستتسبب لنا في حادثة، أو على الأقل أوصلنا لمبتغانا ثم تسبب فيما تريد من حوادث لنفسك.
كان يتساءل لم كلماتها جعلته يتضايق لهذه الدرجة، أ لأنها تعبر عن عدم خوفها عليه و اهتمامها به، ولم يتضايق من هذا؟ هذا الأمر معروف ومعلوم لديه.
أمل انتقلت للسكن بحيه وهي بنت العشر سنوات، وفور وصولها أصبحت هي و أخته صديقات، بل علاقتهما تتعدى الصادقة بكثير، هما كالأختين تماما.
حتى والديه ووالدي أمل أصبحت تجمعهم علاقة وطيدة،تحولت العائلتين تقريبا لعائلة واحدة، و أمل كان تقضي أغلب أوقاتها بمنزلهم ،لأنه يحتوي على حديقة واسعة تسمح لهم باللعب بحرية، ابتسم سامي وهو يتذكر كل الأحداث التي جرت بتلك الحديقة وهم صغار، هو يكبر أمل و سلمى بثلاث سنوات، لكنه كان يفضل اللعب معهما على اللعب مع أولاد حيه، بالأحرى ليس اللعب معهما لكن مضايقتهما باستمرار، وخصوصا أمل، كان لا يفارقها،كظلها تماما. ويتفنن في طرق مضايقتها و إخافتها فيجعلها تبكي دائما، ودائما ما كان يتلقى التأنيب و العقاب من والديه ليتوقف عن مضايقتها، لكنه لم يتوقف أبدا، ولليوم لم يتوقف..
أدار سامي محرك السيارة ثم انطلق عائدا لمنزله، والابتسامة لم تفارقه وهو يحدث نفسه : نعم لازلت سامي الصغير الذي يحب مضايقة أمل ورؤية دموعها، صحيح هي أصبحت فتاة قوية، لم تعد تلك الطفلة الضعيفة، ولم أعد أرى تلك الدموع كالسابق، ولكن نظرتها لي هي هي لم تتغير، سامي المشاغب المزعج الذي عليها أن تبتعد عنه لتأمن شره. فلم أتساءل إذا عن سبب أسلوبها الفظ في التعامل معي، أنا من فرض ومنذ زمن هذا الأسلوب في التعامل بيننا، ثم لم أشغل نفسي بهذا، هل أريدها أن تغير رأيها بي؟ ولم قد أريدها أن تغيره؟؟
الأيام هي التي ستمنح سامي الأجوبة التي لم يعثر عليها الآن..
*********
في المركز التجاري، كانت أمل قد بدأت تحس بالتعب من الانتقال بين محلات الملابس و الأحذية و والحلي والعطور...إلى آخره.
والمشكلة أن سلمى لا يبدو عليها أي تعب، بالعكس كلما اشترت شيئا، اكتشفت أنه لازال ينقصها أشياء، فتعود للبحث عن ما تريد في المحلات بكل نشاط و حماس. وهي تجر أمل وراءها جرا..
لم تستطع أمل المتابعة فتوقفت وهي تأن : سلمى كفاك ما اشتريت، قدماي تؤلمانني لن أستطيع متابعة السير..
ردت عليها سلمى من دون أن تلتفت إليها وهي تدقق النظر في الفساتين المعروضة على واجهة محل: - غدا صباحا سيغادر أحمد باريس، ويأتي عندنا ليراني، و لن يكون عندي الوقت بعدها للتسوق، تعلمين أن حفل زفافنا بعد أسبوعين، وبعدها سنسافر، وأنا للآن لم أبتع كل احتياجاتي..
ابتسمت أمل ابتسامة ذات معنى وهي تقول:
- جيد، من المؤكد أنكما ستخرجان سويا..فلم لا تؤجلين شراء بضعة أشياء حتى يكون معك ويساعدك في الاختيار، رأيه مهم أيضا كما تعلمين..
ردت سلمى و هي تهم بالدخول للمحل:- لا..هو لا يحب التسوق، خصوصا معي..
مطت أمل شفتيها وقالت باستسلام وهي تتبعها لداخل المحل:
- لأنه يعلم أن التسوق معك من المهام الصعبة، قد تورمت قدماي من السير، وأنت لا تختارين شيئا بسهولة، علينا أن نطوف بكل المراكز التجارية حتى تجدي ما يرضيك، ثم لا أفهم لم تبتاعين كل هذا، بعد أسبوعين ستكونين بباريس، بإمكانك أن تجدي أشياء أجمل بكثير هناك..
أغمضت سلمى عينيها لثانية وهي تتمتم حالمة: كم أتمنى أن تمر الأيام بسرعة..
قاطعتها أمل ضاحكة: يا الهي !!! تحلي ببعض الحياء يا فتاة، إياك أن تتصرفي هكذا أمام أحمد، سيعلم أنك مجنونة به بهذه الطريقة، و قد لا يكون هذا لصالحك، يكفي انك تخليت عن متابعة الدراسة بالجامعة من أجله..
سلمى: هو يعلم أني مجنونة به و إن لم أقلها للآن بصراحة، وهذا لا يزيده إلا جنونا بي هو الآخر، فوفري نصائحك لنفسك يا متحذلقة، أتمنى أن أراك كيف ستتصرفين لو وقعت بحب أحدهم، سيكون أمرا يستحق المشاهدة..
عقدت أمل حاجبيها وهي تمثل الغضب: مشاهدة؟ لم؟.. هل أنا معروضة في سيرك ما أم ماذا..
ضحكت سلمى بمرح وهي تقول: لا، لكنك حالة فريدة من نوعها، تظنين أن الإنسان من الممكن أن يتحكم في مشاعره، لذا أتمنى فعلا أن أراك عاشقة يوما ما لنعرف كيف ستتحكمين بمشاعرك..
ردت أمل بثقة : طبعا مشاعري ملكي لذا من السهل أن أتحكم بها، لست مثلك تكادين تفقدين صوابك بسبب أحمد.
سلمى وهي ممسكة بيد أمل خارجين من المحل، فلم تجد ما يعجبها به : لا أدري لم أشعر أحيانا أنك تغارين منه.
أمل : أعترف.. أغار منه، لأنه سيأخذ مني صديقتي و أقرب شخص الي بعيدا، لا أدري كيف سأبدأ هذه السنة بالجامعة من دونك، وكيف سأتابع حياتي من دونك، ونحن لم نفترق منذ عشر سنوات.
اقتربت سلمى من أمل وعانقتها بقوة وتسللت دمعة رغما عنها وانسابت على خدها، ثم قالت وهي لا تزال متعانقة مع أمل : وأنا أيضا لا أدري كيف سيمر يوم علي من دون الحديث معك، لكن كوني واثقة سأتصل بك كل يوم و لن أريحك مني كما تتوقعين.
أمل بارتباك وهي تبعد سلمى عنها برفق: ابتعدي، كل من يمر ينظر إلينا، ليس هناك سبب لكل هذه الدراما..
ابتعدت سلمى مبتسمة ومسحت دمعتها وهي تقول :لم كل هذا الارتباك.. لن تتغيري أبدا، أتمنى أن يأتي اليوم الذي تفهمين فيه أن المشاعر ليست ضعفا أو عيبا أبدا يا أمل.
ردت أمل بابتسامة واسعة: لا أظن أن يوما كهذا سيأتي، وحتى إن أتى فستكونين بعيدة، لذا لن تستمتعي بمشاهدتي كما تودين.
ونظرت لكل الأكياس التي بيدها و بيد سلمى قبل أن تكمل: ومن فضلك، يكفي كل ما ابتعناه، لن نستطيع حمل المزيد.
هزت سلمى رأسها موافقة وهي تقول: فعلا، للأسف لن نستطيع حمل المزيد، علينا أن نجد سيارة أجرة الآن، تأخرنا.
خرجت الفتاتان من المركز التجاري واستقلتا سيارة أجرة، وكل منهما غارقة في أفكارها.
سلمى سرحت بعيدا، تنتظر يوم الغد بفارغ الصبر، اشتاقت لخطيبها أحمد الذي سيصبح زوجها قريبا، سرحت في أحلامها الوردية التي تجمعها معه، وكانت بذهنها تساؤلات كثيرة عن مستقبلها معه.
أما أمل فقد كانت تفكر في أن الموسم الدراسي الجديد سيبدأ قريبا، وستضطر لقضاء السنتين المتبقيتين لها في الجامعة دون صديقتها سلمى، ثم وجدت أفكارها تأخذ منحى آخر، استرجعت تلك اللحظة التي التقت فيها نظراتها بنظرات ذلك الشاب بالمكتبة، واستغربت لم تذكرته الآن؟؟
الأيام القادمة أيضا هي الوحيدة القادرة على توفير أجوبة للأسئلة التي تدور بذهن كل من سلمى و أمل..
استيقظت أمل على صوت طرق خفيف على باب غرفتها، فتحت عينيها ببطء، ثم قالت بوهن:
الباب غير مغلق، أدخلي يا أمي..
فُتح الباب، لكنها وجدت سلمى تنقض عليها و ترمي الغطاء الذي كانت تختفي تحته بعيدا، ثم توجهت
للنافذة وفتحتها بقوة، مما جعل أمل تغلق عينيها بألم، من وقع نور الشمس الذي تسلل للغرفة.
وقبل أن تستجمع قوتها لتصرخ في وجه سلمى، بادرتها هذه الأخيرة قائلة:
متى بالله عليك ستغيرين عادتك هذه ؟ألم تعديني أن تستيقظي اليوم باكرا، وتأتي لمنزلي لتساعديني في تجهيز نفسي ! أحمد سيصل على الغداء، ليس عندنا وقت.
استدارت أمل للجانب الآخر من السرير و هي مصرة على إكمال نومها : تقصدين ليس عندك أنتِ
الوقت، لذا اذهبي و دعيني أنام، ولنتحدث عن إهمالي لمواعيدي في وقت آخر.
لكن سلمى أمسكت بذراعها لتحملها على النهوض وهي تصرخ: ليس شأني أنك تريدين النوم، كل ما
أعرفه أنه كان عليك أن تأتي عندي باكرا.لذا انهضي الآن حالا..
نهضت أمل وهي تحاول رفع صوتها أيضا و الصراخ في وجه سلمى:
كنت سآتي عندك باكرا، لو لم تظلي عندي أمس لبعد منتصف الليل، وليس على لسانك غير أحمد، و
حكايات أحمد، وشوقك لأحمد، لا أدري ما هذا الحظ الذي جعل والدي يشتري منزلا ملاصقا لمنزل
مزعجة مثلك.
ضحكت سلمى ورمت بمنشفة في وجه أمل وهي تقول: لا يناسبك الصراخ أبدا، أمل الهادئة دائما لا تصرخ، هيا قومي و اغتسلي، سأنتظرك تحت بالمطبخ، قد شممت رائحة كعك والدتك الشهي..
قامت أمل مسرعة بطريقة مضحكة متجهة للحمام وهي تقول: ماذا ؟حضرت أمي الكعك؟؟
خرجت سلمى من الغرفة دون أن ترد عليها، وقبل أن تغلق الباب أطلت برأسها وابتسمت بخبث ثم قالت: لا، حضرت لي الكعك، لأنني يا عزيزتي لن أترك لكي شيئا، عقابا على إهمالك المستمر لي. وانطلقت مسرعة تنزل الدرج وصوت ضحكاتها يتعالى.
صرخت أمل من الحمام آملة أن تسمعها سلمى:
سلمى، إلا الكعك.. لن أسامحك إذا التهمته كله أيتها الشرهة، أتسمعين لن أسامحك.
ثم ابتسمت رغما عنها وهي تقول: سأفتقدك كثيرا يا سلمى.
**********
نظرت الموظفة بالمطار للشاب الفارع الطول الذي يقف أمامها، ثم عادت تدقق النظر في صورته على جواز السفر، وقالت بهدوء: أنت تسافر كثيرا..
أجابها الشاب بنفس الهدوء : أجل.
التفتت الموظفة الشقراء لشاشة الحاسوب أمامها ثم سألته : أحمد سيف الدين؟
رد أحمد بطريقة آلية :أجل..
رسمت الموظفة ابتسامة عريضة على شفتيها وهي تقول: وما سبب السفر هذه المرة؟
عقد أحمد حجابيه وهو يحس بالملل من أسئلتها الكثيرة: ماذا هناك لم كل هذه الأسئلة؟ أم أنها قاعدة الشك بأصحاب الملامح و الأسماء العربية؟
ضحكت الموظفة ثم قالت وهي تعيد لأحمد أوراقه: لا أبدا، قد فهمتني خطأ، أتمنى لك رحلة سعيدة..
بعد دقائق كان أحمد قد استقر بمقعده بالطائرة، أغلق عينيه مقررا أن يخلد للنوم لعل الوقت يمر بسرعة. بعد ثلاث ساعات على الأكثر سيكون مع سلمى،قد اشتاق إليها كثيرا، بمجرد أن وصلت أفكاره إليها لم يستطع غير فتح محفظته الصغيرة ،ليملأ عينيه من تقاطيع وجهها المبتسم دائما، كما في الصورة تماما، قريبا ستصبح هذه الفتاة المرحة زوجة له، كم ينتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر !
************
تحولت غرفة نوم سلمى إلى معرض للملابس ، فقد قامت بإخراج كل ما في خزانتها وبعثرته فوق السرير وعلى المكتب، حتى أرضية الغرفة امتلأت بقطع الملابس و الأحذية..
لنتحرى الصدق ، سلمى كانت قد قررت ما سترتدي اليوم منذ أسبوع، وقد كان اختيارها قد وقع على فستان أبيض مطرز بورود حمراء، لكنها لم تجد مانعا من عرض كل ما لديها على أمل، لتقرر معها إذا كان هناك ما ينقصها للآن، بالإضافة إلى أنها وجدتها وسيلة جيدة لتخفف من حدة التوتر الذي تشعر به كلما اقترب موعد وصول أحمد.
كانت الفتاتين غارقتين بتنسيق الملابس و اختيار القطع التي تتناسب مع بعضها البعض، و اختيار ما يتماشى مع كل فستان من الحلي و الأحذية، مهمة تحتاج لتركيز شديد طبعا!
لذا لم تنتبها لسامي الذي وجد باب الغرفة مفتوحا، فظل يراقبهما وعينيه تتابعان حركات إحداهما بالذات، لكن حين تيقن أنهما لن تنتبها له ولو ظل واقفا بمكانه لساعات، تنحنح في مكانه ثم قال بصوت عال متعمدا :
- هل تريدان أية مساعدة يا فتيات؟
شهقت سلمى بقوة ووضعت يدها على قلبها وهي تقول :أخفتني.. ستتسبب يوما بموتي، منذ متى و أنت هنا؟
رد سامي كاذبا : وصلت لتوي.. ثم التفت لأمل وغمز لها بعينه وهو يكمل: و أنت ألم أرعبك؟
همت أمل أن تقول شيئا لكنه سبقها قائلا وهو يضرب جبينه بيده و كأنه قد نسي شيئا مهما: يا الهي، كيف لي أن أنسى؟ أمل لا تخاف، لأنها تضع كل أحاسيسها ومشاعرها جانبا، قلبك من حجر يا أمل أليس كذلك؟
ردت أمل وقد أزعجتها كلمات سامي: لا..أنا لا أخاف، لأن تصرفاتك الصبيانية هذه لا تخيف، قد كبرت على هذه التصرفات يا سامي، الله أعلم منذ متى و أنت تراقبنا..
ضحك سامي وهو يتعمد استفزاز أمل: أنت تعطين لنفسك أهمية كبيرة، قد كنت أراقب أختي كما تعلمين ستسافر قريبا و سأشتاق إليها.
شهقت سلمى ثانية، لكن هذه المرة على كلمات سامي، فهو دائما يحب استفزازها و إذلالها، لذا من النادر أن تسمع منه مثل هذا الكلام الجميل بحقها.
أما أمل فقد قالت وهي تكتم غضبها بصعوبة: أحسدها على سفرها لسبب واحد، وهو أنها سترتاح منك.
ثم أشاحت بوجهها بعيدا معلنة عن نهاية الحوار.
قالت سلمى بمرح مصطنع بعد أن أحست بحدة التوتر بين الاثنين: هل كان علي أن أبتعد عنك، لأعرف أنك تحبني لهذه الدرجة، كفاك كذبا و أخبرني ماذا تريد؟
رد سامي وهو لم يفارق أمل بعينيه: لست أنا من يريد، إنها أمي..تحتاجك بالمطبخ.
قامت سلمى مسرعة نحو الباب و هي تبعد الملابس المبعثرة في كل مكان عن طريقها ثم قالت: سأعود حالا يا أمل، ابدئي باعادة هذه الأغراض لمكانها..
خرجت سلمى من الغرفة، لكن سامي ظل بمكانه، وهو لم يبعد عينيه عن أمل بعد، هذه الأخيرة ظلت صامتة لبرهة و هي تعيد الملابس للخزانة، ظنت انه سيمل الوقوف و ينصرف،
لكنه لم يفعل لذا بادرته قائلة: ماذا الآن؟
رفع سامي حاجبيه وقال ببلادة: ماذا الآن؟
أمل بصبر : لم تنظر إلي هكذا؟
أبعد سامي عينيه عن أمل أخيرا، ثم قال وهو يحدق بالسقف: كنت فقط أتساءل عما ستفعلينه بعد أن تسافر سلمى، و أنتما الاثنتان لم تفترقا منذ مدة طويلة.
ردت أمل و قد اعتلى صوتها بعض الحزن: انه القدر، أنا أتمنى لها السعادة فقط، وسعادتها الآن مع من سيكون شريكا لحياتها.
أنزل سامي عينيه بغتة وتطلع لأمل بطريقة غريبة وهو يقول: وأنت متى ستجدين شريك حياتك؟ ألا تفكرين بالزواج؟
تفاجأت أمل لسؤاله لكنها ردت بابتسامة هادئة : لمَ تسأل.. هل تود أن تتخلص منا نحن الاثنتين معا؟
سامي وهو يستدير مبتعدا: أنت تبدين أجمل بكثير و أنت مبتسمة..ثم لعلمك قد أود أن أتخلص من أي شخص إلا أنت .
قالت أمل باندهاش: ولم؟
قال سامي دون أن يتوقف وبنبرة غامضة:ربما لأني أحب مضايقتك، هواية من هواياتي المفضلة..مضايقة أمل..وأنا لا أتخلى عن هواياتي أبدا، تيقني من هذا..
لم تدر أمل هل تحس بالغضب من كلماته، أم بالدهشة لغرابة و غموض ما يقول، وما زادها دهشة هو صوت صياح سلمى وهي تقترب من الغرفة غاضبة: سامي يا كاذب، أمي لم تطلبني، انتظرني فقط سأجعلك تندم على كذبتك هذه..
*********
- أمل ..هل هذه أنت؟
أغلقت أمل باب المنزل و ردت على والدتها: نعم أمي..
خرجت والدة أمل من المطبخ وهي تسألها: لمَ لم تظلي عند صديقتك؟
أمل : قد اتصل أحمد بهم منذ دقائق فقد حطت طائرته بالمطار، و سيكون عندهم في أية لحظة..
ابتسمت والدة أمل ابتسامة حانية و هي تقول لابنتها : كم أنا سعيدة من أجلها، وما يجعلني سعيدة أكثر هو أن فرحتها بزواجها واضحة بعينيها، أتمنى أن أطمئن عليك أنت أيضا يا أمل، و أن أرى هذه الفرحة بعينيك قريبا...
اقتربت أمل وقبلت والدتها على جبينها وهي تقول: بالنسبة لي لا أفكر بهذا الآن، تعلمين هذا يا أمي..
ثم ابتعدت قليلا و أكملت: سأذهب لغرفتي الآن ..هل تحتاجينني في شيء؟
ردت والدتها: أجل، اتصلي بسامي، أود أن يحضر لي معه بضعة أشياء من السوق و هو عائد من عمله، اتصلت بوالدك لكنه قال أنه سيتأخر كثيرا..
بمجرد أن سمعت أمل اسم سامي علت وجهها بعض أمارات الضيق، لكنها حاولت إخفاءها وردت بهدوء: سامي بمنزله الآن وليس بالعمل، أم نسيتي أن اليوم عطلة ..
قالت والدة أمل وهي تفكر : ماذا سأفعل الآن، قد قلت لأم سلمى أني من سيحضر الحلويات و الكعك، لكن هناك أشياء تنقصني.
ابتسمت أمل لوالدتها وهي تقول: لا عليك يا أمي، اخبريني بكل ما ينقصك، وسأذهب أنا للسوق..
ردت والدة أمل براحة: بارك الله فيك يا ابنتي، خذي ورقة و قلم لأملي عليك ما أحتاجه، لكن حاولي أن لا تتأخري بالرجوع.
أخذت والدة أمل تملي عليها احتياجاتها، وهي تنظر لابنتها بحنان، وكل ما تفكر به أنها تتمنى رؤيتها في كنف زوج يصونها ويحميها، فمنذ أيام وهي تشعر بقلق وخوف كبير على أمل، قلبها ينبئها بأن الحياة لن تظل مبتسمة لابنتها،وقلب الأم لا يخطئ..
********
كانت سلمى واقفة أمام المرآة بغرفتها، تتمعن مكياجها الهادئ و تسريحة شعرها الأسود الحالك ثم تمتمت : كم أنت ماهرة في هذا يا أمل، أبدو أجمل من الواقع بكثير !!
وحين سمعت طرقات على الباب تسارعت دقات قلبها، من المؤكد أن أحمد وصل، اتجهت للباب بسرعة وفتحته فوجدت سامي وعلى شفتيه ابتسامة، انتظرته أن يتحدث لكنه ظل ينظر إليها بإعجاب، فقالت بتوتر شديد: هل وصل أحمد؟
أمسك سامي بيدها وهو يخرجها من الغرفة ثم أغلق الباب ورائهما قبل أن يقول : نعم قد وصل للتو..لكن ما كل هذا الجمال الذي نزل عليك فجأة؟ !
ضربته سلمى بخفة على كتفه وهي تقول : أنا دائما جميلة..
ضحك سامي ثم قال : طبعا.. طبعا ومن قال غير هذا؟ هيا أسرعي.. فمن الواضح على أحمد انه لا يطيق صبرا ليراك..
انصبغ وجه سلمى بحمرة الخجل و عادت لتضربه، ثم قالت : أصمت.
مرر سامي أصابعه على فمه وكأنه يغلقه، فضحكت سلمى على حركته مما جعل توترها يخف قليلا.
كان احمد في غرفة الجلوس،يتحدث مع والد سامي وما ان لمح سلمى تنزل الدرج، حتى توقف الزمن بالنسبة إليه، وتعلقت عينيه بها وهو يعد خطواتها إليه..
اقتربت سلمى مطأطئة رأسها، قد غلبها التوتر و كأنها تراه لأول مرة، فطول مدة غيابه عنها هو ما جعل كليهما يترقبان لحظة لقاءهما وكأن دهورا مرت منذ آخر لقاء..
جاءها صوت أحمد الهادئ وهو يقول: كيف حالك يا سلمى؟
رفعت سلمى رأسها أخيرا و نظرت إليه، وحين تلاقت عينيها بعينيه أحست وكأنها غير قادرة على الوقوف، فحاولت الحفاظ على هدوئها و جلست على الأريكة، وهي ترد عليه دون أن تبعد عينيها عنه: بخير حال..و أنت؟
ابتسم أحمد لأنه أحس بالتوتر الشديد الذي تخفيه خلف قناع الهدوء ورد: أنا بخير..
كان سامي ينظر إليهما وعلى شفتيه ابتسامة، واقترب ليجلس هو الآخر لكن والده اعتدل واقفا ونظر له نظرة معناها –الحق بي - ، ثم قال: سأعود حالا..
ابتعد الاثنين معا ، وتركا أحمد وسلمى التي عادت تطأطئ رأسها قائلة : كيف كانت الرحلة؟
ابتسم أحمد وهو يقول: ارفعي رأسك و أنت تتحدثين.. و ساعات الرحلة مرت علي كالسنوات لأني كنت أعد الثواني لحين لقائي بك..
رفعت سلمى رأسها مبتسمة ابتسامة خجولة، مما جعل أحمد يضحك وهو يقول: ماذا هناك و كأنه أول لقاءا بيننا..أين سلمى المشاكسة والمرحة؟
ضحكت سلمى هي الأخرى وردت: انتظر لدقائق فقط، وستجد سلمى عادت لطبعها المشاكس والمرح. كل ما في الأمر أنني..
وأوقفت عبارتها دون أن تكمل،
فقال أحمد: أنك ماذا ؟
لكنها لم ترد فعاد يسأل بابتسامة عريضة: اشتقت إلي مثلا؟؟
ابتسمت سلمى بخجل ثم ردت: تقريبا..
ضحك أحمد وهو يهز رأسه بيأس من ردها المراوغ، وشاركته سلمى الضحك، ثم بدأ يحكي لها عن كل ما مر عليه طول مدة سفره هذه المرة، وغاب الاثنين في عالمهما الخاص..
***********
استلقت أمل على السرير، ثم أضاءت الأباجورة لتكمل قراءة روايتها التي بدأتها منذ يومين، من عاداتها أن تقرأ أي شيء حتى يغلبها النوم. لم تكد تقرأ سطرين، حتى سمعت رنين هاتفها، نظرت إليه بعينين ناعستين ثم أمسكته وردت ببرود:
- من الجميل أنك لازلت تذكرينني..
جاءها صوت سلمى ومعالم الفرحة واضحة عليه: لا تقولي هذا، كيف لي أن أنساك يا غبية، كل ما في الأمر أن أحمد لم يغادر إلا منذ ثوان، فأسرعت بالاتصال بك.
ردت أمل وقد غاب البرود عن صوتها و حل محله بعض الفضول : هااا، أخبريني كيف كان يومك؟
تنهدت سلمى ثم قالت بنبرة حالمة: يا الهي لو تدرين كم أنا سعيدة، أخشى أن أجن من شدة سعادتي، لكني لن أخبرك بتفاصيل، حتى تقومي و تأتي إلي ، أود أن أتحدث إليك فعلا و إلا سأجن..
نظرت أمل إلى الساعة على الحائط ثم قالت: لقد تأخر الوقت الآن، ثم أنت لم تدعيني أنم ليلة أمس، وأيقظتني باكرا اليوم، لذا فانا أحس بالتعب و لن أستطيع السهر هذه الليلة..
سلمى : أنا أيضا لم أنم منذ أمس سوى ساعتين، ولست أحس بأي تعب فكفاك دلالا و تعالي.
ردت أمل ضاحكة : أنت لا تحسين بتعب لأنك في قمة حماسك.. هيا أخبريني بكل تفاصيل ما حدث أو لنؤجل هذا الحديث كله للغد.
زفرت سلمى بحدة ثم قالت : كم أنت عنيدة ! حسنا لنؤجله للغد لأن حديثي سيطول. هل ستنامين الآن؟
أغلقت أمل الرواية التي بيدها ووضعتها فوق المنضدة بجانبها ثم قالت: كنت سأقرأ قليلا، لكن أظنني سأستسلم للنوم الآن، أحس بالتعب..
سلمى: ماذا تقرئين.. هل من رواية جديدة؟
أمل وهي تفرك عينيها وتجاهد ليظلا مفتوحتين: نعم، أحضرت رواية رومانسية جميلة آخر مرة زرت المكتبة.. و الآن هل لي أن أقول لك تصبحين على خير، أعلم أنك متحمسة جدا.. لكن حاولي النوم أنت أيضا، حتى لا تفقدي رونقك وحيويتك أنت عروس الآن..
ضحكت سلمى ثم قالت : شكرا على النصيحة و تصبحين على خير..
أغلقت أمل هاتفها حتى لا يزعجها أحد وهي نائمة ، ثم اختفت تحت الأغطية وكأنها تحاول الهرب من أفكارها، فهي بعد أن تذكرت ذاك اليوم بالمكتبة، استعادت نظرات ذلك الشاب إليها يومها، لا تدري لم تصر نظراته تلك على غزو أفكارها دون استئذان، ثم همهمت مجيبة نفسها: كل ما هنالك أن طريقة نظره إلي كانت جريئة و غريبة، لهذا علقت بذهني.
و حاولت إقناع نفسها بهذا الجواب وهي تستطرد: نعم هذا كل ما في الموضوع..
***********
وصل كل المدعوون تقريبا لمنزل سلمى، التي أصرت أن يقام حفل زفافها بمنزلها، وليس بقاعة أفراح كما هو شائع.رغبة منها في أن يكون هذا المنزل، وهذا الحي، آخر ما تقع عليه عينيها قبل أن تتوجه للمطار، و تترك خلفها كل الأماكن التي شهدت أجمل ذكرياتها .
سلمى انتهت من تجهيز نفسها، وجلست بغرفتها في انتظار نزولها للحفل، كانت تبدو بفستانها الأبيض الطويل في قمة التألق و الجمال، ورغم الدموع التي كانت تلمع بعينيها للحظات، فسعادتها بهذا اليوم لم تخف على أحد.
كانت والدتها تتأملها بحنان ونظراتها حائرة، لم تقرر بعد هل هي سعيدة لسعادة ابنتها، أم حزينة لفراقها..
أما أمل الجالسة بجانبها، فقد انسابت دمعة على خدها رغما عنها، وهي ترى صديقة عمرها تحقق حلمها الوردي، الذي لطالما ظلت تحدثها عنه، أن ترتدي فستانا أبيضا وتزف للرجل الذي اختاره قلبها..
ابتسمت سلمى لصديقتها و اقتربت معانقة إياها وهي تهمس بأذنها بمرح: أرجوك يا أمل، لا أريد أن أرى دموعا، وإلا سأستسلم أنا أيضا للبكاء، وأفسد كل العمل الشاق الذي قامت به المزينة لتجعلني جميلة هكذا !!
ثم ابتعدت عندما لمحت الابتسامة على وجه أمل والتفتت لوالدتها وهي تقول: أين سامي يا أمي؟
ردت والدتها : انه بالأسفل يستقبل الضيوف مع والدك ووالد أمل، هل تريدينه؟
هزت سلمى رأسها قائلة: أجل، إذا كنت ستنزلين الآن اطلبي منه أن يصعد إلي..
اتجهت والدتها للباب وهي تقول: حسنا، سأخبره..
وقبل أن تخرج قالت سلمى: ولتأخذي أمل معك لو سمحت يا أمي، فانا أريد سامي بحديث خاص..
عقدت أمل حاجبيها وهي تقول باستنكار: تطردينني! وما هذا الحديث الخاص.. هل هناك أسرار تخفينها عني؟؟
قبل أن ترد سلمى اتجهت أمل خارجة من الغرفة وهي تمثل الغضب: لا تقولي شيئا، أنا غاضبة منك الآن..
وابتعدت مع أم سامي، ثم تبادلتا ابتسامة، حين سمعتا سلمى تصرخ من داخل الغرفة: أمل، أقسم أني لم أقصد إغضابك، ارجعي..
التف بعض المدعوون حول أم سامي فور نزولها، مهنئين ومباركين لها زواج ابنتها، وحين وجدت أنها ستنشغل معهم، طلبت من أمل أن تبحث عن سامي لتخبره أن سلمى تطلبه.
رغم عدم رغبة أمل الاحتكاك بسامي أو الاقتراب منه، إلا أنها اتجهت نحوه مستسلمة، بعد أن لمحته واقفا مع والدها، اقتربت منه بهدوء ثم قالت وهي تتأمله باهتمام، فأناقته اليوم زادته وسامة على وسامته:
- سامي، سلمى تطلبك..
كان سامي منشغلا بالحديث مع والد أمل لذا لم يلحظها حين اقتربت ، لكن حين تحدثت وانتبه إليها،انعقد لسانه، قد صدمه جمال هذه الفتاة الملائكية الواقفة أمامه، كانت أمل ترتدي فستانا زهري اللون، ناعما، زاد من نعومتها المعهودة، وخصلات من شعرها الكستنائي الطويل تتراقص بحرية حول وجهها الناصع البياض، كأنه القمر ليلة تمامه. ودون أن ينتبه لنفسه وجد نفسه يقول و الدهشة واضحة على كلماته: هل قرر القمر اليوم أن يتواضع و وينزل من مكانه العالي بالسماء ليشاركنا هذا الحفل؟
أمل لم تنتبه للإعجاب بنظراته و لم تفهم ما يقصد من كلامه ، ظنت أنه يسخر منها كعادته لذا قالت بضيق شديد وهي ترفع فستانها الطويل قليلا، مبتعدة بسرعة من أمامه: قد سئمت منك !!
لكن والد أمل فهم ما لم تفهمه هي، فهم نظرات الإعجاب بعيون سامي وفهم ما قصده، وربما هذه هي أول مرة بالنسبة إليه يلحظ فيها إعجاب سامي بابنته، فقال بابتسامة متوترة قليلا: أتتغزل بابنتي أمامي؟
انتبه سامي أخيرا للكلمات التي نطق بها منذ قليل ورد على والد أمل بارتباك: اعذرني.. ابنتك بالفعل كالقمر، آسف يا عمي لم أستطع امساك لساني !!
ثم ابتعد متجها لغرفة سلمى وهو لا يزال يتابع أمل بعينيه، كانت تنتقل كالفراشة من ركن لركن، وهي تسلم على هذا و تبتسم مجاملة لهذا، فقال لنفسه بحزن: إذا فهمت أنتَ ما كنت أقصد من كلماتي.. لماذا أمل لم تفهمها للآن !!
حين دخل سامي لغرفة أخته، وجدها تتمعن نفسها بالمرآة، و كان يبدو أن أفكارها انتقلت لمكان آخر، فاقترب منها بهدوء ووضع يديه على كتفيها وهو ينظر إليها من خلال المرآة:
- فيما تفكر عروسنا ؟
بادلته سلمى نفس الابتسامة واستدارة لتواجهه قائلة: - بأشياء كثيرة..
أمسك سامي بكرسي، و جلس عليه ثم قال بمرح: طبعا أشياء كثيرة، من المؤكد أنك تفكرين بمستقبلك مع أحمد. عليك أن لا تقلقي.. أحمد إنسان طيب القلب ، ستكون حياتك معه سعيدة.. أنا واثق.
تنهدت سلمى بعمق ثم قالت: وماذا لو قلت لك أني لست قلقة لهذا السبب، أنا مطمئنة من هذه الناحية، سبب قلقي شيء آخر..
نظر إليها سامي بطريقة تحثها على إكمال ما تود قوله فاستطردت: أنا قلقة على أمل..
رفع سامي حاجبيه بدهشة قائلا: لم تقلقين على أمل..ما بها؟
ردت سلمى بتوتر: لا شيء، لا أدري ما سبب قلقي عليها أساسا..
ثم نظرت برجاء لأخيها وهي تكمل: سامي، أرجوك انتبه إليها، اعلم أنها تمثل الكثير بالنسبة إليك..
قال سامي وهو يستغرب سبب هذا الكلام: هل توصينني على أمل يا سلمى !؟
ثم أنزل عينيه للأرض وهو يتذكر موقفه مع أمل منذ قليل و أكمل بهدوء: حتى أنت تعلمين مكانتها عندي ، وأغلب الظن أن الكل يعلم، إلا هي.. لا أدري متى ستفهمني !
شعرت سلمى بالألم الذي تحمله كلماته و الذي يحاول أن يخفيه بهدوئه فقالت بعطف : سامي، ألا ترى أن هذا خطأك، انت لم تصارحها يوما، بالعكس دائما ما تحاول مضايقتها و استفزازها، وهذه ليست أفضل طريقة تظهر بها حبك لها كما تعلم..
شدت انتباه سامي كلمتين –حبك لها- نعم هو يحبها، بل يعشقها.. و بجنون، لم يسبق له أن اعترف بهذا، حتى بينه و بين نفسه، دائما ما كان يحاول إخفاء هذه المشاعر التي لا يدري متى ولدت، ولا إلى أين ستوصله..
لكنه لم يحاول الإنكار هذه المرة، و قال وملامحه يعلوها حزن و ألم لم يستطع إخفاءهما: أنا أحس أحيانا أنها تكرهني، كيف لي أن أخبرها أني..
ولم يكمل جملته..
اقتربت سلمى منه وأحاطته بذراعها وهي تقول: وكأنك لا تعرف أمل ! نحن أعلم الناس أن قلبها لا يعرف للكره طريق، هي تعزك وتقدرك يا سامي، بالله عليك قد كبرنا سويا، ضحكنا سويا، وبكينا سويا، أنت من يجعلها بتصرفاتك تنفر منك أحيانا..
نظر سامي لأخته نظرات متسائلة وهو يقول: هل أخبرها إذا؟
حركت سلمى رأسها علامة النفي ثم قالت: لا، لو أردت رأيي غَِير من طريقة تعاملك معها أولا، اجعلها تشعر باهتمامك بها.. اجعلها تقع بحبك كما أنت واقع بحبها، وبعدها سيصبح إخبارها أمرا سهلا..
أمسك سامي بيد أخته وقبلها وهو يقول بامتنان: لو تدرين كم أرحتني يا سلمى..ليتني حدثتك بهذا الموضوع منذ زمن فقد أتعبني التفكير.. كنت قد قطعت أملي في أن تحس بي يوما..
ابتسمت سلمى ثم قالت بمرح: لا تفقد الأمل أبدا !! خصوصا للحصول على قلب أمل ! قد كنت أحاول أن أحدثك بهذا الموضوع، لكنك لم تكن تمنحني الفرصة، فقررت أني لن أسافر إلا بعد أن أجعلك تغير من تصرفاتك حتى تصل لما تتمنى..
عاد سامي يقبل يد أخته ثم عانقها وهو يقول: شكرا لك يا سلمى..
في هذه اللحظة دخلت أمل الغرفة و حين رأت سامي قالت بضيق: ألازلت أنت هنا..
نظر إليها كل من سلمى و سامي بنظرات لم تفهم مغزاها فقالت ضاحكة: يبدو أني قطعت عليكما فيض المشاعر الأخوية..
ضحكت سلمى ثم قالت : هل أستعد للنزول أم ماذا؟
ردت أمل وهي تحاول تجاهل سامي الذي لم يبعد عينيه عنها: نعم ستنزلين الآن.. لهذا جئت إليك.
************
مر حفل الزفاف في أحسن الظروف، السعادة كانت تبدو على الجميع هذا اليوم، خصوصا على العروسين احمد و سلمى، وحتى أمل تناست خلال هذه الساعات ضيقها الدائم من سامي، سعادتها من أجل صديقتها جعلتها تحاول أن يكون هذا اليوم من أجمل الأيام التي عدت عليهم، فتعمدت أن تبادله أطراف الحديث أمام سلمى، كي لا تشعر هذه الأخيرة بما ينغص عليها فرحتها، ولا تشغلها بمشاكلها معه.
وحين وصلت السيارة التي ستقل العروسين للمطار، خرج الجميع من المنزل كي يودعهما، ودعهم أحمد و سبق سلمى للسيارة، كانت لحظة الفراق صعبة على والد ووالدة سلمى، هذه الأخيرة لم تستطع منع دموعها ، فتركتها تبلل وجهها الذي لم يخل من ملامح السعادة من أجل ابنتها. سلمى حين رأت وجه والدتها الغارق بدموعه، عانقتها عناقا طويلا، ولم تتركها إلا حين حملها سامي على ذلك، وفتح باب السيارة أمامها وهو يقول: هيا يا سلمى، ستتأخران على رحلتكما..
عانقته سلمى هو الآخر بسرعة وهي تقول وسط دموعها: أين أمل ؟
رد سامي وهو يبحث عن أمل بين المتواجدين: لا أعلم ..اختفت منذ قليل !
ركبت سلمى السيارة و أخرجت رأسها من النافذة وهي تقول بحزن: قد أخبرتني أنها لن تحتمل أن تقول لي وداعا، لم أفكر أنها لن تودعني هذه السخيفة، أرجوك يا سامي أخبرها أن سلمى لا تقول لك وداعا بل إلى اللقاء..
هز سامي رأسه وهو يقول : سأخبرها..
وانطلقت السيارة مبتعدة وعيون الجميع متعلقة بها، عيون أمل أيضا كانت تتابعها إلى أن اختفت، ظلت تراقب ما يحصل من نافذة غرفة سلمى،كانت تجهش بالبكاء، و هي لا تحب أن يراها أحد وهي على هذه الحال، ولم تكن تود أن تراها سلمى بالذات على هذه الحال، لن يكون آخر منظر تراها فيه.. هو منظرها وهي محطمة بسبب فراقها.
أغلقت أمل النافذة، و اتجهت للمكتب بخطوات متثاقلة، ثم التقطت صورة سلمى الموضوعة عليه واحتضنتها بقوة و ودموعها لا تكف عن الانهمار..
كان المدعوون قد تفرقوا، وذهب كل لحال سبيله، وعاد الهدوء للمنزل، وفي ركن من أركانه، جلس والد أمل ووالد سامي، وكان هذا الأخير يسأله باهتمام: هل أنت متأكد مما رأيت؟
رد والد أمل بثقة: أجل متأكد.. سامي يحب أمل، كنت أظنه يعتبرها كأخت له، لكن فاجئني اليوم..
خيم صمت ثقيل للحظات على الاثنين، قطعه والد أمل قائلا بحزم شديد:
- عليك أن تحدثه، أقنعه أن يبتعد عن أمل، فما يريده مستحيل الحدوث !!
طال انتظار أمل لسيارة أجرة، كانت واقفة تحت ظل شجرة بالقرب من باب منزلها، فقد كان يوما حارا جدا، يجعل أي شخص يفضل البقاء بمنزله على أن يتعرض لأشعة الشمس الحارقة.
لكن اليوم هو السبت، أي اليوم الذي تخصصه أمل كل أسبوع لزيارة المكتبة، وطبعا لم يمنعها الحر الشديد من الذهاب، خصوصا و أنها تخلفت لمدة طويلة عن زيارتها بسبب انشغالها مع سلمى.
كانت تنظر للسيارات و هي تمر مسرعة من أمامها بملل،و فجأة وجدت سيارة تتوقف أمامها، وأخرج شاب رأسه من النافذة وهو يقول: ستتعرضين لضربة شمس..إلى أين أنت ذاهبة؟
ردت أمل بهدوء: هل ستوصلني إذا علمت إلى أين سأذهب؟
عقد الشاب حاجبيه كأنه يفكر ثم قال بسرعة: أجل سأوصلك.
ثم فتح باب السيارة أمامها و أضاف: اصعدي..
صعدت أمل السيارة، والتزمت الصمت، إلى أن سألها الشاب: إلى أين ؟
ردت أمل دون أن تلتفت إليه: المكتبة..
هم أن يقول شيئا لكنه عدل عن ذلك فنظرت إليه أمل وقالت: قل ما بجعبتك يا سامي، من المؤكد أنه تعليق ساخر ككل تعليقاتك..
ابتسم سامي وهو يقول: أنت تسيئين الظن بي دائما ..كنت سأقول فقط أنك شغوفة بالكتب لدرجة كبيرة، هل هناك شيء تحبينه أكثر من الكتب !
ردت أمل بهدوء: أجل هناك، أمي و أبي وكل المقربون إلي..
قال سامي وهو يتوقف بالسيارة أمام إشارة حمراء: وهل أنا منهم؟
والتفت لأمل في انتظار جواب منها، إلا أنها كانت تنظر للجهة الأخرى، و كأنها لم تسمع سؤاله، فقال بضيق: أمل..أنظري إلي فأنا أحدثك..هل أنا منهم؟
نظرت إليه أمل، فوقعت عينيها بعينيه، و لمحت بهما شيء لم تره من قبل، كانت نظراته تحمل معاني كثيرة،لم تستطع أمل فهمها، أربكتها هذه النظرات وجعلت دقات قلبها تتسارع، فأشاحت بوجهها بسرعة، وقالت محاولة عدم إظهار ارتباكها : من المؤكد أنك منهم..
تنهد سامي بارتياح، وانطلق بالسيارة بعد أن سمع أبواق السيارات خلفه تحثه على الابتعاد عن الطريق، فهو لم ينتبه للإشارة التي تحولت لخضراء..
- لا أدري لم كنت أحس أحيانا أنك..أنك تكرهينني..
قالها سامي بعد تردد.
رفعت أمل حاجبيها وقالت بدهشة: أنا أكرهك يا سامي ! أجننت؟ أنت بمثابة الأخ لي، كيف للأخت أن تكره أخاها !
شعر سامي بخيبة أمل كبيرة بعد عبارة أمل هذه ، بمثابة الأخ يا أمل ؟أخ !!
أمل وجدتها فرصة لتصارحه بما يدور بخلدها فقالت: كل ما في الأمر يا سامي، أني كل مرة أراك فيها تجعلني بتصرفاتك أود أن أتحاشاك طول العمر..
اعتصرت هذه الكلمات قلب سامي وكان يود أن يطلب منها التوقف عن الكلام.
إلا أنها أضافت بسرعة : صحيح أني أغضب منك ، لكن بعد أن أخلو بنفسي و اهدأ، أفكر بأنك لا تقصد ما تقوله، إن لكَ قلبا طيبا لا يعرفه أحد مثل ما أعرفه أنا، المشكلة تكمن في شخصيتك التي تحب استفزاز من أمامها، خصوصا لو كان من أمامها..
ثم ابتسمت و أشارت لنفسها قبل أن تكمل: لكن أقسم لك أنك عزيز علي حتى بتصرفاتك المستفزة و الصبيانية..
قال سامي وقد حملت ملامحه إصرارا لم تعهده أمل به: وأنا أقسم لك أنا تصرفات سامي معك ستتغير..
ورمقها بنظرة سريعة قبل أن يعيد تركيزه على الطريق أمامه و يضيف: و سيصبح أكثر من أخ..أعدك.
شعرت أمل بغموض في كلمات سامي، هو منذ مدة أصبح غامضا بالنسبة إليها، لكنها لم تحاول استفساره عما يقصد وقالت مديرة دفة الحديث : أرجو أن لا أكون قد أخرتك عن موعد ما..
حرك سامي رأسه نفيا وقال كاذبا: لا أبدا، سأمر على صديق لي، الطريق إلى منزله هو نفس طريق المكتبة..
سكت الاثنين لثوان قبل أن يضيف سامي: إذا أردتِ بإمكاني المرور بالمكتبة عند رجوعي ..سأوفر عليك انتظار سيارة أجرة..
ابتسمت أمل وهي تقول : لا أريد أن أتعبك معي..لكن مادمت ستمر من نفس الطريق، فستوفر علي فعلا الانتظار في هذا الحر..
بادلها سامي الابتسامة قائلا: ليس هناك أي تعب..حتى لو لم يكن الطريق هو نفسه.. يسعدني أن أخدمك بأي شيء يا أمل..
نظرت أمل اليه باستغراب وهي تقول: لم أظن أنك ستغير طريقتك المستفزة في الحديث معي وتصبح خدوما بهذه السرعة !
ضحك سامي ورد : من اليوم.. فتحنا أنا و أنت صفحة جديدة، وسامي القديم و المستفز عليك نسيانه..
اتفقنا؟
ابتسمت أمل ثم قالت بمرح : سأحاول..لكني لا أعدك بشيء..
ضحك سامي على ردها ثم قال: من الواضح أنك أنت التي لن تتغير أبدا..
ثم صمت قليلا قبل أن يضيف: هل اتصلت بك سلمى اليوم؟
ابتسمت أمل وهي ترد : لا، لكني حدثتها أمس على الماسنجر ، ربما لساعة أو أكثر..
قال سامي بخبث: شيئا فشيئا، ستقل اتصالاتها، وستنشغل عنك تماما..
نظرت أمل إليه نظرات استنكار وعدم تصديق لما يقول..
فضحك ثم قال : حسنا لا تصدقيني.. لكنها أختي و أنا أعرفها.
قالت أمل بكل ثقة: وصديقة عمري و أنا أعرفها !! ما تقوله لن يحدث..
ثم أخذ الاثنان يتبادلان أخبار سلمى، و يتذكران كل ما مر عليهم من أحداث معا. سامي كان قد باشر فورا في تنفيذ قسمه..فهما لم يحظيا بمثل هذا الحديث الهادئ والخالي من المشادات الكلامية منذ مدة لا يتذكر أمدها أحد.
***********
دخل والد أمل المنزل، وكان يبدو عليه التعب الشديد و الإرهاق، من الواضح أنه لم يؤخذ حاجته من النوم لأيام، صعد الدرج و قبل أن يدلف لغرفته مر بغرفة أمل و طرق الباب، وعندما لم يأته رد، فتحه فوجد الغرفة خالية، أعاد غلق الباب ثم دخل غرفته، رأى والدة أمل واقفة بالشرفة، وعلى وجهها علامات التفكير العميق، كانت عيونها محاطة بهالات سوداء، وكأنها هي الأخرى لم تحظ بنوم هانئ منذ مدة..توجه والد أمل نحوها ووضع يده على كتفها وهو يقول : ألازلت تفكرين بما أخبرتك به؟
تنهدت ثم تطلعت إليه قائلة: كيف لي أن لا أفكر..لا أدري ما الحل، علينا أن نجد حلا و بسرعة..
رد والد أمل وهو يحاول أن يجعل كلماته واثقة حتى يطمئنها: لا تقلقي، كما أخبرتك طلبت من والد سلمى أن يتحدث معه و أن يطلب منه الابتعاد عن أمل ..
ثم صمت قليلا قبل أن يردف: بالإضافة إلى أن ما رأيته، أكد لي بأن تلك المشاعر هي من طرف سامي فقط، أمل تعتبره كأخ لها لا أكثر ولا أقل..
عادت أم أمل تتنهد ثم قالت: أتمنى أن تكون على حق.
ثم اتسعت عيناها برعب و أضافت: لكن ماذا لو غيرت أمل رأيها به..
أحاطها والد أمل بذراعيه ووضع رأسها على صدره وهو يقول هامسا في محاولة لتهدءتها: اطمئني لن يحدث هذا أبدا..سنعمل على أن لا يحدث هذا..و لو اقتضى الأمر أن نبعدها عن سامي للأبد !
*********
وجدت أمل بصعوبة طاولة بمقعدين فارغين، فساحة المكتبة اليوم مكتظة بالزوار، جلست على أحد المقاعد و وضعت حقيبتها على الثاني قبالتها، ثم وضعت كل الكتب التي انتقتها اليوم فوق الطاولة، و انهمكت في قراءة فهرس كل كتاب.
وفي الطرف الآخر للساحة كان هناك شاب واقف برفقة فتاة، كانت هذه الأخيرة تحدثه وهي تتمايل بدلال، لكن تركيز الشاب كان منصبا على أمل، كان يرمقها بكل اهتمام، انتبهت الفتاة إلى أنه لا يستمع لما تقوله و أنه ينظر باهتمام لشيء ما، فالتفتت تبحث عن ما يشغله عنها، وعندما وقعت عينييها على أمل استدارت بغضب و هي تلوح بيدها أمام وجهه قائلة :
- دعك من هذه الفتاة الآن، قد بدأ صبري ينفذ يا خالد..
لم يبعد خالد عينيه عن أمل و قال وهو يزيح تلك الفتاة عن طريقه: انتظريني..سأعود
ثم اتجه نحو الطاولة التي تجلس عليها أمل، ولم يرد على نداء تلك الفتاة الغاضب والمستمر له..
اقترب خالد من أمل و ظل يتأملها للحظة، قبل أن يقول بصوت هادئ: هل تسمحين؟
رفعت أمل عينيها عن الكتاب، وتجمدت في مكانها ،كان نفس الشاب الذي استغربت نظراته إليها في آخر مرة زارت بها المكتبة. لكنها حاولت أن تقلد هدوءه قائلة: أسمح بماذا؟
أشار خالد للمقعد الذي وضعت أمل حقيبتها عليه ثم قال: كما ترين لا يوجد أماكن شاغرة..
التقطت أمل حقيبتها بسرعة ووضعتها بجانبها، ثم عاد تركيزها للكتاب بين يديها..
جلس خالد على المقعد ووضع بعض الكتب هو الآخر على الطاولة، ونظر لغلاف الكتاب الذي تقرأه أمل، ثم قال بصوته الهادئ: هل تقرئين لهذا الكاتب كثيرا؟
رفعت أمل عينيها ثم أعادتها سريعا لصفحات الكتاب وهي تقول ببرود : أجل.
عدل خالد من جلسته وفتح هو الآخر كتابا و كأنه سيقرئه، إلا أنه كان ينظر لأمل.
شعرت أمل بنظراته فرفعت عينيها متسائلة: هل من شيء؟
قال خالد بهدوء وهو يغلق الكتاب و يقدمه لأمل : هل سبق و قرأت هذا؟ انه لنفس الكاتب..
أخذت أمل تنظر للكتاب باهتمام، لكن قبل أن ترد، توقفت فتاة أمام خالد وقالت بغضب واضح :
هل لنا أن نذهب الآن؟
نظر خالد للفتاة ببرود ثم رد : ليس الآن يا مروى، أنا مشغول..
ظهرت الصدمة على وجه مروى لرده، وهمت أن تقول شيئا، لولا أن أمل اعتدلت واقفة و جمعت كتبها، ثم ابتعدت دون أن تنطق بكلمة. كانت تحس بانزعاج كبير، فلم تطق الجلوس أكثر أمام هذين الاثنين..
قام خالد واقفا هو الآخر و أمسك ذراع مروى بقوة، ثم قال وهو يضغط على أسنانه محاولا عدم رفع صوته: قد أخبرتك أن تنتظري بمكانك..
ثم دفعها بعيدا عنه، وعاد يجلس بالمقعد وفتح كتابه بهدوء عجيب، وكأنه لم يكن غاضبا منذ ثانية..
اقتربت مروى منه وقالت وهي تهم بالجلوس : لا تغضب هكذا ، ستجد فرصة أخرى للحديث معها.. أنا آسفة..
رد خالد دون أن ينظر إليها : أريد أن أجلس وحدي الآن..
عقدت مروى حاجبيها بغضب و ابتعدت عنه صاغرة..
وبمجرد ابتعادها أخذ خالد يتأمل المقعد التي كانت أمل جالسة عليه، فلمح شيئا فوقه، قام واقفا و اتجه نحوه ثم التقطه، كان بطاقة اشتراك بالمكتبة، فابتسم ابتسامة جانبية وهو يرى صورة صاحبة البطاقة، ثم قال و الابتسامة لم تفارق شفتيه : أمل محمود..يبدو أن القدر منحني فرصتي الثانية سريعا..و على طبق من ذهب..
*************
جلست أمل تشاهد التلفاز، كانت تتابع الأخبار على إحدى المحطات، تحس بالقهر كلما استمعت إلى أعداد الأبرياء التي تقتل كل يوم في بلدان كثيرة،و أثار حنقها أن المذيعة الفاتنة والمرحة تقدم نشرة الأخبار هذه، المليئة بإحصائيات الانفجارات و القتلى، وعلى شفتيها ابتسامة واسعة ! لو لم ينتبه الشخص لما تقول قد يعتقد أنها تقوم بالدعاية لمنتوج ما، أو تقدم على الأقل اخبارا ممتعة جدا !!
غيرت أمل المحطة وهي تتمتم: لا عجب أن الناس لم يعودوا يتأثرون بموت الأبرياء، مادامت حتى أخبارهم يعلن عنها بهذه الطريقة..
بمجرد أن أنهت عبارتها وجدت أمل والدتها تقترب و تجلس بجانبها وهي تقول :
- لم تتأخري اليوم بالمكتبة..
مطت أمل شفتيها و هي تتذكر ما حدث مع ذلك الشاب الغريب، تذكرت ارتباكها الشديد الذي حاولت أن تخفيه بقناع البرود، لقد تعمد الجلوس على نفس طاولتها، ما الذي يريده منها يا ترى !
حركت رأسها وكأنها تحاول طرد هذه الأفكار، لا تريد أن تشغل تفكيرها به، ثم ردت: قد كانت مكتظة جدا..ففضلت الرجوع باكرا..
و أخذت تتأمل والدتها ثم قالت ونبرة صوتها يعلوها القلق: أمي ما بك..تبدين مرهقة..هل أنت مريضة؟
حركت أم أمل رأسها نفيا ثم قالت : لا..لست مريضة..كل ما في الأمر أني أعاني من الأرق هذه الأيام..
ظلت أمل تتطلع إليها بنظرات قلقة..فابتسمت والدتها وهي تقول مطمئنة إياها : لا تقلقي يا أمل..أنا بخير..
ثم أضافت: قد رأيتك تركبين السيارة مع سامي اليوم..
ردت أمل وقد عادت تغير المحطات على التلفاز: أجل..لم أجد سيارة أجرة..فقام بإيصالي للمكتبة..
هزت أم أمل رأسها بتفهم ثم قالت : استغربت فقط..فأنا أعلم أنك تتحاشينه دائما..
ابتسمت أمل و هي ترد: لست أتحاشاه يا أمي..كيف للإنسان أن يتحاشى قدره..
صدمت أم أمل من كلمة ابنتها الأخيرة، وكاد قلبها يتوقف عن الخفقان، هذا ما كانت تخشاه !
إلا أن أمل أضافت: انه بمثابة الأخ لي يا أمي، تجمعنا أشياء كثيرة به وبعائلته..فطبعا لست أتحاشى أخي ..حتى لو حاولت لن أستطيع !
تنهدت أم أمل بارتياح ثم قالت: أرحتني يا ابنتي..
ضحكت أمل ثم قالت وهي تمثل الحزن:أنت أيضا يا أمي ظننتني أكرهه !؟.. أنتم تظلمونني جميعا.. لست أحمل لسامي بقلبي غير كل الخير، حتى حين يتعمد مضايقتي أسامحه بسرعة..أنا وسامي وسلمى أخوة يا أمي ..فأبعدوا عن ذهنكم هذه الأفكار..
زاد ارتياح أم أمل و قالت بابتسامة واسعة: أنا أتمنى لكم الخير جميعا..
اقتربت أمل من والدتها وأمسكت بيدها ثم قبلتها وهي تقول: حفظك الله لي يا أمي..
ربتت والدتها بحنان على رأسها وهي تحمد الله، على الأقل أمل تعتبر سامي فعلا كأخ، لربما هذا سيجعله يغير طريقة تفكيره بها و يعدل عن ما يدور بذهنه.
********
بباريس، عاصمة الأناقة و الجمال كما يحب أن يسميها الفرنسيون، بدأ زوج حياتهما المشتركة منذ أيام، سلمى للآن لا تستطيع التصديق بأنها متزوجة من أحمد، تحس و كأنه حلم، ستصحو منه عاجلا أم آجلا..
كانت جالسة بحديقة المنزل، و نسيم الصباح العليل يداعب خصلات شعرها، عينيها مغمضتين، من يراها قد يعتقد أنها استسلمت للنوم، أحمد الذي كان يقترب منها ظن ذلك، لولا أنه سمعها تتمتم بصوت خافت: يا رب.. لو كان هذا حلما..فلا أريد أن أصحو منه.
ابتسم أحمد وجلس بجانبها ثم همس بأذنيها : هذا ليس حلما يا ملاكي، افتحي عينيك و أنت مطمئنة..
ابتسمت سلمى قبل أن تفتح عينيها وتنظر إليه ولم تنطق بأية كلمة، بل ظلت تتفرس ملامح وجهه، عيونها كانت تنطق بكلام كثير..كلام أحمد هو الوحيد القادر على فهمه..
قفز أحمد من مكانه بغتة وجلس على الأرض أمامها وهو يقول بطريقة مسرحية: أرجوك..أرجوك..ارحميني من هذه النظرات، إنها أسهم تخترق قلبي المسكين..
ضحكت سلمى على حركته هذه وهي تقول: لم أكن أعلم أنك ممثل بارع !!
رد عليها أحمد وهو يعود للجلوس بجانبها : أبدا، لست أمثل أنا أقول الصدق !
ثم أمسك بيدها وهو يكمل: أعتذر لأني سأضطر للذهاب للعمل الآن، كنت أود البقاء معك أكثر..
قالت سلمى برجاء: فلتؤجل عملك للغد، لم نقض معا سوى بضعة أيام وها أنت ستعود لعملك !
رد أحمد بابتسامة عريضة: يا عزيزتي تعرفين أن إجازتي قد انتهت، ويجب علي الذهاب اليوم..
ردت سلمى بحزن:حسنا..
أمسك أحمد بذقنها وقرب وجهها منه قليلا وهو يقول: لا أريد أن أرى بعينيك هذا الحزن، عندما أعود سنخرج سويا موافقة؟
طبع أحمد قبلة على جبينها ثم قام واقفا واتجه نحو باب المنزل الرئيسي و قبل أن يخرج استدار باتجاهها ولوح بيده لها مودعا، وهو يحرك شفتيه بما معناه: أحبك..
نهضت سلمى من مكانها و دلفت لداخل المنزل، وهي تتساءل عما ستفعله لحين عودة أحمد، جلست على الأريكة بملل ووقعت عيونها على الهاتف فرفعته وهي تقول مبتسمة: سأتصل بأمل..
لكنها أعادت الهاتف لمكانه ونظرت للساعة بيدها و هي تتمتم: لكنها التاسعة الآن، بالإضافة لفارق التوقيت..لا زال الوقت مبكرا جدا عند أمل..
ثم ابتسمت بخبث و رفعت الهاتف ثانية وهي تقول: قد ارتاحت من إزعاجي بما يكفي..من المؤكد أنها اشتاقت له..
أخذت سلمى تنتظر ردا لمدة ليست بالقصيرة، إلى أن جاءها صوت أمل الناعس وهي تقول بخفوت : آلو ..من؟
وضعت سلمى يدها على فمها كي تمنع نفسها من الضحك وهي تقول : صباح الخير يا أمل..هل اشتقت إلي؟
بعد أن اغتسلت،نزلت أمل للمطبخ وحضرت لنفسها كوب قهوة لينشطها قليلا..ورجعت لغرفتها ثم فتحت حاسوبها الشخصي وهي لا زالت غاضبة من سلمى، كيف تجعلها تصحو في هذه الساعة المبكرة. ولماذا؟ لتحدثها على الماسنجر !!
تمتمت وهي تشغل البرنامج : أنا الغبية التي استمعت لما تقول، كان علي أن أقطع الاتصال فور أن سمعت صوتها !
لم تكد تنهي عبارتها حتى وجدت كلمات سلمى أمامها:
سلمى: ما كل هذا التأخير !
زفرت أمل بحدة و هي تكتب: أنت مزعجة.. كنت أعلم أني لن أرتاح منك حتى ولو سافرتي لأبعد بقاع الأرض !
سلمى: حسنا..بإمكانك الخروج إن أردت..
أمل: بعد أن قمتي بحرماني من نومي الهانئ تقولين لي.. أخرجي إن أردت !
سلمى: أعلم أنك لن تفعليها.. لأنك اشتقت إلي ..
أخيرا اختفت ملامح الغضب من وجه أمل و ابتسمت قبل أن تكتب: أبدا لم أشتق إليك..
سلمى: وأنا أيضا لم أشتق إليك !
ضحكت أمل ثم كتبت: أطلعيني الآن عن آخر أخبارك مع أحمد، وابعثي لي صوركما التي تحدثني عنها على الهاتف..
سلمى: سأبعثها الآن..انتهت إجازة أحمد وعاد للعمل.
أمل: بهذه السرعة !
سلمى: أجل.. للأسف. وأنت ما آخر أخبارك؟
أمل: لا شيء..أشعر بالملل و أود أن تبدأ الدراسة سريعا !!
سلمى: و سامي أترينه كثيرا؟
ابتسمت أمل، ظنت أن سلمى تريد الاطمئنان عليها، فقد تركتها وحدها فريسة سهلة لمضايقات سامي.
أمل: أراه كثيرا..عند زياراتي لوالدتك.
سلمى: وكيف حاله معك؟
أمل : أحسن من قبل بكثير، هل تصدقين.. أصبح بمقدوري أن أحظى بمحادثات هادئة معه دون أية مشاكل !
سلمى: ممتاز !!
أبعدت أمل أصابعها عن لوحة المفاتيح للحظة، ثم عادت تكتب: سلمى، أريد أن أسألك عن شيء..
سلمى: تفضلي طبعا !
ترددت أمل قليلا قبل أن تكتب : قد أخبرتني بأنك أحببتي أحمد منذ أول مرة رأيته فيها..
سلمى: صحيح..
كتبت أمل بسرعة قبل أن تعدل عن رأيها ولا تسأل سلمى: ما كان شعورك بالضبط لحظتها..
سلمى: قد حدثتك عن هذا أكثر من مرة !
أمل: لا بأس..أخبريني مرة أخرى لن تخسري شيئا..
سلمى: حسنا.. تعلمين انه طلب يدي لمجرد أنه على معرفة بوالدي، و أني كنت رافضة لهذا الموضوع، لكن والدي من أصر علي أن أراه قبل أن أقرر، كان يأمل أن أغير رأيي وهذا ما حصل فعلا..وافقت على لقاءه، وكان هذا فقط كي أرضي والدي.. مع إني كنت مقررة الرفض، مهما كان ما سيحدث في هذا اللقاء..
أمل : أكملي..
سلمى: لا أدري ما حدث حين رأيته..لكن شيئا بداخلي اهتز..لن أستطيع أن أصف لك بالضبط..
أمل : حاولي !
سلمى: سأحاول..أتعرفين.. كأن هناك يدا انتزعت قلبي ثم أعادته لمكانه..قواي خارت بمجرد أن تلاقت عيوني بعيونه..شعور غريب بالسلام و الاستسلام معا..وهو شعر بنفس الشيء أيضا ..شعور غريب.. لا أدري كيف أصف فعلا !
توقفت عيون أمل على كلمات سلمى و أخذت تقرأها و تعيد قراءتها قبل أن تكتب: يكفي ما قلت..
سلمى: لكن لم تسألين؟
أمل: لا لشيء..مجرد فضول.
سلمى: مجرد فضول.. أم أن هناك أخيرا من حرك مشاعرك؟
انتبهت أمل إلى أنها بأسئلتها أثارت شك صديقتها، لذا كتبت بسرعة:
لا أبدا !! صدقيني مجرد فضول..
سلمى: أصدقك..لكن أتوقع أن تتحرك مشاعرك النائمة هذه قريبا..
ضحكت أمل ثن كتبت: كيف؟ ومن سيحركها يا ترى..تعلمين أني أبعد ما يكون عن قصص الحب ولا أرى الآن أن لها مكانا بحياتي !
سلمى: ربما لست بعيدة عنها كما تظنين، وربما عليك أن تفتحي عينيك جيدا لتري أن لها مكانا بحياتك فعلا..
عقدت أمل حاجبيها بعد أن قرأت كلام سلمى ثم تمتمت: ما بهم جميعا يتحدثون بغموض ..لم أعد أفهم كلام أحد !
ثم كتبت: ماذا تقصدين؟
سلمى: لا شيء محدد..
توقف الاثنان عن الكتابة لدقيقة، و أمل كانت لازالت تتمعن كلمات سلمى، من المؤكد أنها تقصد شيئا !!
عادت سلمى تكتب شيئا ..عقدت أمل حاجبيها وهي تقرأ ..
سلمى: هناك أحيانا أشياء تكون بقربنا، لكننا لا نلاحظها.. لأننا تعودنا عليها، لا نشعر بها.. إلا حين نفقدها وتبتعد عنا..حينها فقط نندم.. ونتمنى لو أنا حافظنا عليها..أرجو أن لا يحدث هذا معك يا أمل !
أفرغت أمل محتويات حقيبة يدها على السرير، وأخذت تبحث بينها بعصبية و هي تتمتم:
- أين وضعتكِ..أين ؟!
لكن يبدو أنها لم تجد ما تبحث عنه، فاتجهت لخزانة ملابسها، وبحثت فيها أيضا، ثم أغلقت باب الخزانة و أسرعت بالخروج من غرفتها ونزلت الدرج، اتجهت للصالة و أخذت تبحث فوق التلفاز، ربما تكون قد وضعتها هنا دون أن تنتبه ،لكنها أيضا لم تعثر على شيء.
فزفرت بحدة ثم قالت: أين وضعتها يا ترى !
ورفعت صوتها قليلا وهي تنادي والدتها: أمي، هل رأيت..
قطعت أمل جملتها حيت تذكرت بأن والدتها مع أم سامي بمنزلها ..
-أجل سامي..كيف نسيت ! قد قام بإيصالي للمنزل يومها، ربما سقطت مني بطاقة المكتبة في سيارته !
قالتها أمل و خرجت مسرعة من المنزل..
*********
بمنزل سامي، كانت أم أمل و أم سامي جالستين بالحديقة، يتبادلان أطراف الحديث، لكن بمجرد أن لمحا أمل تدخل مسرعة من باب المنزل، توقفتا عن الكلام..
كما أن ملامح أم أمل بدا عليها بعض التوتر حين وقفت أمل أمامهما متسائلة :
- هل سامي هنا؟
قالت أم سامي بابتسامة عريضة: ما بك..هل أنت بحاجة ماسة إليه لدرجة جعلتك لا تسألين حتى عن أحوالي..
قالت أمل بخجل: آسفة خالتي..كيف حالك؟
ردت أم سامي و الابتسامة لم تفارق شفتيها : بخير حال يا ابنتي..
ثم أشارت لكرسي بقربها وهي تضيف : تعالي اجلسي معنا قليلا..
اضطرت أمل للجلوس و قالت لوالدتها: أمي..ألم تري بطاقة المكتبة؟
هزت والدتها رأسها نفيا وهي تقول : لا..هل ضاعت منك؟
قالت أمل وهي تلتفت يمينا ويسارا: أجل..لهذا جئت أبحث عن سامي..قد قام بإيصالي للمنزل يومها ربما سقطت مني في سيارته..
ردت أم سامي: أظن أن سامي لم يذهب لعمله بعد.. ستجدينه بالداخل.
ثم ابتسمت حينما رأته يقترب منهم و أضافت: ها هو.. يبدو أنه قد رآك..
لم تكن قد أنهت عبارتها حين قفزت أمل من الكرسي و أسرعت لسامي وهي تقول:
- سامي..تعال معي لسيارتك بسرعة..
استغرب سامي اللهفة التي لمحها بعينيها حين رأته، وقال بسعادة: يا الهي..كأنك لم تريني منذ قرون..ماذا هناك هل تريدين مني إيصالك لمكان ما؟ يبدو أنك قد تعودت على هذا ..
هزت أمل رأسها نفيا، ودون أن ترد أمسكت بذراعه وجذبته باتجاه مرأب السيارات..
ضحك سامي وهو يقول: ما بك إذا..في ما تحتاجين سيارتي..
توقفت أمل لأنها وجدت باب المرأب مغلقا وقالت : يبدو أن بطاقة المكتبة سقطت مني بسيارتك..
لم يستطع سامي كتم ضحكة مجلجلة انطلقت منه، لكنه حاول التوقف عن الضحك حين لمح الغضب بعيون أمل..
وقال وهو لا يزال يحاول كتم ضحكته: اعذريني..لكن كل هذه اللهفة من أجل بطاقة مكتبة
!
ردت أمل بغضب: نعم..من أجل بطاقة مكتبة، هل تسمح بفتح باب المرأب الآن !
أخرج سامي مفاتيحه و فتح الباب، فأسرعت أمل للسيارة، مما جعله يبتسم و يقول لنفسه بصوت خافت وهو يتبعها للداخل: كم أحسد هذه البطاقة إذن !
بحثت أمل داخل السيارة، لكنها لم تجد شيئا، فخرجت من المرأب دون أن تلفتت لسامي، وجلست على العشب بالحديقة وعلى وجهها علامات خيبة الأمل.
سامي ظل واقفا بمكانه للحظة، قبل أن يخرج من المرأب هو الآخر، و يجلس بجانبها على العشب قائلا: - لم تجديها؟
هزت أمل رأسها نفيا دون أن ترد.
قال سامي:حاولي أن تتذكري أين وضعتها..
ردت أمل بيأس: حاولت، لكني متأكدة أنها كانت بحقيبتي..
قال سامي متسائلا : وهل ضياعها مشكلة؟
نظرت إليه أمل وهي ترد: لا ليست مشكلة..لكن علي أن أبلغ إدارة المكتبة عن ضياعها.. وعلي أن انتظر لفترة قبل أن يمنحوني غيرها..و أنا بحاجة إليها خصوصا أن الدراسة بالجامعة ستبدأ الأسبوع القادم، و سأحتاج لمراجع كثيرة توجد فقط بهذه المكتبة..
ثم قامت واقفة وهي تضيف : لن أضيع وقتا ..سأذهب الآن لأبلغهم عن ضياعه،ا و أقدم طلب حصولي على أخرى..
قام سامي هو الآخر وغمز لها بعينه ثم قال: هل أوصلك؟
ضحكت أمل وقالت: سأتعود على هذا يا سامي..
ابتسم سامي لها وهو يقول: لا عليك.. تعودي..
ثم ابتعد متجها لداخل المنزل وهو يكمل: لازال أمامي القليل من الوقت قبل الذهاب للعمل، إذا كنت ستغيرين ملابسك أسرعي.. لا أريد أن أتأخر..
أسرعت أمل خارجة من باب المنزل وهي تقول: أجل علي أن أغير ملابسي، سأعود حالا..
وفي المكان الذي تجلس فيه أم أمل و أم سامي كانت هذه الأخيرة تتابعهما بعينيها، وعلى شفتيها ابتسامة عريضة، ثم التفتت لأم أمل و هي تقول:
- قولي لي..ألا ترين معي أن هذين الاثنين يناسبان بعضهما البعض !
واستغربت عدم رد أم أمل عليها و الوجوم الذي علا ملامحها..
*******
توقف سامي بالسيارة أمام المكتبة، والتفت لأمل مبتسما وهو يقول: لا زال عرضي قائما.. بإمكاني انتظارك قليلا حتى تنتهين من ما ستقومين به بالداخل، ثم أعيدك للمنزل..فأمامي بعض الوقت قبل موعد عملي..
ابتسمت أمل ثم قالت: لا يا سامي قد أتأخر بالداخل..ولا أريدك تأخيرك عن عملك..
هز سامي رأسه وهو يقول : كما تريدين..هل ستعودين للمنزل مباشرة؟
مطت أمل شفتيها ثم قالت: أجل، للأسف..أصبحت وحيدة هذه الأيام !
ابتسم سامي ثم قال: لم لا تتصلين بصديقتك لتخرجا سويا.. تلك التي كانت تزورك أنت وسلمى كثيرا نسيت اسمها ..
مطت أمل شفتيها ثم قالت: تقصد سارة..زميلتنا بالجامعة..قد سافرت مع عائلتها هذا الصيف ولم تعد بعد كما أعتقد..
ثم صمتت قليلا قبل أن تضيف: يا الهي كم اشتقت للتسوق مع سلمى !! وقد كنت أظنني سأرتاح منه..
ثم أنهت عبارتها بضحكة مما جعل سامي يسألها: ما الذي يضحكك..
ضحكت أمل مرة أخرى و هي تجيب: تذكرت كلاما قالته سلمى لي مؤخرا..شيئا من قبيل أننا لا نعير الأشياء التي بقربنا انتباها بسبب تعدونا عليها..و أننا لا نحس بقيمة هذه الأشياء إلا حين نفقدها..
لم أفهم كلامها حينها و لكني الآن وجدته مناسبا لما أحس به..فأنا لم أظن أنني سأشتاق للتسوق مع سلمى..
ضحك سامي لأنه فهم قصد أخته ثم قال لأمل : أهذا كل ما فهمته من كلامها! وأنا من كان يظنكِ ذكية..
ضربته أمل بخفة على ذراعه وهي تقول: أنا ذكية رغما عنك ! ولا تنسى وعدك لي بفتح صفحة جديدة.. ليست فيها لا سخرية ولا استفزاز..
ثم فتحت باب السيارة وهمت بالخروج، لكنها قبل أن تخرج التفتت إليه وهي تقول: هل فهمت أنت من كلامها شيئا؟
نظر سامي إليها، لو كانت للعيون لغةٌ تُفهم، فلماذا لا تفهم أمل نظراته، فكر أن يصارحها بكل شيء الآن، لكنه عدل عن ذلك، هذا ليس بالوقت الملائم..
و قال ببلادة متعمدة وهو لا زال ينظر إليها: أي كلام؟
زفرت أمل بغضب وقالت وهي تقلد طريقته في الحديث: وأنا من كانت تظنكَ ذكيا..
ثم أبعدت بضعة خصلات عن وجهها قبل أن تكمل: هل فهمت من كلام سلمى شيئا لم أفهمه..
أبعد سامي نظراته عن أمل ثم حرك رأسه نفيا وهو يقول: لا..
عقدت أمل حاجبيها ثم تراخت ملامحها قائلة : حسنا..لا أدري لمَ أشغل تفكيري بكلامها..
ونظرت لساعة يدها قبل أن تقول بابتسامة: ستذهب اليوم مبكرا للعمل..
رد سامي : لا..سأمر على صديق لي قبل الذهاب..
ثم أضاف بابتسامة : ليس من شيمي الوصول للعمل مبكرا !!
ضحكت أمل وهي تقول : طبعا ..ومن سيرميك بمثل هذه التهمة !
ثم أضافت قبل أن تغلق باب السيارة و تبتعد: إلى اللقاء..
اتجهت أمل لباب المكتبة ولكنها قبل أن تدخل سمعت شخصا من الخلف يقول:
-آنسة أمل..
استدارت أمل، ورفعت حاجبيها بدهشة عندما وقعت عينيها على خالد، ثم قالت والدهشة واضحة من نبرة صوتها: من أين عرفت اسمي؟ !
أخرج خالد بطاقة المكتبة من جيب سترته و قدمها لأمل وهو يقول بهدوء: مِن هذه..
وأضاف حين لمح نظرات أمل المتسائلة: وجدتها على المقعد الذي كنت تجلسين عليه المرة السابقة..يبدو أنها سقطت منك..
أمسكت أمل البطاقة قائلة : أشكرك..
هز خالد كتفيه وقال بطريقة لامبالية: لم أقم بما يستحق الشكر..
ابتسمت أمل وعادت تكمل طريقها، تبعها خالد وهو يقول بهدوئه المعتاد: أظنك جئت اليوم من أجلها..فهذا ليس اليوم التي تزورين فيه المكتبة عادةً..
نظرت أمل إليه بدهشة، استغربت أنه على علم بمواعيد زياراتها لهذا المكان..
قال خالد وكأنه سمع ما تفكر فيه: أنا آتي هنا كثيرا.. وقد لاحظت حرصك على زيارة المكتبة كل يوم سبت، وغالبا ما تجلسين في نفس المكان..
وصمت قليلا قبل أن يضيف: ونادرا ما تحدثين أحدا..
كانا قد وصلا لساحة المكتبة، التفتت خالد يمينا ويسارا، ثم قال لأمل بابتسامة جانبية هادئة وهو يشير لإحدى الطاولات: يسعدني انضمامك إلينا..
التفتت أمل للمكان الذي يشير إليه، نفس أفراد المجموعة التي لاحظتها أمل من قبل مع خالد، كانوا ملتفين حول تلك الطاولة، ولمحت أمل من بينهم مروى، ولم يخف عليها الانزعاج الذي بدا على ملامحها حين رأتها مع خالد.. فأكملت طريقها وهي تقول ببرود شديد : لا ..شكرا
ظل خالد يراقبها وهي تبتعد إلى أن دلفت لداخل المكتبة، ثم قال بابتسامته الجانبية المعهودة: حسنا يا آنسة أمل..الأيام القادمة ستجمعنا.. شئتي أم أبيتي !
وبالخارج، سامي كان لا يزال متوقفا بسيارته أمام المكتبة، كان متكئا على المقود ، واضعا يده على ذقنه، وغارقا في التفكير، كان يفكر فيما رآه للتو، قد رأى ذلك الشاب يحدث أمل، ثم رآهما يدلفان سويا لداخل المكتبة، ما رآه سبب له إزعاجا وتوترا كبيرا، الموضوع ليس غيرة فقط، رغم أنه لا ينكر أنه شعر بها، لكن شيئا في ذلك الشاب جعل سامي لا يرتاح له، و هو لا يدري ما هو هذا الشيء بالضبط !
كانت أم سامي جالسة بقرب زوجها على الأريكة، يشاهدان نشرة الأخبار، لكن أفكار أم سامي كانت تبحر بعيدا جدا، هناك موضوع يشغل تفكيرها، عليها أن تتحدث مع زوجها فيه، ليس هناك أنسب من هذا الوقت، فسامي ليس بالبيت..
تنحنحت قبل أن تقول: هناك موضوع أود أن أحدثك فيه..
التفتت والد سامي إليها قائلا: أي موضوع؟
ردت أم سامي بهدوء: موضوع خاص بسامي و أمل ..
عقد والد سامي حاجبيه،ثم أطفئ جهاز التلفاز و اعتدل في جلسته وهو يقول: ما بهما؟
تنهدت والدة سامي ثم قالت: بل قل ما به ابني..هل تعلم أن سامي يحب أمل؟
تجمدت ملامح والد سامي وهو يقول: هل أخبرك بنفسه..
هزت والدة سامي رأسها نفيا وهي تقول: لا..ولست بحاجة لأن يخبرني..
قال والد سامي وملامحه تحمل نفس الجمود: إذن ربما أنت مخطأة..
ردت والدة سامي بإصرار: لا ..أنا واثقة مما أقول.
ثم صمتت قليلا قبل أن تضيف: ما رأيك أن نقوم بخطبة أمل لسامي..لا أظنها سترفضه..
رد والد سامي بحدة وكأنه صدم لكلام زوجته : لا !
رفعت والدة سامي حاجبيها بدهشة وهي تقول: لماذا لا ! أمل و إن لم تكن تحب سامي الآن مثل ما يحبها..فأنا واثقة من أنها تعزه كثيرا..هذه المعزة من السهل أن تتحول لحب..ولا أظنها ستجد زوجا يحبها و يقدرها.. و يفهمها مثله..
وفجأة اعتدلت واقفة وعلامات الدهشة قد زادت على ملامحها : لا تقل لي أن أم أمل ووالدها سيرفضان !
أمسك والد سامي بذراع زوجته و جذبها كي تعود للجلوس وهو يقول: اهدئي.. قد تحدثت بهذا الموضوع مع والد أمل.. وأنا من سيقوم بحله مع سامي ..فلا تشغلي بالك....
قالت والدة سامي بغضب: إذن فقد سبق وتحدثتم و اتفقتم أيضا.. و أنا آخر من يعلم !..ثم كلامك يدل على أنهما يرفضان ابني فعلا !
نظر والد سامي إليه ويبدو أنه لم يجد بما يجيبها فظل صامتا..
قالت والدة أمل و كلماته تحمل من الدهشة مثل ما تحمله من الغضب: لكن لا أفهم !
لماذا يرفضانه؟..ألسنا كالعائلة الواحدة..يعلمان أن معزة أمل عندنا بمعزة ابنتنا سلمى..و سامي من خيرة الشباب.. ليس هناك ما يعيبه..ووالدة أمل..لطالما عاملت سامي كابن لها..أنا أعلم أنها تحبه وتريد سعادته..إذن لماذا؟ !
ونظرت لزوجها تنتظر منه جوابا، لكنه أطرق برأسه، وظل صامتا، كان لا يدري فعلا بما يجيب !
***********
ضحكت سلمى وهي تقول لأمل عبر الهاتف: ما هذا ..قد كان علي أن أرجو سامي لساعات حتى يوافق على إيصالي لمكان ما..هل أصبح أخي فجأة سائقك الخاص أم ماذا !؟
جلست أمل على سريرها ثم قالت بدلال: هو من يقدم خدماته..
استمرت سلمى بالضحك قليلا قبل أن تقول: أنا أشفق على أخي المسكين..لم أظن أني تركته في يد مستغلة مثلك..
قالت أمل بغضب متصنع: ما هذا الذي تقولينه..أنا لست مستغلة..ثم هذا أقل شيء يفعله ليكفر عن سنوات تحملت فيها مضايقاته..
سلمى:حسنا لا تغضبي..لستِ مستغلة..وهو يستحق فعلا..لكن رفقا به يا أمل..
ضحكت أمل وهي تقول: لا تخشي شيئا..ثم لربما أبتاع سيارة قريبا ..ولن أكون بحاجة إليه ولا لخدماته..
شهقت سلمى وقالت باستنكار: ألم أقل أنك مستغلة !
قامت أمل من السرير و اتجهت لشرفة غرفتها ثم قالت ضاحكة: ما بك..أنا أمزح لا غير..
سلمى: أعلم أيتها السخيفة..أخبريني متى ستبدأ الدراسة بالجامعة..
قالت أمل وهي تراقب تلك الفتاة التي توقفت بباب منزلهم: بعد غد..
تنهدت سلمى قائلة: كم أنت محظوظة..أتمنى لو أستطيع الذهاب معك
أمل لم ترد عليها فقد كانت تحاول تمييز تلك الفتاة، لكنها لم تفلح لأن الفتاة كانت قد دخلت المنزل..
سلمى بغضب: أمل أين ذهبت؟
انتبهت أمل و ردت على سلمى: آسفة..لكن هناك فتاة دخلت المنزل للتو ..
سلمى: من سارة؟..
أمل وهي تعود لداخل الغرفة: لا ليست سارة..و لم أستطع تمييز من تكون.. قد دخلت بسرعة..دعينا من هذا وقولي لي لماذا تتمنين لو كنت ستذهبين معي للجامعة..ألم يكن حلمك الزواج بأحمد، أنت من قررتْ أن لا تواصل دراستها من أجله..
مطت سلمى شفتيها وهي تقول: أجل هو قراري..لست نادمة عليه..لكن كل ما في الأمر أني سأشتاق لأجواء الدراسة..أفكر هذه الأيام أن أتابع دراستي بإحدى الجامعات هنا..
همت أمل أن تقول شيئا لكنها سمعت طرقا على باب غرفتها و وجدت والدتها تطل برأسها وهي تقول: - أمل..هناك فتاة تريدك بالأسفل..
اقتربت أمل من تلك الفتاة الشقراء الجالسة بالصالة، وأخذت تدقق النظر في ملامحها، هذه الملامح ليست غريبة عليها أبدا، لكن ذاكرتها لا تسعفها لتتذكر..
قامت تلك الفتاة واقفة وابتسمت لأمل ثم قالت: كيف حالك يا أمل؟
بادلتها أمل الابتسامة وردت وهي لا تزال تحاول تذكر هذه الملامح: بخير..
زادت ابتسامة الفتاة اتساعا وهي تقول: ما بك.. ألم تعرفيني بعد؟
وأضافت حين رأت علامات الحيرة على وجه أمل: ألم أقل لك أنك ستنسين بسرعة ! لازلت أتذكر ردك يومها، قد قلت لي.. لن أنساك، وحينما أكبر سأبحث عنك !!
اتسعت عيون أمل ويبدو أن الدهشة عقدت لسانها للحظة..
لكنها رفعت يدها وهي تشير للفتاة أمامها ثم قالت بتلعثم: ليلى !؟
ضحكت ليلى و عانقت أمل بقوة و هي تقول: أجل ليلى..كما ترين لم تبحثي عنها..فبحثت عنك.
أبعدتها أمل عنها قليلا وهي تتفحص ملامحها بدهشة: لا أصدق..أقسمي أنك ليلى !!
تعالت ضحكات ليلى وأخذت تهز أمل من كتفيها وهي تقول: ما بك يا فتاة..هل تغيرتُ لهذه الدرجة..أقسم أني ليلى..هل تريدين مشاهدة بطاقة الهوية !
ضحكت أمل أخيرا، وعادت الفتاتان لعناق حار و طويل اختلط بضحكاتهما السعيدة، من كان يظن أن صديقتا الطفولة ستجتمعان ثانية بعد فراق دام لعشر سنوات..
***************
كانت سلمى جالسة على مائدة العشاء مع أحمد، الذي عاد من عمله منهكا وجائعا ،كان يتناول طعامه بنهم، ولم يلحظ أن سلمى لم تلمس شيئا من الطعام،واكتفت بمراقبته وهو يأكل، كانت تشعر بحنين لأهلها، اشتاقت لوالدتها ووالدها، لسامي و مشاجراتها الدائمة معه، لأمل وللأوقات المرحة التي كانت تجمعهما سويا، اضطرت للابتعاد عنهم جميعا لتكون بقربه، بقرب أحمد،هي الآن تعيش حلمها، فهذا هو الرجل الذي اختاره قلبها لتعيش العمر بجانبه،هذا الرجل هو حلمها، فلم إذن هذا الحزن الذي يكتنفها، وما هذا الحنين الشديد للأهل الذي هاجمها، وأصبح يحرمها من الاستمتاع باللحظات التي تعيشها بجانب أحمد..
وأحمد..هو يفعل كل ما بوسعه ليجعل حياتها سعيدة، لا يبخل بأي شيء في سبيل رؤية نظرتها السعيدة و ابتسامتها، فما بها إذا..
انتفضت سلمى وتوقف سيل أفكارها المتضاربة، حين قال أحمد بصوت تعلوه نبرة قلق: سلمى..ما بك؟
حاولت سلمى أن تبتسم وهي تقول: لا شيء..
نظر إليها أحمد بشك ثم عاد يقول بقلق: لا..هناك شيء ما.. أنت لم تلمسي طعامك ..ثم ملامحك تبدو متعبة..هل أنت مريضة؟
قامت سلمى من الكرسي التي كانت تجلس عليه و رفعت صحنا عن المائدة، ثم اتجهت للمطبخ وهي تقول: لا يا أحمد لست مريضة، وليس بي أي شيء.. اطمئن..
اعتدل أحمد واقفا هو الآخر و أمسك بذراعها قبل أن تبتعد، وأخذ منها الصحن وأعاده للمائدة، ثم أمسك بيدها وحملها على أن تتبعه وهو يقول: تعالي..
جلس الاثنان على الأريكة، ثم قال أحمد بهدوء وهو ينظر مباشرة لعيني سلمى: سلمى..أنت لست على ما يرام..ولا أدري مع من ستتحدثين لو لم تتحدثي معي..أخبريني بما يشغلك..
حاولت سلمى أن تهرب بنظراتها بعيدا إلا أن احمد أمسك بذقنها وجعلها تنظر إليه ثم أضاف: أخبريني هل قمتُ بشيء ضايقك..
رفعت سلمى حاجبيها وقالت باستنكار: لا يا أحمد ما هذا الذي تقوله.. أنت تضايقني؟ !
تنهد أحمد بارتياح ثم قال: إذن ما بك؟
أطرقت سلمى برأسها وهي تقول: أخشى أن أخبرك فتفهم ما أقوله بشكل خاطئ..
عقد أحمد حاجبيه وقال : منذ متى أفهم الأمور بشكل خاطئ..هيا قولي ما بك؟
تنهدت سلمى ورفعت رأسها لتنظر إليه وهي تقول: كل ما هنالك أني..أني اشتقت لأهلي..لم أعد حتى أتصل بأمي كثيرا، فكلما اتصلت بها وسمعت صوتها يزيد حنيني إليهم..لم أكن أريد إخبارك خشية أن تظن أنك مقصر بحقي..أو أني لست سعيدة معك..
ربت أحمد على يدها بحنان ثم قال بابتسامة: لا يا سلمى..لن أظن هذا..وما يحدث لك هو شيء طبيعي، أنت لم تفارقي أهلك من قبل..
ثم حدجها بنظرة لوم وهو يضيف: لكني متضايق منك..كان يجب عليك أن تشاركيني أحاسيسك هذه..
قالت سلمى بابتسامة: لم أكن أود أن أقلقك فقط..
اعتدل أحمد واقفا وجعل سلمى تقف أيضا وهو يقول: هيا اذهبي و البسي شيئا مناسبا..سنخرج..
رفعت سلمى حاجبيها وقالت : نخرج ..بهذه الساعة المتأخرة..
هز أحمد رأسه وهو يقول: أجل..بهذه الساعة.. أنت يا عزيزتي بباريس..وهذه المدينة لا تفرق الليل من النهار..
ثم غمز بعينه وهو يضيف: ولربما نتسوق من أجلك قليلا..
ضحكت سلمى ثم قالت : أي تسوق بهذه الساعة..لن تكون هناك محلات مفتوحة..ثم أنت تكره التسوق معي..
تنهد أحمد ثم قال: ماذا أفعل..سأتعود ما دام التسوق يسعدك..
ضحكت سلمى وقالت: أتعلم ..أمل تقول أنها اشتاقت للتسوق معي..مع أنها كانت تتهرب من هذا دائما..غريبة هي الأشياء التي نشتاق إليها..
وغيرت نبرت صوتها لنبرة حزينة قبل أن تضيف : المسكينة صديقتها الوحيدة تركتها..
ابتسم أحمد قائلا:ستعتاد على غيابك.. و ستجد صديقة غيرك، فالأيام تعوضنا عن ما نفقده دائما..
عقدت سلمى حاجبيها ثم قالت باستنكار: لا..أنت لا تعرف أمل هي لا توطد علاقاتها مع الناس بسهولة..وبالتأكيد لن تجد صديقة تعوضها عني و تنسيها إياي.. مهما حدث..
*********
رشفت ليلى من كوب العصير ثم أعادته فوق الطاولة وهي تقول:أمضيت تلك السنة في اللهو واللعب، كنت في غاية الاستهتار أيام الثانوية..مما أدى لرسوبي ، وإلا لكنت مثلك ..في سنتي الثانية بالجامعة..الآن أنا قلقة قليلا لأني سأبدأ مرحلة جديدة من حياتي..الحياة الجامعية
ابتسمت أمل وقالت: ليس هناك داع للقلق..عليك فقط الانتباه لدراستك..ستجدين أول سنة بالجامعة صعبة إلى حد ما..لكني لن أتركك لوحدك..وإذا احتجت أية مساعدة بإمكانك طلبها مني..
بادلتها ليلى الابتسامة قائلة: أشكرك يا أمل..لو تدرين مدى سعادتي بهذه الصدفة التي جعلتني أختار نفس الجامعة التي تدرسين بها لأدرس بها أنا أيضا..
قالت أمل والابتسامة لم تفارق شفتيها: انه القدر.. أنت التي لا تدري مدى سعادتي بلقائك بعد هذه السنوات الطويلة..
وأخذت تنظر لملامح ليلى قبل أن تكمل: من كان يظن أن أشقى طفلة في المدرسة..ستتحول لفتاة بكل هذا الجمال !
ضحكت ليلى ثم قالت: وأنت..أقسم أني لو لم أكن متأكدة من أنك أمل لما عرفتك..أنت التي تغيرت كثيرا..
ثم صمتت قليلا قبل أن تضيف: أتذكرين آخر يوم رأيتك فيه..أنا لا زلت أتذكر كلامك لي بباب المدرسة ، حين أخبرتني بين دموعك أنك ستنتقلين مع أهلك للسكن بمكان بعيد، و أنك ستغيرين المدرسة..
سرحت أمل بأفكارها بعيدا، لأيام طفولتها، تذكرت حزنها لفراق أصدقائها، حين انتقلت مع أهلها لمنزلهم الجديد، وكيف أنها حبست نفسها لأيام بغرفتها الجديدة، تبكي و ترجو من والديها أن يعيداها لمنزلها، لمدرستها و لأصدقائها..وتذكرت أول مرة رأت فيها سامي وسلمى..جعلها الفضول تخرج من غرفتها بعد أن سمعت صوت ضحكات بالمنزل، ظلت واقفة أعلى الدرج، تسترق النظر لذلك الرجل الغريب الذي يتحدث مع والديها، كان معه ولد وطفلة بسنها، رآها والدها واقفة فوق، فأشار إليها أن تنزل، وحين نزلت تمسكت بملابس والدتها ،شعرت بالخوف من هؤلاء الغرباء، لكن والدتها أمسكت بيدها، وجعلتها تقف أمام سامي وسلمى ، ثم قالت لها بابتسامة وهي تشير لسامي :
- أمل..هذا سامي ..اعتبريه أخا لك منذ اليوم..
و أكملت وهي تشير لسلمى: وهذه سلمى ..اعتبريها كأختك أيضا..متأكدة من أنكما ستصبحان صديقتين.
كم هي غريبة هذه الدنيا، حين فارقت أمل ليلى، وضعت الأيام سلمى بطريقها،
والآن، ها قد فارقت سلمى..فإذا بالأيام تعيد إليها ليلى !!
- أمل.. أين سرحت؟
أعادت عبارة ليلى هذه أمل من ذكريات الماضي القريب، فردت بابتسامة هادئة: كلامك جعلني أتذكر تلك الأيام..
ثم صمتت قليلا قبل أن تضيف: أتعلمين أني ذهبت فعلا لمنزلك لأراك..ربما منذ أربع سنوات..وأخبرني جيرانكم بانتقالكم للسكن بمكان آخر..
اتسعت عيون ليلى و قالت بدهشة: إذن أنت لم تنسي أبدا وعدك لي بالبحث عني حين تكبرين..
حركت أمل رأسها نفيا وهي تقول: لا لم أنسى وعدي ولم أنساك يوما..لكني فقدت الأمل في لقائك حين علمت أنك قد غيرت منزلك..
ابتسمت ليلى ابتسامة عريضة ثم قالت: لم يكن عليك أن تفقدي الأمل أبدا يا أمل !
ثم رشفت ما تبقى في كأسها وقامت واقفة وهي تضيف: علي أن أذهب الآن..
نظرت أمل إليها وقالت : لكن الوقت لازال مبكرا..اجلسي معي قليلا..لم تحكي لي بعد عن كل أخبارك ..
ضحكت ليلى قائلة: الأيام القادمة أمامنا لأحكي لك عن كل شيء..ونعوض كل ما فاتنا بالسنوات الماضية..ثم منزلي بعيد عن هنا وإذا جلست أكثر سأتأخر..
مطت أمل شفتيها ثم قالت باستسلام: حسنا..كما تريدين.
و قامت لتوصل ليلى لباب المنزل وهي تقول: أنا سعيدة جدا اليوم برؤيتك يا ليلي..
قبلتها ليلى على وجنتيها ثم قالت بابتسامة قبل أن تخرج من المنزل: وأنا أيضا سعيدة جدا..أراك بعد غد بالجامعة..
لوحت أمل بيدها لصديقتها والابتسامة على شفتيها، ثم قالت بصوت خفيض: إن شاء الله..
أغلقت أمل الباب وابتسامتها السعيدة لم تفارق شفتيها، ثم عادت للصالة ورفعت الكؤوس من على الطاولة و اتجهت للمطبخ، كانت أم أمل تحضر وجبة العشاء، فابتسمت لأمل حين رأت علامات الفرحة على ملامحها ثم قالت:
- هل ذهبت صديقتك؟
ردت أمل بسعادة: أجل..يبدو أنها تسكن بعيدا عن هنا..لكني سأراه قريبا بالجامعة ..قد سجلت بنفس جامعتي و نفس تخصصي..
زادت ابتسامة أم أمل اتساعا وهي تقول: هذا رائع..أنا سعيدة جدا من أجلك..من الواضح أن ليلى تحبك كثيرا.. لتقوم بالبحث عنك بعد كل هذه السنوات..
هزت أمل رأسها موافقة وقالت وهي منشغلة بتنظيف الكؤوس: أجل يا أمي..قد كانوا ينادوننا التوأم بمدرستي الابتدائية..من شدة تعلقنا يبعضنا..وكونها كانت أشقى تلميذات المدرسة..بينما أنا كنت التلميذة الهادئة..جعلنا نشكل ثنائيا فريدا من نوعه..
جففت أمل يديها بمنشفة ثم أكملت: هل أساعدك بتحضير وجبة العشاء؟
حركت أم أمل رأسها نفيا وردت : لا ..قد انتهيت..
قالت أمل: حسنا..سأذهب لغرفتي إلى أن يعود أبي من العمل ونتناول وجبة العشاء سويا..
واستدارت لتخرج من المطبخ إلا أن والدتها أوقفتها قائلة: أمل..لم تخبريني.. كيف عرفت ليلى عنوان منزلنا الجديد..
هزت أمل كتفيها وقالت وهي تخرج من المطبخ: تقول أن أحد جيراننا بالحي القديم أعطاها العنوان..
عقدت أم أمل حاجبيها..ثم غمغمت لنفسها: لكني لم أخبر أحدا من جيراننا القدامى بعنواننا الجديد..
**********************
وقفت أمل بشرفتها تستمتع بنسيم الليل العليل، لم تستطع النوم، ربما لشدة سعادتها للقائها بليلى، وربما لحماسها باقتراب موعد ذهابها للجامعة، والعودة للدراسة..وربما للاثنين معا.
أغمضت عينيها، وأرجعت رأسها للخلف قليلا، تاركة الهواء العليل يتلاعب بخصلات شعرها..
وأفكار كثيرة تدور بذهنها..
لم تنتبه لسامي الذي كان بالشرفة الملاصقة لشرفة غرفتها، والذي ظل يراقبها قليلا، لا يدري إلى متى سيكتم ما بداخله، كل يوم يمر عليه، يشعر بأنه لم يعد يطيق نظرات أمل إليه..نظرات الأخت لأخيها.. فكر كثيرا بأن يخبرها ويرتاح، ولكنه بعدها كان يفكر بنصيحة سلمى، عليه أن يكسب قلب أمل قبل أن يخبرها، نعم..لن يجازف بإخبارها الآن، وهو يعلم أنها لا تحس أبدا بهذه النيران التي أشعلتها بقلبه..
منذ متى وهو يحب أمل؟ لا يدري..ربما منذ أول مرة رآها فيها، قد كان صغيرا.. أجل..كان ابن الثالثة عشر سنة، لكنه لم ينسى نظراتها الخائفة منه، نظراتها هذه أشعرته بأنها طفلة ضعيفة هشة،
والده أخبره أن يعاملها كما يعامل سلمى، لذا كشر بوجهها ليخيفها منه، يحب فرض سيطرته على الفتيات المدللات، وهي كانت تبدو طفلة مدللة تماما كأخته سلمى.. لكنه لام نفسه على تصرفه حين رأى الخوف الذي تضاعف بعينيها وحين رآها تبعد نظرها عنه..و شعر بعطف عليها، يومها قرر أن هذه الطفلة الخائفة ستصبح مسئولة منه، عليه أن يظل بقربها ويحميها، لكنه لم يعلم حينها أن أول لقاء كان بينهما، سيحدد طبيعة العلاقة التي ستجمعهم للسنوات القادمة..
قطف سامي وردة من الورود المزروعة على الشرفة، ورماها لأمل، فانتفضت هذه الأخيرة، ووضعت يدها على قلبها بخوف وأمسكت بيدها الأخرى تلك الوردة، ثم اقتربت للحائط الذي يفصل الشرفتين، فميزت سامي في الظلام، مما جعلها تقول بغضب: أقسم أنك لن تتغير !!
ضحك سامي على ملامح أمل الغاضبة وهو يقول: ماذا هناك..أهذه الملامح الغاضبة هي جزائي لأني قدمت لك وردة..
لوحت أمل بالوردة أمام وجهها وهي تقول: لو علمت سلمى أنك قطعت وردة من ورودها فستقتلك..ثم أخبرني.. ما الذي تفعله بغرفتها..
هز سامي كتفيه ثم قال بلا مبالاة: لا شيء..
و ابتسم ابتسامة خبيثة وهو يكمل: لكن أتعلمين..أفكر بان أغير غرفتي بغرفة سلمى..
رفعت أمل حاجبيها ثم قالت بلهجة مرتابة: ولماذا تود تغيير الغرفة؟
غمز سامي لها بعينه وهو يرد: لتجدي من تتحدثين إليه.. خصوصا في الليالي التي يصيبك فيها الأرق..فتخرجين للشرفة..
عادت أمل ترفع حاجبيها ثم قالت وهي تضع الوردة بين خصلات شعرها: أنت شخص غريب..
ضحك سامي و قال: و ما الذي تجدينه غريبا بي؟
لوحت أمل بيدها قائلة: كل شيء..
و صمت الاثنان، أمل رفعت رأسها تنظر للنجوم وهي تلمع بالسماء، وسامي كان ينظر لهذه النجمة التي أمامه، والتي تجده غريبا..
برغم قربها منه ،إلا أنها أبعد عنه في الواقع ،من بعد نجوم السماء..
شعرت أمل بنظراته فالتفتت إليه قائلة: لماذا تنظر إلي هكذا..
هز سامي رأسه وهو يقول: لا شيء.. تبدو هذه الوردة جميلة عليك..تبدين جميلة..
ابتسمت أمل بمرح وهي تقول: أشكرك لأول مرة لا أشعر بالسخرية في إطرائك..
ضحك سامي قائلا: ألم نقل أننا فتحنا صفحة بيضاء..إذا لننسى ما كان..المهم ما سيكون..
ضحكت أمل وهزت رأسها موافقة وهي تقول: صدقت في هذا..لننسى ما كان..
وضع سامي يده تحت ذقنه و اتكئ على الشرفة وهو يقول: أخبريني هل أنت متحمسة لعودتك للجامعة..
ابتسمت أمل وهي ترد: كثيرا..بالإضافة إلى أني قد التقيت بصديقة لي لم أرها منذ انتقالي لهذا المنزل..وهي معي بالجامعة..لذا كما ترى يبدو أن السنة القادمة ستكون أقل مللا من ما كنت أظن..
نظر إليها سامي بنظرات متسائلة.. ثم قال بهدوء: تقصدين أنك كنت تتوقعين سنة مملة من دون سلمى معك..
هزت أمل رأسها موافقة دون أن ترد..
اعتدل سامي في وقفته ثم قال لأمل: ستذهبين بعد غد أليس كذلك؟
هزت أمل رأسها ثانية، فأضاف سامي: إذا كنت ستذهبين في الصباح الباكر بإمكاني إيصالك في طريقي للشركة..
ابتسمت أمل وهي تقول: لا ..لا أريد إتعابك معي..
نظر إليها سامي قائلا: ليس هناك أي تعب..مجرد تشجيع و مساندة مني لك ..في أول أيامك هذه السنة بالجامعة.
اتسعت ابتسامة أمل وقالت : أشكرك سامي..
هز سامي كتفيه بلامبالاة ثم قال وهو يبتعد لداخل الغرفة:ليس هناك ما يستحق الشكر..تصبحين على خير..
ردت عليه أمل وهي تدلف هي الأخرى لغرفتها: تصبح على خير..
ثم أغلقت الباب الزجاجي للشرفة و أنزلت الستائر، وأبعدت تلك الوردة عن شعرها وأخذت تنظر إليها قليلا قبل أن تضعها فوق المنضدة، وتستلقي على سريرها لتستلم للنوم..
**********
لوحت ليلى لأمل بمرح حين رأتها تنزل من تلك السيارة و تقترب منها، ثم قالت لها وهي تغمز بعينها بعد أن سلمت عليها: لم تخبريني أن لك صديقا وسيما هكذا !!
رفعت أمل حاجبيها بدهشة قائلة: عن أي وسيم تتحدثين !؟
عقدت ليلى حاجبيها ثم قالت: ذاك الذي نزلتي للتو من سيارته !
وضعت أمل يدها على فمها ضاحكة وهي تقول: من؟؟سامي !!
قالت ليلى باهتمام: اسمه سامي..
ثم أضافت بابتسامة خبيثة: أهنئك..أحسنت الاختيار..
قالت أمل باستنكار شديد: إلى أين أوصلتك أفكارك !!هذا سامي ابن جيراننا...
اتسعت عيون ليلة وقالت : وابن الجيران أيضا..من المؤكد أنكما لا تفترقان أبدا إذا...
أخذت أمل تنظر لليلى بدهشة ثم قالت: انه مثل أخي..لا تجعلي أفكارك تأخذك بعيدا
غمزت لها ليلى مرة أخرى وهي تقول: آه..أجل من المؤكد أنك ستعتبرين شابا وسيما مثله..أخا لك..في حالة أنك لا تمتلكين عينين..
وأضافت بخبث: لكن لك عينين الحمد لله..لذا فلا تراوغيني..
احمر وجه أمل غضبا وحرجا في آن واحد ثم أمسكت بذراع ليلى و حملتها على المشي وهي تقول: إذا أكملتُ هذا الحوار معك فلن تحضر أي منا محاضرتها..ورغم ذلك لا أعتقد ستقتنعين بكلامي..
ضحكت ليلى وهي تقول: آسفة..لكن إذا كانت فعلا لا تجمعك بهذا الوسيم غير علاقة أخوة..فلن تنزعجي إذا طلبت منك أن تعرفيني عليه..
نظرت إليها أمل بدهشة ثم قالت وقد بدا عليها الانزعاج فعلا: اذهبي لمحاضرتك الآن..وكفاك سخافات !!
**************
دخل سامي للمنزل وهو يدندن بلحن سعيد، قد كان سعيدا جدا، علاقته مع أمل بدأت تتحسن، وبأسرع من ما كان يعتقد، يبدو أن انتظاره لن يطول كثيرا، بهذه الطريقة ستصبح مصارحة أمل أسهل فعلا..
وقال محدثا نفسه: أختي العزيزة ذكية..ليتني طلبت مشورتها منذ زمن..لوفرت على نفسي الكثير من الألم..
انتبه سامي لوالده الجالس بالصالة فاقترب منه وقبل يده، ثم جلس بجانبه وهو يقول: ليس من عادتك أن تترك الشركة مبكرا..سألت عنك قبل أن أخرج فأخبروني أنك خرجت قبلي..
نظر إليه والده نظرات غامضة ثم أطرق برأسه قائلا: تعمدت أن أل قبلك للمنزل، أريد أن أتحدث معك بموضوع مهم..
شعر سامي ببعض القلق لطريقة حديث والده لكنه قال بهدوء: تفضل أبي..
رفع والد سامي رأسه وزفر بحدة ثم قال: أمل..
عقد سامي حاجبيه وزاد التوتر بداخله وهو يقول: ما بها أمل..
رد والد سامي وهو يحاول أن يتحدث بهدوء: أسمع يا بني..تأكد أنني أتمنى سعادتك..وأي شيء تريده سأسعى لأن أحققه من أجلك ..لكن أمل لا..
صدم سامي لكلمات والده وصمت قليلا في محاولة لاستيعابها ثم قال: لست أفهم..
قال والد سامي بسرعة وهو يلوح بكلتا يديه بتوتر: هذه المشاعر التي ولدت بداخلك تجاه أمل..عليك أن تقتلها..أن تقتلعها تماما..
أخذت دقات قلب سامي تتسارع، لم يعد يفهم شيئا أبدا فقال بتلعثم: ما هذا الذي تقوله يا والدي..أية مشاعر التي سأقتلعها..
ارتفع صوت والده قليلا وهو يقول: أنت تعلم يا سامي عن ما أتحدث ! ولعلمك والدها يهدد بأنه قد يبعدها للأبد..إذا لم تتعقل وتنسى ما تفكرا فيه..
قام سامي واقفا، أراد أن يقول شيئا لكن لسانه عقدته الصدمة، وجد نفسه يعود للجلوس ويقول أخيرا بصعوبة شديدة: فقط لأنكم اكتشفتهم ما بداخلي تجاهها. يحدث كل هذا..ماذا لو طلبت يدها للزواج !؟
صرخ والده هذه المرة بوجهه وهو يقول: أنا أطلب منك أن تقتل هذه المشاعر التي بدأت تنمو بداخلك و أنت تحدثني عن زواج !!
بدأ صوت سامي يرتفع أيضا وقال بغضب: أية مشاعر هذه التي تنمو و تطلب مني أن أقتلها !
ليس هناك ما ينمو بداخلي..ما بداخلي هو شيء لم أعد أستطيع السيطرة عليه !
أصبح يتحكم بي ولم أعد أستطيع التحكم به ! هل تفهم ما أقوله يا أبي..هل تفهم !
اعتدل والد سامي واقفا وقد احمر وجهه من الغضب قائلا: هل تصرخ بوجهي يا سامي !
أخفى سامي وجهه بين يديه، يشعر أنه لم يعد قادرا على التنفس، والعالم يضيق من حوله..ما هذا الذي يحدث..ما هذا الكابوس..
حاول أن يهدأ قليلا ثم قال بلهجة من تحطم قلبه للتو: آسف أبي..آسف.. لم أقصد..
ثم قام واقفا وقبل رأس والده،و قال محاولا أن يتحكم بنفسه: أخبرني فقط..هل أمل من طلبت من والدها أن يحدثك..هل هي على علم بالموضوع؟
عاد والد سامي للجلوس وهو يقول: لا هي لا تعلم شيئا..ولا نريدها أن تعلم..
صمت سامي للحظة ثم قال بصوت مخنوق : إذن والديها من يرفضان..أخبرني أبي.. ما السبب ؟
نظر إليه والده بنظرات تحمل شفقة وعطفا على ابنه، لا يريد أن يراه محطما كما يراه الآن، رد عليه وهو يبعد نظراته عنه: لست أعلم..من المؤكد أن لهم أسبابهم..
لم يعد سامي قادرا على التحكم بنفسه أكثر.. فقال صارخا وهو يتجه خارجا من المنزل: لهم أسبابهم !إذن عليهم أن يشرحوا لي هذه الأسباب.. والآن..
أخذ والده يصرخ عليه ليعود، لكن سامي خرج مسرعا كالسهم، متجها لمنزل أمل، عليهم أن يفهموه ما يحدث..
*********
خرجت أمل من قاعة المحاضرات فوجدت ليلى بانتظارها بالخارج، ابتسمت لها وهي تقترب ثم قالت:
سآخذك لأقرب مطعم من الجامعة..أكله لا بأس به..ثم سأرجع أنا للمنزل..أما أنت فحظ موفقا في محاضرتك المسائية..
هزت ليلى رأسها موافقة ثم قالت : على الأقل الجدول الزمني لمحاضراتنا يتشابه لحد ما..
ثم أضافت وهي تمط شفتيها: أحسدك.. ستذهبين لتناول وجبة غذاء شهية بمنزلك...أما أنا فسأتناول وجبة سريعة.. و أعود لقاعة المحاضرات لأسمع و لأكتب أشياء لا أظنني سأفهمها يوما!!
ضحكت أمل قائلة: الهي تحسدينني حتى على وجبة غذاء..ولا تقلقي ساساعدك على فهم هذه المحاضرات ..
وصمتت قليلا قبل أن تقول: أخبريني ألم يلتحق أحد من أصدقائك بهذه الجامعة؟
ردت ليلى بخبث: حتى و إن كان أصدقائي هنا..فتكفيني مرافقتك..بالإضافة إلى سامي الوسيم..الذي ستعرفينني عليه..سأكتفي بك وبه كأصدقاء.
رمقتها أمل بنظرة مخيفة ثم قالت: ليلى لا تجربي صبري..فقد تغيرت تلك الطفلة الهادئة قليلا.. وأنت لم تختبريني بعد حين ينفذ صبري..
ضحكت ليلى وهي تقول: وتقولين لي أعتبره كأخي..أنظري لردة فعلك حين أتحدث عنه..
كانت أمل ستقول شيئا لكنها وجدت ليلى تلوح بيدها لمجموعة من الأشخاص وهي تقول: وفاء..مروى !
صدمت أمل واتسعت عينيها وهي تحدق في أفراد تلك المجموعة، وخصوصا ذلك الشاب الواقف برفقتهم، ووجدت ليلى تمسك بيدها و تسرع الخطى باتجاههم ، لكن أمل أوقفتها وهي تقول بدهشة:
- هل تعرفينهم؟
نظرت ليلى إليها وقالت بمرح: نعم إنهم أصدقائي..
زادت عيون سلمى اتساعا، لا.. من غير الممكن أن يكون هؤلاء هم أصدقاء صديقتها !!
وازدردت لعابها ثم قالت بتوتر: وذاك الذي معهم هل هو صديقك أيضا؟
نظرت ليلى إلى الشخص الذي تنظر إليه أمل ثم قالت: من.. تقصدين خالد ؟
وأكملت بمرح حين لمحت الجمود بملامح أمل: طبعا هو صديقي أيضا..لكن خالد هو ابن عمي قبل أن يكون صديقي !!
هل سيموت الحب.. قبل أن يولد بقلبك..
****************************
تجمدت ملامح أمل، وهي تحاول إخفاء الصدمة التي اعترتها، ما هذه الصدفة التي جعلت من مروى و أفراد مجموعتها أصدقاءً لليلى، وليس هذا فقط.. ذاك الشاب الغريب..خالد..هو ابن عم ليلى..أية صدفة هذه ؟ !
ليلى لاحظت التغير المفاجئ الذي طرأ على أمل فهزتها من ذراعها قائلة: أمل ..ما بك؟
نظرت إليها أمل نظرات شاردة ثم قالت بتلعثم: لا شيء.. سأتركك الآن..
ولم تكد تخطو خطوة واحدة، حتى جذبتها ليلى ثانية وهي تقول: لا انتظري سأعرفك على أصدقائي أولا..
حاولت أمل التخلص من قبضة ليلى وهي تقول: لا..لا أريد..أجلي الموضوع لوقت آخر..
لكن ليلى لم تكترث لها، وأكملت طريقها وعلى وجهها ابتسامة عريضة، ثم قالت بمرح حين توقفت أمام أصدقاءها: كيف حال شلة المشاغبين؟
ضحكت وفاء وردت بمرح هي الأخرى: شلة المشاغبين تعبت من البحث عن رئيستها طوال اليوم..أين كنت؟
ردت ليلى ضاحكة وهي تشير لأمل: هي من سرقتني منكم..
ثم أضافت بمرح: أقدم لكم صديقتي..
قاطعها خالد بصوته الهادئ قائلا: أمل..
تحولت نظرات الجميع التي كانت مركزة على أمل إلى خالد، كان يتطلع لأمل بنظرات واثقة وهادئة..
رفعت ليلى حاجبيها وقالت بدهشة: هل تعرفها؟
ونظرت لخالد في انتظار جواب منه، إلا أنه لم يعر سؤالها اهتماما وظل يتأمل أمل وعلى شفتيه شبح ابتسامة..فتوجهت ليلى بنظراتها المتسائلة نحو أمل.
أمل أيضا لم تجبها، كانت تنظر لخالد، و لثانية.. تلاقت عيونها بعيونه، لكنها سرعان ما أشاحت بوجهها بعيدا عنه، ثمة شيء في هذا الشخص..في نظراته الواثقة..في نبرة صوته الهادئة..يجعلها تشعر بالارتباك دائما..
ارتباك أمل من الموقف الذي وضعتها فيه ليلى، و انشغالها بنظرات خالد جعلاها لا تنتبه لمروى، التي كانت عيونها تفيض حقدا وغضبا، كلما رأت اهتمام خالد بأمل، يزيد حقدها عليها أكثر..
عقدت ليلى ذراعيها على صدرها وقالت لخالد بغضب مصطنع: خالد..أظن أنك قد حفظت ملامح الفتاة عن ظهر قلب..تعلم أني أغار عليك.. فلا تتصرف هكذا أمامي..
ابتسم خالد و أبعد نظراته عن أمل، ثم قال بهدوء وهو يبتعد عن المجموعة:أعتذر يا ابنة عمي العزيزة..لكني غير مسئول عن مشاعرك اتجاهي.. أراكم لاحقا..
ضحكت ليلى على رد خالد وقالت مخاطبة أمل: أمل..أول شيء أودك أن تعرفيه عن ابن عمي ..هو أنه مغرور..لذا لا تعيريه أي اهتمام..
ابتسمت أمل وهي تراقب خالد الذي انضم إلى مجموعة من الشباب، فأكملت ليلى بمرح وهي تشير لوفاء و مروى: من أريدك أن تتعرفي عليهن، هن وفاء ومروى..
ابتسمت وفاء ثم قالت: سعيدة بالتعرف عليك يا أمل..
بينما ابتسمت مروى بتكلف دون أن تنطق بكلمة..
بادلتهن أمل الابتسامة ثم قالت لليلى: حسنا يا ليلى..مادمت مع صديقاتك بإمكاني أن أذهب لحال سبيلي الآن..
حركت ليلى رأسها نفيا ثم قالت: ليس قبل أن تُفهميني..من أين تعرفين خالد؟
نظرت أمل لليلى لكنها لم ترد عليها..
فقالت وفاء: أمل تذهب للمكتبة كثيرا..أنا أيضا أعرفها بحكم أني أراها كل أسبوع تقريبا..لكن لم أكن أعرف اسمها..
عند هذه النقطة تحدثت مروى أخيرا وقالت بغيظ موجهة كلامها لليلى: لكن يبدو أن ابن عمك حصل على اسمها..فهو يحصل دائما على ما يريد..
أمل لم تعجبها طريقة مروى في الحديث، وهمت أن تقول شيئا لولا أن ليلى سبقتها قائلة وهي تضحك: الناس يذهبون للمكتبة من أجل الكتب و أنتم تذهبون من أجل التعارف..
ونظرت لأمل قبل أن تضيف: أنا لست من محبي الكتب ولا من محبي أجواء المكتبات..لو كنت أذهب إلى هناك لالتقيت بك كما يبدو منذ زمن..
ثم أمسكت بيد أمل وجعلتها تقترب منها وقالت هامسة في أذنها: لا أريد أن أظلم ابن عمي..هو فعلا مهووس بالكتب..لكن بيني وبينك الفتيات مهووسات به..لذا تجدينهن يلاحقنه حتى بالمكتبة..ومن بينهن صديقاتي..الذنب ليس ذنبه كما ترين..
تضايقت مروى من حديث ليلى لأمل بهذا الشكل فقالت بحنق: ما الذي توشوشينه في أذنها..
ابتسمت ليلى لمروى ثم قالت وهي تمثل الحرج: في الحقيقة.. أنا جائعة..وليس معي ما يكفي لشراء وجبة غداء..فكنت أطلب منها أن تعيرني بعض المال..لكن يبدو أنها لا تحمل معها ما يكفي أيضا..
نظرت إليها أمل بدهشة وكانت ستقول شيئا، لكن ليلى وكزتها لتصمت ثم أضافت: لذا كما يبدو سأدعوك لوجبة غداء على حسابك يا عزيزتي مروى..
ضحكت أمل على خبث صديقتها الشديد، صدقتْ حين قالت أن هذه السنة بالجامعة، لن تكون بالملل الذي توقعته..
***********
انتهى والد أمل للتو من اجتماع مع موظفي شركته، ونظر لساعة يده، لا بد أن زوجته ستقلق عليه، قد تأخر عن موعد الغداء كثيرا. لكن مازال عليه مراجعة بضعة ملفات قبل أن يعود للمنزل، لذا رفع سماعة الهاتف وطلب رقم منزله، ثم انتظر قليلا إلى أن سمع صوت أم أمل على الطرف الآخر و قال:
- أعتذر عزيزتي..سأتأخر بالعمل اليوم..لا تنتظريني على الغذاء..
بدا الإحباط على صوت أم أمل وهي تقول: إذن سأتناول وجبة الغذاء وحدي اليوم..أمل أيضا لم تعد بعد من الجامعة..
ابتسم والد أمل وهو يقول: لا..لا يرضيني أن تجلسي على المائدة لوحدك..ما رأيك أن تنتظريني قليلا سأنهي بضعة ملفات وأكون عندك..
ردت أم أمل بانشراح: لا بأس.. سأنتظر..
فتح والد أمل ملفا ووضعه أمامه وهو يقول: إذن إلى اللقاء.
ثم أعاد سماعة الهاتف لمكانها، وانهمك في قراءة الملف، إلى أن وصل لعقد أبرمه مع شركة والد سامي، كان إمضاء سامي يذيل الورقة، فهو المسئول عن عقد الصفقات بشركة والده..
ابتعدت أفكاره عن ما في الملف، وحملته للموضوع الذي يشغله هذه الأيام، يلوم نفسه لأنه لم ينتبه من قبل لتلك المشاعر التي يحملها سامي لابنته أمل، كان يظنه لا يعتبرها أكثر من أخت له، كيف لم يخطر بباله أن شيئا كهذا من الممكن أن يحدث، كيف لم يخطر ببالهم جميعا أن شيئا كهذا من الممكن أن يحدث؟ لقد أخطئوا..لم يحسنوا تقدير الأمور..لكن هل سيدفع سامي ثمن خطأهم !؟ .. وما ذنب سامي في كل هذا..ما ذنبه !
انتزعه رنين هاتفه النقال من أفكاره، فرفعه بسرعة حين رأى اسم والد سامي على شاشته وقال: وجدتني أفكر بالاتصال بك..
جاءه صوت والد سامي قائلا: هل أنت بالمنزل..
شعر والد أمل بالقلق في نبرة صوت والد سامي،مما جعله يسأل وقد انتقل إليه القلق هو الآخر: لا..ماذا هناك؟
رد والد سامي: انه سامي..قد تحدثت معه بالموضوع..فإذا به يثور ويذهب مسرعا لمنزلك..لم أستطع منعه..
اجتاح والد أمل قلق عارم وقال بتوتر: أم أمل لوحدها بالمنزل..
قال والد سامي متسائلا: هل طلبت منها أن تخبره في حال سألها.. أنك أنت من ترفض وليس هي؟
أجابه والد أمل وهو يعيد غلق الملف و يلبس سترته ثم يتجه خارجا من المكتب: أجل..قد طلبت منها هذا..لكني لا أريدها أن تواجهه لوحدها..لن تستطيع.
***************
حاول سامي أن يهدئ من روعه قبل أن يقرع جرس الباب، مسح قطرات عرق انسابت على جبينه، وزفر بحدة في محاولة لإخراج كل الغضب و التوتر الذي يشعر به، عليه أن يتحدث إلى والد أمل بهدوء، وغضبه هذا لن يفيده في شيء ،غير تعقيد الموقف..
ظل ينتظر قليلا بعد أن قرع الجرس، إلى أن فتحت والدة أمل الباب، وهالها منظره، كان وجهه يتصبب عرقا، وصدره يعلو وينزل وكأنه يحارب ليُدخل الهواء لرئتيه..اتسعت عيونها وهي ترى حالته، ثم قالت برعب: سامي..ما بك؟
لوح سامي بيده أمام وجهه وقال:لا شيء.. أريد أن أتحدث مع عمي..
و أضاف بصوت متقطع وهو يدخل لداخل المنزل ويرمي بنفسه على أحد المقاعد بالصالة: هل..هل عمي هنا؟
أغلقت أم أمل الباب وتبعته للصالة ثم جلست قبالته وظلت تنظر إليه لوهلة قبل أن تقول بتوتر: لا..لم يعد بعد..
أطرق سامي برأسه وهو يقول: علي أن أتحدث إليه..وإلا سيصيبني الجنون..
قامت أم سامي من مكانها وقد أقلقتها حالته، و اقتربت منه ثم أخذت تربت بحنان على رأسه قائلة: ما بك يا سامي..ما بك يا بني..
رفع سامي رأسه، كانت نظراته تائهة، تماما كأفكاره الآن..قال وهو ينظر لأم أمل: خالتي..هل تعلمين أن زوجك يهدد أن يبعد أمل عني تماما إذا لم..
وخانته الكلمات ..فقطع جملته، وظل ينظر إليها بحزن شديد..
أم أمل لم تكن بحاجة لمن يشرح لها أكثر، منذ أن وقعت عينها عليه بباب المنزل، علمت أن الموضوع يتعلق بأمل..
هزت رأسها قائلة بحزن: أعلم..لكن سامي.. أرجوك.. لا أحتمل أن أراك على هذه الحال يا بني..
ضحك سامي، وقال ساخرا بنبرة حملت كل الألم الذي بداخله: بني !؟
وأغمض عينيه لثانية وهو يحاول استيعاب ما يحصل له ثم استطرد: أفهميني إذا..لطالما عاملتماني كابن لكما..لطالما شعرت بأنكما بمثابة والداي..كنت أظن نفسي محظوظا..فأنا لا أملك أما واحدة..ولا أبا واحدا..بل اثنين ..فما السبب فيما يحدث الآن..ما السبب؟
عادت أم أمل للجلوس، تحس بغصة في حلقها، لا تستطيع أن تتحدث، حتى إن تحدثت ماذا ستقول له !
لا تدري كيف تخفف عنه ما يشعر به، قالت وهي تتألم لحاله: اسمعني بني..
قاطعها سامي صارخا: لا تقولي بني..لو كنت بمعزة ابنك لما وقفت أنت وزوجك في طريق سعادتي..
اغرورقت عَينا أم أمل بالدموع، وانكمشت في مقعدها، تفضل الموت على سماع ما تسمعه الآن..
لكن سامي كان في نوبة غضب عارم فقام واقفا وهو لا يزال يصرخ: سأتحدث لأمل..ليست بالطفلة كي تقرروا أنتم عوضها..القرار بيدها لوحدها !
نظرت إليه أم أمل نظرات كلها رجاء وهي تقول: لا يا سامي..أرجوك..لا أريدها أن تعلم بهذا الموضوع..هي تعتبرك كأخ لها..فلا تحاول تغيير هذا..أرجوك.
قال سامي وقد علت وجهه علامات الدهشة: لا تريدين منها حتى أن تعلم بأي شيء..
وأكمل وهو يجلس: لست أفهم..لماذا !؟
قالت أم أمل بسرعة: عمك..عمك قد أقسم على أن يبعدها تمام إن تطورت الأمور لأكثر من ما هي عليه.. لن تجني شيئا سوى أنك لن تراها بعد ذلك أبدا..
وضع سامي رأيه بين يديه وهو يقول بألم: لكن هذا ظلم..أقسم أنه ظلم..ماذا فعلت لأستحق كل هذا..
أخذت الدموع تتساقط على وجنتي أم أمل، لم تعد تستطيع منع نزولها أكثر.. وهي تراه هكذا..محطما..
اقتربت منه و جلست بجانبه ثم أحاطته بذراعيها و وضعت رأسه بحضنها وهي تقول بين دموعها: أنت لم تفعل شيئا يا بني..لم تفعل شيئا..لكن عليك أن تنسى كل هذا..أمل اعتبرها كسلمى أختك..حينها لن يفرقكما شيء..وأنا متأكدة أنك ستجد الفتاة التي تستحق كل هذا الحب بداخلك..لكن أمل لا..أمل لا يا سامي..أرجوك..
نزع سامي نفسه من بين ذراعيها بقوة، ومسح دمعة نزلت رغما عنه، ثم اتجه لباب المنزل دون أن ينطق بكلمة، وفتحه ليخرج.. فإذا به يجد أمل أمامه..
ابتسمت أمل له ثم قالت : سامي بمنزلنا..ما هذا اليوم السعيد..هيا ارجع للداخل فليس من اللائق أن تخرج وأنا لم أكد أصل..
سامي لم يرد ..اكتفى بنظرات حملت كل حبه لها، كل حزنه، وكل الألم الذي يعصف بروحه الآن.. هل كتب على حبه لهذه الفتاة..أن يموت قبل حتى أن يولد بقلبها..
و أكمل طريقه بسرعة دون أن يلتفت إليها..
رفعت أمل حاجبيها بدهشة ثم قالت وهي تدخل و تغلق الباب ورائها: ما به هذا..
لم تكد تغلق الباب حتى سمعت صوت والدتها، كان تشهق بالبكاء، فرمت بحقيبتها بعيدا و أسرعت إليها وهي تقول بجزع: أمي..ماذا حدث..ما بك..
والدتها أيضا لم ترد، واستمرت في نحيبها دون كلمة، فأخذت أمل تهزها وهي تكرر: أمي..ما بك؟
في هذه اللحظة كان والد أمل يدخل المنزل، وحين رأى ما يحصل، أسرع إليهما وأبعد أمل عن طريقه ثم أحاط زوجته بذراعيه وهو يقول : اهدئي..اهدئي..
أخذت أمل ترتجف قائلة: أبي..ما بها أمي..دخلت فوجدتها على هذه الحال..
رد عليها والدها دون أن ينظر إليها: أمل..اذهبي لغرفتك.
قالت أمل باستنكار: ماذا سأفعل بغرفتي..ما بها أمي..
صرخ والدها وهو لا يزال يحاول تهدئة زوجته: ليس بها أي شيء..اذهبي لغرفتك الآن !!
رجعت أمل خطوة للخلف وقد صدمت لصراخ والدها، ليس من عادته أن يصرخ بوجهها أبدا..ما الذي حدث له..وما الذي حدث لوالدتها..وسامي..ما به هو الآخر !؟
أسرعت تصعد الدرج وهي تحس بالقهر، وبعدم فهم لما يجري حولها..عليها أن تتحدث مع سامي.. إذا لم يكن هو من جعل والدتها على هذه الحال..فمن المؤكد أنه يعلم على الأقل ما بها !!
***************
اقتربت مروى من إحدى الطاولات بالمطعم الذي أوصت به أمل، و جلست على كرسي و هي تُقرب صحنا لليلى وصحنا آخر لوفاء، ثم قالت وهي تقطب حاجبيها: تفضلن..بالهناء و الشفاء..
ضحكت كل من وفاء و ليلى وقالت هذه الأخيرة: شكرا مروى..رغم أن صفاتك الطيبة قليلة..لكني لن أستطيع الإنكار بأنك كريمة..
عقدت مروى حاجبيها ثم قالت بحدة: وأنت من ستجعلني على ما يبدو أتخلى عن صفة الكرم هذه.. إذا لم تقفلي فمك وتكفي عن الكلام..
ضحكت ليلى وهي تقول: حسنا سأكف عن الكلام.. لكني لن أستطيع إقفال فمي.. أنا جائعة علي أن آكل..
أخذت مروى تنظر إليها بحدة ثم قالت: قبل أن تنشغلي بأكلك.. أخبريني..ما هذه الصدفة التي جعلت من أمل صديقتك..
أخذت وفاء تهز رأسها موافقة على كلام ليلى وقالت: صحيح..لم تخبرينا من قبل عنها..
ابتسمت ليلى وهي تقول: كانت صديقتي أيام المدرسة الابتدائية..لكنها غيرت المدرسة بسبب انتقال عائلتها للسكن بمنزل آخر..و أنا أيضا حصل معي نفس الشيء بعدها بقليل..نسيت أن أخبركن عنها..
عقدت مروى حاجبيها ثم قالت وهي تنظر بشك لليلى: وكيف التقيتما ثانية إذا..
أخذت ليلى تأكل من صحنها وهي تقول بلامبالاة: بحثت عنها فوجدتها..ليس بالأمر الصعب..
ابتسمت مروى بسخرية وهي تقول: اعذريني لشكي بكلامك..لكني لا أصدق أن تبحثي عن شخص نسيتي وجوده لسنوات..حتى نحن أقرب صديقاتك إليك.. لم تأتي يوما على ذكر اسم أمل أمامنا من قبل..
نظرت ليلى إليها ببرود وهي ترد: ليس علي أن أشرح لك شيئا..وليس عليك أن تصدقيني في كل ما أقوله.. أنت حرة..
ثم ابتسمت بخبث وهي تضيف: ثم أنا أشعر أنك منزعجة جدا من أمل..فلماذا يا ترى؟
ضحكت وفاء ثم قالت بتلقائية : يبدو أنها تغار منها..لأن خالد..
ووضعت يدها على فمها لتمنع نفسها من أن تكمل بعد أن رأت الغضب الذي علا ملامح مروى..
أخذت ليلى تنظر إليهما ثم قالت ببرود: ماذا..هل لأنه أبدى بعض الاهتمام بأمل؟
احتقن وجه مروى من الغضب وهي تقول: من هي حتى يهتم بها خالد..أصمتي فأنت لا تعلمين شيئا..
عقدت ليلى حاجبيها وهي ترد على مروى بحدة: أنت من عليها أن تصمت..تعبت من إسداء النصائح إليك..ألا تفهمين أن خالد لن يهتم بك يوما مادمت لا تكفين عن ملاحقته..حافظي على كرامتك ولو قليلا..
اتسعت عيون وفاء وهي تنتظر ردا ثائرا من مروى على هذا الكلام، إلا أن مروى أخذت ترمق ليلى لوهلة ثم زفرت بحدة وأشاحت بوجهها وهي تقول ببرود : غيرن هذا الموضوع..
ابتسمت ليلى بسخرية و هي تقول: أنا أفضل هذا أيضا..
ثم أضافت بخبث: أتعلمن..رأيت اليوم شابا وسيما جدا..وأظنني سأجعل الوصول إليه هدفي للأيام القادمة..
وضحكت قبل أن تكمل وهي ترمق مروى بنظرات ساخرة: حتى أنه أكثر وسامة من خالد لو أردتن رأيي..
ضحكت وفاء وهي تقول: وهل هو أوسم من عادل أيضا؟
تجمدت ملامح ليلى ولم ترد، لكن مروى قالت بابتسامة خبيثة موجهة كلامها لليلى: نسيت أن أخبرك..عادل حاول مرة أن يتحدث لأمل بالمكتبة..لكنها لم تعره أي اهتمام..وجعلته يعود إلينا خائبا..
رمتها ليلى بنظرة غاضبة، وحاولت أن تخفي الانزعاج الذي شعرت به من كلام مروى هذا..عادل لن يتغير..يحب أن يتملق الفتيات..
وفاء شعرت بغضب ليلى فقالت ضاحكة بسرعة: لم تخبرينا من هذا الشاب..
عادت الابتسامة لشفتي ليلى ثم أحنت رأسها قليلا و قالت بصوت منخفض كأنها تقول سرا: انه جار أمل..
ضربت مروى يدها على الطاولة بقوة وهي تقول: يا الهي..هل أصبح كل شيء يدور حول فلك تلك الفتاة..
ضحكت ليلى و أخذت تشير لمروى بيديها بما معناه أن تهدئ قليلا ثم قالت:عليك فعلا أن تجدي حلا لتصرفاتك العصبية هذه..أمل صديقتي أيضا ..بما معناه أنك ستلتقين بها كثيرا من الآن فصاعدا.. وأنا لا أريد مشاكل بينك وبينها..
وابتسمت وهي تضيف: لكن ليست هي من تهمني الآن..من يهمني هو جارها الوسيم..
أخذت أمل ترمي بقطع الحلوى على الشرفة التي كانت لسلمى، وأصبحت منذ أمس لسامي، فهو لم يضيع وقتا ونفذ كلامه، أمل أسعدها هذا الأمر وإن لم تخبره بهذا صراحة.
قد كانت متعودة على تواجد سلمى هناك، لكن منذ أن سافرت أصبحت تلك الشرفة مهجورة،لا يخرج إليها أحد.
على الأقل سيكون بها سامي الآن من حين لآخر، ولو أن هذا للأسف لن يكون في صالح ورود سلمى المزروعة على الشرفة، فكلما خرج إلى هناك يقطف وردة و يقدمها لها.
غريب، الغرفة مضاءة، مما يعني أن سامي بها ولا يزال مستيقظا، ومن المؤكد أنه سمع صوت ارتطام قطع الحلوى بالبوابة الزجاجية للشرفة، واضح أنه يتجاهلها عمدا..
زفرت أمل بحدة ورمت بآخر قطعة ثم انتظرت قليلا لكنه لم يخرج، فعادت مستسلمة لداخل غرفتها، نظرت للساعة بالحائط، إنه تقريبا منتصف الليل، والنوم لم يزر جفونها بعد، حاولت أن تقرأ شيئا حتى يغلبها النعاس، لكنها لم تستطع التركيز فيما تقرأ، حالة والدتها اليوم أقلقتها كثيرا، وليتهم يخبرونها بما يجري.
على الغذاء، والدتها لم تلمس الطعام، ولم تنطق بكلمة، و والدها أيضا، وحين سألتهم عن ما بهم، قال والدها أن والدتها تشعر بتوعك، لكن لا شيء يدعو للقلق !
كلام لا يصدق طبعا، خصوصا لعلمها بأن سامي له دخل بما يجري، لذا تريد أن تتحدث إليه الآن، هو يتصرف معها بغرابة منذ أيام، بالتحديد منذ سافرت سلمى، أصبح يتصرف بلطف مثير للشكوك، تعترف أنها أصبحت تستمتع بالحديث معه، هي لا تعترض على تغيره المفاجئ هذا، لكن هذا التغيير يظل مثيرا للشكوك !
الهدوء الذي يسبق العاصفة ربما ! لا يجب الوثوق بتصرفات سامي أبدا.
واليوم زادت تصرفاته غرابة، لم يسبق له أن تجاهلها هكذا..
تُكلمه، فيكمل طريقه كأنه لم يسمع شيئا ؟ !!
و منظره كان يدعو للقلق أيضا ، كانت نظراته حزينة.. و كأنها لمحت ألما بعينيه..وكأنه كان يقول لها كلاما كثيرا بنظراته..
زفرت أمل بحدة وهي تقول: يا الهي..لم أصبح الجميع يبخل بالكلام..سئمت من محاولاتي لفهم نظرات الجميع..
ابتسمت أمل لأنها تذكرت خالد، ابن عم ليلى الغامض، تتمنى أن تعرف ما يدور بذهن هذا الشخص، حين كلمته أول مرة، يوم أعطاها بطاقة المكتبة، كان يبدو عليه أنه مهتم بها، بدليل أنه دعاها لتنضم لأصدقائه، لكنه اليوم وباستثناء نظراته الغامضة، بدا أنه غير مهتم أبدا، فقد ترك ليلى وصديقاتها حين انضمت هي إليهن وابتعد !!
حينها شعرت بالإحباط !
اتسعت عيون أمل بدهشة، إلى أين أوصلتها أفكارها !! قالت باستنكار محدثة نفسها:
عن أي إحباط أتحدث..ولم أهتم له..أنا لا أعرفه حتى..
اتجهت أمل لمنضدتها الصغيرة و التقطت هاتفها، ثم جلست على السرير و طلبت رقم سامي وهي تحاول عدم التفكير في خالد، لديها أمور أهم لتفكر فيها...
ظلت أمل تنتظر رده، لكن انتظارها طال ولم يرد، أنهت الاتصال، وأخذت ترمق الهاتف للحظة، ثم اتصلت به ثانية وظلت تنتظر، لكن دون جدوى..
زفرت أمل وهي ترمي الهاتف على السرير و تقول بحدة: ما به لا يرد على اتصالاتي..هل نام ؟!
ثم قامت مسرعة للشرفة، و أطلت برأسها لما وراء الحائط الذي يفصل شرفتها عن شرفته، كانت الغرفة لا تزال مضاءة !
عادت بخطى سريعة لداخل الغرفة و التقطت الهاتف مرة أخرى و طلبت رقمه وهي تقول بغضب:
أيها السخيف..لم لا ترد..
لكنها وجدت الخط مشغولا هذه المرة، يبدو أن سامي يتحدث لشخص ما..
***************
تطلع سامي لشاشة هاتفه الذي كان يضيء باسم أمل، يبدو أنها ملت من رمي قطع الحلوى..
ابتسم بألم ثم التقطه وظل يتطلع إليه وهو يقول:
- ما الذي تريدينه مني..يكفيني ما أنا فيه بسببك..
بالأمس فقط كان في قمة سعادته، كل شيء كان يسير وفق ما خطط له، هو غَيرَ من طريقة معاملته لأمل، وأمل بدأت هي الأخرى تغير طريقة حديثها معه، وان كانت لازالت تعتبره أخا كما تقول !
لكنه كان سعيدا بما وصل إليه، حتى انه قام بتغيير غرفته، ليكون بقربها، فإذا بسعادته تنقلب ألما بين يوم وليلة، وحلمه الذي ظل يكتمه بقلبه لسنوات، أمل، الفتاة الوحيدة التي حركت بداخله مشاعر الحب، أمل التي لم يتخيل يوما أن تكون من نصيب رجل غيره، لا يتخيل أن لا تكون له، و لا يتخيل أن يكون هو لغيرها !
حلمه الذي ظل يكبر و يكبر، يوما بعد يوم، منذ أن كان فتى صغيرا..حلمه تهدم بين يوم وليلة..
استلقى سامي على سريره بوهن، يحس بالضعف وقلة الحيلة، يحس بالظلم، هو لا يستحق هذا، لا أحد بالدنيا، يستحق أن يُسلب منه حلمه أمام عينيه هكذا.. دون حتى أن يعلم لمَ سلب منه !
كان لا يزال ممسكا بهاتفه، يتطلع إليه، أمل تتصل مرة أخرى..
تمتم وهو يرى إصرارها: طفلة عنيدة..لن تتغيري.
لن يستطيع أن يكلمها الآن، بكل بساطة.. لن يقدر !
إن كلمها فسيعترف بكل شيء، سيخبرها بما ظل يخفيه كل هذه السنوات، سيصرخ بوجهها أنه ليس أخا لها !!
وان مشاعر الحب التي ظلت دائما من طرفه فقط..تعذبه!
لكن إن أخبرها..قد يحرم منها للأبد..لن يحتمل أن لا تكون أمل بحياته !
هو قد قرر..أصعب قرار اتخذه بحياته..
أن تكون أمل أختا له..خير من أن لا تكون هناك أمل بحياته !
أضاء هاتف سامي مرة أخرى..لكن اسما آخر كان على شاشته، نظر إليه سامي ثم رد بسرعة:
- حسام..كيف حالك يا صديقي؟
جاءه صوت حسام المرح وهو يقول: بخير حال و أنت؟
رد سامي : لستُ على ما يرام..
قال حسام بقلق: لماذا؟
تنهد سامي ثم قال: موضوع يطول شرحه..أخبرني ما سبب اتصالك بهذه الساعة؟
ضحك حسام وهو يقول: اقسم يا صديقي أني أحاول طوال اليوم الاتصال بك لأطمئن على أحوالك..لكن أنت تعلم ظروف العمل تنسينا أشياء كثيرة..المهم.. قلت أني لن أنام اليوم قبل الاطمئنان عليك..
ابتسم سامي قائلا: أشكرك..أنا أعذرك..شاب مثلك يدير شركة ناجحة كشركتك من المؤكد أنك لا تجد الوقت لأي شيء
رد حسام قائلا: وأنت أيضا تقريبا تدير شركة والدك لوحدك..
قام سامي من السرير و اتجه للشرفة ثم أخذ يطل على غرفة أمل وهو يقول: لا..أنا فقط أساعد والدي في إدارتها..لست مثلك أملك شركتي الخاصة..ومن أنجح الشركات أيضا..
ضحك حسام وهو يقول: هل أعتبر هذا حسدا !
تنهد سامي حين رأى النور يُطفئ بغرفة أمل، ثم رد على صديقه : أنا أحسد أي شخص ليس بمكاني الآن..
قال حسام بقلق: سامي.. أشعر من صوتك انك لست على ما يرام فعلا..
عاد سامي يتنهد ثم يقول: اسمعني..سأمر عليك بمنزلك ..ولنذهب لأي مكان..لا أستطيع الجلوس لوحدي..أريد أن أتحدث لشخص ما..ويبدو أنك ستكون هذا الشخص..
رد عليه حسام بسرعة: حسنا..سأنتظرك
******************
دخلت أمل لقاعة المحاضرات، لم يصل الدكتور المحاضر بعد، ولا زال عدد الطلاب داخل القاعة قليلا، إنها محاضرتها الأخيرة اليوم، بعد أن تنتهي تود العودة للمنزل بسرعة، تريد أن تكون في انتظار سامي حين يعود من عمله، هو لا يرد على اتصالاتها، ولا على رسائلها التي بعثتها له على هاتفه،لا تدري لم يتجاهلها هكذا، المشكلة أنه كلما زاد تجاهله لها، كلما زاد قلقها..تحس أنه يخفي سرا..ووالديها يخفيان سرا أيضا..تحس بهذا من طريقتهما في الحديث معها..
اتجهت أمل للمقعد الذي اعتادت الجلوس عليه، وابتسمت حين رأت تلك الفتاة التي سبقتها إليه، فتوقفت أمامها وهي تقول:
ظننت انك قد أحببت أجواء السفر و العطلة..وقررت أن لا تعودي لهذه المقاعد ثانية..
ضحكت ساره و قامت من المقعد ثم اقتربت من أمل و عانقتها قائلة: إن لم أعد من أجل هذه المقاعد..كنت سأعود لأجلك..كيف حالك يا أمل؟
ردت أمل وهي سعيدة لرؤية ساره: أنا بخير..كيف حالك أنت..كيف كان سفرك..وما أخبارك؟
رفعت ساره يدها أمام وجه أمل، ثم قالت بابتسامة واسعة : هذه أخباري !
كان هناك خاتم خطوبة ذهبي يزين أناملها..
رفعت أمل حاجبيها بدهشة، ثم ضحكت وهي تقول لساره: ألف مبروك يا ساره..
وكررت بابتسامة عريضة: ألف مبروك
ثم أضافت بنظرة متسائلة: لكن ..
جلست ساره على أحد المقاعد وتبعتها أمل وجلست بجانبها، ثم قالت ساره: إنه شاب التقيت به أثناء سفري..كان أيضا يقضي عطلته مع أفراد أسرته، لا أدري كيف تطورت الأمور بسرعة، طلب يدي هناك..ووافق والداي..
وأضافت ضاحكة : ووافقت أنا أيضا !
أخذت أمل تتأملها بدهشة، فسألتها ساره: ما بك..لم تنظرين إلي هكذا؟
ضحكت أمل وهي تقول: تريدين الصراحة؟
هزت ساره رأسها قائلة: طبعا !
ابتسمت أمل قائلة: لطالما كنت تقولين أنك لن تتزوجي إلا بعد قصة حب، و أنه يجب أن تكوني على معرفة تامة بالشخص الذي سترتبطين به، فاسمح لي أن أسألك..هل وقعت بحب هذا الشخص بهذه السرعة؟ وهل عرفت من يكون..أقصد عرفت صفاته..شخصيته كيف هي؟
ضحكت ساره ثم قالت: أمل..كل الكلام الذي كنت أقوله..يعتبر أحلام وردية لفتاة..ولا أظن أنك كل الفتيات يحققن أحلامهن الوردية..أي قصة الحب..والشاب الذي تجعلك صفاته تتوجينه فارسا لأحلامك..
وصمتت قليلا قبل أن تضيف: أنا لا أقول أني أحببت خطيبي بهذه السرعة..لكن صراحة منذ أول يوم تعرفت فيه عليه أثار اهتمامي..وإعجابي..الحب سيأتي فيما بعد..
نظرت إليها أمل مندهشة من هذا الكلام، هذه فتاة سافرت بأفكار، وعادت بأفكار أخرى..
تجاهلت ساره نظراتها و قالت: أخبريني أنت..ما أخبارك و ما أخبار سلمى..
ردت آمل بهدوء: الحمد لله بخير..من المؤسف أنك لم تستطيعي حضور حفل زفاف سلمى..أو حتى توديعها قبل أن تسافر..
ابتسمت ساره وهي تقول: أنا أيضا تضايقت جدا لأنني لم أستطع حضور حفل زفافها ولم أودعها، لكن تعلمين ظروف السفر منعتني..
ثم غمزت بعينها لأمل قبل أن تضيف: كيف وجدت سلمى الحياة الزوجية؟
ضحكت أمل ثم قالت: إنها سعيدة جدا، لكنها أخبرتني هذه الأيام بتفكيرها في مواصلة الدراسة، قالت أنها بدأت تشعر ببعض الملل..رغم أن زوجها لا يبخل عليها بشيء لكن ظروف عمله تجعله يغيب لساعات طوال، و كما تعلمين، الملل هو أول مشكل قد يواجهه اثنين في بداية حياتهما..
ضحكت ساره قائلة: صحيح..خصوصا و أنها بعيدة عن كل أصدقائها و أهلها..فكرة مواصلتها للدراسة فكرة جيدة..على الأقل ستشغل وقتها بشيء مفيد..
هزت أمل رأسها موافقة على كلام ساره، وسكتت الفتاتين لأن الدكتور المحاضر دخل القاعة، والمحاضرة بدأت..
************
كانت سلمى جالسة بالصالة، تُقلب صفحات مجلة، وفجأة رمت بها بعيدا وقامت من مكانها مسرعة حين سمعت صوت باب المنزل وهو يُفتح، وقفت تنظر لأحمد بابتسامة عريضة ثم قالت:
- قد عدت باكرا من عملك..
ابتسم أحمد ثم قطب حاجبيه قائلا: وهذا أمر جيد أم سيء؟
ضحكت سلمى وهي تقول: انه أمر سيء..هل ارتحت..
ضحك أحمد قائلا: لن أصدقك... لأن هذه الابتسامة العريضة على شفتيك تقول العكس..
ردت سلمى وهي تضحك: إذن لم تسأل !
ونظرت إليه بحنان قبل أن تكمل: يبدو عليك التعب..اذهب لتغيير ملابسك وسأجهز لك الطعام في دقائق..
حرك أحمد رأسه معترضا على كلامها ثم أمسك بيدها و اتجه للصالة وجلس ثم أجلسها بجانبه وهو يقول:لا..قد اشتقت إليك..دعينا نتحدث قليلا..
ضحكت سلمى قائلة: لا بأس..لكن قم وغير ملابسك..ثم كل شيئا..وبعدها لنتحدث كما تريد
حرك أحمد رأسه ثانية وهو يقول: قلت لا..
أخذت سلمى تتأمل هذا الطفل الكبير الذي يجلس بجانبها ثم ابتسمت قائلة: حسنا..كما تريد
قال أحمد بهدوء: أخبريني هل ذهبت لتري إن كان بإمكانك متابعة الدراسة بالجامعة هنا؟
هزت سلمى رأسها قائلة : أجل..لكن للأسف قد بدأت الدراسة منذ أسابيع..ومن غير الممكن أن أقدم طلب انتسابي الآن..علي أن أنتظر بداية السنة الدراسية المقبلة..
عقد أحمد حاجبيه وهو يقول: لو كنت أخبرتني برغبتك في إكمال دراستك..لقمت بالتدابير اللازمة قبل وصولك لهنا..ولسهُل عليك الأمر..
مطت سلمى شفتيها و قالت: لم يخطر ببالي هذا الموضوع إلا منذ أيام..أردت أن أشغل وقتي بالدراسة..أفضل من تواجدي طول اليوم وحيدة بالمنزل..
ضحك أحمد ثم قال: إذن تودين إكمال الدراسة لتسلي نفسك لا غير !
ابتسمت سلمى وهي تقول: على الأقل تسلية مفيدة..
غمز أحمد لها بعينه وهو يقول: هناك أمر سيسليك أكثر وهو أفيد لك من الدراسة..
قالت سلمى باهتمام: ما هو هذا الأمر..
رد أحمد بابتسامة عريضة: أن نأتي بضيف جديد ينضم لأسرتنا الصغيرة..
تطلعت إليه سلمى بنظرات متسائلة.. أي ضيف جديد هذا ..
ثم ما لبثت أن فهمت قصده وقالت ضاحكة: طفل..بهذه السرعة !
قال أحمد ضاحكا: أجل..لم لا.. أخشى فقط أن يسرقك مني..
ابتسمت سلمى وهي تقول: لا أحد يستطيع أن يسرقني منك..
وأخذت تفكر في كلام أحمد، طفل..
هما قد قررا مسبقا أن يؤجلا هذا الموضوع قليلا..
لكن لم ستؤجله..على الأقل ستجد من يؤنس وحدتها، فأحمد يقضي معظم وقته بعمله..
اتسعت ابتسامة سلمى أكثر و أكثر..فقد راقت لها الفكرة..
**********
كانت أمل واقفة برفقة ساره بباب الجامعة، و ساره تحكي تفاصيل خطبتها وتروي لأمل الأحداث التي مرت بها هذا الصيف، كانت تتحدث بحماس شديد، ذكرتها بسلمى حين كانت تتحدث عن أحمد، كان يبدو بعينيها نفس هذا البريق الذي يبدو بعيني ساره الآن..
رغم أنها لم تستطع فهم كيف للأفكار أن تتغير بهذه السرعة، فالأفكار التي كانت تؤمن بها ساره تغيرت كثيرا، إلا أنها كانت سعيدة لسعادتها، المهم أنها مقتنعة بما هي مقدمة عليه، على الأقل يبدو عليها أنها مقتنعة !
ابتسمت أمل لساره وهي تقول لها : أنا سعيدة من أجلك يا ساره..
بادلتها ساره الابتسامة قائلة: أشكرك..و أتمنى لك أنت أيضا أن تجدي قريبا من يستحق حبك..
ضحكت أمل وهي تقول: لا أظن أن هذا سيحدث قريبا أبدا..
ثم أضافت وهي تنظر لساعة يدها: علي أن أذهب الآن يا ساره..أراك غدا إن شاء الله
ولم تكد تنهي عبارتها حتى رأت ليلى التي تلوح لها بيدها وتطلب منها أن تأتي إليها..
كانت ليلى برفقة مروى و ووفاء و خالد، إضافة لشاب آخر، ذاك الشاب الذي حاول التحدث إليها في أحد الأيام بالمكتبة..
أخذت أمل تتطلع إليهم، هي تريد أن تعود للمنزل بسرعة، عليها أن تكون هناك عند عودة سامي..
انتبهت ساره لأمل التي يبدو أنها سرحت بأفكارها بعيدا وهي تتطلع لتلك المجموعة، فلوحت بيدها أمام وجه أمل وهي تقول: أمل..أين أوصلتك أفكارك..ومن هؤلاء؟
نظرت إليها أمل ثم قالت وهي تمسك بيدها وتجذبها باتجاه ليلى: سأخبرك عنهم فيما بعد..تعالي معي الآن ..سأسلم على ليلى.
قالت ساره وهي تتبع أمل : ليلى من !؟
كانت أمل قد توقفت أمام ليلى فلم ترد على ساره وقالت بابتسامة: كيف حالك يا ليلى؟
تطلعت ليلى للحظة لساره ثم قالت بمرح : بخير..و أنت؟
ردت أمل: الحمد لله
ثم نظرت لوفاء و مروى وهي تردف: كيف حالك وفاء..كيف حالك مروى؟
ردت وفاء بابتسامة: بخير الحمد لله..
ثم وكزت مروى لتتحدث فقالت هذه الأخيرة بلطف مفتعل: الحمد لله يا أمل..بخير
نظرت أمل لخالد، و نظر إليها هو الآخر.. نظرات هادئة..واثقة..وغامضة..كعادته، ثم أشاح بوجهه سريعا، وانشغل بالحديث مع الشاب الذي برفقته..
أشاحت أمل بوجهها أيضا، وقالت ليلى بابتسامة وهي تشير لساره : ليلى ..أعرفك على صديقتي ساره..
ابتسمت ليلى وهي تقول: تشرفت بمعرفتك يا ساره..
بادلتها ساره الابتسامة وهي مستغربة من أين تعرف أمل على هؤلاء، لم يسبق لها أن رأتهم بالجامعة، ربما كانوا طلاب السنة الأولى..
ساد صمت لوهلة على الجميع، قطعته ليلى وهي تشير لخالد: أمل..أظنك تعرفين خالد..
تطلعت إليه أمل دون أن ترد، فقال خالد ببرود لليلى: لا..لا تعرفني.. أنا عرفت اسمها صدفة لا غير..
رفعت ليلى حاجبيها ثم قالت بخبث: أحب هذا النوع من الصدف
و أكملت بلامبالاة وهي تشير للشاب الآخر و دون أن تنظر إليه: أما هذا..فهو عادل..صديق خالد..
رفع عادل حاجبيه باستنكار وهو يقول: وما بك تقولينها بهذه الطريقة..
ردت ليلى ببرود: وكيف تريدني أن أقولها..ثم أنا حرة في طريقة كلامي..
تجاهل عادل عبارة ليلى و أزاحها عن طريقه ،واقترب من أمل ثم قال بابتسامة عريضة: أعرفك بنفسي..أنا عادل..
ضحكت أمل على تصرف عادل مع ليلى، و أضحكتها ملامح ليلى الغاضبة وهي تقول:
لهذا أساسا تأتي للجامعة..لتتعرف على الفتيات..وإلا أفهمني ما الذي يأتي بك إلى هنا..أظنك قد أنهيت دراستك منذ سنتين !
نظر إليها عادل وقال بهدوء: آتي إلى هنا من أجل خالدا..لكن أصارحك ربما يكون أحد أسبابي أيضا هو التعرف على فتيات لطيفات..
ثم أضاف بابتسامة ساخرة: لكن كوني متأكدة أنك لستِ واحدة منهن..
ضحك الجميع على عبارة عادل، فاستشاطت ليلى غضبا وهي تقول لخالد:
وأنت تضحك أيضا..المفروض أن تقفل فم هذا المغفل..فأنا ابنة عمك !!
ضحك خالد وهو يقول: أنت ابنة عمي وهو صديقي..و قد سئمت من كليكما..ألا يمكن أن تلتقيا دون أن تحدث مشاجرة بينكما !
وأردف وهو يخاطب عادل: فلنذهب الآن..
ابتسم عادل لأمل وقال: تشرفت بمعرفتك أمل..
ثم ابتعد هو وخالد، واتجها لإحدى السيارات المتوقفة بالشارع، وركبا ثم انطلق بها عادل مسرعا وهو يلوح بيده لليلى من نافذة السيارة..
ضغطت ليلى على أسنانها وهي تقول بغيظ: سخيف..
أمل كانت تراقب ما يحدث، أضحكتها تصرفات عادل و ليلى..
لكنها أيضا ذكرتها باثنين تعرفهما جيدا..
فعلاقتهما تشبه العلاقة التي كانت بينها و بين سامي..بل تتطابق معها..
*************
نزل سامي الدرج مسرعا، كان يحمل بيده حقيبة، و اتجه لباب المنزل خارجا، إلا أن والدته رأته فأوقفته قائلة:
سامي انتظر..إلى أين !؟
استدار سامي ووضع الحقيبة على الأرض ثم اقترب من والدته، وقبل يدها قبل أن يقول:
سوف أذهب مع صديقي حسام لمنزله على الشاطئ، لبضعة أيام فقط..
اتسعت عيون أم سامي ثم قالت: وكنت ستذهب دون أن تخبرني !
رد سامي بابتسامة باهتة : لا طبعا..كنت فقط سأضع الحقيبة بالسيارة وأعود لأخبرك..
نظرت والدته إليه بشك، ثم قالت: وهل أخبرت والدك..
هز سامي رأسه وهو يقول: أجل..ومن برأيك منحني إجازة من العمل..
ثم قال وهو يعيد رفع حقيبته: حسنا..أمي علي أن أذهب لا أريد أن أتأخر على حسام..
أخذت والدته ترمقه بنظرات قلقة، إحساس الأم يخبرها بأنه يخفي شيئا ، كما أنه يبدو حزينا ومنهكا
قالت بقلق: سامي..ما بك يا بني..تبدو متعبا..
حرك سامي رأسه وهو يقول: لا تقلقي أمي..قد أجهدت نفسي هذه الأيام بالعمل..وأحتاج لراحة..هذا كل ما في الأمر..
لم تصدق والدته كلامه، وقالت بشك: و هل سلمت على والدك..إنه بغرفة المكتب..
قال سامي: قد تحدثت إليه بالشركة..
ثم قبل يد والدته ثانية و فتح الباب خارجا وهو يضيف: أستودعك الله..
ظلت أم سامي لثوان جامدة بمكانها، ثم اتجهت لغرفة المكتب وفتحت الباب، كان يبدو على زوجها أنه مشغول..لكنها جلست على الكرسي أمامه وهي تقول: أريد أن أتحدث إليك..
رفع والد سامي عينيه عن الأوراق التي بيده ثم نظر إليها قائلا: في ما؟
تنهدت أم سامي ثم قالت: سامي..أحواله لا تعجبني..
عاد والد سامي ينظر لتلك الأوراق وهو يقول: هل ذهب؟
هزت أم سامي رأسها قائلة: أجل..أخبرني.. ما به؟
رد زوجها دون أن ينظر إليها: ليس به شيء
سكتت أم سامي وهي تتطلع إليه لوهلة ثم قالت بشك: هل للأمر علاقة بموضوع أمل؟
أبعد والد سامي تلك الأوراق من أمامه ونظر إليها قائلا بهدوء: هذا الموضوع منتهي..فلا تأتي على ذكره ثانية..
عقدت أم سامي حاجبيها ثم قالت: لماذا منتهي..إذن بالفعل حالة سامي هذه سببها موضوع أمل..
رد والد سامي بنفس الهدوء: وقد اتفقت مع سامي على كل شيء..ووعدني أن ينسى فكرة اقترانه من أمل..لذا فالموضوع منتهي..
اعتدلت أم سامي واقفة وصرخت: ولم عليه أن ينسى هذه الفكرة ! وما بكم أصبحتم تتفقون دون أن يأخذ أحدكم رأيي !
بدأ والد سامي يفقد هدوءه وقال وقد علت نبرة صوته: لا رأيي و لا رأيك يهم في هذا الموضوع..ما يهم هو رأي والديها وقد رفضا !!
قالت أم سامي بغضب: لا ..ما يهم هو رأي أمل...إذا لم يتجرأ سامي على الحديث إليها فأنا من ستفعل...وسأتحدث لوالدتها أيضا... بإمكاني إقناعها !
عقد والد سامي حاجبيه وهو يقول: إياك أن تفعلي هذا..ثم حديثك لأي منهما لن يقدم و لن يؤخر شيئا..والد أمل تحديدا هو من يرفض..
عادت أم سامي للصراخ وهي تقول: ولماذا يرفض ..ما الذي لا يعجبه بسامي...ما الذي يعيب ابني !
وحين لم يأتها جواب من زوجها أكملت صارخة: ابني من خيرة الشباب..ابني.. أية فتاة تتمنى ظٌفره !!
فقد والد سامي تحكمه بأعصابه فصرخ هو الآخر: ابني...ابني..ابني..أفيقي من ما أنت فيه ..هل جعلتك السنوات تصدقين هذه الكذبة أم ماذا !
لم ينتبه والد سامي لما قاله إلا حين رأى الصدمة الذي ظهرت على ملامح زوجته، فقال بصوت متقطع: آسف..لم أقصد..
عادت والدة سامي للجلوس وصمتت قليلا، ثم التفتت إليه قائلة بخفوت: والدي أمل يعلمان أليس كذلك؟
ظلت تنتظر رده لوهلة لكنه أطرق برأسه و التزم الصمت، فعادت تسأله و صوتها يرتعش: يعلمان....بأن سامي ليس ابننا.. يعلمان أننا قمنا بتبنيه..أليس كذلك !؟
ساد صمت ثقيل بين والد ووالدة سامي على مائدة العشاء، بادئ الأمر غاب المرح عن المنزل بسفر سلمى، و الآن ها هو سامي غائب منذ أيام، قد اشتاقوا إليه. آخر مرة كلمهم على الهاتف، لم يذكر متى سيعود،واضح أن إجازته هذه ستطول.
والدته تشعر بحزن كبير عليه، وتتألم لحاله، ليت بيدها شيء تفعله من أجله..
كانت تتطلع لزوجها بنظرات حزينة، لا تستطيع التصديق بأن والدي أمل يعلمان بالسر الذي ظلت تخفيه للسنوات، السر الذي ظنت أنه لن يكشف يوما..
وزوجها لم يخبرها كيف علم والدي أمل، فلا أحد على علم بالموضوع غيرها و غيره..
قررت أن تطلعه على ما يدور بخلدها فقالت : لم تخبرني..كيف علم والدي أمل بأمر سامي..هل أنت من أخبرهم؟
أخذ والد سامي يتطلع إليها ثم قال بهدوء: ليس مهما كيف علموا..وليس مهما إن كنت أنا من أعلمهم..المهم أنهم يعلمون..
أطرقت والدة سامي برأسها قليلا ثم رفعته و قالت بلهجة حزينة: لهذا يرفضونه..يرفضون مجرد تفكيره بأمل..
ثم أخذت الدموع تتجمع بمقلتيها وهي تضيف: وما ذنب سامي .. ما ذنبه..
تنهد والد سامي وهو يقول: هو ليس مذنبا..لكن للأسف هذا هو الواقع الذي نعيش فيه..
نظرت زوجته إليه ثم قالت برجاء: لنتحدث لأمل..لربما بإمكاننا إقناعها..
زفر والد سامي بحدة وهو يقول: قد أخبرتك أن هذا الموضوع منتهي تماما..والخوض فيه لن يسبب إلا مزيدا من الألم لسامي..هل تريدينه أن يعلم بالحقيقة !
وعقد حاجبيه وهو يضيف: هل تريدينه أن يعلم أنه ابننا بالتبني.. أننا كذبنا عليه طول حياته..وإذا سألنا عن والديه الحقيقيين..بماذا سنرد..هل نخبره أنه مجهول النسب !
مسحت والدة سامي دمعة انسابت على خدها ثم قالت بذعر:
لا ...لا أريده أن يعلم بأي شيء..نحن لم نخفي عنه الحقيقة كل هذه السنوات..إلا خوفا عليه..لم نرد له أن يتألم بسبب خطأ لم يرتكبه..أردنا أن نمنحه حياة أفضل..منحناه اسما ونسبا ..ليستطيع العيش بهذا العالم كغيره..دون أن يحس بالنقص و الذل..
حرك والد سامي رأسه وهو يقول: وهذا كان أكبر خطأ اقترفناه..أخفينا الحقيقة وزيفناها.. زورنا الوثائق..خرقنا القانون..
ثم تنهد بعمق وهو يكمل: ليتنا لم نفعلها..القوانين لم توضع إلا لسبب وجيه..ليتنا لم نرتكب هذا الخطأ الفادح !
***********
كان سامي مستلقيا على الرمال بالشاطئ، يتأمل غروب الشمس، تلك الكرة النارية الهائلة..وكأن البحر يُخمد لهيبها، تختفي شيئا فشيئا في الأفق.. والسماء لم تعد زرقاء صافية، بل تلونت بالأحمر القاني..
تنهد سامي وهو يتأمل هذا المنظر الذي يخلب الألباب..
ذكره غروب الشمس، بنهاية حبه لأمل، أجل..حبه لها كالشمس، لكنها أُخْمِدت، أطفئت نيرانها رغما عنه، وتلك الحمرة على السماء، هي دماءه، نزيف روحه المعذبة..
ابتسم بحزن وهو يتمتم لنفسه : بدأت أفقد صوابي..
هذه الأيام التي مرت عليه، هي من أصعب أيام حياته، هو جاء إلى هنا بهدف واحد، أن يضع حدا لمشاعره، وينهي حبه الذي رافقه لسنوات..
كانت حالته النفسية تسوء يوما بعد يوم، ولم تفلح محاولات صديقه حسام في التخفيف عنه.
إنه يدين بالكثير لحسام، قد ترك أعماله و جاء معه إلى هنا، لأن حالته كانت سيئة بالفعل، لم يستطع حسام غير مرافقته، لم يستطع تركه لوحده وهو يمر بهذه الظروف الصعبة..
ظل سامي طوال هذه الأيام يحاول عدم التفكير في أمل، وتبين له آخر المطاف أن هذا مستحيل، أمل تحتل جزءا كبيرا من كيانه، ربما لأن ما يشعر به اتجاهها كبر مع مرور الزمن، وما كبر بداخله لسنوات، من الصعب أن يقتلعه في أيام.
كان سامي يفكر كيف سيواجهها حين يعود، هي لا تعرف شيئا، ربما هذا سيخفف عنه قليلا، لكن كيف له أن ينظر إليها بعد كل ما حدث، كيف له أن يتحدث إليها دون أن يجعلها تلاحظ أي تغيير عليه، يعلم انه لن يستطيع.. عليه أن يتحاشاها قدر المستطاع..
شعر سامي بيد تربت على كتفه، فاستدار وابتسم لحسام الذي جلس بجانبه و أخذ يتأمل الغروب هو الآخر قبل أن يقول: منظر رائع..
عاد سامي ينظر للأفق وهو يقول: بل قل منظر مؤلم..
رفع حسام حاجبيه قائلا: ولماذا مؤلم؟
رد عليه سامي دون أن يلتفت إليه: الغروب يرمز للنهاية..نهاية حزينة..
سكت حسام قليلا ثم قال: لم أكن أعلم أنك حساس ورومانسي لهذه الدرجة..
ابتسم سامي دون أن يرد..
فزفر حسام ثم قال: سامي..أنت تعذب نفسك فقط بهذه الطريقة..انسى أمل..تجاوز الموضوع..وعش حياتك..
نظر إليه سامي بحدة وهو يقول: من السهل عليك أن تقول هذا..فأنت لست بمكاني.. لذا ليست لديك أدنى فكرة عن ما أعانيه..
قال حسام بهدوء: لا تغضب..كل ما أود قوله هو أنه عليك أن تتصرف..أن تفعل شيئا..لا أن تظل هكذا تندب حظك..إن كنت تحبها بهذا القدر فحارب من أجلها..
ابتسم سامي بسخرية وهو يقول: أحارب من أجلها !
وعلت وجهه علامات الألم وهو يضيف: أحارب من أجلها وهي لا تعتبرني أكثر من أخ !
نظر إليه حسام وهو يقول: وخطأ من هذا؟ من الذي كان كل ما يراها يفتعل أسبابا للشجار معها..من الذي لم يتجرأ على مصارحتها بمشاعره..بل أنت لم تتجرأ على مصارحة نفسك، لازلت أتذكر كيف كنت تتهمني بالسخف حين كنت أحاول لفت انتباهك إلى أنك مهتم بها أكثر من اللزوم.. و إن لم تكن تظهر اهتمامك هذا بالشكل الصحيح..
تنهد سامي وهو يقول: ليس عليك أن تذكرني..أعلم أنه خطئي..لكني لن أستطيع تغييره الآن..
وصمت للحظة قبل أن يكمل: أتعلم..ليس إجباري على التخلي عن أمل هو الذي يؤلمني فقط..بل يؤلمني أن من أجبروني على هذا كانوا بمثابة والدَيْ..قد أظهروا لي الكثير من الحب و الاهتمام منذ عرفتهم..والدة أمل..كانت أحيانا أحن علي من أمي..في سنوات المراهقة..كنت إذا أوقعت نفسي بأي مشكل..أذهب إليها..كانت تغمرني بحنانها وحبها..
هز حسام رأسه موافقا على كلام سامي وهو يقول: لا زلت أذكر..أيام المدرسة..كانت تأتي لزيارة المدرسين و تسألهم عنك..حتى أن الكثيرين ظنوها والدتك..
ابتسم سامي وهو يقول: كنت أظنني محظوظا لأن لدي أبين و أمين..يؤلمني أن يهدداني بإبعاد أمل عني إن لم أعاملها كأخت فقط..أن يقفا هما بالذات بوجه سعادتي.
أخذ حسام يربت على كتف صديقه وهو يقول: ستجد من هي أجدر بحبك الكبير هذا..وانسى أمل..لا شيء مستحيل أمام إرادة الإنسان..أن أردت نسيانها فستنسانها.
نظر إليه سامي ثم قال بسخرية: المشكل يا صديقي أنك لم تحب يوما..لهذا تستسهل الموضوع..عندما تحب ستعرف عن ما أتكلم..
لوح حسام بيديه وهو يقول: لا ..لا أريد أن أجرب..يكفي أني رأيت ما يفعله الحب بالناس..
ضحك سامي قائلا: كيف لا تريد أن تجرب..هل تظن أن الحب سيستأذنك قبل الدخول بقلبك..
ضحك حسام هو الآخر ثم قال: لا طبعا..لكن أنا عندي مخطط سأنفذه قريبا..
عقد سامي حاجبيه وهو يتساءل باهتمام: أي مخطط هذا..
ابتسم حسام ابتسامة عريضة وهو يقول: سأتجوز قريبا..
نظر سامي إليه مندهشا وهو يقول:و لَمْ تخبرني !..من تكون سعيدة الحظ هذه..
ضحك حسام وقال: ليس هناك ما أخبرك به بعد..وسعيدة الحظ أنا أيضا لا أعرفها..
قال سامي مستغربا: لا أفهم..كيف؟
ابتسم حسام وهو يرد: أقصد أني أبحث عن الفتاة المناسبة، قد اقترحت علي والدتي عددا من الفتيات بعضهم من العائلة و بعضهن من معارفها..سأقرر من الأنسب لي و أتقدم لخطبتها..تعلم أني شخص عملي جدا..لست أملك الوقت لقصص الحب هذه..
*******************
- ما هذه الوحدة القاتلة!
قالتها أمل و هي ترمي بنفسها على السرير، تشعر بالملل، كل ما تقوم به هذه الأيام هو الذهاب للجامعة، والعودة من الجامعة، وأحيانا تخرج برفقة ساره، كل أيامها أصبحت نسخة من بعضها البعض، لا تحمل أي جديد..
تنهدت بعمق وهي تقول: لماذا تركتني يا سلمى..لماذا !
اعتدلت أمل جالسة، أمسكت بهاتفها وهمت أن تتصل بسلمى لكنها عدلت عن ذلك.
لن تزعجها، سلمى لم تتصل بها منذ أيام، يبدو أنها قد نسيتها، وانشغلت بحياتها الجديدة.
قد قالها لها سامي من قبل، لكنه لم تصدقه..
ابتسمت أمل بحزن حين تذكرت سامي، هو الآخر أغلق هاتفه، تعبت من محاولة الاتصال به، والدته أخبرتها أنه أخذ إجازة من العمل و ذهب برفقة حسام لقضاء بضعة أيام على البحر.
لكن لمَ قام بإغلاق هاتفه، لا يريد أن يزعجه أحد.. أو ربما لا يريدها أن تزعجه هي بالذات..
لَم يُتعب نفسه حتى بالرد على رسائلها التي بعثتها له قبل أن يذهب، لم يتعب نفسه حتى بسؤالها عن ما تريده منه..
أغمضت أمل عينيها، وهي تعيد ذكريات كثيرة جمعتها بسامي، الحقيقة أنها اشتاقت له، ليس مهما إذا كان بجانبها.. هل يزعجها.. يتشاجر معها.. يستفزها.. المهم أن يكون موجودا.
حتى حين كان سامي يتصرف بلؤم معها، كانت تشعر بالأمان لأنه بقربها..لا تدري لماذا..
ربما لأنه كان دائما يدافع عنها، لطالما دخل في معارك من أجلها وهم صغار،ورغم أن والديه كانا يعاقبانه على ذلك، كان دائما يقف بوجه أي شخص قد تسول له نفسه أن يزعجها..حتى أن جميع أطفال الحي فهموا هذا..وأصبحوا يحسبون لها ألف حساب، خوفا من قبضة سامي..
لكن يبدو أن الجميع يتغير مع مرور الزمن، الحياة تغير الناس، سلمى انشغلت بحياتها عن صديقة عمرها، وسامي يتجاهلها، واضح أنها أصبحت تشكل إزعاجا له..تشكل إزعاجا للجميع.
عادت أمل تتنهد وقالت بنبرة حزينة: لا أحد يرديني..لا أحد..
لم تكد تنهي عبارتها حتى علا رنين هاتفها باتصال، نظرت لشاشته ثم ردت بسرعة: ليلى..كيف حالك؟
سكتت أمل، لقد كانت تتهرب من لقاء ليلى، ليس بسبب ليلى طبعا، لكن بسبب صديقاتها، هي لم تشعر بالارتياح لهن منذ رأتهن أول مرة..
ولا تستطيع الإنكار، هي تتهرب من ليلى بسبب خالد أيضا، هذا الشخص يجعلها تتوتر دائما، بالإضافة إلى أنه غامض ومغرور و مُعتد بنفسه..
قالت ليلى حين طال سكوت أمل: أمل..هل تسمعينني؟
ردت أمل بسرعة: أجل..أجل..
قالت ليلى وهي تعاتبها: قابلت سارة بالجامعة و سألتها عنك..فقالت لي أنك لا تفوتين محاضراتك أبدا، فلماذا لا تبحثين عني...ألا تريدين رؤيتي أم ماذا..
ردت أمل بتوتر: ما هذا الذي تقولينه..كل ما في الأمر أني أعود للمنزل فور انتهاء المحاضرات..لهذا لم ألتق بك ..
قالت ليلى بهدوء: حسنا إذا..أنا أريد أن أراك.. قد اشتقت إليك..ما رأيك أن تزوريني اليوم بالمنزل..
ابتسمت أمل وهي تقول: لكني لا أعرف عنوان منزلك..
ليلى: ليست مشكلة..أعطيك العنوان..ستجدين المنزل بسهولة..
أثارت الفكرة إعجاب أمل، بهذه الطريقة ستقابل ليلى بدون تلك الحاشية التي لا تفارقها..
توقفت سيارة الأجرة بحي من الأحياء الراقية بالمدينة، التفت السائق للمقعد الخلفي ثم قال وهو يخاطب
أمل: وصلنا يا آنسة..
أنزلت أمل زجاج النافذة، وهي مندهشة، لقد أوقفها السائق أمام منزل فخم جدا، بل هو أقرب للقصر،
التفتت له متسائلة و الدهشة قد علت ملامحها: هل أنت متأكد أن هذا هو المنزل الذي بالعنوان..
هز السائق رأسه وهو يقول: أجل يا آنسة..
نزلت أمل من السيارة، واقتربت من بوابة المنزل وهي لا تزال مندهشة، لم تكن تعلم أن عائلة ليلى بهذا الغنى، لم يكن يبدو عليها الثراء أيام المدرسة..يبدو أن أشياء كثيرة قد تغيرت.
أخرجت هاتفها من الحقيبة و اتصلت بليلى كما طلبت منها أن تفعل حين تصل..
بعد دقيقتين فُتحت البوابة، وخرجت منها ليلى وعلى وجهها ابتسامة عريضة ثم قالت بمرح: أهلا بك أمل..تفضلي بالدخول..
بادلتها أمل الابتسامة وقالت وهما يدلفان سويا للداخل: أصدقك القول..ظننت أن سائق سيارة الأجرة أخطأ بالعنوان !!
وضعت ليلى يدها على فمها ضاحكة ثم قالت: لماذا..
ثم غمزت بعينها وهي تضيف: هل أعجبك المنزل؟
كانت أمل مندهشة من جمال هذا المكان، البوابة تؤدي إلى حديقة رائعة وشاسعة، من الواضح أنه يتم العناية بها جيدا، ومقاعد بيضاء ذات أشكال جميلة منتشرة بها، وبآخر الحديقة يتواجد مسبح كبير لا يبعد كثيرا عن باب المنزل.. والمنزل بحد ذاته تحفة من التحف المعمارية، واضح أن عائلة سلمى تتمتع بذوق رفيع و باهظ !
ردت أمل بابتسامة: إنه رائع..
قالت ليلى بحماس: ما رأيك هل نجلس هنا ..أم نذهب لغرفتي؟
هزت أمل كتفيها وهي ترد: كما تريدين..
أمسكت ليلى بيدها قائلة: لنذهب لغرفتي كي لا يزعجنا أحد..لكن سأعرفك على والدتي أولا..قد حدثتها كثيرا عنك وتريد أن تتعرف إليك..
ابتسمت أمل وهي تقول: أنا أيضا أود التعرف إليها..
دخلت الفتاتان للمنزل و أخذت ليلى تنادي والدتها بصوت مرتفع، إلى أن نزلت هذه الأخيرة الدرج وهي تقول: كفاك صياحا..ماذا هناك..
ضحكت ليلى وهي تقول مشيرة لأمل: أردت أن أعرفك على صديقتي..هذه أمل..
اتسعت ابتسامة والدة ليلى وتطلعت لأمل قائلة: أهلا بك يا ابنتي..ليلى حدثتني عنك كثيرا..ومن كلامها عنك جعلتني أتشوق لرؤيتك..
بادلتها أمل الابتسامة قائلة: أشكرك يا خالة..سعدت بالتعرف إليك..
قالت والدة ليلى وهي ترمق ابنتها بنظرات جانبية: قد أخبرتني ليلى أنك من المتفوقين بالجامعة..ليتك تحاولين مع صديقتك هذه وتنقلين إليها بعضا من تفوقك..
ضحكت كل من ليلى و أمل وردت هذه الأخيرة: سأحاول يا خالتي..
نظرت ليلى لوالدتها ثم قالت وهي تلومها: أمي..لا تحرجيني أمام أمل..أنا أبذل ما بوسعي..لكن الدراسة لا تحبني كما لا أحبها..ماذا أفعل..
عقدت والدتها حاجبيها وهي تقول بجدية: أنا أخبرك ماذا تفعلين..ابدئي بالابتعاد عن مجموعة الفاشلات اللاتي تصاحبينهن..هن السبب برسوبك بالثانوية..منذ تعرفت عليهن و أنت فاشلة بالدراسة مثلهن..
زفرت ليلى و عادت تمسك بيد أمل ثم أسرعت صاعدة الدرج وهي تقول: أمي قد حفظت هذا الكلام..ثم هذا ليس بالوقت الملائم له..
كانت قد وصلت لغرفتها و أغلقت الباب حين سمعت والدتها تقول بصوت مرتفع: هداك الله يا ليلى..ستندمين على كل هذا إن لم تعودي لرشدك.. و تعرفي مصلحتك أين هي..
ضحكت ليلى ثم أخذت تلوح بيدها وهي تقول لأمل: لا تهتمي لأمي يا أمل..هي تظل تعيد هذه الأسطوانة على مسمعي طول اليوم..
رفعت أمل حاجبيها ثم جلست على كنبة بالغرفة وهي تقول: أسطوانة ! لا تتحدثي عن والدتك بهذا الشكل..ثم أنا أوافقها على كل ما قالت..هي تريد مصلحتك ليس إلا..
زفرت ليلى وجلست بجانبها وهي تقول: أنا أدرى بمصلحتي..ومصلحتي ليست بالدراسة أبدا !
ابتسمت أمل ثم قالت بهدوء: فهمت..مصلحتك ليست بالدراسة..مصلحتك تكمن في مرافقة صديقاتك
وصمتت قليلا قبل أن تردف: اخبريني..كيف تعرفت عليهن؟
ردت ليلى بلامبالاة: تعرفت عليهن بالمدرسة الثانوية..بالإضافة إلى إنهن يسكنن قريبا من هنا..
هزت أمل رأسها بتفهم فأكملت ليلى: لقد كنا أشهر الفتيات بمدرستنا الثانوية، الجميع كان يود مصادقتنا !
نظرت إليها أمل باهتمام وهي تقول: لماذا؟
ارتسمت على وجه ليلى ابتسامة وهي ترد بفخر: لأننا من عائلات ثرية طبعا..
ضحكت أمل ثم قالت: وهل أنت سعيدة لأن الناس تريد مصادقتك لأجل مالك فقط..لا أرى في هذا ما يُسعد..
عقدت ليلى حاجبيها، انزعجت من عبارة أمل هذه..
أكملت أمل بهدوء: قد تغيرت كثيرا يا ليلى..
مطت ليلى شفتيها وهي تقول: طبعا تغيرت..أنت تعرفين ليلى الطفلة..وتلك الطفلة قد اختفت منذ زمن..أنت أيضا تغيرت..الجميع يتغير خلال عشر سنوات..ثم..
قطعت ليلى عبارتها عندما سمعت طرقا على باب الغرفة فغمغمت: أخبرتهم أني لا أريد إزعاجا من أحد..
ثم رفعت صوتها وهي تقول: أدخل..
فُتح الباب..
كان خالد واقفا هناك، رمق أمل بنظرة خاطفة ثم التفتت لليلى: ظننتك لوحدك..
أمل فاجأتها رؤية خالد، تسارعت دقات قلبها، ولم تستطع إبعاد عينيها عنه، أما ليلى فقد ضحكت حين رأت المفاجأة التي بدت على وجه أمل ثم قالت بمرح: ماذا تريد..ليس هنا أي شخص غريب..
قال خالد وهو ينظر لأمل ببرود: أنا بغرفتي فوق..عندما تذهب صديقتك..تعالي..أريدك.
ثم أعاد غلق الباب دون أن ينتظر جواب ليلى..
كانت أمل تسمع صوت خطواته وهو يبتعد، والتفتت لليلى بنظرات مندهشة و متسائلة..
نظرت إليها ليلى ببلادة وهي تقول: ماذا..
أخذت أمل تشير بيدها للأعلى قائلة: إنه يقول غرفتي فوق..هل..هل..
ضحكت ليلى على ارتباك أمل ثم قالت بلهجتها المرحة: ألم أخبرك..عائلة عمي تسكن معنا بنفس المنزل..فالمنزل كبير كما ترين !
لم تكد تبتعد سيارة الأجرة التي استقلتها أمل ، حتى عادت ليلى لداخل المنزل، وصعدت الدرج بخطوات سريعة متجهة لغرفة خالد، وحين وصلت فتحت الباب بقوة ووضعت يديها على خاصرتها وهي تنظر إليه بحاجبين معقودين..
كان خالد مستلقيا على سريره منشغلا بقراءة كتاب، لكنه أبعده حين دخلت ليلى وقال بابتسامة : ما سبب هذه الملامح المتجهمة..
رفعت ليلى حاجبيها وهي تقول : وكأنك لا تدري ماذا فعلت !
ثم أكملت حين نظر إليها خالد نظرات متسائلة: لقد ذهبت أمل..
مط خالد شفتيه ثم قام من السرير ووقف بالقرب من ليلى وهو يقول: بهذه السرعة..لكن ما دخلي أنا..
زمت ليلى شفتيها بغضب ثم قالت وهي تقلد طريقته في الكلام : أنا بغرفتي فوق..عندما تذهب صديقتك..تعالي..
وأكملت وقد عادت نبرة صوتها لطبيعتها: قد شعرتْ أنها غير مرحب بها هنا..
نظر إليها خالد بصمت للحظة ثم قال بهدوء: لم أقصد أن أشعِرها بهذا..
لوحت ليلى بيدها ثم اتجهت لمقعد وارتمت عليه وهي تقول: لستُ أفهمك يا خالد..إذا كنت معجبا بها حقا..فلم تتصرف هكذا معها..
هز خالد كتفيه بلامبالاة دون أن يرد..
مطت ليلى شفتيها وقالت: تعلم أني دعوتها اليوم إلى هنا من أجلك لكنك أفسدت ما خططت له..
علت وجه خالد ابتسامة باهتة وهو يقول: دعوتِها إلى هنا من أجلي.. ثم أخذتها إلى غرفتك و أقفلت الباب..
ضحكت ليلة ثم قالت: كنت سأجلس معها هناك قليلا ثم ننزل للحديقة..لكنك تسرعت و أفسدت كل شيء..
وعقدت حاجبيها وهي تكمل: لكن أخبرني..ماذا كنت تريد مني..
قال خالد بهدوء و ابتسامته الجانبية على شفتيه: لا شيء مهم..انسي الموضوع..
اتسعت عيون ليلى بدهشة ثم انطلقت منها ضحكة، ووضعت يدها على فمها لتمنع نفسها من الضحك حين عقد خالد حاجبيه وهو يقول: ما الذي يضحكك..
ردت ليلى ضاحكة : فهمت الآن..والدتي أخبرتك أن أمل معي..فأردت أن تراها..
وتطلعت إليه تتفرس ملامحه وهي تضيف بخبث: أليس كذلك؟
هز خالد كتفيه وهو يرد بهدوء: ربما..
قالت ليلى بابتسامة عريضة: أمل ليست كباقي الفتيات اللاتي عرفتهن من قبل يا خالد.. إنها مختلفة..و أظنك قد لاحظت هذا..
ابتسم خالد وهو يقول: الفتيات كلهن متشابهات..لكن لكل واحدة منهن طريقة خاصة يجب أن تُعامل بها..
حركت ليلى رأسها بعدم اقتناع وهي تقول: أنت مخطأ..إذا كنتَ وجدت طُرقٌا جعلتك تتقرب من فتيات كثيرات..فهذا لا يعني أن هذا سينجح مع أمل..
ضحك خالد ثم قال: تعلمين أنني لا أهتم أساسا بالفتيات.. و لا أبحث عن طرق للتقرب منهن.. فأغلب من أعرفهن هن من حاولن التقرب مني.. وليس العكس..
رفعت ليلى حاجبيها قائلة: مغرور !
ثم غمزته بعينها و أردفت بخبث: لا تقل لي أنك لست مهتما بأمل..لن أصدقك..
قال خالد بهدوء: لم أقل هذا..
قالت ليلى بابتسامة : لماذا إذا تتعامل معها ببرود كلما رأيتها..
ابتسم خالد قائلا: لأن أمل تتجاهل من يبدي اهتماما بها..هذا ما استخلصته عن شخصيتها في أول حديث دار بيننا...
ضحكت ليلى وهي تقول: وهل تظن أنك إذا تجاهلتها ستهتم بك ! أي منطق غريب هذا !؟
رد خالد بغموض و ثقة: سنرى يا ابنة عمي العزيزة..سنرى..
*****************
رمت أمل حقيبتها على السرير ثم قالت بحنق: مغرور !
و أخذت تذرع غرفتها جيئة و ذهابا وقد بدا الغضب والتوتر على ملامحها، ثم توقفت فجأة وزفرت مبعدة خصلات شعرها التي تناثرت على وجهها..
كلما التقت به يصيبها بهذا التوتر، رغم أنها تتظاهر بعدم الاكتراث أمامه، لكن نظراته الباردة و تعامله الجاف معها يثير غضبها، من المفروض أنها صديقة ابنة عمه، و يجب عليه أن يكون لبقا معها، لا أن يتصرف هكذا..
تنهدت أمل لتهدئ نفسها، ثم التقطت حاسبها الشخصي من على المكتب و جلست على السرير ثم وضعته على حجرها و فتحته..
لا تدري ما الذي حدث لها اليوم حين رأت خالد، قد تسارعت دقات قلبها بشكل مخيف،وتلك النظرة الباردة التي رمقها بها، جعلتها تنتفض بمكانها، حتى أنها لم تبعد عينيها عنه، و حين خرج و أقفل الباب، أخذت ترمق الباب ببلادة وهي تستمع لصوت خطواته صاعدا الدرج..
عضت أمل على شفتها السفلى بقهر وهي تقول: من المؤكد أن ليلى لاحظت التغيير الذي طرأ علي..هو أيضا..من المؤكد أنه لاحظ ذلك..أنا غبية..
ثم تنهدت وهي تضيف: كل ما في الأمر أني تفاجأت..تلك السخيفة لم تخبرني أنه يسكن معها بنفس المنزل..
ابتسمت أمل لأنها لم تكد تفتح حِسابها على الماسنجر حتى وجدت سلمى تكتب لها: اشتقت إليك كثيرا..
همت أمل أن ترد عليها، لكنها وجدت كلمات ساره المرحبة تظهر على الشاشة، فقررت أن تتجاهل سلمى قليلا ..
وأخذت تكتب ردا لساره وهي تقول بخبث: سأجعلك تندمين على نسيانك لي كل هذه المدة يا سلمى..
ابتسمت أمل وهي تقرأ كلمات ساره..
ساره: سلمى تسألني هل أتحدث إليك الآن..ماذا أقول لها؟
كتبت أمل و الابتسامة على وجهها:قولي لها أنك تتحدثين إلي طبعا..
ضحكت أمل وهي تقرأ ..
ساره: تقول أنك لا تردين عليها..إنها غاضبة..
ثم كتبت: لا يهم..هل سأراك بالجامعة غدا؟
ساره :لا..لدي بعض الأعمال بالمنزل غدا..لن أستطيع الذهاب..
سمعت أمل رنين هاتفها النقال، فقامت من مكانها، و أخرجته من حقيبة يدها ،ثم ضحكت لأن سلمى هي من تتصل، وعادت لحاسبها ثم كتبت لساره : سأخرج الآن يا ساره..إلى اللقاء
و أقفلت الحاسب قبل أن ترد على سلمى ببرود: آلو..من؟
جاءها صوت صراخ سلمى وهي تقول: من ! هل مسحت رقمي من على هاتفك أم ماذا !!
كتمت أمل ضحكة وهي تقول محاولة الحفاظ على برودها : لم أنتبه لاسم المتصل..كيف حالك؟
ردت سلمى بغضب:لماذا لا تردين علي..كنت أتحدث إليك على الماسنجر..
ابتسمت أمل وهي تقول : كنت أتحدث لساره بخصوص محاضراتنا..
زفرت سلمى وقالت : منذ متى وأنت تفضلين الحديث مع غيري..عموما إذا كنت مشغولة سأتصل بك لاحقا..
ضحكت أمل ثم قالت بسخرية: أجل تتصلين بي..ربما بعد أشهر !
قالت سلمى بتوتر: أمل هل أنت غاضبة مني لأني لم أتصل بك منذ مدة ؟
ردت أمل بابتسامة: لا عليك يا سلمى..من المؤكد أنك مشغولة..لا ألومك..
صمتت سلمى للحظة ثم قالت: آسفة يا أمل..
ضحكت أمل وهي تقول: لا داعي للأسف..أعذرك يا سلمى..
ثم أضافت بخبث : ما أخبارك مع عريسك؟
ضحكت سلمى وهي ترد : بخير..و أنت ما أخبارك وما أخبار الجميع ..
ردت أمل مبتسمة: بخير الحمد لله ..كلنا بخير..
قالت سلمى وقد بدا على صوتها القلق: أمي أخبرتني أن سامي غائب عن المنزل منذ أيام..
مطت أمل شفتيها وهي تقول: أجل..انه برفقة حسام..خارج المدينة ..على البحر..
قالت سلمى ببطء : ألا تعلمين لماذا ذهب؟
هزت أمل كتفيها وهي تقول: لا أدري تحديدا..لكن والدتك أخبرتني أنه أخذ إجازة ليرتاح قليلا من ضغط العمل..
صمتت سلمى لثانية ثم قالت : ألم يتحدث إليك بشيء قبل أن يذهب؟
عقدت أمل حاجبيها ثم ردت : أي شيء ؟
ردت سلمى بتلعثم: لا..لا شيء محدد..أنا فقط أستغرب أن يترك العمل ..تعرفين سامي يحب عمله كثيرا..فكرت أنه لبرما هناك شيء ما أخفته أمي عني..
قالت أمل بهدوء: في الحقيقة يا سلمى..أنا من كانت تريد أن تتحدث إليه ..
قالت سلمى بسرعة: بخصوص ماذا؟
تنهدت أمل وهي تقول: لن أستطيع أن أشرح لك بوضوح..لكني شعرت أن هناك أمرا ما يحصل و أنا لا أدري عنه شيئا..والدَي كانا يتصرفان بغرابة..أمي حالتها الصحية كانت سيئة..شككت أن لسامي دخلا في الموضوع..لهذا أردت الحديث معه..لكنه تعمد تجاهلي..
طال انتظار أمل لرد سلمى لكنها ظلت صامتة فقالت أمل: سلمى..هل لا زلت معي؟
ردت سلمى بهدوء: أجل..
وأكملت بعد ثانية : تحدثي إليه إذا حين يعود..
مطت أمل شفتيها ثم قالت : سأحاول..لم أرى أغرب من شخصية أخيك هذا !
وابتسمت لأنها تذكرت خالد..خالد أغرب من سامي !
قالت سلمى: لا أظن أن هناك من يفهم سامي أكثر منك..لكن هناك أمور عليك أن تبذلي مجهودا لتفهميها..أو ربما هو عليه أن يبذل مجهودا ليفهمك إياها..
ضحكت أمل وهي تقول: لا بأس.. لا أمانع أن نبذل كلينا هذا المجهود..المهم أن يتوقف سامي عن تجاهلي..لم أكد أفرح بالتغير الذي طرأ عليه..ولم أكد أعتد على لطفه معي مؤخرا..حتى تغير فجأة..وللأسوأ !
**********************
وضع سامي آخر أغراضه بالحقيبة ثم استدار قائلا لحسام الذي كان يراقبه : أقسم لك أني بخير الآن..ويجب أن أعود..الهرب لن ينفعني في شيء..
هز حسام رأسه موافقا على كلامه ثم قال: وأنا لا أشجعك على الهروب....أنا أريدك أن تظل هنا لبعض الوقت فقط ..حتى ترتاح أكثر..
رفع سامي حقيبته و اتجه خارجا من الغرفة وهو يقول: قد عطلتك عن أعمالك بما يكفي..
تبعه حسام للخارج قائلا: لا تقل هذا.. أنت تحسنت كثيرا..بإمكاني أن أعود للمدينة.. و أتركك هنا وأنا مطمئن عليك..ثم سنظل على اتصال..وسأزورك كلما سنحت لي الفرصة..
ابتسم سامي بامتنان وهو يقول : لو كان لدي أخ لما عاملني كما تعاملني يا حسام..أشكرك..
كور حسام قبضته وضربه على صدره مازحا وهو يقول: أنت أكثر من أخي يا سامي..لا داعي لهذا الكلام..
اتسعت ابتسامة سامي ثم أطرق برأسه، فقال حسام متسائلا: ماذا إذا..هل نعيد حقيبتك للداخل؟
حرك سامي رأسه نفيا قائلا: لا..من المؤكد أن هناك أعمالا كثيرة تعطلت بالشركة بسبب إجازتي المفاجأة هذه..تعلم أن والدي يعتمد علي في كل شيء..
هز حسام كتفيه ثم قال باستسلام : حسنا..كما تريد..لنغادر..
وأخذ يتأمل سامي للحظة قبل أن يضيف: أشك أن هناك سبب آخر تريد العودة من أجله..
بدت ملامح سامي جامدة و لم يرد على سؤال حسام فقال هذا الأخير: اشتقت إليها..
لم تكن عبارة حسام هذه سؤالا..
لكن سامي اطرق برأسه، ثم رفعه ونظر لحسام بحزن وهو يرد: أجل يا صديقي..اشتقت لأمل..كثيرا..
***************
لوحت أمل لليلى وهي تقترب منها ثم قالت بابتسامة: هل أنهيتِ محاضراتك؟
مطت ليلى شفتيها وهي تقول: لا..لدي محاضرة بعد ساعتين..
أمسكت أمل بيدها قائلة: هيا بنا إذا لنتناول شيئا..أنا أيضا لدي محاضرة بعد ساعتين..
ابتسمت ليلى وهي تتبع أمل ثم قالت: رائع..
نظرت إليها أمل قائلة بهدوء: أين وفاء ومروى..
هزت ليلى كتفيها بلامبالاة وهي تقول: لم يحضرن اليوم للجامعة..
ابتسمت أمل فأكملت ليلى : أنت لا تحبينهن أليس كذلك؟
ردت أمل : لست أعرفهن لأحبهن..
كانت الفتاتان قد وصلتا للمطعم، و جلستا على إحدى الطاولات حين قالت ليلى وهي تتأمل ملامح أمل:
أرجو أن لا يكون خالد قد أزعجك أمس..لقد ذهبتِ بسرعة بعد أن رأيته.. لا تتضايقي منه..بإمكانه أن يكون فظا أحيانا..لكنه طيب القلب..
ابتسمت أمل ثم هزت كتفيها وهي تقول: لا أدري..شعرت أنه منزعج لوجودي..ففضلت الذهاب لحال سبيلي..
رفعت ليلى حاجبيها ثم ضحكت قبل أن تقول: من خالد..منزعج منك أنتِ..ولم قد ينزعج منك؟
مطت أمل شفتيها ثم قالت : ليست لدي أدنى فكرة..
صمتت ليلى لوهلة ثم قالت بابتسامة خبيثة: لو أردت رأيي..خالد مهتم بك..صدقيني أنا أعرفه جيدا..
تجمدت ملامح أمل، ثم قالت بهدوء: وأنا لا يهمني أن يهتم بي أو لا.. لكن في كل مرة يراني فيها يحدجني بنظراته الباردة..بالإضافة إلى أنه لا يطيق الوقوف أمامي لثواني..دائما ما يبتعد حين يراني..سيكون غريبا أن يُعبر شخص عن اهتمامه بهذه الطريقة..
ضحكت ليلى قائلة: لا بد أن يكون هناك سبب..ألم يحدث بينكما أي شيء قد يدعوه للتصرف معك هكذا؟
حركت أمل رأسها نفيا ثم ظهر عليها و كأنها تذكرت شيئا فقالت: هناك فقط موقف حصل بيننا ..كان قد عثر على بطاقة اشتراكي بالمكتبة فأعادها لي.. أراد أن يستغل الفرصة للحديث معي..كما أنه دعاني للانضمام لأصدقائه..أقصد مروى ووفاء وعادل، لكني رفضت و لم أظهر حماسا في الحديث معه..
رفعت ليلى حاجبيها ثم قالت بدهشة: هذه أول مرة ترفض فيها فتاة الحديث معه !
وضحكت قبل أن تكمل: لا عجب إذا أنه يتصرف معك على هذا النحو..خالد شخص واثق من نفسه لأبعد الحدود..ولا يحب أن يتجاهله أحد..
هزت أمل كتفيها وهي تقول: هذه مشكلته..أنا لم أخطئ في شيء..
كانت ليلى ستقول شيئا لكن النادل وقف أمامهما سائلا عن ما يرغبان في تناوله، بعد أن طلبت كل واحدة منهن ما تريد وابتعد النادل، قالت ليلى مبتسمة : أتعلمين يا أمل..أنت جدية أكثر من اللازم.. متزمتة إن أردت رأيي..
قطبت أمل حاجبيها وهي تقول: ماذا تعنين بجدية أكثر من اللازم ومتزمتة؟
قالت ليلى وهي تلوح بيديها أمام وجهها: الفتيات في سنك..يكن أكثر انفتاحا..لا يمانعن في الحديث مع هذا..والضحك مع ذاك..و ممازحة آخر..أنت لا تسمحين لأحد بالاقتراب منك..
ثم ابتسمت وهي تضيف: أتعلمين كنا نتحدث أنا و ساره عنك ذاك اليوم..وأخبرتني أنك دائما ما تصدين أي شاب يبدي أي اهتمام خاص بك..
نظرت إليها أمل بثبات وهي تقول: وما الذي جعلني موضوعا للحوار بينكما؟
هزت ليلى كتفيها وهي تقول: الحقيقة..كنت فقط أود أن اعرف أشياء أكثر عنك..
عقدت أمل حاجبيها وهي تقول : كان بإمكانك أن تسأليني أنا لا ساره..
ضحكت ليلى ثم قالت : حسنا..ها أنا أسألك..لماذا تنغلقين على نفسك بهذا الشكل !؟
ردت أمل بهدوء: لست منغلقة على نفسي..لكن ممازحة الشباب ليست ضمن سلم أولوياتي..كما أني أحب الحفاظ على حدود واضحة..ولا أحب أن يتجاوزها أحد..لا أظن أن هذا يعتبر تزمتا..بل هو الشيء الذي من المفروض أن يكون طبيعيا..وما تسمينه أنت انفتاحا أسميه أنا سخافة واستهتارا وغباء..
وأسندت مرفقها على الطاولة ثم اتكأت على يدها بذقنها وهي تكمل بابتسامة هادئة: كما ترين..أفكارنا تختلف كثيرا..
قطبت ليلى حاجبيها للحظة ثم ابتسمت قائلة: حقا أنت مختلفة..
وضع النادل بضعة أطباق على الطاولة ثم انصرف، انشغلت الفتاتان بتناول طعامهما، وبغتة اقترب شاب منهما و جلس على كرسي بجانب أمل وهو يقول بمرح: أهلا يا فتيات..كيف حالكن؟
نظرت إليه أمل وقالت ببرود: بخير..
أما ليلى فقد وضعت الشوكة التي كانت بيدها بقوة على الطاولة و عقدت حاجبيها وهي تقول: عادل ! ما الذي أتى بك إلى هنا !
ابتسم عادل قائلا بسخرية: كأنك لستِ سعيدة برؤيتي..
ثم التقط صحنا من أمام ليلى و أخذ يأكل منه وهو يقول: كنت مارا من هنا فلمحتكما ..أرجو أن لا يكون انضمامي إليكما يشكل إزعاجا !
كانت ملامح ليلى تدل على أكثر من الانزعاج بكثير، همت أن تقول شيئا لكن عادل أشار إليها أن تسكت وهو يقول: في الحقيقة أنتِ دائما منزعجة مني.. أو الأحرى تتظاهرين بهذا..لذا فرأيك لا يهمني..
والتفت لأمل مبتسما وهو يقول: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك أمل..
نظرت أمل لليلى التي كان وجهها محمرا من الغضب، فوضعت يدها على فمها لتكتم ضحكة وهي تقول: لا أبدا لا تزعجني..
وغمزت لليلى بعينها و هي تضيف: أنا لا أمانع أن تنضم إلينا..وليلى فتاة منفتحة لن تمانع أيضا انضمام شاب مثلك إلينا على الغذاء..أليس كذلك يا ليلى !
زمت ليلى شفتيها بغضب ونظراتها تتوعد أمل بحساب عسير فيما بعد، فضحكت أمل وشاركها عادل الضحك،لكنه توقف حين علا رنين هاتفه فرد بسرعة بعد أن رمى بنظرة خاطفة على شاشته: خالد..أين أنت؟
تجمدت ملامح أمل حين سمعت اسم خالد، وأخذت تستمع لكلام عادل باهتمام، كان يقول: حسنا..أنا بالمطعم القريب من الجامعة..
وصمت قليلا قبل أن يضيف: جيد إذا..أنا أنتظرك..
ثم أنهى المكالمة والتفت لليلى قائلا: خالد قادم..إنه قريب من هنا..
ارتخت ملامح ليلى الغاضبة وهي تتمتم: جيد..سيريحني منك..
قطب عادل حاجبيه وهو يقول لها: ماذا قلتِ..
رسمت ليلى ابتسامة على شفتيها بصعوبة وهي تقول: لا أبدا..لم أقل شيئا..
ثم التفتت لأمل التي كانت وكأنها تجمدت بمكانها قائلة : ما بك أمل..
نظرت إليها أمل ثم ردت ببرود: لا شيء..
لوح عادل للنادل بيده و طلب طعاما له ولخالد، في نفس اللحظة كان خالد يدخل المطعم و يقترب من طاولتهم، كانت الابتسامة على شفتيه لكنه بمجرد أن لمح أمل اختفت ابتسامته و تجمدت ملامحه، أمل لاحظت هذا فأطرقت برأسها لتخفي انزعاجها.
ابتسمت ليلى لخالد وهي تقول بمرح : أهلا بابن عمي..
بادلها خالد الابتسامة، ثم قال لعادل : هيا بنا..
رفع عادل حاجبيه بدهشة وهو يقول: هيا بنا إلى أين..ألم تقل منذ ثوان أنك ستتناول وجبتك هنا ثم تعود لمحاضراتك؟
رمق خالد أمل ببرود ثم أبعد عينيه عنها قائلا: غيرت رأيي..
شعرت أمل بغصة في حلقها..
ليلى لاحظت ملامح الانزعاج على وجهها فقالت وهي تصر على أسنانها: خالد..اجلس معنا..وكفاك سخافات..
لم يعر خالد عبارة ليلى اهتماما وضغط على كتف عادل وهو يقول : هيا..قم..
اعتدلت أمل واقفة بغتة، و فتحت حقيبتها ثم وضعت ثمن وجبتها على الطاولة، و قالت لليلى وهي تهم بالابتعاد: أراك لاحقا يا ليلى..
أمسكت ليلى بيد أمل و رفعت حاجبيها قائلة: إلى أين..
ونظر عادل للورقة النقدية التي وضعتها أمل على الطاولة ثم قال: هذه الوجبة على حسابي..
ابتسمت أمل وهي تقول محاولة الحفاظ على هدوئها: شكرا..لكني لم أعتد أن يدفع لي شخص ثمن شيء يخصني..
والتفتت لليلى قائلة: متزمة كما تقولين..
ثم أفلتت يدها من يد ليلى و خرجت من المطعم بسرعة، وعيون ثلاثتهم تلاحقها..
خصوصا خالد ، لم يبعد عينيه عنها إلا حين اختفت تماما..
قطب عادل حاجبيه وهو يقول بدهشة: يا لها من فتاة !
أما ليلى فالتفتت بغضب لخالد، الذي جلس مكان أمل، واستغربت تلك الابتسامة الجانبية الهادئة على شفتيه..
استغرب أحمد أن سلمى لم تقم لاستقباله على الباب كعادتها عند عودته من العمل..
كانت مستلقية على الكنبة بالصالة تقلب المحطات على التلفاز بملل، أغلق أحمد الباب بهدوء، وتحرك نحوها بخطوات لا يكاد يُسمع لها صوت، ثم وقف خلفها ووضع يديه على عينيها و هو يقول: خمني..من أكون؟
ضحكت سلمى و أبعدت يديه عن وجهها ثم استدارت نحوه قائلة: وكأنه من الممكن أن يكون غيرك..
ابتسم أحمد والتف حول الكنبة ثم جلس بجانب سلمى وهو يقول: ربما.. فقد كان هناك شبح يسكن معي هنا..
اتسعت عيون سلمى وأخذت تلوح بيدها قائلة: لا تتحدث معي عن الأشباح..أنا أمضي وقتا طويلا لوحدي بهذا المنزل..فلا تثر الخوف بداخلي..
ضحك أحمد وقرصها على خدها برقة وهو يقول: يا لك من جبانة..
ابتسمت سلمى و أطرقت برأسها للحظة ثم تنهدت وقامت من مكانها متجهة نحو الهاتف، رفعت السماعة و طلبت رقما، ثم أعادت السماعة لمكانها بعد ثوان..
قطب أحمد حاجبيه وهو يقول: بمن تتصلين..
عادت سلمى للجلوس بجانبه قائلة: سامي..لكن هاتفه لا يزال مغلقا..
هز أحمد رأسه بتفهم قائلا: أنت قلقة عليه أكثر من اللازم..
تنهدت سلمى وظلت تتطلع لوجه أحمد لوهلة قبل أن تقول بهدوء: أشعر أن مشكلة ما قد حدثت..
ابتسم أحمد قائلا في محاولة لطمأنتها: أنت فقط تشعرين بهذا لأنك بعيدة عنهم..
مطت سلمى شفتيها ثم هزت كتفيها قائلة: ربما..
و قامت متجهة للمطبخ وهي تردف: سأضع الطعام على الطاولة بعد دقائق..من المؤكد أنك جائع..
ابتسم أحمد وهو يقول: أتعلمين.. حين نرزق بطفل..سوف يتحول اهتمامك بي إليه..وحين أعود من العمل.. سيكون علي أن أحضر لنفسي طعامي أو أنتظرك لساعات حتى تحضريه..
توقفت سلمى بباب المطبخ و التفتت إليه وهي تقول ضاحكة: كلامك غير صحيح..لا تخشى شيئا لن يتغير اهتمامي بك أبدا مهما حدث..
ابتسم أحمد لها فأكملت طريقها لداخل المطبخ..
أخرج أحمد هاتفه من جيب سرواله، ثم طلب رقما، وتفاجئ حين جاءه رد من الطرف الآخر فقال ضاحكا: لو كنت أعلم أنكم سترد إن اتصلت أنا بك لاتصلت منذ مدة.. على الأقل كنت لأرتاح من حديث أختك الدائم عنك..كيف حالك يا سامي؟
رد سامي ضاحكا هو الآخر: أنا بخير..كيف حالك و حال سلمى..
قام أحمد متجها للمطبخ بخطوات سريعة وهو يقول:بخير.. سأجعلها تتحدث إليك الآن..قد كانت قلقة عليك..
وأعطى الهاتف لسلمى وهو يردف بابتسامة: إنه سامي..
خطفت سلمى الهاتف منه بسرعة ثم قالت صارخة: سامي..كيف حالك..لم كان هاتفك مغلقا كل هذه المدة..قد تعبت من محاولة الاتصال بك..حتى أن..
قاطعها سامي قائلا: رويدك..رويدك..ألم يستطع أحمد تغيير هذا الطبع فيك..ألن تكفي عن الصراخ يوما !
لم تهتم سلمى لكلامه وقالت بقلق: سامي..هل أنت بخير؟
رد سامي ضاحكا: أجل بخير..كل ما في الأمر أني كنت في إجازة و لم أود أن يزعجني أحد..
عقدت سلمى حاجبيها قائلة: لا أدري لم أشعر أنك تكذب علي..
قال سامي بهدوء: لست أكذب يا سلمى..عموما علي أن أنهي الاتصال الآن..قد وصلت للمنزل..سأتصل بك لاحقا اليوم..
*****************
ضحكت أمل وهي تشاهد ليلى التي كانت تقلد حركاتها و كلامها بالمطعم، ثم أخذت تلوح بيدها وهي تقول: كفى سخفا يا ليلى..أنا لا أتحدث هكذا..
هزت ليلى رأسها وجلست على السرير قائلة: بلى تتحدثين هكذا..أنت لم تشاهدي نفسك !
قالت أمل ضاحكة : إذا أنا مخيفة !
قطبت ليلى حاجبيها وهي تقول: تريدين الصراحة..أجل..
رمت أمل بوسادة صغيرة كانت بجانبها على ليلى، ثم قالت مبتسمة: عموما أشكرك على مجيئك عندي..
أمسكت ليلى بالوسادة ولوحت بها قائلة: واضح شكرك لي !
ثم أضافت بجدية: بحثت عنك بعد انتهاء المحاضرة ولم أجدك..لم أستطع العودة للمنزل و أنا أعلم أنك منزعجة..
هزت أمل كتفيها وهي تقول ببرود: أبدا لست منزعجة..
رفعت ليلى حاجبيها قائلة: أنت بارعة في إخفاء مشاعرك..قد انزعجت من تصرف خالد..أي شخص في مكانك كان لينزعج..عموما أعتذر نيابة عنه..
ابتسمت أمل ثم قالت بهدوء : ولماذا تعتذرين نيابة عنه..إن كان هو فظا فما ذنبك أنت..
وقامت متجهة للشرفة فتبعتها ليلى وهي تقول : أقسم أن خالد طيب القلب..ربما الأيام ستثبت لك هذا..
رفعت أمل حاجبيها وهي تقول: طيب القلب.. واضح !
و أثارت انتباهها سيارة توقفت بالشارع، كانت ليلى تتحدث لكن أمل لم تكن تصغي إليها..
هذه سيارة سامي !
إنه سامي !
تسارعت دقات قلب أمل حين رأته يخرج من السيارة، و أمسكت بيد ليلى وجذبتها وهي تخرج مسرعة من الغرفة..
حاولت ليلى التخلص من قبضتها وهي تقول: أمل..ماذا هناك..
ردت أمل وهي تنزل الدرج كالسهم: اتبعيني فقط..بسرعة..
خرجت أمل من المنزل، ورأت سامي الذي كان مشغولا بإنزال حقيبته من السيارة، فاقتربت منه بهدوء من الخلف وقالت بابتسامة: أرجو أن تكون قد حظيت بإجازة ممتعة !
تجمد سامي بمكانه للحظة، ثم استدار لتقع عيونه على تلك الابتسامة الهادئة..
وما هذا الذي يراه بعيونها..بريق سعادة..هل هي سعيدة لرؤيته !
تجمدت ملامحه وهو يتطلع إليها بوجوم..
فقالت أمل بمرح: قد اشتقت إليك أيها السخيف..لا تقل أنك لم تشتق إلي أيضا !!
بلع سامي ريقه بصعوبة..يا إلهي هذا ما كان يخشاه..أصبح الوقوف أمامها و النظر إليها صعبا جدا..
كانت عبارة واحدة تترد بذهنه: أمل ليست لي..
بلل شفتيه بلسانه، وأطرق برأسه في محاولة للسيطرة على مشاعره ثم رفعه قائلا بلهجة جافة: كيف حالك يا أمل؟
قطبت أمل حاجبيها مستغربة طريقة حديثه ثم قالت: أنا بخير..
هز سامي رأسه ورفع الحقيبة متجها لمنزله، فأمسكت أمل بذراعه و أوقفته قائلة بدهشة: انتظر..إلى أين !
تطلع سامي ليدها الناعمة الممسكة بذراعه ثم أزاحها بلطف وقال بابتسامة باهتة وهو يشير للمنزل: لمنزلي طبعا..
عقدت أمل حاجبيها قائلة: هناك أمر أود التحدث فيه معك !
لوح سامي بيده مكملا طريقه وهو يقول: فيما بعد يا أمل..فيما بعد..
كان يُسرع بخطواته هربا منها، لا يدري إن ظل واقفا أمامها طويلا ..أي تصرف قد يقدم عليه..قد ينفجر و يخبرها بكل شيء !
وقبل أن يدلف للداخل لمح تلك الفتاة الواقفة بباب منزل أمل، كانت تراقبه باهتمام، وحين انتبهت أنه ينظر إليها ابتسمت له ابتسامة عريضة وساحرة !
*************
ابتسمت السكرتيرة لوالد سامي ثم قالت : بإمكانك الدخول الآن سيدي..
بادلها والد سامي الابتسامة ثم دخل للمكتب و صافح والد أمل قبل أن يجلس على المقعد أمامه قائلا:
كيف حال الأعمال؟
مط والد أمل شفتيه قائلا: لا بأس..لكن كما تعلم المشاكل كثيرة..
هز والد سامي رأسه بتفهم قائلا: أنت محق..لا تدري مدى سعادتي بعودة سامي..هو يحمل عني ثقلا كبيرا..
ابتسم والد أمل وهو يمازحه قائلا: ماذا ..ألم تعد قادرا على تحمل ضغوط العمل..أصبحت عجوزا يا صديقي !
ضحك والد سامي ثم قال بجدية: بخصوص موضوع أمل وسامي..بإمكانك أن تطمأن تماما..تحدثت إليه..وما أردناه سيحصل..يبدو أن بُعده لعدة أيام جعله يفكر مليا ويتخذ القرار الصحيح..
تنهد والد أمل بارتياح ثم قال: سأخبر أم أمل..لعل هذا الخبر يسعدها ويُحسن من حالتها..منذ آخر حديث لها مع سامي وحالتها النفسية و الصحية سيئة..
وصمت لوهلة قبل أن يضيف : استغربت أن أم سامي لم تتحدث إليها بالموضوع..كنت أترقب ردا فعل قوي منها..
زفر والد سامي ثم قال: قد اقتنعت بأن الخوض في هذا الموضوع قد ينتج عنه معرفة سامي لحقيقته..وطبعا هي لا تريد له أن يشعر بالألم التي سيترتب عن معرفته للحقيقة..
ثم أضاف وهو يفرك أصابعه بتوتر: قد أخطأنا..وما حدث هو عقاب على خطأنا هذا..لم يكن علينا أن نزور الحقيقة بهذا الشكل..
تنهد والد أمل ثم قال: ما حدث قد حدث..لن نستطيع تغييره الآن..
ثم أردف متسائلا: ألا تريد إخبار زوجتك بالحقيقة كاملة..
حرك والد سامي رأسه قائلا: أُفضِل أن لا تعلم شيئا..يكفي أننا استطعنا أن نخرج من هذه المشكلة العويصة على خير..لا نريد تعقيد الأمور أكثر !
****************
نفس المشهد الذي كان بشرفة أمل منذ أيام تكرر الليلة، أمل ممسكة بعلبة صغيرة تخرج منها قطع الحلوى و ترميها على البوابة الزجاجية لشرفة سامي، لعله يخرج إليها، لكن لا حياة لمن تنادي..
وضعت العلبة على أرضية الشرفة، ثم أمسكت بهاتفها واتصلت به، وطبعا لم يرد..
زفرت أمل بحدة وضغطت على أزار هاتفها بسرعة مرسلة هذه الرسالة له:
لن أؤخذ من وقتك الكثير أيها السخيف.. أخرج للشرفة..
ثم اتكأت على الجدار الذي يفصل بين شرفتيهما في انتظار خروجه، أو على الأقل رد منه !
لكنها لمحت ذلك الظل الذي اقترب قليلا من باب الشرفة وسرعان ما عاد للداخل..
اتكأت على الجدار بظهرها ثم ضغطت على أزرار هاتفها بغضب و أرسلت له : كنت أظنك قد تغيرت فعلا..لكنك لن تتغير أبدا..أنا الغبية لأني صَدقتك..تَذكَر أفعالك هذه جيدا يا سامي..أرجو أن تكون فخورا بنفسك !
ثم تنهدت ورفعت رأسها تتطلع للسماء، وأطلقت حرية شعرها الطويل، للتتلاعب به نسمات الليل العليلة، كانت قد أغمضت عينيها، وأخذتها أفكارها بعيدا..
و فتحتهما بغتة حين سمعت صوت تلك السيارة التي تخرج مسرعة من منزل سامي..
رفعت حاجبيها بدهشة، هذا سامي..
دخلت أمل لغرفتها وهي غاضبة منه و مندهشة في نفس الوقت..
ثم جلست أمام مرآتها و أخذت تدقق النظر في ملامحها، وغمغمت لنفسها : وكأنه مكتوب على جبيني..تصرفوا معي بغرابة !
ابتسمت بسخرية على نفسها ثم سرحت شعرها قليلا و استلقت على سريرها ،قد كان أسبوعا متعبا بالجامعة..
وتوجهت أفكارها نحو.. خالد..
لِم يا ترى يتصرف معها بهذا الشكل، من أجل أول موقف حدث بينهما..لأنها رفضت دعوته لها للانضمام إليهم؟
ربما..
لكن ماذا كان يتوقع منها، قد أعاد لها بطاقتها.. فشكرته..ماذا كان يتوقع أكثر من هذا !
أخفت أمل رأسها تحت الوسادة وهي تتمتم بحنق: مغرور..لم أرى في حياتي شخصا أكثر غرورا منه..
لَم يجعلها شخص من قبل تتوتر لرؤيته كما يفعل هو، و نظراته تربكها..
تتمنى أن لا تراه كثيرا بالجامعة !
**************
وضعت أم أمل كوبي القهوة على الطاولة وجلست على كرسي بالقرب من أم سامي قائلة:أشعر بتحسن الآن الحمد لله..
ابتسمت أم سامي ثم رشفت من كوبها قبل أن تقول: سامي يبلغك سلامه..ويعتذر لأنه لم يكن يعلم بأنك مريضة..يقول أنه سيزورك اليوم..
وكأن الدماء عادت لوجه أم أمل المُصفر بعد سماعها هذه الكلمات..
وقالت غير مصدقة: أحقا..هو من قال هذا..
هزت أم سامي رأسها وهي تقول: أجل..قد وجد أعمالا كثيرة تنتظره بالشركة..شغلته عنا جميعا..حتى أنني لم اعد أراه إلا صباحا وهو ذاهب للعمل..لذا لم يكن يعلم بمرضك..أنا من أخبرته أمس..
علت وجه أم أمل ابتسامة عريضة وقالت : حفظ الله ورعاه..
بادلتها أم سامي الابتسامة وعادت ترتشف من كوبها..
ثم التفتت الاثنتين للدرج حين سمعتا صوت خطوات أمل وهي تنزل بنشاط، اقتربت أمل وقبلت يد كل منهما، ثم قالت لوالدتها بابتسامة: سأخرج الآن يا أمي..هل تحتاجينني في شيء؟
ابتسمت والدتها قائلة: لا يا ابنتي..لكن لا تتأخري كثيرا..
هزت أمل رأسها موافقة ثم لوحت لهما وهي تبتعد قائلة: لن أتأخر..
كانت والدة سامي تتأمل أمل من رأسها لأسفل قدمها، أمل تبدو في غاية الجمال و الأناقة اليوم، شعرها الكستنائي الطويل مُسرحٌ على شكل ذيل حصان، أحاطته بشريط وردي جميل يناسب لون القميص الوردي الأنيق الذي ترتديه...
معذور سامي !
هي أيضا لم تكن تتصور أن تكون أمل لشخص غيره ، لم تظن أن أي شيء سيقف أمام كون سامي لأمل و أمل لسامي، لأنها لم تكن تعلم أن غيرها و غير زوجها يعرفون سرهم..
التفتت لوالدة أمل و قالت بابتسامة هادئة: أمل أصبحت عروسة يا أم أمل..
بادلتها والدة أمل الابتسامة قائلة:أجل..لكنها عنيدة..تقول أنها لا تفكر بالزواج الآن..
ضحكت والدة سامي قائلة: كلهن يقلن هذا !
وأردفت بابتسامة هادئة: لكن المُقدر مُقدر..وحين يأتي النصيب..لا تعود جملة "لا أفكر بالزواج هذه" في قاموسهن !
**************
أمل تبحث عن ذلك الكتاب بين الرفوف منذ نصف ساعة..
ولم تجده بعد.. لكنها لن تترك المكتبة اليوم إلا بعد أن تجده، هناك بحث مهم عليها أن تقدمه لأحد أساتذتها بعد يومين..وهذا الكتاب هو المرجع الوحيد الذي من الممكن أن تستعين به..
ربما لم تجده لأنها لا تركز في بحثها جيدا..
بالها مشغول.. حين دخلت المكتبة وجدت تلك الشلة جالسة بمكانها المعتاد، مروى ووفاء و عادل..
لكن خالد ليس معهم، وهذا أمر غريب،هو يكون هنا دائما يوم السبت..
وكأنها شعرت بخيبة أمل لأنها لم تره..
اتسعت عيون أمل، ما هذا الذي تقوله، هي تود لو أنها لا تراه أبدا، عن أي خيبة أمل تتحدث !!
بدأت أفكارها تخيفها.. !
زفرت أمل وتوجهت لآخر رف لم تبحث فيه بعد، وبدأت تمرر أناملها على الكتب وعيونها تقرأ العناوين بسرعة..
ووجدته !
علت الفرحة ملامحها، وما كادت تسحبه من مكانه، حتى وجدته يُسحب من الجهة الأخرى للرف..
تجمدت أمل للحظة وهي تنظره لمكانه الخالي، ثم عقدت حاجبيها بغضب والتفت حول الرفوف بسرعة..
لمحت ذلك الشخص يبتعد وبيده الكتاب، فأسرعت الخطى لتلحق به، ثم قالت حين اقتربت منه: أنت..من فضلك..
استدار ذاك الشخص ببطء و بدت الدهشة على وجهه لثانية، لكن سرعان ما عادت ملامحه لهدوئها..
اتسعت عيون أمل، وتوقفت دون حراك بمكانها من الصدمة..لم تستطع النطق بكلمة..
ما هذا الموقف السخيف..
إنه خالد !
ظل خالد يتأملها لوهلة، ثم قال بهدوء: هل من شيء؟
أبعدت أمل عينيها عنه ،و نظرت للكتاب بيده، ثم قالت مشيرة إليه وهي تحاول جعل نبرة صوتها هادئة رغم التوتر الذي يكتنفها: قد كنت أبحث عن هذا الكتاب الذي بيدك الآن..
ابتسم خالد وهو يتأمل ملامحها، ربما لأنه شعر بالتوتر الذي تخفيه وراء هذا الهدوء..
أربكت نظراته هذه أمل فأشاحت بنظراته عنه وهي تقول ببرود: أنا بأمس الحاجة له..
هز خالد كتفيه قائلا بلهجة جافة: وأنا أيضا !
رفعت أمل حاجبيها بدهشة، يا له من شخص فظ..
ثم قالت بهدوء: أنا بحاجة إليه في بحث يجب أن يكون جاهزا بعد يومين..لذا كما ترى أعاني من ضيق الوقت.. لكن إذا أعطيتني إياه سأعيده غدا و بإمكانك أخذه..هل هذا ممكن؟
رد خالد ببرود : آسف..لن أستطيع..
أطرقت أمل برأسها، ثم رفعته وعلى وجهها ابتسامة هادئة: هل تحاول أن تثبت شيئا ما؟
رد خالد بوجوم : أي شيء؟
خلت ملامح أمل من أي تعبير وهي ترد ببرود شديد: أنك فظ مثلا !
ثم استادرت مبتعدة عنه وهي لا تكاد تصدق أن هناك شخصا تَجَمعَ فيه كل هذا البرود..و الغرور..
أما خالد فظل يتأملها بدهشة وهي تبتعد ثم صدرت عنه ضحكة خافتة، لم تصل لآذان أمل لأنها كانت قد خرجت من المكتبة،
ظل واقفا بمكانه على وجهه ابتسامة جانبية هادئة.. يستعيد الكلمات التي قالتها له..صَدقَ عادل..يا لها من فتاة !
أمل شعرت بالإحباط لأنها لم تحصل على الكتاب، وقفت بالشارع تنتظر سيارة أجرة، ستعود للمنزل خالية الوفاض..
ماذا ستفعل الآن.. هي فعلا في أمس الحاجة له !
خطرت ببالها فكرة.. تتصل بليلى و تخبرها بما حدث، ثم تطلب منها أن تتصرف مع ابن عمها..
لكن لا، لن يُحْرج مثله من رفض طلبها حتى أن جعلت ليلى تتحدث إليه..
ستجد حلا..دون أن تضطر للاحتكاك بهذا المغرور..
كانت أمل منشغلة في التفكير بحل لهذه المشكلة التي تواجهها..
لذا لم تنتبه لذلك الشاب الذي كان يتطلع إليها من بعيد، ولم تنتبه له أيضا حين اقترب منها إلا بعد أن قال بصوت قصد أن يجعله ناعما: كيف حالك أيتها الجميلة..
التفتت أمل إليه ببطء، ثم عادت تراقب السيارات التي تمر بالشارع..
قطب الشاب حاجبيه ثم قال بسخرية: ماذا..هل تفضلين أصحاب السيارات؟
لم يأته جواب من أمل فزاد قربا منها ثم قال: ما اسمك؟
زفرت أمل بحدة ثم قالت دون أن تنظر إليه: ابتعد ..
رفع الشاب حاجبيه وقال بسخرية: وماذا إن لم أبتعد !
التفتت أمل بحدة وهمت أن تقول شيئا لكنها رفعت حاجبيها بدهشة ..
لا تعرف من أين أتى خالد..
لكنه كان ممسكا بياقة قميص ذلك الشاب وهو يقول بصوت بث الخوف بداخلها هي أيضا:
إذا لم تبتعد ستضطر لجمع أسنانك من هذا الشارع سنا..سنا..ولربما عظامك أيضا..
ثم دفعه بعيدا بعد أن أنهى جملته..فأطلق الشاب ساقيه للريح، و اختفى في لمح البصر..
تبدلت ملامح خالد في أقل من ثانية و بدا عليه الهدوء وهو يقول لأمل و نبرة صوته يعلوها بعض القلق : هل أنتِ بخير؟
كان خالد يتفرس ملامح أمل، ودون قصد منه أو منها تلاقت عيونهما، وبدا على كليهما أنهما غير قادرين على إبعاد نظراتهما بعيدا..
كل واحد منهما تاه في عمق نظرات الآخر..
كلاهما شعر.. وكأنه كان ضائعا مغتربا ..
وللتو وجد وطنه..في عمق تلك العيون..
شيء ما يربطهما معا..كلاهما شعر بذلك..
أمل كانت كالمخدرة، عيونه تأسرها،وكأنها مسحورة، بداخلها تمنت لو تظل أسيرة عينيه،
إلا أن حمرة صبغت خدودها جعلتها تطرق برأسها..لا تريده أن يلاحظ خجلها..
ابتسم خالد، وأحنى رأسه قليلا لينظر لوجهها الملائكي الذي زاد بهاء بتلك الحمرة الخفيفة..
وعاد يسألها بهدوء: أمل ..هل أنت بخير؟
تسارعت دقات قلبها..لأول مرة يتحدث إليها بهذا اللطف..
يا الهي ! عليها أن تهدأ..
رفعت رأسها لكنها حاولت أن تبعد نظراتها عن عينيه وهي تقول : أنا بخير..
اتسعت ابتسامة خالد وقال : أرجو أن لا يكون ذاك التافه قد أزعجك كثيرا..
حركت أمل رأسها نفيا قائلة: لا..
ثم أضافت بكبرياء: لم يكن عليك أن تتدخل..أنا قادرة على حماية نفسي..
ظل خالد ينظر إليها دون أن يعقب على كلامها.. يقصد أن يجعلها ترتبك..
ثم قال بعد وهلة وهو يقدم إليها كتابا : تفضلي..
رمقت أمل الكتاب بيده.. و رفعت نظراتها إليه بدهشة.. فقال خالد: خرجتُ لأعطيك الكتاب ..فلمحت ذلك الشاب..لم أود التدخل فيما لا يعنيني.. لكنني عرفت من ملامح وجهك أنه يضايقك..
ثم ابتسم قبل أن يكمل: لم أستطع الانتظار لأرى هل أنت قادرة على حماية نفسك قبل أن أتدخل..
عقدت أمل حاجبيها للحظة ثم تراخت ملامحها وارتسمت على شفتيها ابتسامة وهي تقول: أشكرك..تدخلتَ في الوقت المناسب..
وأكملت وهي تنظر للكتاب بيد خالد: بالنسبة للكتاب بإمكانك الاحتفاظ به..سأتدبر أمري بدونه..
قال خالد بحزم : لا داعي للعناد ..قلتِ أنك بحاجة ماسة إليه..
وحين رأى التردد بعينيها أمسك بمعصمها ثم وضع الكتاب بقبضتها قائلا: خذيه ..لستُ بحاجة إليه فعلا..
كانت أمل تتطلع لقبضة يده القوية التي تشد على يدها، فأفلتها خالد بسرعة قائلا: آسف..
ابتسمت أمل بارتباك ثم قالت : لا عليك..
وأخذت تقلب صفحات الكتاب قبل أن تقول بسعادة: أشكرك..
هز خالد كتفيه ثم قال: إن كنت مهتمة بمراجع أخرى تتطرق لنفس موضوع هذا الكتاب بإمكاني أن أزودك بها..لدي عدد لا بأس به من الكتب التي قد تهمك..
رفعت أمل حاجبيها بدهشة، ما هذا التغيير الذي طرأ عليه..
أدخل خالد يديه بجيب سترته قائلا بهدوء: ليس هناك أي إزعاج..بإمكانك المرور عندنا بالمنزل غدا صباحا..وسأريك مكتبتي الخاصة وخذي منها ما تريدينه من كتب..
قطبت أمل حاجبيها وظلت صامتة..
فقال خالد بابتسامة وكأنه فهم ما يدور بخلدها: حسنا..أنا لن أكون بالمنزل غدا صباحا..ليلى ستريك المكتبة ..
ضحكت أمل بخفوت ثم قالت: لم أقصد..
هز خالد كتفيه قائلا : لا يهم..
ابتسمت له أمل فأضاف بهدوء: كنت ٍسأعرض عليك المساعدة ببحثك..أنا أيضا أدرس بنفس تخصصك.. سأتخرج هذه السنة ..
نظرت له أمل باهتمام فأكمل بابتسامة: لكن لدي اقتراح آخر..لن أساعدك في إعداده..لكن قبل أن تسلميه لأساتذتك ..بإمكاني قراءته و إعطائك ملاحظاتي عليه..لربما تفيدك..
كانت أمل تفكر كيف تكون هذه هي آخر سنة له بالجامعة وهي لم تره فيها من قبل، كانت لتتذكر لو أنها لمحته..
أخرجها خالد من تفكيرها قائلا: ماذا قلت..هل أخبر ليلى أنك ستأتين غدا؟
ابتسمت أمل ثم قالت : سأتصل بها اليوم لأخبرها..
بادلها خالد الابتسامة ثم أشار لسيارة أجرة كانت تمر بالشارع..
توقفت هذه الأخيرة أمامهما، فقال خالد : حسنا إذا..سأعود أنا للمكتبة..
فتحت أمل باب السيارة و ابتسمت لخالد ثم قالت قبل أن تدلف داخلها : أشكرك مرة أخرى..
أغلق خالد الباب ثم ظل واقفا إلى أن انطلقت سيارة الأجرة مبتعدة..
وعاد إلى داخل المكتبة ..ابتسامته الجانبية على شفتيه ..وبريق غامض بنظراته..
****************
قبَل سامي رأس أم أمل ثم جلس قبالتها قائلا: أرجو أن تكوني قد تحسنتِ خالتي..ما أخبرتني به والدتي عنك أقلقني جدا..
كانت عيون أم أمل ممتلئة بالدموع و تتفحص ملامح سامي بلهفة، مسحت دمعة سالت على خدها ثم قالت : قد تحسنت الآن فقط ..بعد أن رأيتك..
قام سامي من مكانه و جلس بجانبها ثم لفها بذراعه وهو يقول مبتسما: مادامت رؤيتي تجعل صحتك أحسن..فستجدينني عندك هنا دائما..
أطرقت أم أمل برأسها قائلة: سامحني يا بني..
ورفعت رأسها لتنظر لعينيه مباشرة وهي تضيف بحزن: أم أنه يجب علي أتوقف عن مناداتك بني؟
كان الحزن باديا بعيون سامي أيضا..
لكنه رد محاولا رسم ابتسامة على وجهه: ما هذا الذي تقولينه يا خالتي..كنت ابنك وسأظل ابنك دائما..لن يتغير هذا مهما حدث..وأنا آسف إن كنت قد رفعت صوتي بوجهك آخر مرة حدثتك فيها..وآسف إن كنت تفوهت بحماقات..تعلمين أني لم أعني ما قلت..قد كانت نوبة غضب..أنت من عليها أن تسامحني..
انفجرت أم أمل باكية فلفها سامي بذراعيه و أخذ يحاول تهدئتها وهو يقول ضاحكا: ما هذا..يبدو أني سأرجع عن كلامي..ولن آتي لزيارتك كثيرا..ما دمت أجعلك تبكين هكذا..
ابتعدت أم سامي عنه و أخذت تمسح دموعها ثم قالت بوهن : ظلمناك يا سامي..ظلمناك..
أطرق سامي برأسه صامتا..فعلا ظلموه..أعز الناس و أقربهم إليه هم من ظلموه..لكنه لا يستطيع مصارحتها بهذا..
قام متجها للمطبخ ثم عاد وفي يده كوب ماء قدمه لأم أمل..أمسكته هذه الأخيرة و ابتسمت لسامي بامتنان..ثم أخذت ترشف منه وقد هدأ روعها..
ظل سامي يراقبها..ما حدث يسبب له حيرة كبيرة..كل أفعال أم أمل تدل على أنها تحبه..فلماذا رفضت زواجه من أمل..بل مجرد تفكيره فيها..حتى إن كان زوجها هو من يرفض..كان بإمكانها إقناعه..
في كل مرة يقرر أنه سيتوقف عن التفكير بهذا الموضوع..ثم يعود ليجد نفسه تائها بين حلقات مفرغة..وأسئلة كثيرة..لا يجد لها جوابا..لكنه يحاول أن ينسى..عليه أن ينسى..
قال سامي قاطعا الصمت الذي خيم بينه وبين أم أمل: أنا قد نسيت ما حدث..وقررت أن أواصل حياتي وكأنه لم يحدث شيء..أما أمل..
رفعت أم أمل عينيها في انتظار لما سيقوله فأطرق برأسه مكملا:أمل أختي..
وصمت قليلا قبل أن يردف: لي أختين..سلمى و أمل..
كان سامي يتحدث ببطء شديد.. و كأن لسانه يأبى أن ينطق بما نطق به..
لكن أم أمل لم تلاحظ هذا..وتهللت أساريرها..قد ارتاحت بعد أن سمعت هذا الكلام من سامي نفسه..الآن فقط..تحس براحة شديدة..
- أخيرا سامي بمنزلنا !
استدار سامي بحدة ليجد أمل واقفة خلفه..
ملامحها متجهمة..لازالت غاضبة منه..هذا واضح..
معذورة ..فقد حاولت أن تتحدث إليه بشتى الطرق..وهو يتهرب من مواجهتها..
لكن رغم ملامحها المتجهمة هذه ..تبدو جميلة..كم يناسبها اللون الوردي !
مهلا..منذ متى وهي واقفة هناك..ما الذي سمعته يا ترى !
شعر سامي بتوتر شديد..
أم أمل أيضا كانت تفكر في نفس الشيء فقد قالت بنبرة قلقة: لم أسمعك و أنت تفتحين الباب..متى دخلت..
مطت أمل شفتيها ثم وضعت كتابا على الطاولة و جلست على الأريكة قائلة : دخلت لتوي..الباب كان مفتوحا..
و رفعت عينيها متأملة سامي ثم قالت : كيف حالك؟
أشاح سامي بوجهه هربا من نظراتها وقال : بخير..أنا بخير..
هزت أمل رأسها قائلة : جيد..ظننتُ أنك نسيت أننا لا نزال نسكن بهذا الحي..في الحقيقة أدهشني وجودك بمنزلنا اليوم..
التفتت والدتها إليها قائلة بحدة : أمل..سامي مشغول..لم يكن يعلم أني مريضة..وفور أن علم جاء لزيارتي..
عادت أمل تهز رأسها ثم قامت و التقطت كتابها من على الطاولة، و قالت وهي تنظر لسامي بلوم: جاء لزيارتك أنتِ يا أمي..أما أنا..فقد أصبحت أشكل إزعاجا بالنسبة إليه..يحاول التهرب مني دائما..وكما يبدو يفضل عدم رؤيتي على الإطلاق..
ثم أكملت بنبرة حزينة : أليس كذلك يا سامي؟
ظل سامي يتطلع إليها دون أن يرد..كان يحس بغصة في حلقه..كلماتها تؤلمه..
ابتسمت أمل ثم قالت وهي تتجه للدرج: لا عليك..لا تبحث عن رد..سأنصرف و أتركك مع والدتي.. ما دمت جئت من أجلها فقط..
نظر سامي لوالدة أمل ثم قال بصوت مخنوق : أنا من كان سينصرف..أراك لاحقا خالتي..
ثم أسرع خارجا من المنزل،
ركب سيارته و انطلق بها..
كلمات أمل اللاذعة تتردد بذهنه..كلماتها تزيده ألما على ألمه..
تفتح جروحا كثيرة..جروحا يجاهد ليجعلها تطيب..
ما يشعر به يجعله يود الهرب منها..من نفسه..الهرب من العالم كله..
أخذ يضغط بقدمه على دواسة الوقود بقوة أكبر..وسرعة السيارة تزداد أكثر و أكثر..
***********
- هل العشاء جاهز ؟
قالها خالد ثم أمسك يد والدته وقبلها قبل أن يضيف: أنا أتضور جوعا..
ضحكت أم خالد ثم قالت له : قد حضرت على الغذاء وجبتك المفضلة.. لكنك لم تأت..
خالد وهو يتذوق من الطبق التي تعده والدته : تناولت وجبة الغذاء مع عادل بالخارج..
ضربت والدته يده بخفة لكي يبعده عن الطبق ثم قالت بابتسامة: سيكون الطعام جاهزا بعد دقائق..لا تستعجل..
هز خالد رأسه ثم اتجه خارجا من المطبخ وتوقف فجأة متذكرا شيئا..
ثم التفتت لوالدته قائلا: هل ليلى بغرفتها؟
اتسعت ابتسامة أم خالد ثم قالت : أظن ذلك..ماذا ..هل اشتقت إليها ..لأنك لم ترها اليوم؟
ضحك خالد و قال مازحا: أجل..لا تتصورين كم اشتقت إليها..
رفعت والدته حاجبيها وأخذت تتطلع إليه لوهلة قبل أن تقول: لم أعد أميز جدك من مزاحك..لكن أنت تعلم يا خالد..بالنسبة لي و لوالدك نحن مستعدون في أي وقت ل..
قاطعها خالد وهو يقول ضاحكا: أمي..أرجوك..قد كنت أمزح..
ثم غمز لها بعينه وهو يضيف: لكن أتعلمين..هناك شيء أريد منك أن تقومي به من أجلي..غدا..
نظرت له والدته باهتمام في انتظار لما سيقوله فأكمل خالد: هناك فتاة ستأتي عندنا غدا..وأريد منك أن تبادليها أطراف الحديث..وتتعرفي عليها..
كانت ملامح الدهشة تبدو على ملامحها فقال خالد ضاحكا: ماذا هناك..
ردت أم خالد باستغراب: ولماذا تريدني أن أتعرف عليها..
ثم عقدت حاجبيها وأضافت: أسمع يا خالد..صحيح أني لا أتدخل في علاقاتك مع كل الفتيات الطائشات التي تعرفهن..لكن أن تأتي بإحداهن للمنزل..وتطلب مني التعرف عليها أيضا..فهذا فيه تجاوز للمقبول بالنسبة إلي..هل هذا مفهوم؟
رد خالد بهدوء: أمي..أنا لست على معرفة بفتيات طائشات..قد قلت لك هذا ألف مرة..
أخذت والدته تحرك يدها بعصبية وهي تقول: لست أرميك بتهم يا خالد..بم تبرر عشرات الإتصالات التي تصلك كل يوم..
أطرق خالد برأسه فأكملت والدته وهي تتأمله بحنان: بني..أنا فقط أريد مصلحتك..لا أريد لإحداهن أن تشغلك عن دراستك ومستقبلك..
رفع خالد رأسه مبتسما ثم قال : لا تقلقي..أنا أعرف جيدا ما أفعله..
تنهدت والدته قائلة: أتمنى هذا..أخبرني إذن من هاته الفتاة التي تريدني أن أتعرف عليها..
رد خالد : إنها صديقة ليلى..
عقدت والدته حاجبيها وهي تقول بضيق: صديقة ليلى..أرجو أن لا تكون كمروى !
ضحك خالد قائلا: وما بها مروى..
زفرت والدته بحدة وهي تقول: لا أدري..لكني لا أستلطفها أبدا..إحساسي يخبرني أنها فتاة لعوب..
ابتسم خالد ..إحساس والدته صادق..مروى فتاة لعوب فعلا..وهو يعرف هذا جيدا..
سألته والدته باهتمام : ما اسم الفتاة التي ستزورنا غدا..
كان خالد يسترجع ما حدث له مع أمل بالمكتبة..
دائما ما كان يعتبر كل الفتيات متشابهات..لكن كل ما اقترب من أمل أكثر..كل ما شعر أنها تختلف عن كل من عرفهن..
غمغم خالد بصوت منخفض و ذاكرته لازالت تستعيد كل ما دار بينه و بين أمل: أمل يا والدتي..اسمها أمل..
**************
استلقت أمل على سريرها ثم وضعت حاسوبها الشخصي على حجرها و وكتبت : لا أدري يا ساره..هو من عرض علي المساعدة..وأنا فعلا بحاجة لمساعدته..لكن..
ظهرت كلمات ساره بعد ثواني على شاشة أمل..
ضحكت أمل وهي تقرأ : لكنك كعادتك تشكين في نواياه..وتتسائلين لمَ يا ترى يعرض علي المساعدة..وهل له أهداف خفية وراء عرضه هذا..أليس كذلك؟
كتبت أمل : أنت تفهمينني جيدا..
ساره: قد لزمني وقت طويل لأفهم شخصيتك المعقدة الغامضة هذه..
ابتسمت أمل وهي تكتب: يبدو أني مخطأة..ما دمت تقولين أني معقدة و غامضة..فأنت لا تفهمينني..
ساره : أمل..هو ابن عم صديقتك..وعرض عليك مساعدة..لا أرى في هذا ما يدعو للشك بتصرفاته..
عقدت أمل حاجبيها وهي تفكر في كلمات ساره..تبدو وجهة نظرها سليمة..لكن ساره لا تعرف كل شيء..
لم تخبرها أمل..أنا خالد يحولها لطفلة مرتبكة وخجولة..فقط.. إن وقعت نظراته عليها..
لم تخبرها أنها أصبحت تخشى الاقتراب منه أكثر..
لم تخبر أحدا بهذا..
فضلت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها..
في الحقيقة..حتى بينها وبين نفسها تُكذب هذه المشاعر..وتحاول أن تنفيها..
انتفضت أمل على وقع صوت هاتفها النقال..ألقت نظرة خاطفة على اسم المتصل ثم كتبت لساره بخفة: ساره سأخرج الآن..
أقفلت الجهاز ثم التقطت هاتفها وردت : كيف حالك يا ليلى..
ليلى بمرح كعادتها: بخير.. و أنت كيف حال؟
ردت أمل : الحمد لله بخير..
ليلى : خالد اخبرني أنك ستتصلين بي..لكنك لم تفعلي فبادرت أنا بالاتصال..
ابتسمت أمل ثم قالت : كنت سأتصل بك الآن..
ليلى: لا بأس.. خالد قال أيضا أنك ستأتين غدا عندنا..من أجل بعض الكتب..
صمتت أمل لوهلة ..عليها أن تقرر الآن..هل ستذهب أم لا !
طال انتظار ليلى لجواب فقالت : أمل..هل ما زلت معي؟
ردت أمل بسرعة : أجل..
ليلى: ماذا إذا..هل أنتظرك غدا..
قطبت أمل حاجبيها ثم قالت بهدوء: أجل..سأزورك صباحا..هل هذا يناسبك؟
ردت ليلى بنبرة سعيدة: طبعا يناسبني..
أمل وهي تقوم متجهة للشرفة : جيد إذا..
ليلى: علي أن أنهي الاتصال الآن يا أمل..أراك غدا..
قالت امل قبل أن تنهي الاتصال: أراك غدا..ليلة سعيدة..
ثم فتحت البوابة الزجاجية و اتجهت للحائط الفاصل بين شرفتها وشرفة غرفة سامي ..أخذت تطل وراءه..غرفة سامي مظلمة..يبدو أنه لم يعد بعد..
مرت نسمة هواء باردة جعلتها ترتعش..فعادت بسرعة لداخل الغرفة وأغلقت الباب ثم أسدلت الستائر..
رغم غضبها الشديد من سامي..إلا أنها قلقة عليه..قلبها يخبرها أنه ليس على ما يرام..
في هذه الأثناء بمنزل خالد وليلى..
كانت هذه الأخيرة ممسكة بهاتفها وتلوح به قائلة بفخر: ما رأيك بي..
عقد خالد ذراعيه على صدره قائلا ببرود : لا بأس..
رفعت ليلى حاجبيها ثم قالت بضيق: لا تجعلني أتصل بها لأخبرها أني لن أكون بالمنزل غدا..
ابتسم خالد بسخرية قائلا : لا تستطعين..
عقدت ليلى حاجبيها للحظة، ثم قالت : لا تجربني !
وابتسمت بخبث وهي تكمل: ما يهم الآن..أن كل شيء يسري وفق ما خططنا له !
********
فتحت أمل عينيها ببطء، نظرت للساعة على الحائط، إنها الثامنة و النصف، عليها أن تقوم الآن وتُجهز نفسها إن أرادت الوصول لمنزل ليلى بالموعد الذي حددته معها..
اعتدلت جالسة وهي تتثائب، لا زالت متعبة ..
تود لو أنها ظلت نائمة لساعة أو ساعتين إضافيتين..
قد قضت الليلة الماضية في إعداد بحثها..ولم تنم إلا بعد منتصف الليل..
أبعدت أمل الغطاء عنها ثم وقفت أمام المرآة ولفت شعرها الطويل بسرعة..
ابتسمت حين لاحظت تلك الهالات السوداء الخفيفة التي تحيط بعينيها وتمتمت قائلة: ها هي علامات الدراسة بدأت تظهر علي !
سيكون من الجيد فعلا إن وجدت بمكتبة خالد مراجع أخرى..
ابتسمت حين تذكرت ما حدث معه أمس..ثم رفعت يدها أمامها تتأملها..
وكأنها لازالت تشعر بقبضته القوية على معصمها..
هل ستراه اليوم بمنزله؟
أم أنه كما أخبرها لن يكون متواجدا هناك..
لا تدري هل تريد أن تراه أم لا..
شيء بداخلها يود أن يراه..ويجذبها نحوه..
وشيء آخر يود الهروب منه..ويخشى الاقتراب منه..
حركت أمل رأسها لتطرد عن ذهنها هذه الأفكار ..
ثم اتجهت للحمام ..
بعد نصف ساعة كانت تنزل الدرج بنشاط وحيوية .
ابتسمت لوالدتها الجالسة على المائدة، ثم قبلت رأسها حين اقتربت منها.. و جلست على كرسي قبالتها قائلة: أذهب والدي؟
ردت والدتها بابتسامة: أجل..هل تريدين قهوة؟
هزت أمل رأسها قائلة: القليل فقط..لا أريد أن أتأخر على ليلى..
أعطتها والدتها كوبا فأخذت ترشف منه بسرعة..
رن جرس الباب.. همت أمل أن تضع كوبها على المائدة و تنهض.. لكن والدتها أشارت لها أن تعود للجلوس و تكمل فطورها..
ثم قامت هي واتجهت نحو الباب وحين فتحته صدرت عنها شهقة..
كانت والدة سامي واقفة هناك....دموعها قد بللت وجهها كله..وجسمها ينتفض..كان مظهرها مرعبا..ينبئ بكارثة قد حدثت..
قالت أم أمل وهي تمسك ذراع أم سامي وتهزها: ما بك..ماذا هناك !؟
ردت أم سامي وهي تشهق بالبكاء: ابني..سامي..سامي.. يا أم أمل..
اتسعت عيون أم أمل ..تسارعت ضربات قلبها..بلعت ريقها بصعوبة.. ثم قالت بصوت مرعوب: ما به سامي..
تعالى صوت شهيق أم سامي وردت بصعوبة: سامي..تعرض لحادث بالسيارة..سأفقد ابني يا أم أمل !
في هذه اللحظة سمعت الاثنتين صوت شيء يرتطم بالأرض وينكسر..
كانت أمل واقفة خلفهما ..لم تكد تسمع عبارة أم سامي الأخيرة..حتى هوى كوب القهوة الذي كان بيدها على الأرض..
بدت على وجهها علامات الرعب الشديد ولسانها يردد : سامي..سامي..
جلست ليلى خلف المكتب، تفرك أصابعها بتوتر، نظرت لساعة يدها، قد تأخرت أمل عن موعدها كثيرا..
أخذت تتأمل ما حولها بملل، الغرفة مليئة بالكتب.. رفوف من الكتب يتوسطها هذا المكتب التي تجلس خلفه..
خالد لا يسمح لأحد بالاقتراب من غرفته هذه، وكأنه يحتفظ فيها بكنز ثمين..
كانت تشعر أحيانا بالفضول..فتتوسل إليه ليدعها تنظر ولو لثانية لما يوجد داخل هذه الغرفة، لكنه كان يرفض..
ابتسمت ليلى بسخرية، هاهي الآن داخلها، لكن لم تجد فيها ما يثيرها،وتشعر بالملل الشديد، بالإضافة إلى أنها تكره منظر الكتب، فقط النظر لهذا الكم الهائل منها يصيبها بالصداع..
زفرت بحدة ثم تمتمت: أين أنت يا أمل..
وعادت تنظر لساعة يدها قبل أن تمسك هاتفها النقال وهي تقول: لا أظنها ستأتي..الأفضل أن أخبر خالد..
ثم طلبت رقم خالد وقالت حين سمعت صوته : لدي أخبار لن تعجبك..
خالد: هاتي ما عندك ..
مطت ليلى شفتيها وقالت : أمل لم تحضر..
صمت خالد قليلا قبل أن يقول بصوت هادئ: هل اتصلت بك لتعتذر عن الحضور..؟
قامت ليلى من خلف المكتب ثم خرجت من الغرفة وأغلقت الباب وراءها قائلة: أبدا..
عاد خالد لصمته فقالت ليلى : هل تريد مني أن أتصل بها..وأعرف سبب عدم مجيئها؟
رد خالد ببرود: لا..إياك أن تفعلي هذا..
شعرت ليلى بالضيق في صوت خالد فقالت بمرح : عموما..لا أعتقد أن أي فتاة قد ترفض دعوتك لها..إلا إذا كانت غبية..
وصمتت قبل أن تضيف: أو أن لها عذرا ..وبما أن أمل ليست غبية..فمن المؤكد أن لها عذرا مقنعا..فلا تتضايق يا خالد..
ضحك خالد، لكن ضحكته كانت باردة كنبرة صوته وهو يقول: لست متضايقا..لكن من التهذيب أن تعلمك بأنها لن تحضر..كل ما أردناه هو مساعدتها..وليس من اللائق أن تعاملنا بهذا الشكل..
ابتسمت ليلى بخبث ثم قالت : خالد..هل أنت واثق من أن كل ما أردته كان مساعدتها فقط!؟
رد خالد بهدوء: .حتى و إن كان هناك أكثر من رغبتي في مجرد مساعدتها..لم يعد هذا مهما..قد أضاعت صديقتك الفرصة بتصرفها هذا..و أنا لست مِن مَن يمنحون فرصا كثيرة !
**************
ابتسمت أمل وهي تقول لوالد سامي: بإمكانك الذهاب الآن يا عمي.. أنت متعب.... سأظل أنا هنا..
كان يبدو على والد سامي التعب و الإنهاك فعلا.. إلا أنه أجاب أمل وهو يسترق النظر لداخل الغرفة المغلقة من نافذة صغيرة على الباب: أريد أن أكون موجودا حين يستيقظ..
التفتت أمل هي الأخرى متطلعة لداخل الغرفة..سامي مستلق على السرير دون حراك..الضمادات البيضاء تلتف حول رأسه..لولا أنهم أخبروها بأنه حي..لظنت أن الحياة قد فارقت هذا الجسد القوي..
كان يوما عاديا..لا تدري كيف انقلب إلى كابوس..ولا تدري كيف وصلت برفقة والديها و والدة سامي إلى المستشفى..
كل ما تعرفه هو أنها كانت تشعر بأنفاسها تختنق..لا تتصور أن يتركها سامي..لا تتصور حياة من دونه..كيف سيعيشون جميعا من دونه..
بالطريق إلى المستشفى..لم تنفك ذكرياتها معه تمر من أمام عينيها..
سامي الفتى الذي علمها أن تخشاه منذ رآها أول مرة..
ومن علمها أيضا أن لا تخشى شيئا بهذه الدنيا إن كانت بقربه !
الفتى الذي كان يفعل المستحيل ليرى عينيها الدامعتين..فقط ليخبرها كم هي جميلة حتى وهي تبكي..وفقط ليفعل المستحيل من أجل أن يجعلها ترضى عنه و تسامحه ثانية !
لَمْ تصدق حين سمعت والدته تقول بأنهم سيفقدونه..حتى وهي ترى رد فعل والدتها الهستيري..حتى وهي ترى نحيب والدته..وعيون والدها الدامعة وهو ينتظرهم بالخارج ليوصلهم للمستشفى..لم تصدق..
كانت تردد مع نفسها بأن ما يحدث..لا يعدو أن يكون مجرد كابوس..وستستيقظ منه..لن يفقدوا سامي..لا تستطيع تصديق هذا..
حين وصلوا للمستشفى..تركت والديها ووالدة سامي يهرعان للطبيب..كان هذا الأخير واقفا برفقة والد سامي..ظلت بعيدة عنهم ..وكأنها تخشى سماع شيء يؤكد لها بان ما يحدث واقع..وبأنها لن ترى سامي ثانية..
إلا أن صوت شهيق والدتها العالي المختلط بعبارة : الحمد لله..
جعلها تسرع الخطى نحوهم ..الطبيب يقول بأن حالة سامي مستقرة..سامي سيعيش..
أجل سامي سيعيش..ضربات قلبها المتسارعة كانت تخبرها بهذا..
انتفضت أمل حين أخذ والد سامي يهزها من ذراعها وهو يقول: أمل..أمل..ما بك؟
تنهدت أمل ثم قالت: لا شيء عمي..
زفر والد سامي بحدة وقال: أنت من عليها العودة للمنزل..كان عليك الذهاب مع والدتك وخالتك حين ذهبتا..
عادت أمل تتنهد بعمق قبل أن تقول: لا يا عمي..أنا لن أتحرك من هنا..اذهب أنت و استرح..
أخذ والد سامي يمسح قطرات عرق تتصبب على جبينه قائلا: لم توافق خالتك على الذهاب إلا بعد أن أكدت علي بأن أظل هنا..
ابتسمت أمل قائلة: أخبرها بأن الطبيب هو من طلب منك المغادرة..كما طلبها منهما..
بادلها والد سامي الابتسامة قائلا: طلب منهما هذا..لحدة صراخهما..
هزت أمل كتفيها وقالت : أخبرها أنك كنت تصرخ أيضا !
اتسعت ابتسامة والد سامي و ظل يتطلع لأمل..ثم فجأة ..اغرورقت عيناه بالدموع..فأطرق برأسه و مرر يديه على عينيه بسرعة قبل أن يرفع رأسه قائلا : أتعلمين..أنت تشبهين سامي ..
قطبت أمل حاجبيها ثم قالت مازحة : عمي..هل ما حدث سبب لك صدمة..والصدمة أثرت على سلامة عينيك..أي شبه هذا بيني و بين سامي !
ضحك والد سامي قائلا: تشبهينه في هذا مثلا !
ثم توقف عن الضحك ..و تغيرت ملامحه وهو يردف بحزن : سامي كان يحب المزاح..حتى في أحلك الظروف..كان يحب أن يرسم ابتسامة على وجوه الجميع..
تجمدت ملامح أمل ثم قالت بتوتر: لا تقل.. كان..
وابتسمت بصعوبة وهي تكمل: سامي بخير..وسيعود كما كان..وأفضل من ما كان أيضا !
هز والد سامي رأسه قائلا: إن شاء الله يا ابنتي..إن شاء الله..
ثم صمت قليلا قبل أن يردف: يبدو أني سأذهب للمنزل فعلا..على الأقل لأطمئن على حال خالتك ووالدتك..لم تكونا بخير حين غادرتا..لكني سأعود سريعا..
عادت أمل تتطلع لداخل الغرفة وهي تقول: حسنا يا عمي..
ثم التفتت إلية قائلة: أطلب من والدتي أن تعطيك هاتفي النقال وأنت عائد..تركته بالمنزل..
هز والد سامي رأسه موافقا ثم ابتعد بخطى متثاقلة..
فتحت أمل باب الغرفة بهدوء ثم دخلت و أغلقتها وراءها..ظلت واقفة بمكانها للحظات..تتطلع لسامي..ثم اقتربت من سريره وجلست على كرسي بجانبه..
من الصعب أن ترى شابا بنشاط ومرح سامي..خائر القوى..لا حول له ولا قوة ..راقدا على هذا السرير..محاطا بكل هذه الأجهزة والأنابيب..
سامي يبدو كالميت..
قامت أمل من مكانها بتوتر.. اقتربت من سامي أكثر.. قربت أذنها من وجهه..تنهدت بارتياح حين شعرت بأنفاسه..
عادت للكرسي..وعيونها تتأمله..أتراه يحلم الآن؟
أمسكت يده ووضعتها بحنان بين يديها..ثم عادت تتأمله..بم يحلم يا ترى؟
بهذه اللحظة ..انتفضت أمل .. رفعت حاجبيها بدهشة وهي تتطلع لأصابع سامي.. التي تضغط بوهن شديد على يدها..
***********
لم تتوقف سلمى عن البكاء منذ أنهت ذاك الاتصال مع والدتها..
سامي تعرض لحادث..وهو راقد بالمستشفى الآن..والدتها أخبرتها بأن حالته مستقرة، و بأن الأطباء طمئنوهم عليه..إلا أنها لم تصدقها..ماذا لو كانت حالته خطيرة..ماذا لو كانت والدتها تخفي عنها شيئا !
رفعت سلمى عينيها وقالت بصوت مخنوق مخاطبة زوجها الجالس بجانبها : أحمد..علي أن أرى سامي..لا أستطيع أن أضل هنا و أنا لا أدري ما يحدث هناك..
قطب أحمد حاجبيه قائلا: عليك أن تري سامي..ماذا تقصدين؟
ظلت سلمى تتطلع إليه بعينيها المحمرتين دون أن ترد..
فأردف أحمد بهدوء: سلمى..تعلمين أن ظروف عملي صعبة ..لن أستطيع السفر..
أخذت سلمى تلوح بكفيها وهي تقول بعصبية: لا تهمني ظروف عملك الآن..ما يهمني هو أخي..
وصمتت قليلا قبل أن تكمل بعبارات مخنوقة : أخي الذي لا أعلم إن كان يحتضر الآن أم ماذا !
ثم أجهشت ثانية بالبكاء..فاقترب منها احمد وضمها إليه ثم أخذ يمسح على شعرها بحنان وهو يقول: ما كان على والدتك أن تخبرك بأي شيء..لا تقلقي يا سلمى..سامي سيكون بخير..
أخرجت سلمى نفسها من بين ذراعي أحمد وهي تقول: من يدري..ربما تكون أمي لم تخبرني بالحقيقة..من يدري ..
أطرق أحمد رأسه ثم رفعه ثانية قائلا: لكني لن أستطيع السفر يا سلمى..هل تفهمين..
قامت سلمى واقفة بحدة ثم قالت بعصبية شديدة: لا ..لا أفهم..لا أفهم يا أحمد..كل ما أفهمه هو أنه علي أن أكون بجانب أخي..هل تفهم أنت هذا !؟
***********************
توقف عادل بالسيارة أمام الإشارة الحمراء ..ثم التفتت إلى خالد الجالس بجانبه قائلا بسخرية: أخيرا..جاء اليوم الذي أرى فيه خالد محتارا بسبب فتاة..اعترف يا صديقي..هذه الفتاة هزمتك..
أجابه خالد ببرود دون أن يلتفت إليه : هزمتني..لمَ..هل أخوض معها حربا؟
ضحك عادل و انطلق بسيارته ثانية ثم أجابه: أجل..حرب..وللآن أرى أنك المنهزم فيها..فلم لا تعترف..
تطلع إليه خالد بنظرات باردة ثم عاد يتأمل الطريق أمامه قائلا : ليس لدي ما أعترف به..على عكسك..فلم لا تعترف أنت..
رفع عادل حاجبيه ثم قال ضاحكا: أعترف أنا..وبم يا ترى؟
أجابه خالد بابتسامة هادئة: بأنك هناك فتاة هزمتك..
قطب عادل حاجبيه ثم ابتسم بسخرية قائلا: هل تقصد ذلك اليوم الذي ذهبت فيه للحديث مع أمل..في محاولة للتعرف إليها.. و صدتني..أظن أنني قد اعترفت بفشلي معها..
وتنحنح قبل أن يضيف: رغم أن اعترافي هذا كان تواضعا مني..لو تركتني ..لكنت كررت المحاولة..ولكنت وصلت لما أريد..
حرك خالد رأسه في عدم موافقة على كلام عادل ثم قال بهدوء: أنت مخطئ..حتى لو أنك ظللت تكرر المحاولة تلو الأخرى..لم تكن لتصل لأي شيء مع أمل..تأكد من هذا..
ثم ابتسم قبل أن يضيف : ثم أنا لم أقصد أمل ولا ذاك اليوم..حين قلت أن هناك فتاة هزمتك و لم تعترف بهذا للآن..
رمقه عادل بنظرات متسائلة فأكمل خالد : ليلى..
عقد عادل حاجبيه..ثم قال بضيق: قلت لك ألف مرة..ليس هناك أي شيء بيني و بين ليلى..ولم يكن هناك يوما أي شيء..
ابتسم خالد بسخرية ثم قال: أعلم هذا..هي ابنة عمي و أنت صديقي..لو كان هناك شيء لعرفته..وهذا هو المشكل..أنه ليس هناك أي شيء..لذا أقول أنها هزمتك..وإن كنت أنت لا تريد الاعتراف..
قال عادل بتوتر: خالد..ما هذا الكلام الذي تقوله..أنا لم أحاول يوما الاقتراب من ابنة عمك يا صديقي..لتقول أنها هزمتني..ثم أنا لا أستطيع حتى التفكير في محاولة الاقتراب منها..أولا احتراما لك..ثانيا.. ليلى ليست مجرد فتاة بالنسبة إلي..أنا أعرفها منذ كانت طفلة..
ظل خالد يتطلع لعادل للحظات قبل أن يقول: و أنا أعلم هذا أيضا..
رد عادل باقتضاب: جيد أنك تعلم..
ساد الصمت لثوان بين الاثنين إلى أن قطعه عادل قائلا: لم أكن أتوقع من ليلى الموافقة على مساعدتك في التقرب من أمل..
التفتت إليه خالد متسائلا: ولمَ لمْ تتوقع هذا؟
رد عادل بابتسامة: لأن والدتها إن علمت..ستقيم الدنيا فوق رأسها ولن تقعدها..
ضحك خالد قائلا: أنت محق..
زفر عادل ثم قال بنبرة متوترة حاول أن يخفيها قدر المستطاع: إذن ليلى غير موافقة على ما يدور بذهن كل من والديها ووالديك..أليس كذلك؟
ابتسم خالد قائلا: وهل يهمك إن كانت موافقة أم لا..
تزايد توتر عادل..قال وهو يشد قبضة يده أكثر على مقود السيارة: لا..أبدا..قد كان مجرد سؤال..
ضحك خالد فرمقه عادل بنظرات متضايقة قائلا: لمَ تضحك..
هز خالد كتفيه قائلا: لا شيء..
وأخذ يتطلع للطريق من خلال نافذة السيارة ..ثم التفتت لعادل قائلا بهدوء: هذه هي مشكلتك..أنك لا تريد الاعتراف..أنا أقرب أصدقاءك.. لذا أنا أقدر الناس على فهم تصرفاتك..لكني لا أظن أن ليلى ستفهم أو تعرف شيئا ما دمت لم تخبرها..ما دمت لم تعترف حتى لنفسك..
كانت هذه الكلمات تنزل كالصاعقة على عادل..الذي تجمدت ملامحه و هو يركز ناظريه على الطريق أمامه..
صمت خالد للحظة ثم أردف: أنت يا صديقي في حالة إنكار..وكل ما أخشاه هو أن تستفيق من حالة إنكارك هذه لتجد أن الأوان قد فات للاعتراف بأي شيء..
*****************
لوحت ليلى بيدها لكل من مروى و وفاء وهي تدخل باب المقهى، ثم ضربت مروى بخفة على ذراعها وانضمت إلى طاولتهما قائلة : هل تأخرت عليكن يا فتيات؟
نظرت وفاء للساعة بيدها ثم رفع عينيها لليلى وهي تجيب: لا..لم تتأخري..
والتفتت لمروى وهي تردف: أليس كذلك؟
لم تبالي مروى بسؤال وفاء ونظرت لليلى ثم قالت بلهجة جافة: ألم تقولي أنك تنتظرين شخصا سيزورك اليوم بالمنزل..وبأنك لن تستطيعي مرافقتنا؟
هزت ليلى رأسها موافقة وردت : أجل..لكن من كنت أنتظره لم يحضر..
زمت وفاء شفتيها وهي تقول بفضول: لم تخبرينا.. من يكون؟
عقدت مروى حاجبيها وهي تقول بحدة: وما الذي كانت ستفعله عندك..
التفتت وفاء لليلى وأعادت بلهجة آلية: صحيح..ما الذي كانت ستفعله عندك..
ضحكت ليلى ورفعت حاجبيها قائلة: ماذا هناك..إنها صديقتي..يمكن أن تزورني في أي وقت..ودون أي سبب محدد..
ثم عادت تتطلع لمروى وهي تضيف: لأقول الحقيقة فقط..اليوم كان هناك سبب من وراء مجيئها..فخالد..عرض عليها المساعدة في إعداد أحد بحوثها..
رفعت مروى حاجبيها بدهشة ..ثم قالت في عدم تصديق لما سمعته: خالد..يساعدها في بحث..
حركت ليلى رأسها دون أن تجيب..
فقالت مروى بغضب: كنت أعلم هذا منذ البداية..أنت تساعدينه ليتقرب منها.. أليس كذلك..
وفاء انكمشت في مقعدها..ترعبها مروى عندما تغضب..بينما أخذت هذه الأخيرة تلوح بسبابتها أمام وجه ليلى وهي تضيف : وتقولين بأنك صديقتي..كيف تتجرئين على فعل هذا بي !
أمسكت ليلى يد مروى و أبعدته من أمام وجهها قائلة بهدوء وكأنها لم تتأثر بغضب مروى: لم افعل بك شيئا..ليس هناك أي شيء يربطك بخالد..فلا أظنني قد خنت صداقتك..فكفاك تشدقا بكلام لا تعرفين معناه..
كان صدر مروى يعلو و ينزل من شدة غضبها..مررت أصابعها بتوتر على شعرها القصير..ثم قالت : أنت التي تتشدق بما لا تعرفه..خالد على علم بمشاعري إتاجهه..قد اعترفت له..ولم يقم بأي رد فعل سلبي يبين رفضه لهذه المشاعر..
ابتسمت ليلى بسخرية قائلة: كما أنه لم يقم بأي رد فعل إجابي يبين ترحيبه بها..
قطبت مروى حاجبيها بضيق فأكملت ليلى: ما لا تفهمينه هو أن خالد..لا يفكر فيك و لن يفكر فيك يوما..لكنه رغم ذلك لن يصارحك بهذا..لا أدري لم..
ورفعت حاجبيها بسخرية قبل أن تضيف: ربما شفقة عليك و خوفا على مشاعرك..
كانت مروى تتمعن ليلى بحقد..فهي أدرى الناس بصدق هذا الكلام..لكنها لا تريد سماعه من أحد..
أطرقت برأسها قائلة: لا يهم..إن كان يشفق علي فقط..المهم أني كنت أعلم بأن قلبه خال من أية مشاعر لفتاة أخرى..
وعادت ترفع رأسها قائلة بغل: لكن أمل هذه..أصبح اهتمامه بها كبيرا..وكل ما أخشاه..
قاطعت وفاء مروى و وخرجت أخيرا من صمتها قائلة: ما تخشاه هو أن يكون خالد واقعا بحب أمل !
التفتت إليها مروى بحدة ورمقتها بنظرات جعلتها تعود لتنكمش بمقعدها..بينما صدرت عن ليلى ضحكة خافتة..وفاء تصمت و تصمت..لكن حين تتحدث..يتلفظ لسانها بكلام تندم عليه..
قالت مروى بثقة غريبة: لن يحدث هذا أبدا يا وفاء..أنا قادرة على منعه..تأكدي من هذا..
أخذت ليلى تتطلع لمروى مستغربة هذه الثقة بنبرة صوتها ..ثم لوحت بيدها قائلة لتغير دفة الحديث: هل طلبتن شيئا من النادل..أم أطلب لنا جميعا..
ردت مروى بهدوء: لا..لم نطلب شيئا..كنا ننتظرك..
و صمتت للحظة قبل أن تكمل: وننتظر خالد و عادل أيضا..أتصل خالد بي منذ قليل..هما في الطريق إلى هنا..
بدا الضيق على ملامح ليلى وهي تقول: عادل ثانية..يا الهي ألا يمكنني الذهاب لأي مكان دون أن أراه..
ابتسمت وفاء قائلة: من يسمعك قد يصدق أنك لا تريدين رؤيته !
نظرت إليها ليلى قائلة بحدة : ما الذي تقصدينه !؟
اتسعت عيون وفاء بخوف من ردة فعل ليلى .. فأجابتها مروى بابتسامة : ما تقصده واضح يا ليلى..تصرفاتك لا تخدع أحدا..كلنا يعلم أن..
قاطعتها ليلى قائلة : مروى..إياك و الحديث في هذا الموضوع..تعلمين كيف أصبح إن غضبت..فلا تجعليني أغضب ولا تفسدي علي يومي..
ثم اعتدلت بجلستها قبل أن تردف: أخبريني لمَ لمْ تحضر أمل لمنزلك..
مطت ليلى شفتيها قائلة: لا أدري..خالد طلب مني أن لا أتصل بها لأعرف السبب..لكني قلقت عليها وحاولت الاتصال بها..
ابتسمت مروى بسعادة قائلة: جيد انه لا يريد أن يعرف سبب عدم مجيئها..
نظرت ليلى أليها بسخرية فقالت مروى بضيق: ما بك..من حقي أن أفرح لهذا..
حركت ليلى رأسها بيأس ..مروى هي مروى..لن تتغير..
ثم ابتسمت ملوحة بيدها لخالد الذي يدخل برفقة عادل من باب المقهى..
التفتت وفاء للمكان الذي تلوح إليه ليلى ثم قالت بسرعة: أخبرينا قبل أن يصل خالد..ماذا قالت لك أمل حين اتصلت بها..ما سبب عدم مجيئها؟
ردت ليلى عاقدة حاجبيها وهي تتطلع لعادل الذي كان يلوح لها بطريقة مستفزة: لم ترد على اتصالي..لا أدري ما بها..
**********
فتح والد سامي باب الغرفة بهدوء، ثم دخل و ابتسم لأمل قائلا: ألم يستيقظ بعد؟
حركت أمل رأسها نفيا وهي تقول: لا..
ثم تطلعت لسامي وهي تضيف: لكنه حرك أصابعه..
اتسعت ابتسامة والد سامي ووقف أمام ابنه يتطلع إليه للحظات..ثم أخرج الهاتف النقال من جيبه قائلا لأمل : ها هو هاتفك..
أمسكته أمل قائلة: شكرا عمي..كيف حال والدتي و خالتي..
زفر والد سامي قائلا: هما بخير..لكنا تعبنا مع والدتك لنجعلها تكف عن البكاء..لم أرى أرق ولا أطيب من قلب والدتك..
ابتسمت أمل ثم قالت: إنها تحب سامي كثيرا..
و اتسعت ابتسامتها وهي تنظر لسامي مردفة: أتعلم يا عمي..كنت أغار من سامي و أنا صغيرة..كنت أظنها تحبه أكثر من ما تحبني..
ابتسم والد سامي قائلا: أعلم..لكن كلكم أولادنا جميعا..ومحبتكم عندنا واحدة..أنت وسامي و سلمى..
ثم استدار خارجا من الغرفة وهو يقول: سأذهب لأتحدث للطبيب..حاولي أن ترتاحي أنت أيضا..اذهبي لمقهى المستشفى و تناولي شيئا..لم تأكلي منذ الصباح..
ردت أمل بهدوء: لن أترك سامي وحده..ولست أحس بجوع أو تعب..فلا تقلق علي..
هز والد سامي كتفيه باستسلام قائلا : كما تريدين يا ابنتي..كما تريدين..
ثم خرج..
لم يكد باب الغرفة يغلق حتى فُتح ثانية..ودخلت ممرضة وعلى وجهها ابتسامة عريضة..نظرت لأمل وحيتها قبل أن تقول: هل أنت أخته..
ردت أمل: لا..لست أخته..
زاد ابتسامة الممرضة اتساعا وهي تهز رأسها بتفهم..ثم أخذت تعاين سامي..
ظلت أمل تراقبها للحظات قبل أن تقول: متى سيستيقظ..
ردت عليها الممرضة دون أن تنظر إليها: في أية لحظة..
ثم تطلعت لأمل وهي تضيف: سيكون بخير..اطمئني..
ابتسمت أمل بارتياح..فبادرتها الممرضة قائلة: هل أنت أمل؟
تطلعت أمل للممرضة بدهشة وقالت: كيف عرفت اسمي..
أشارت الممرضة لسامي ثم قالت بابتسامة: منه..
زادت علامات الدهشة على وجه أمل وهي تقول: لست أفهم..كيف.. منه..
ابتعدت الممرضة عن السرير بعد أن أنهت عملها، ثم وقفت أمام أمل قائلة: قد كنتُ متواجدة حين أتى المسعفون بصديقك..كان غائبا عن الوعي..قالوا أنه نجا بأعجوبة..لقد تعرض لحادث ليلا..لكن الطريق الذي وقعت فيه الحادث طريق ناء على حدود المدينة..تقل فيه السيارات المارة..لذا لم يجدوه إلا صباحا..كان قد نزف كثيرا..إذ أنه كما يبدو قفز من السيارة قبل أن تنقلب وتهوي في تلك المنحدرات الجبلية..واصطدم رأسه بصخرة..المسعفون قالوا أنه محظوظ لأنه نجا من حادث كهذا..
كانت أمل تستمتع لكلام الممرضة وهي تتأمل سامي بحزن..
لاحظت الممرضة هذا فقالت لتطمئنها: لا تقلقي عليه..الإصابة برأسه ليست خطيرة..كذلك الردود على جسده..سيتعافى بسرعة..
ثم ابتسمت لأمل وهي تردف: المهم..قد توقعت أنك أمل..لأن أحد المسعفين أخبرني أنهم حين عثروا على صديقك..لم يكن فاقدا للوعي تماما.. و أنه كان يردد اسم أمل..
رفعت أمل حاجبيها بدهشة وهي تتمتم: كان يردد اسمي !
هزت الممرضة رأسها و ابتسمت بجدل قائلة: أجل..كان يردد اسمك..
ثم اتجهت خارجة من الغرفة وهي تضيف: أراك لاحقا يا أمل..
حولت أمل نظراتها المندهشة من الباب إلى سامي..ثم أمسكت بيده..وأخذت الابتسامة ترسم على شفتيها وتتسع شيئا فشيئا..
ظلت ممسكة يده وقد ابتعدت بها أفكارها بعيدا..
وفجأة.. شعرت بأنامله التي تضغط على يدها..رفعت عينيها متطلعة لوجهه فإذا بها تجده ينظر إليها..و يبتسم قائلا بضعف شديد: هل أنا أحلم؟
ضحكت أمل وهي تتطلع إليه بسعادة..
رمق سامي يدها التي تمسك يده بقوة وهو يقول: يبدو أنني فعلا أحلم..
ابتسمت أمل برقة قائلة: لا..لست تحلم..الحمد لله على سلامتك..
حاول سامي أن يرفع رأسه لينظر للمكان حوله.. إلا أنه تأوه بألم..فأخذ يتحسس رأسه بيده ثم قال: ما الذي حدث؟
ردت أمل وهي تنظر إليه بلوم: ما حدث هو أنك جعلتنا جميعا نكاد نموت خوفا عليك..أنت بالمستشفى الآن..تعرضت لحادث..
نظر سامي إليها باستغراب..ثم بدا عليه أنه تذكر ما حدث..فابتسم قائلا: وما دمت بالمستشفى..ولم أكد أستيقظ..ألا ترين أنه ليس بالوقت المناسب للومك لي !
هزت أمل رأسها ثم قالت : أجل..أنت محق..
حاول سامي أن يقوم من السرير فتأوه ثانية من الألم..كل ذرة من جسده تألمه الآن..
سحبت أمل يدها من يده بسرعة و قامت مانعة إياه من الحراك وقالت: ما الذي تظن أنك تفعله !؟
رد سامي بوهن : أريد أن أجلس فقط..
عقدت أمل حاجبيها قائلة: لا..ممنوع..عليك أن تظل مستلقيا..فجسدك يحتاج للراحة..
ظل سامي يتطلع إليها قليلا قبل أن يقول: سأعود لأستلقي إن أعطيتني يدك ثانية و تركتها كما كانت حين فتحت عيني..
نظرت أمل إليه بدهشة..ثم عادت للجلوس على الكرسي و ابتسمت قائلة: الآن أنت تحلم يا سامي !
لم يستطع سامي منع نفسه من الضحك..أخذ يزم شفتيه من الألم الذي يسببه له ضحكه..وقال : هل والداي هنا؟
ردت أمل بهدوء: عمي هنا..أما خالتي فقد منعها الطبيب من البقاء بالمستشفى..و منع والدتي من البقاء أيضا..
كان سامي يتأمل ملامح أمل..لكن ذهنه كان قد سافر بعيدا..
أمل شعرت بغرابة في نظراته إليها فقالت : لم تنظر إلي هكذا؟
أجاب سامي وهو لم يبعد نظراته عنها: هل أخبرك بشيء؟
قالت أمل : أخبرني طبعا..
صمت سامي قليلا ثم قال وهو ينظر لعينيها مباشرة: قد كنت معي منذ قليل..
نظرت أمل إليه غير فاهمة..فأضاف سامي: كنت معي..برفقتي..بالحلم..
قطبت أمل حاجبيها قائلة: لا أفهم..
أبعد سامي عينيه عنها للحظة..ثم أعادهما وهو يقول بنظرات ثابتة: أمل..أريد أن أعترف لك بشيء مهم..شيء كان يجب علي أن أعترف لك به منذ زمن..
قالت أمل بتوتر: بدأت تقلقني يا سامي..تكلم..ماذا هناك..
في هذه اللحظة فتحت باب الغرفة..
ودخل منها حسام..وابتهجت ملامح وجهه حين رأى أن سامي مستيقظ ويتحدث أيضا.. فقال بسعادة: ولمَ إذا أخبروني بأني لربما لا أراك ثانية !
ضحك كل من سامي و أمل وقالت هذه الأخيرة : لا بد أنها خالتي من تحدثت إليك..
ثم قامت واقفة و نظرت لسامي قائلة: سأتركك مع صديقك الآن..وأذهب لأخبر عمي بأنك استيقظت..
ثم استدارت لتنصرف إلا أن سامي أمسك بيدها ..و حين التفتت إليه قال : عودي بسرعة..أريدك معي هنا..
ابتسمت أمل برقة ثم قالت : لا تخف..لن أتركك..أحمد الله لأنك بخير..قد دعوت الله ألا يجعلني أفقدك يا سامي ..أنت أخي الوحيد..
ثم أفلتت يده و خرجت من الغرفة..تاركة سامي.. الذي ابتسم بسخرية على نفسه..
جلس حسام على الكرسي وهو يقول: الحمد لله على سلامتك يا صديقي..قد كدت أفقد صوابي حين حدثتني والدتك على الهاتف..حتى أني كنت سأتسبب لنفسي بحادث في الطريق للمستشفى..وكنت سأنضم إليك على أحد هذه الأسرة..
ابتسم سامي قائلا: لا تقل هذا..وأنا بخير الآن..لا تقلق..
بادله حسام الابتسامة ثم قال: الحمد لله..لكن أخبرني..شعرت و كأني قطعت عليك حديثا مهما حين دخلت..أعتذر إن كنت قد فعلت هذا..
ضحك سامي بصعوبة ثم قال: بل قل أنقذتني من ارتكاب خطأ جسيم..
عقد حسام حاجبيه متسائلا: كيف؟
رد سامي بهدوء: كنت سأعترف لها بمشاعري اتجاهها يا حسام..في اللحظة الذي دخلت فيها..
حسام : ولمَ تقول أنه خطأ جسيم..
تنهد سامي وقال : أولا لأني كنت سأخلف الوعد الذي قطعته للجميع..لوالدي..ولوالديها..كنت سأخون ثقتهم جميعا..ثانيا..
وابتسم بألم قبل أن يكمل: ألم تسمعها وهي تقول أخي الوحيد..
أطرق حسام برأسه قائلا: ظننتك قد تجاوزت هذا الموضوع..
عاد سامي يتنهد بعمق قائلا: وهذا ما ظننته أنا أيضا..لكني الآن أعلم أني لن أستطيع تجاوز ما أكنه لأمل أبدا..
وأغلق عينيه وهو يضيف: كانت معي يا حسام..بمكان لا يوجد فيه سوانا..ابتسامتها وهي تهمس لي أنها لن تكون يوما لغيري لازالت عالقة بذهني..لازالت تترائى أمامي ..أعلم الآن أن كل ذاك كان مجرد حلم..لكني لم أشعر يوما بالسعادة التي شعرت بها وهي بجانبي..ذلك الشعور ليس حلما..لا زلت أستطيع الشعور به للآن..
ثم فتح عينيه بغتة وهو يضيف: أعلم أنه مجرد حلم..لكني سأعيش عمري على أمل أن يتحقق ذلك الحلم يوما..على أمل أن تكون أمل..لي !
الجـزء الثـالـث عـشـر..
-13-
العودة للماضي..
****************
دخلت أم أمل المنزل، واتجهت للدرج صاعدة لغرفتها..إلا أن صوتا من ورائها أوقفها قائلا: كيف حال سامي؟
استدارت أم أمل و ابتسمت لزوجها قائلة: الحمد لله..أفضل بكثير..أحمد الله و أشكره..
اتجه والد أمل نحوها ثم أمسك يدها وهو يقول: الحمد لله..هل أمل لازالت هناك؟
هزت أم أمل رأسها قائلة: أجل.. أتعلم..لم أكن أتوقع من أمل أن تتصرف معه هكذا..جاءت أمس للمنزل لأقل من ساعة..ثم عادت للمستشفى ثانية..ترفض أن تتركه..
قال والد أمل : ولم لم تتوقعي هذا..أظن أن ما تفعله شيء طبيعي..
نظرت إليه أم أمل بقلق فأردف قائلا: أعلم ما تخشينه..لكني أرى أنها تتصرف انطلاقا من مشاعر أخوية تحسها تجاه سامي..أما بالنسبة إليه..فأنا أثق بكلمته..وقد قال أنه لن يفكر فيها يوما إلا كأخت..
وأخذ يربت على يدها مكملا: أرجو منك أن تتوقفي عن قلقك هذا..فقد انتهينا من هذا الموضوع..وللأبد..
تنهدت والدة أمل قائلة: أتمنى هذا..المهم الآن أن سامي بخير..
وصمتت قليلا قبل أن تستطرد: متى سنسافر لمدينتنا؟
أطرق والد أمل برأسه لثوان ثم رفعه قائلا: لا أرى بدا من سفرنا هذا..قد تركنا خلفنا هناك كل الماضي..وفتحنا صفحة جديدة هنا..بهذه المدينة.. بالإضافة إلى أنك مريضة..أخشى عليك الذهاب ومواجهة ذكريات عشت كل سنوات عمرك الماضية في محاولة نسيانها..لا أرى أي نفع من العودة و إيقاظ أشياء قد ماتت منذ زمن..
قالت والدة أمل برجاء: لكني نذرت أني سأعود إلى هناك..وأصلح من أخطاء الماضي ما يمكن إصلاحه..إن شفي سامي..وسامي بخير..علي الوفاء بالنذر الذي نذرته..
أخذ والد أمل يتمعنها فأردفت بسرعة: ولا تقلق علي..سأكون بخير..ما حدث قد طوته السنوات..قد نسينا نحن ما حدث..وأظن أن من تركناهم هناك قد نسوا أيضا..
قال والد أمل وهو يهز رأسه بيأس: كما تريدين..سنذهب..لكن ماذا سنقول لأمل..
ابتسمت أم أمل بسعادة وهي تقول: سنخبرها أن هناك صفقة بعملك تستدعي سفرك لأيام..وأني سأرافقك..
ظل والد أمل يتطلع لملامح السعادة على وجهها للحظات قبل أن يقول: قلبي ينبئني بأن عودتنا هذه لن تجلب خيرا..لست أرى خيرا في نبش ماض لم نرى فيه إلا التعاسة و الألم..
**************
اجتازت ليلى الحديقة بخطوات سريعة، وما كادت تدلف لداخل المنزل حتى بدأت تصرخ قائلة: خالد..خالد !
بعد ثوان ظهر خالد أعلى الدرج وأخذ يضرب كفا بكف وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله..ما بك تصرخين كالمجنونة !
وضعت ليلى يدها على خصرها وعقدت حاجبيها قائلة: مجنونة لأني أحمل أخبارا ستفرحك؟
رد خالد ببرود: لا أدري يا ابنة عمي..لم اعتد أن تأتيني منك أخبار تفرح !
ثم استدار عائدا إلى غرفته وهو يردف: تعالي لنتحدث بغرفتي..
صعدت ليلى الدرج مسرعة ثم تبعته لداخل الغرفة و ارتمت على أقرب مقعد وجدته لاهثة وهي تقول: قد التقيت بصديقة أمل اليوم بالجامعة..سارة..
جلس خالد قبالتها ثم قال : وما يهمني من هذا؟
ابتسمت ليلى و ردت: ما يهمك..هو أني علمت منها السبب الذي جعل أمل لا تحضر ذاك اليوم..
نظر إليها خالد باهتمام فأكملت: ساره تقول بأن ابن جيران أمل تعرض لحادث..وما فهمته منها أن هذا الشاب يعتبر بمثابة فرد من عائلة أمل.. العائلتين تجمعهما علاقة وطيدة..
بدا الجمود على ملامح خالد وهو يقول: أتعتبرين هذه أخبارا مفرحة؟
قطبت ليلى حاجبيها قائلة: لا أقصد أن نفرح لكون ذلك الشاب قد تعرض لحادث..ما أقصده هو أن ما قلته لك يومها كان صحيحا..ألم أقل لك لربما أمل تملك عذرا مقنعا لعدم مجيئها؟
عقد خالد ذراعيه على صدره، وبدا عليه أنه يفكر بكلام ليلى التي استطردت : ساره تقول أيضا أن أمل تلازم المستشفى منذ ذاك اليوم..حتى أنها لم تأت للجامعة اليوم..
ابتسم خالد قائلا : ابن الجيران..وتربط العائلتين علاقة وطيدة..وهي تلازم المستشفى منذ ذاك اليوم؟ !
بادلته ليلى الابتسامة وهي تقول: لا تجعل أفكارك تذهب بك بعيدا..بإمكاني أن أؤكد لك أن أمل تعامله معاملة الأخ..
ثم أخرجت هاتفها من حقيبة يدها قائلة: سأتصل بها..
قال خالد بهدوء: و لمَ؟
ردت ليلى بابتسامة خبيثة وهي تطلب رقم أمل: سأرى إن كان بإمكاني زيارتها المستشفى..
قال خالد مستغربا: ولم تريدين زيارتها بالمستشفى !؟
ابتسمت ليلى دون أن ترد عليه..وظلت تنتظر أن تجيبها أمل لبرهة ثم قالت حين سمعت صوتها: أمل..كيف حالك؟
نظرت ليلى لخالد الذي يتطلع إليها باستغراب وقالت: الحمد لله..أنا بخير..ساره أخبرتني بأن سامي جارك قد تعرض لحادث.. و بأنك معه بالمستشفى..
رفع خالد حاجبيه بدهشة و قال: وتعرفين اسمه أيضا !
أشارت ليلى إليه بيدها كي يصمت وهي تقول:حمدا لله أنه بخير الآن.. كنت أفكر بزيارته..
وصمتت قليلا ثم صدرت عنها ضحكة وهي تقول: لا تسيئي فهمي..أنا أريد أن أراك..ولا بأس أن انتهزها فرصة و أطمئن عليه هو أيضا..
كان خالد يراقب ليلى وهو مستغرب طريقة حديثها هذه.. يبدو عليها أنها مهتمة بسامي هذا..
وفجأة تذكر شيئا.. فقال: اسأليها ماذا فعلت بخصوص البحث الذي كانت تعده..
وضعت ليلى يدها على الهاتف كي لا تسمعها أمل ثم قالت بصوت منخفض: ألم تقل أنك لا تمنح فرصا كثيرة..لم تسأل إذا !
عقد خالد حاجبيه وقال بلهجة آمرة: قلت لك اسأليها !
ضحكت ليلى ثم قالت مخاطبة أمل على الهاتف: خالد يسألك ما الذي فعلته بخصوص بحثك ؟
أخذت تهز رأسها بتفهم ثم التفتت لخالد قائلة: تقول أنه كان عليها تسليمه لأستاذها اليوم..لكنها لم تنتهي من إعداده بعد..طلبتْ من ساره أن تتحدث مع الأستاذ كي يمنحها وقتا إضافيا لكنه رفض..
قام خالد من المقعد الذي كان جالسا عليه وخطف الهاتف من يد ليلى ثم قال : أمل..أنا خالد..ما اسم أستاذك؟
قامت ليلى هي الأخرى في محاولة لإرجاع هاتفها وهي تقول بعصبية: خالد..من أين تعلمت هذا الأدب..أعد لي الهاتف..
لكن خالد دفعها لتعود للمقعد وابتعد عنها قليلا وهو يقول: ألا تستطيعين المرور اليوم بمنزلنا..بإمكانك أخذ الكتب التي تحتاجينها..وسأساعدك في إعداده..لن يؤخذ منا وقتا طويلا..
التفت خالد لليلى و ابتسم حين رأى ملامحها الغاضبة ثم اطرق برأسه قائلا: ليس هناك أي إزعاج يا أمل لا تقولي هذا..فكري بالموضوع ..إلى اللقاء الآن..
*******************
أسرعت أمل الخطى نحو أم سامي قائلة: نعم خالتي..
تطلعت إليها أم أمل بعنين فاحصتين وقالت: قد كنت أناديك..لمَ ذهبت لآخر الممر..و ما به وجهك محمر هكذا..إلى من كنت تتحدثين على الهاتف؟
أجابت أمل بتوتر: ماذا..وجهي أنا محمر؟
وهزت كتفيها قائلة: قد كنت أتحدث لصديقتي..آسفة لم أسمعك و أنت تنادين..
نظرت إليها أم سامي بشك فقالت أمل وهي تتظاهر بالهدوء: فيم كنت تحتاجينني خالتي؟
ردت أم سامي: لاشيء..تأخرتِ بالخارج..لم أعلم إلى أين ذهبت..
قالت أمل : جاءني اتصال.. ولم أود الحديث داخل الغرفة و إزعاج سامي وهو نائم..
قالت أم سامي بحزن : ابني المسكين..الإصابة برأسه تألمه و تسبب له صداعا عنيفا..من الجيد أنه استطاع النوم أخيرا..
ابتسمت أمل قائلة: لا تقلقي خالتي..الطبيب أكد أن هذه الآلام ستختفي قريبا..وكذلك الصداع..سيكون سامي بخير..
ظلت أم سامي تتطلع لأمل للحظات قبل أن تقول: أنت تهتمين لأمر سامي..وتريدين سعادته أليس كذلك يا أمل؟
ردت أمل باستغراب: ما هذا السؤل يا خالتي..بالطبع أهتم لأمره و أريده أن يكون سعيدا !
ابتسمت أم سامي وقالت : وهل أنت مستعدة لفعل أي شيء من أجل سعادته..
وصمتت قبل أن تكمل بتردد: حتى..حتى إن تَطلَب هذا الوقوف بوجه أشخاصا تحبينهم أيضا..
نظرت إليها أمل بحيرة و هي تقول: خالتي..أوضحي كلامك..ماذا تقصدين؟
همت أم سامي أن تجيبها إلا أن صوتا صارما من الخلف أوقفها قائلا: ليست تقصد أي شيء يا أمل !
التفتت الاثنتان لوالد سامي وهو يضيف: أمل..اذهبي لسامي..
ظلت أمل تنظر لأم سامي للحظات ثم قالت: حسنا عمي..
وابتعدت عائدة للغرفة..
التفت والد سامي لزوجته قائلا بغضب: ما الذي كنت ستقولينه !
أجابته أم سامي بتوتر: أبدا..لا شيء..
قال والد سامي وهو يلوح بيده بعصبية: قد أفهمتك أننا انتهينا من هذا الموضوع..وحذرتك من الخوض فيه..لكن يبدو أنك لا تفهمين !
بدأت الدموع تتجمع بعيون أم سامي وهي وتقول: أنتم من لا تفهمون..لا أحد يحس بسامي..لا أحد..قد أخبركم بما تريدون سماعه..لكن لا تظن أن شيئا قد تغير بقلبه..
وأضافت وهي تغالب دموعها كي لا تنزل: أنتم السبب فيما هو فيه الآن..تدَعون أنكم تهتمون لأمره..لكنكم كاذبون..وأم أمل تلك كاذبة..تدعي أنه كابنها..لو كان كابنها فعلا لما رضيت له هذا الألم..
أمسك والد سامي ساعدها بقوة وهو يقول: إياك أن تعيدي قول هذا الكلام مرة أخرى..أقسم إن وصل كلامك هذا لأم أمل..فسأجعلك تندمين أشد الندم !
وأفلت ساعدها وهو يضيف: أنتِ من ستُسبب الألم للجميع بعنادك هذا !
**************
توقف عادل بالسيارة أمام مبنى المستشفى، فاستدار خالد للمقعد الخلفي قائلا لليلى: لا تتأخري كثيرا..
التفت عادل هو الآخر لليلى قائلا :
إن تأخرتْ سيكون عليها العودة بسيارة أجرة..
رفعت ليلى سبابتها بوجه عادل قائلة بعصبية: لم يطلب أحد منك إيصالي أساسا..
ضحك عادل بسخرية قائلا: وكأني كنت سأوصلك إن طلبت مني ذلك !
همت ليلى أن ترد عليه إلا أن خالد أوقفها بإشارة من يده وهو يقول بهدوء: لست في مزاج يسمح لي بالاستماع لهذا الحوار الصبياني..
ونظر لعادل نظرات عاتبة قبل أن يردف مخاطبا ليلى: اذهبي الآن..وحاولي إقناع أمل بالنزول معك..
قالت ليلى وهي تفتح باب السيارة وتخرج: سأحاول..لكني لا أظنها ستوافق..
ما إن ابتعدت ليلى حتى عاد خالد ينظر لعادل بنفس النظرات العاتبة ..مما جعل هذا الأخير يضحك قائلا: ماذا هناك؟
رد خالد : تعبت من الحديث معك..ومحاولة إفهامك أن طريقة تصرفك المستفزة هذه ستفقدك ليلى..
هرب عادل بنظراته قائلا بتوتر: وأنا تعبت من إخبارك بأن ما يدور بذهنك هو محض خيال..
ابتسم خالد ثم قال بهدوء: هل تراهنني على أنك لا تحب ليلى؟
زاد توتر عادل وهو يقول: ليس هناك داع للرهان..قد قلت لك ما عندي..لك أن تصدقه..و لك أن لا تصدقه..أنت حر..
هز خالد كتفيه باستسلام..
و التزما الصمت للحظات قبل أن يقول عادل : هذا الشخص الذي تعرض لحادث..هو ابن جيران أمل؟
رد خالد باقتضاب: أجل..
تمتم عادل: غريب..
التفتت إليه خالد قائلا: وما الغريب؟
رد عادل : ابن الجيران فقط..وتظل بجانبه طول هذه المدة؟
أجابه خالد بهدوء: يبدو أن علاقات قوية تربط عائلتيهما..لكن ليلى لاحظت بأن أمل تعتبره كأخ ليس إلا..
هز عادل كتفيه قائلا: وما أدراك..لربما تكون ليلى مخطئة !
عقد خالد حاجبيه..وأخذ يتطلع للمبنى أمامه..
صحيح..وما أدراه..
ربما تكون ليلى مخطئة..وربما هذا الشخص يمثل أكثر بالنسبة لأمل من مجرد ابن جيران..
*************
أمسكت أمل بيد ليلى تحثها على الدخول للغرفة ثم قالت لسامي: سامي..أقدم لك ليلى..صديقتي..
تطلع سامي لليلى باهتمام..قد رأى هذه الفتاة من قبل..لكن لا تسعفه ذاكرته ليتذكر أين..
قالت ليلى بابتسامة عريضة: الحمد لله على سلامتك سامي..
أجابها سامي بهدوء: أشكرك..
ثم التفت لأمل قائلا: هل تدرسان سويا؟
ردت ليلى بسرعة: في الحقيقة أدرس بنفس الجامعة لكن ليس معها..نحن صديقات منذ أيام الطفولة..
رفع سامي حاجبيه بدهشة قائلة: منذ أيام الطفولة ! و كيف هذا؟
ضحكت ليلى وقالت بابتسامة رقيقة: هل لديك وقت..يسعدني أن أسرد لك الحكاية من أولها لآخرها..
عقدت أمل ساعديها على صدرها قائلة بضيق: لا..لا أظنه يملك وقتا..
التفت سامي لأمل مستغربا لهجتها المتضايقة..
ووقعت عينيه على عينيها..كان يبدو بداخلها الضيق فعلا..ظلا يتبدلان النظرات لوهلة..
لكنه أشاح بوجهه سريعا وقال بابتسامة:
في الحقيقة أملك الوقت طبعا..يسعدني أن أستمع لهذه الحكاية !
بادلته ليلى الابتسامة ثم قالت وهي تجذب أمل لخارج الغرفة: لحظة فقط و سأعود..
أفلتت أمل من قبضة ليلى و قالت : ماذا هناك؟
ردت ليلى بصوت خفيض : خالد ينتظرنا بباب المستشفى..إن أردتِ ذهبتِ معنا للمنزل.. هو على استعداد ليساعدك ببحثك و بإمكانك إعطائه لأستاذك غدا..
قالت أمل بابتسامة: وما بك تتحدثين بصوت منخفض هكذا..
ثم صمتت قبل أن تضيف: لن أستطيع ترك سامي اليوم..
قطبت ليلى حاجبيها وقالت: اذهبي إليه إذا و أخبريه هذا بنفسك..
أطرقت أمل برأسها ثم رفعته قائلة بهدوء: أنت محقة..على الأقل لأشكره و أعتذر عن عدم حضوري ذاك اليوم..سأذهب إليه..هل تذهبين معي؟
حركت ليلى رأسها نفيا وابتسمت قائلة: لا ..أنا سأعود لجارك الوسيم كي أحكي له حكايتنا !
عقدت أمل حاجبيها وقالت بضيق شديد: لن أتركك معه !
اتسعت عيون ليلى بدهشة ثم قالت ضاحكة: أنظري للضيق على ملامحك ..لم إذن تقولين أنه بمثابة الأخ؟
أجابتها أمل بتوتر: تضايقني تصرفاتك..ولا يهم إن كانت مع سامي أو غيره..
لوحت ليلى بيدها وهي تقول: حسنا..حسنا..اذهبي الآن لخالد كي لا ينتظر كثيرا..
واستدارت عائدة للغرفة ثم توقفت قبل أن تدخل قائلة: أخبريه أني سأعود وحدي..وقولي لعادل..ليلى تقول لك أنها تفضل العودة على قدميها ..على العودة معك !
ضحكت أمل على عبارة ليلى واتجهت للمصعد..
ليلى فتاة مرحة و تحب الضحك..مرحها هذا يذكرها بسلمى..تتشابهان في هذا كثيرا..
لكن تصرفات ليلى و حديثها عن سامي يثير أعصاب أمل..
ضغطت أمل على زر المصعد وحين فُتح الباب أمامها وهمت بالدخول مسرعة ..
استضم كتفها بكتف شخص يخرج منه..التفتت إليه لتعتذر..لكنها قالت حين رأت وجهه:
خالد.. كنت سأنزل لأتحدث إليك !
ابتسم خالد قائلا: ليلى قالت أنها ستكلمك و تنزل ..لكنها تأخرت..
بادلته أمل الابتسامة قائلة: لن تذهب ليلى الآن..ستضل معي قليلا..
قال خالد بهدوء: إذا لن تذهبي معنا للمنزل؟
أطرقت أمل برأسها وهي تقول: لا..لن أستطيع اليوم..لكني أشكرك جدا على تفكيرك بمساعدتي..
هز خالد كتفيه قائلا : لا داعي للشكر..كنت أود لو أني استطعت مساعدتك فعلا..
ثم صمت قبل أن يضيف: بالنسبة لأستاذك..قد اتصلت به و تحدثت إليه ..وقد وافق على منحك يومين إضافيين لتعدي بحثك..
تطلعت إليه أمل بدهشة قائلة: اتصلت به وتحدثت إليه..كيف ..كيف استطعت إقناعه !
ابتسم خالد قائلا:أخبرته أن لك ظروفا طارئة..في الحقيقة هو صديقي..أساتذة كثر بالجامعة أصدقائي..
ظلت أمل تتطلع إليه مندهشة وقالت ببطء: لا ادري ما أقوله لك..شكرا..
هز خالد كتفيه بلامبالاة و قال: بالنسبة للمراجع..بإمكانك المرور بالمنزل متى أردت..أما إن احتجت مساعدتي فرقمي ستجدينه عند ليلى..اتصلي بي بأي وقت..
وقبل أن ترد أمل كان خالد يعود لداخل المصعد و هو يقول: أراك لاحقا..
ظلت أمل تنظر للباب..
يا له من شخص غريب..اهتمامه هذا بها يسعدها لا تستطيع الإنكار..
لكنه يحيرها أيضا !
تود لو تعلم سبب اهتمامه هذا..
و تود لو تعلم السبب الذي يجعله يشغل حيزا كبيرا من تفكيرها في الآونة الأخيرة..
استدارت أمل وهي تخطو خطوات بطيئة..ستذهب لمنزله غدا..هي بحاجة لتلك المراجع..ستخبر ليلى الآن بأنها ستزورها غدا..
لم تكن أمل قد وصلت للمر الذي توجد فيه غرفة سامي..حين سمعت من يناديها..
تجمدت بمكانها غير مصدقة لما تسمعه..هذا الصوت هو صوت..
لا يمكن أن تكون هي..
استدارت أمل ووضعت يدها على فمها من وقع المفاجأة.. ثم أبعدته وهي تتمتم: سلمى !
كانت سلمى واقفة أمام النافذة بغرفة سامي بالمستشفى، لا تستطيع تصديق ما تسمعه، لم تتوقع أن تكون الأمور قد تطورت إلى هذا الحد، لمَ قد يرفض والدي أم ارتباط سامي بابنتهما..
بل ويرفضان مجرد تفكيره فيها !
كيف لها أن تصدق وهي أدرى الناس بحب أم أمل الشديد لسامي، كيف لأم أمل أن تكون هي بالذات من يقف بوجه سعادة سامي..
كان قلب سلمى ينبئها أن هناك شيئا ما حدث له، أسلوبه في الحديث كان قد تغير، منذ علمتْ بذهابه برفقة حسام لقضاء بضعة أيام بعيدا عن المدينة..
قلبها أخبرها أن سامي يهرب من شيء،حتى أنها شكت بأنه صارح أمل بمشاعره، ورفضُها له هو ما جعله يبتعد، لم يخطر ببالها أن من رفض هم والدي أمل..لم يكن هذا ليخطر ببال أحد !
استدارت سلمى وقالت لسامي : لمَ لمْ تخبرني عن كل هذا..قد سألتك أكثر من مرة عن ما بك ..كنت تقول أنك بخير..
ابتسم سامي وقال: لم أرد أن أقلقك يا سلمى..ثم ماذا كنت ستفعلين إن علمت ..لا شيء !
سلمى بحزن : صحيح..أصبحت بعيدة عن الجميع..لا أفيد أحدا منكم..
اتسعت ابتسامة سامي و أشار لها أن تقترب..جلست سلمى على السرير بجانبه فأحاطها سامي بذراعه وهو يقول:
لا تقولي هذا..أنت لست بعيدة عنا أبدا..لأنك بقلوبنا..أتعلمين في الأيام الأولى بعد سفرك..كنا أنا و أمل نسهر طول الليل سويا..
قاطعته سلمى بنظرات متسائلة : تسهران سويا طول الليل؟
سامي وهو يتنحنح: في الواقع نسيت أن أخبرك..لقد استحوذت على غرفتك..كنا أنا و أمل نسهر سويا..كل على شرفة غرفته..
رفعت سلمى حاجبيها بدهشة وقبل أن تنطق بكلمة أردف سامي : كل ليلة..نتذكر ذكرياتنا الجميلة معا..كنا نحب أن نتحدث عنك كثيرا وعن شقاوتك و أنت صغيرة..كنا نشعر حينها انك معنا..
سلمى بانزعاج طفولي: أولا استحوذت على غرفتي..ثانيا كنتم تتحدثون عني بالأيام الأولى فقط..بعد ذلك نسيتم سلمى أليس كذلك؟
ابتسم سامي وهو يقول: كنت أعلم أنك لن تمانعي انتقالي لغرفتك..ولا تحزني نحن لم ننساك..كل ما في الأمر أن..
وصمت قليلا قبل أن يردف : أننا لم نعد نسهر بالشرفة..لم أكن أستطيع مواجهتها و الحديث معها بعد الذي حصل..كنت أحاول الهروب منها قدر المستطاع..أمل لم تعلم شيئا من الذي حدث..لذا لم تفهم سبب تغيري الذي كان مفاجئا بالنسبة اليها..
قامت سلمى واقفة وقالت : سامي..دعني أتحدث لأمل..أنا قادرة على حل هذه المشكلة..
ابتسم سامي وهو يقول بيأس: لا تفهمين يا سلمى..أتمنى لو كانت المشكلة متعلقة بأمل..فقد كنت بدأت أولى الخطوات لكسب قلبها..لكن المشكلة هي بوالديها اللذين يرفضان أي نقاش بهذا الموضوع..حتى أنهما هدداني بإبعادها عني للأبد إن لم أرجع عن ما أفكر فيه..وأكثر ما يجعلني غير قادر على فعل أي شيء ..أم أمل..حالتها الصحية سيئة.. أي حوار معها بهذا الموضوع يتعبها أكثر..قد قطعت لهم وعدا أني لن أفكر بأمل إلا كأخت..
كانت سلمى تتطلع لأخيها بحزن، تشفق عليه، يفكر بالجميع و لا يفكر بنفسه، لو أراد .. لتحدث لأمل وارتبط بها رغما عن أنف الجميع..
لكن سامي لن يتغير يفكر بمصلحة الجميع قبل التفكير بمصلحته..
ابتسمت سلمى قائلة: وقلبك..هل أفهمته أنك قطعت لهم وعدا ؟
أشاح سامي بوجهه دون أن يرد ..فأكملت سلمى: يحزنني حالك يا سامي..كنت أتمنى أن تكون أمل لك..في الحقيقة لم أتصور يوما أن تكون أمل لغيرك..أو أن تكون أنت لغيرها..لكن يبدو أن للكبار رأيا آخر..
شعرت سلمى أن الحزن قد خيم على الغرفة فقالت بمرح مفتعل: لكن أخبرني..كيف تعرفت على ليلى صديقة أمل..كان يبدو عليك الاستمتاع بحديثها حين دخلت مع أمل..
رد سامي: لا أعرفها..قد جاءت اليوم لترى أمل لا لتراني..في الحقيقة لم أرتح لتلك الفتاة..
رفعت سلمى حاجبيها قائلة: لم ترتح لها..كيف..وحين دخلنا كنتما تضحكان و كأنكما من أقدم الأصدقاء !
ضحك سامي وقال: قد لاحظت على أمل انزعاجها من حديثي مع ليلى..فأردت أن أزعجها أكثر..هذا كل شيء..
ضحكت سلمى هي الأخرى ثم قالت بلهجة جدية: إن أردت رأيي..تلك الفتاة لم تعجبني أنا أيضا..
غمز سامي بعينه لها وهو يقول: غيرة؟
ردت سلمى باستنكار: أنا أغار منها !
قال سامي كي يضايقها : أجل..فهي صديقة أمل الآن..وتقضي معها معظم أوقاتها..
قطبت سلمى حاجبيها قائلة: أعلم..ستذهب إليها اليوم لمنزلها..
وصمتت لبرهة قبل أن تضيف بلهجة غامضة: هل تعرف ابن عم ليلى؟
حرك سامي رأسه نفيا فأضافت سلمى بنفس اللهجة الغامضة: حين وصلت للمستشفى..رأيت أمل تتحدث إليه..حين سألتها عن من يكون قالت انه ابن عم ليلى وجاء ليوصلها..لكن من طريقة حديثها معه كان يبدو عليها أنها تعرفه جيدا..
سأل سامي باهتمام: كيف يبدو؟
ردت سلمى وهي تلوح بيدها : طويل..قوي البنية..عريض المنكبين..ذو شعر أسود فاحم..وملامحه تحمل برودا غريبا..
عقد سامي حاجبيه وهو يتذكر..يبدو أنه نفس الشاب الذي رآها تتحدث إليه بالمكتبة..يذكر أنه شعر بعدم الارتياح له..
كما شعر بعدم ارتياح تجاه ليلى..
فإذا به ابن عمها..
يا لها من صدفة غريبة !
*****************
بأحد المقاهي الراقية بالمدينة، كان خالد ومروى جالسين يتحدثان فيما يبدو أنه حديث مهم و مصيري..على الأقل بالنسبة لأحدهما..
رشفت مروى من كأسها ثم أعادت وضعه على الطاولة قائلة : إذن أنت تريد مساعدتها لأنها صديقة ليلى فقط ؟
حرك خالد رأسه فأردفت مروى : أخشى يا خالد أن..أن..
ابتسم خالد قائلا:تخشين ماذا..قولي..أن أحبها مثلا؟
نظرت إليه مروى بجزع فأكمل : لا أنكر أنها فتاة مميزة..فريدة من نوعها..ولم أقابل مثلها الكثير..لكن هذا لا يجعلني أقع بحبها بهذه السرعة..
كانت ملامح الانزعاج تبدو على وجه مروى التي زفرت قائلة بحدة: طريقة كلامك هذه تؤكد لي أنك على الأقل معجب بها..
هز خالد كتفيه وقال ببرود: ربما..هذا شيء يخصني !
مروى وقد ارتفعت نبرة صوتها قليلا: ويخصني أنا أيضا !
رفع خالد حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يقول: يخصك..أحقا؟ وكيف هذا !؟
بدا التوتر على مروى التي أخذت تفرك أصابع يدها بعصبية و أحنت رأسها قليلا وهي تقول بصوت لا يكاد يُسمع: لأني..أنت تعلم..أنا أحبك يا خالد..
أطرق خالد برأسه فقالت مروى : خالد..أنظر إلي..
رفع خالد رأسه ليواجه عيونها..وكأنه لمح بها دموعا..
قالت مروى بصوت مخنوق: خالد..حين صارحتك بمشاعري أول مرة..ولم أسمع منك ما كنت أود أن أسمعه..لم أحزن كثيرا..ظننت أني سأكسب قلبك مع الوقت..كنت أعلم أن حياتك خالية من تلك الفتاة التي قد تكسب قلبك قبلي..كنت مطمئنة..لكن منذ ظهرت هذه الأمل..انقلب كل شيء..لم أعد أفهمك..وازداد خوفي من فقدانك..
ظهر التأثر على خالد للحظة، إلا أن ملامحه سرعان ما عادت لبرودها و هو يقول: مروى..باستطاعتي أن أخبرك باني أبادلك نفس المشاعر..باستطاعتي أن أسمعك كل ما تريدين سماعه..لكنني بهذا سأخدعك..وأنا لا أريد خداعك..أنا لستُ مسئولا عن مشاعرك تجاهي..أما عن مشاعري الخاصة..فأنا حر بها..أنا حر في أن أحب من أشاء..
عاد صوت مروى يرتفع وهي تقول بغضب : إذن أنت تحبها..تحبها يا خالد !
ثم انهارت فجأة و استسلمت للبكاء و هي تقول بين دموعها: سأجعلها تكرهك يا خالد..تعلم أني أستطيع هذا..سأجعلها تكرهك !
*************
وضعت أم أمل أكواب القهوة على الطاولة، ثم جلست على المقعد قائلة: لن نسافر يا أب سامي إلا بعد أن يخرج سامي من المستشفى..ويتعافى تماما..
أمسك والد سامي كوبه وهو يحرك رأسه بتفهم قائلا: سامي سيعود اليوم للمنزل..
تنهدت أم أمل قائلة: أحمد الله لأنه بخير..لا أدري ما الذي كان سيحصل لي لو فقدناه..
التفت والد أمل إليها قائلا : الحمد لله لأنه بخير..لكن عليك يا أب سامي أن تتحدث إليه ..عليه أن يتعلم الدرس..ويبتعد عن تهوره في قيادته للسيارة..وعن السرعة الجنونية التي يمر فيها بالشوارع كالبرق...كاد يفقد حياته نتيجة لجنونه هذا..
ابتسم والد سامي قائلا: لا تقلقوا أظنه قد تعلم الدرس جيدا..
واعتدل في جلسته قبل أن يضيف: ماذا ستقولون لأمل بخصوص سفركم ؟
ردت أم أمل: سنخبرها بأن لدى والدها صفقة تستدعي سفره لإتمامها و بأني سأرافقه..
ثم أخذت تنظر لزوجها وهي تردف: وفي الحقيقة كان لدينا طلب نطمع في أن تلبيه لنا يا أب سامي..
تطلع إليها والد سامي بنظرات متسائلة فقال والد أمل: نود أن تظل أمل عندكم بالمنزل..طول مدة سفرنا..لا أريد تركها وحدها هنا..
ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتي والد سامي وهو يقول: كنت سأقترح عليكم نفس الشيء..الأفضل أن تظل معنا..بالإضافة إلى أن سلمى ستقضي بضعة أيام معنا قبل أن تسافر..ستفرح إذا علمت أن أمل ستكون معها ..
وصمت قليلا قبل أن يردف: لكن أخبراني هل سيطول غيابكم ؟
أجابه والد أمل: لا أظن..في الحقيقة أنا لا أود الذهاب..لكن أم أمل تقول بأنها نذرت أن تعود..ولا بد أن تعود..
قال والد سامي وهو يرشف من كوبه ببطء: لكن هل تعتقدون أن من تركتموهم هناك قد نسوا كل ما حدث بالماضي..ألا تخشون ردة فعلهم إن رأوكم بعد كل هذه السنوات؟
أخذت أم أمل ووالد أمل يتبادلان النظرات دون أن ينبسا ببنت شفة فاستطرد والد سامي: صحيح أن مرور الزمن يمحي أشياء كثيرة..لكن قلوب بعض الناس لا تتغير ..مهما مر من الزمن..وأنتِ لا زلت مريضة يا أم أمل..لن يكون بمقدارك مواجهة المشاكل التي قد تجدونها في انتظاركم هناك..
**************
كانت أمل تمرر أناملها على الكتب وتقرأ عناوينها بسرعة، وتخرج كتابا من بين الرفوف من آن لآخر، أدهشها هذا الكم من الكتب الذي يملكه خالد..وما أدهشها أكثر..هو أنها كلما أخرجت كتابا و قلبت صفحاته وجدت ملاحظات دونت بخط اليد على الجوانب..
نفس الخط على الكتب كلها..
تدل على أنها لشخص واحد..وهذا الشخص قد اضطلع على جل الكتب الموجودة هنا..ليلى أخبرتها أن لا أحد يطأ أرضية هذه الغرفة غير خالد..إذن فهذه الملاحظات له..
خالد حول هذه الغرفة لمكتبة كبيرة..وواضح أنه يعتني بها جيدا..ويزودها بكل الكتب القيمة..
في الواقع فكرتها عنه قد تغيرت كثيرا..قد كانت تعتبره شابا مغرورا يحب نفسه فقط، فإذا به يحاول مساعدتها بشتى الطرق..
كانت تظنه تافها..محدود التفكير..لا يهتم إلا بالفتيات المحيطات به..فإذا بها تكتشف فيه شابا مثقفا واعيا..ذو عقلية نادرة وناضجة..
تحيرها التناقضات التي تجتمع بغرابة في شخصيته..لكنها لا زالت تعتبر نفسها لا تعرفه جيدا..ربما إن اقتربت منه أكثر..ستكتشف فيه أشياء أكثر !
تقترب منه أكثر؟ !
أفزعتها هذه الفكرة..لا..
لا تريد الاقتراب منه..تكفي حالة الحيرة التي هي فيها الآن..ويكفي أن تواجدها أمامه يشل تفكيرها..
لا تريد الاقتراب منه..الاقتراب من هذا الشخص ..خطر !
- أمل ألم تشعرك هذه الكتب بالملل بعد؟
انتفضت أمل واستدارت بحدة ..فضحكت ليلة قائلة: آسفة..هل أخفتك..
زفرت أمل ثم قالت: لا ..أبدا..ذهني كان مشغولا فقط..
غمزت ليلى بعينها وهي تقول: وبمن كان ذهنك مشغولا..هيا اعترفي الآن !
ابتسمت أمل ورفعت الكتب التي بيدها أمام وجهها وهي تقول: مشغولة بهذه؟
أبعدت ليلى تلك الكتب من أمامها وعادت تغمزها قائلة: هل أنت متأكدة..أما من شيء آخر يشغل تفكيرك؟
قطبت أمل حاجبيها وكأنها تفكر بجدية ثم ابتسمت وقالت: بعد تفكير عميق..أقول..لا..
ابتسمت ليلى بخبث قائلة: هل ما زلت مصرة أن جارك الوسيم سامي..هو جارك الوسيم فقط..ولا شيء أكثر؟
ردت أمل بملل متعمد: أجل هو جاري فقط وبدون وسيم هذه.. تثيرين أعصابي بها..
لوحت ليلى بيدها قائلة: أرأيت كيف تنزعجين..أنا لم أقل عيبا..لا أقول غير الواقع..أتنكرين أنه وسيم؟
نظرت إليها أمل بإنزعاج كي تصمت.. لكن ليلى أخذت تلوح بسبابتها مستطردة: لا يا أمل..لا أنصحك بأن تخفي مشاعرك هذه كثيرا..هذا ليس لصالحك..فربما..
واقتربت من أمل أكثر وهي تردف بدلال: ربما يقابل فتاة شقراء رائعة الجمال..تجعله يقع بحبها..حينها ستكونين قد ضيعت فرصتك يا صديقتي..
نظرت إليها أمل بيأس ثم قالت بابتسامة: صدقيني يا ليلى ليس هناك أي شيء بيني وبينه..
هزت ليلى كتفيها باستسلام و ابتعدت عن أمل ثم جلست على كرسي و ظلت تراقبها قليلا قبل أن تقول: وأخته سلمى..هي صديقتك المقربة أليس كذلك؟
ردت أمل دون أن تنظر إليها: أكثر من صديقة..نحن كالأختين..لكنها تزوجت وسافرت كما أخبرتك..
هزت ليلى رأسها بتفهم و أكملت أمل: لا تتصورين سعادتي برؤيتها..اشتقت إليها كثيرا..ستمضي بضعة أيام معنا قبل أن تسافر..
أنهت أمل عبارتها و اقتربت من ليلى ثم قالت : قد أخذت ما أحتاجه من كتب..علي أن أغادر الآن..
رفعت ليلى حاجبيها بدهشة قائلة: بهذه السرعة؟ لم لا نذهب لغرفتي ونتحدث قليلا؟
ابتسمت أمل قائلة: اعذريني يا ليلى..لكن علي فعلا أن أنهي هذا البحث سريعا..لست أصدق أن خالد استطاع إقناع أستاذي بمنحي هذه المدة الإضافية لإتمام البحث..
ضحكت ليلى قائلة: خالد من المتفوقين بالجامعة..تفوقه هذا جعله يتقرب من جُل أساتذة الجامعة..حتى أنهم أصبحوا كأصدقائه..بالإضافة إلى أنه يتحلى بقدرة إقناع كبيرة..
بدت الجدية على ملامح أمل وهي تقول: في الحقيقة استغربت أن تكون هذه هي آخر سنة له بالجامعة..لم أره من قبل..رغم أنه يدرس بنفس تخصصي..هل انتقل من جامعة أخرى؟
حركت ليلى رأسها نفيا و أجابت : لا..خالد انقطع عن الدراسة لسنتين..لهذا لم تريه من قبل بالجامعة..كان من المفروض أن يتخرج في نفس السنة مع ذلك التافه عادل..فقد كانا يدرسان سويا..
أمل باستغراب: ولم انقطع عن الدراسة لسنتين؟ !
خرجت ليلى من الغرفة ..فتبعتها أمل وهي تنتظر منها جوابا..إلا أن ليلى قالت بهدوء: مشاكل.. حدثت مشاكل جعلته ينقطع عن الدراسة طول هذه المدة..أفضل أن تسأليه عن هذا بنفسك..
ظهر الاستغراب على أمل من جوابها الغامض..لاحظت ليلى هذا فقالت متعمدة تغيير الموضوع: ألا تستطيعين البقاء معي ولو قليلا فقط؟
ابتسمت أمل قائلة: لا أستطيع..سأذهب للمكتبة الآن..لدي عدة كتب علي إعادتها..ثم أعود للمنزل و أنكب على كتب خالد..
قالت ليلى باستسلام: حسنا كما تريدين..
و اتجهت لباب المنزل إلا أن أمل أوقفتها قائلة: لا تتعبي نفسك أعرف الطريق للخارج..أراك لاحقا..
هزت ليلى كتفيها قائلة:حسنا..أراك لاحقا..
وظلت تراقب أمل إلى أن خرجت من المنزل فأمسكت هاتفها النقال و ضغطت على أزراره بسرعة ثم قالت بعد ثوان: خالد..أين أنت..اسمع..أمل خرجت للتو من المنزل..وستذهب للمكتبة الآن..
**********
كانت أمل تعبر حديقة منزل خالد حين رأت تلك المرأة تلوح لها بيدها من سيارة فخمة متوقفة أمام الباب الخارجي للمنزل..
كانت امرأة في أواخر الأربعينيات من عمرها..لكنها لازالت تحتفظ في ملامحها بجمال باهر..ابتسمت حين اقتربت منها أمل وقالت : أنت أمل صديقة ليلى.. أليس كذلك؟
ردت أمل : أجل..
اتسعت ابتسامة المرأة وقالت : أنا والدة خالد..قد حدثني عنك ابني كثيرا !
ابتسمت أمل بارتباك وهي تقول: تشرفت بمعرفتك يا خالة..
نظرت أم خالد للكتب الكثيرة التي تحملها أمل بيدها وهي تقول: الشرف لي يا أمل..يبدو أنك تشاطرين ابني هوسه بالكتب..
ضحكت أمل بارتباك واضح فأردفت أم خالد: إلى أين أنت ذاهبة؟
ردت أمل : للمكتبة العامة..
فتحت أم خالد باب السيارة أمام أمل وهي تقول: اصعدي إذن لأوصلك..أنت تحملين ثقلا كبيرا بين يديك الصغيرتين..ستتعبين هكذا في انتظار سيارة أجرة..
نظرت لها أمل بتردد ثم قالت: لا يا خالة..أشكرك..
قالت أم خالد بعتاب: هل ترفضين كلاما قالته لك أمك يا أمل؟
ردت أمل بسرعة : لا طبعا..
قالت أم خالد بابتسامة عريضة: اعتبريني كوالدتك منذ الآن ..اصعدي هيا..
ابتسمت لها أمل ثم صعدت السيارة فانطلقت بها أم خالد وهي تقول: ليلى أيضا لا تكف عن الحديث عنك..أنا سعيدة لأني تعرفت عليك أخيرا..
التفتت إليها أمل قائلة: أنا الأسعد يا خالة..
ساد الصمت بينهما لفترة..قطعته أم خالد وهي تنظر بثبات للطريق أمامها قائلة: أخبريني..هل تدرسين مع ليلى؟
ردت أمل: لا..أنا أدرس بالسنة الثانية..لكننا ندرس بنفس التخصص..
نظرت إليها أم خالد و الابتسامة على وجهها ثم عادت تنظر للطريق وهي تقول: تبدين أصغر من أن تكوني بسنتك الثانية في الجامعة..واضح أنك متفوقة..
ثم ابتسمت لأمل مرة أخرى وهي تكمل: شيء آخر تشبهين فيه خالد..خالد يحب التفوق في كل شيء..
وتوقفت بالسيارة على جانب الشارع التي توجد به المكتبة ثم التفتت لأمل قائلة: لربما تجدينه هناك..هو يقضي أغلب أوقاته بالمكتبة..
ابتسمت أمل وهي تفكر..والدته لا تعرف طبعا أنه يقضي أغلب أوقاته بالمكتبة..محاطا بالفتيات قبل أن يكون محاطا بالكتب !
ثم قالت : أجل ..أعلم..
وفتحت باب السيارة وهي تردف بامتنان : شكرا لك يا خالة على إيصالي..
ابتسمت أم خالد وهي تقول: لم أقم بما يستحق الشكر..اهتمي بنفسك و إلى اللقاء..
بادلتها أمل الابتسامة قائلة: إلى اللقاء..
ثم اتجهت لداخل المكتبة..
صحيح..قد يكون خالد هنا..لمْ تفكر في هذا..
أمامه تصبح متوترة ومرتكبة..لا تعرف لمَ..لكن لهذا الشخص تأثير عجيب عليها..
لذا لا تعرف إن كانت تريد أن تراه..أو لا تريد أن تراه..
لم تطل حيرتها كثيرا..فبمجرد أن وصلت لساحة المكتبة لمحته بمكانه المعهود..لكنه كان لوحده..أجالت أمل نظرها في المكان..فلم تجد لا عادل و لا مروى و لا وفاء..
لوح لها خالد بيده و أشار إليها أن تنضم إليه..تسارعت دقات قلب أمل..هذا ما كانت تخشاه..
حاولت أن تهدئ من نفسها وهي تقترب منه.. حين وصلت وضعت الكتب التي بيدها على الطاولة وقالت مازحة في محاولة للتخفيف من حدة توترها: كنتُ على وشك أن آخذ كل الكتب بمكتبك..كنتَ ستعود لتجد تلك الرفوف خاوية..
تطلع إليها خالد بنظرات فاحصة ثم قال: مكتبتي الصغيرة رهن إشارتك..
وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية وهو يضيف بهدوء: وصاحبها أيضا رهن إشارتك..
ثم أردف وهو يشير لكرسي : تفضلي بالجلوس..
جلست أمل و أبعدت خصلات شعر عن وجهها بتوتر وهي تقول: شكرا..كيف حالك؟
خالد : بخير..وأنت؟
أمل : الحمد لله بخير حال..
ظل خالد ينظر إليها للحظات و الابتسامة لم تفارق شفتيه، وحين أشاحت أمل بوجهها قال: أرجو أن تكوني قد وجدت كتبا تفيدك..
ردت أمل وهي تحاول تحاشي نظراته إليها : أجل..في الحقيقة ..أنت تملك كتبا قيمة بتلك الغرفة ..
أخذ خالد يقلب في صفحات الكتب الذي أحضرتها أمل ثم قال: اختيارك في محله أيضا..هذه الكتب ستفيدك ببحثك..
ابتسمت قائلة: أجل..بالإضافة إلى أني وجدت أنك تدون ملاحظات على جوانب كل صفحة..وهي ملاحظات مهمة جدا..ستثري بحثي..إن سمحت لي باستعمالها..
ظل خالد يقلب الصفحات ..ثم أغلق الكتاب بيده..وأعاده لمكانه قائلا: ولم تهتمين لتلك الملاحظات..مادام من كتبها يجلس معك؟
نظرت له أمل بارتباك فأضاف خالد بهدوء: أقصد أني سأساعدك في استخلاص ما هو مهم من هذه الكتب كلها..فقد قرأتها جميعا..بهذا أوفر عليك الوقت..سننتهي من بحثك هذا اليوم..موافقة؟
هزت أمل رأسها ففتح خالد كتابا وهو يقول : أفضل أن نبدأ بهذا..
كانت أمل تنظر إليه بثبات ويبدو أنها سرحت بأفكارها و لم تنتبه لنفسها إلى أن قال خالد بابتسامة بعد أن انتبه لنظراتها: أمل..ما بك؟
أبعدت أمل نظراتها عنه ثم قالت بتوتر: أعتذر..سرحت قليلا فقط..
اتسعت ابتسامة خالد وهو يقول: وفيم يا ترى؟
ردت أمل بعفوية: سامي..لا أدري كيف حاله الآن..قال الأطباء أنه سيخرج اليوم من المستشفى..لكني لازلت قلقة عليه..لم يكن علي تركه..
عقد خالد حاجبيه وأشاح بوجهه..ثم التفتت إليها وسألها: سامي.. جارك؟
حركت أمل رأسها فأغلق خالد الكتاب بيده قائلا: أمل..أظنك قد فعلت الواجب و أكثر..وكنت في منتهى اللطف معه..إلى درجة أنك لم تغادري المستشفى إلا اليوم..وتسببت بغضب أحد أساتذتك عليك..أظن أن ما فعلته يفوق ما قد يفعله أي شخص آخر بمكانك لابن جيرانه..
ثم أطرق برأسه وهو يضيف ببطء: إلا إن كنت تعتبرينه أكثر من ابن جيران؟
بدت الدهشة على ملامح أمل لوهلة..لكنها سرعان ما ابتسمت قائلة بهدوء: أجل..في الواقع هو بالنسبة لي أكثر بكثير من ابن جيران عادي..
رفع خالد رأسه وقد تجهمت ملامحه..فأردفت أمل بابتسامة: سامي هو بمثابة أخ لي..
ظل خالد ينظر إليها للحظات بجمود..ثم ابتسم قائلا: حسنا إذا..لا تقلقي ..سيكون بخير..
وعاد يفتح الكتاب بيده قائلا: هل لنا أن نبدأ الآن؟
هزت أمل كتفيها..ثم قالت بسرعة متذكرة شيئا: قبل أن نبدأ..أريد أن أسألك سؤالا..إن سمحت طبعا..
ابتسمت خالد قائلا: تفضلي..
قالت أمل: ليلى أخبرتني أنك انقطعت عن الدراسة لسنتين..فما السبب؟
رد عليها خالد ببرود: أمل..أفضل عدم الحديث بهذا الموضوع..
أمل بارتباك: أعتذر..يبدو أني سألت عن أشياء لا تخصني..
شعر خالد أنه أحرجها برده البارد فقال بابتسامة: لا أبدا..كل ما في الأمر أن هذا الموضوع ليس مهما..ولا يستحق أن نضيع وقتنا في الحديث فيه..
ابتسمت أمل ثم قالت:لا يهم.. نسيت أن أخبرك..تعرفت على والدتك اليوم..
خالد: حقا؟
هزت أمل رأسها وهي تقول: أجل وهي التي قامت بإيصالي إلى هنا..
ابتسم خالد وقال : وما رأيك بها؟
ردت أمل : طيبة جدا..حفظ الله لك..
رمقها خال بنظرات جعلتها تبعد عينيها عنه وهو يقول: وحفظك الله لكل من يحبك..
ثم أردف بجدية: حسنا..كفانا مضيعة للوقت..ولنبدأ..
*************
نزلت أم سامي من الطابق العلوي و ابتسمت حين رأت أمل و سلمى جالستين بالصالة، تتحدثان بصوت منخفض..تماما كما كانتا تفعلان قبل زواج سلمى وسفرها..
حتى أنهما لم تحسا باقترابها منهما.. إلى أن قالت بصوت منخفض أيضا: عن ماذا تتحدثان وتخشيان أن يسمعكما أحد؟
انتفضت كل من أمل و سلمى وقالت هذه الأخيرة بارتباك واضح: أمي منذ متى و أنت هنا؟
ردت أم سامي: نزلت للتو من عند أخيك..
سألتها أمل: هل نام؟
أجابتها أم سامي: ذاك الفتى عنيد..حملناه أنا وعمك غصبا على الاستلقاء على السرير..كان يريد النزول و السهر معكما..
ضحكت كل من أمل و سلمى وقالت هذه الأخيرة بفخر: طبعا..قد اشتاق لأخته..
ابتسمت أم سامي قائلة: لازالت الأيام أمامكما لتسهرا سويا..عليه أن يرتاح الآن..و أنت أيضا عليك أن ترتاحي من تعب السفر..
ابتسمت سلمى قائلة: أي تعب يا أمي..الرحلة لم تتعدى ثلاث ساعات بالطائرة..لا أحس بأي تعب..
هزت أم سامي كتفيها باستسلام ثم قالت: كما تشائين..تصبحان على خير..
لم تكد أم سامي تبتعد حتى أمسكت أمل هاتفها النقال و وضعته بيد سلمى قائلة: اتصلي به..
وضعت سلمى الهاتف فوق المنضدة وهي تقول: لا لن أتصل..لم لم يتصل هو؟ !
ردت أمل: لأنك أنت من تسبب بهذه المشكلة بينكما..هو أخبرك أن تنتظري قليلا حتى يستطيع أخذ أجازة من عمله و السفر معك..لكنك ضربت بكلامه عرض الحائط و أصررت على السفر وحدك..
عقدت سلمى يديها على صدرها قائلة بغضب: هو لم يهتم بقلقي على سامي..كدت أموت قلقا عليه..وهو يقول لي انتظري ..لا أستطيع السفر الآن ..ماذا كان يريد..أن أعود لأودع جثة أخي !
رفعت أمل حاجبيها بدهشة ثم ضربت سلمى على ذراعها قائلة :جثة .. أعوذ بالله ..ما هذه الكلمات التي تستعملين..أخوك بخير..عن أية جثة تتحدثين..ونحن طمأناك عليه و أخبرانك أن لا داعي لمجيئك..
بدأت العبرات تتجمع بعيون سلمى وهي تقول: ظننتكم تحاولون تهدئتي فقط..تكذبون علي..أنت لا تستطيعين تخيل حالي هناك يا أمل..أنا وحيدة هناك..لا أم لا أب لا أخ..لا صديقة..لا أحد..ودائما ما أتصور أن هناك أشياء تحدث لكم و أنا بعيدة عنكم..إن أخبرتني أمي أن أبي مصاب بسعال بسيط..أكاد أجن..و أتصور أنه مصاب بما هو أخطر..لكنها تحاول إخفاء الحقيقة عني كي لا أقلق..تهاجمني ظنون مخيفة لا أستطيع السيطرة عليها..
اقتربت أمل من سلمى وأخذت تربت على كتفها قائلة: كيف تقولين أنك وحيدة..وأحمد..ألا يعوضك عن تواجدنا جميعا..أنت كنت تقولين هذا..كنت تقولين أن وجود أحمد بجانبك ينسيك عدم وجود الكون بأسره..
ردت سلمى وهي تغالب نفسها كي لا تبكي: كنت مخطئة يا أمل..مخطئة..لا أحد يعوض حنان الأم و الأب..لا أحد يعوض الأخ..ولا أحد يعوض الأصدقاء..لكل مكانه..لا تسيئي فهمي..أنا أحب أحمد..وحبي له ازداد بعد أن جمعنا سقف بيت واحد..هو يعاملني كالأميرة..ولا يبخل بأي شيء ليراني سعيدة..لكني تعبت..
وارتمت بحضن أمل وقد أطلقت عنان دموعها مكملة: اشتقت إليكم يا أمل..كنت أظنني قادرة على الابتعاد عنكم..لكني لم أعد قادرة على الاحتمال..تعبت..
******************
طرقت أم ليلى على باب غرفة ابنتها ثم قالت: ليلى..هل نمت؟
قامت ليلى مسرعة وفتحت الباب ثم عادت لتستلقي على سريرها وأمسكت مجلة كانت بيدها قائلة: لا..لم أشعر بالنعاس بعد..ماذا تريدين؟
اقتربت والدتها منها ثم قالت: أليست لديك جامعة غدا صباحا..لم لم تنامي بعد..
جلست والدتها على جانب السرير قائلة: أم خالد التقت بأمل اليوم..
نظرت إليها ليلى بلامبالاة.. فأكملت : تقول أن خالد طلب منها أن تتعرف إليها..وقالت لي.. لأول مرة ليلى تُحسن اختيار صديقتها..قد أثارت الفتاة إعجابها كثيرا..
قالت ليلى بضيق: أمي لا أفهم..أجئت إلي بهذه الساعة لتخبريني هذا؟
ردت والدتها بغضب: أجل جئت لأرى إن كنت قد جننت أم ماذا..
رفعت ليلى عينيها لسقف الغرفة وهي تتمتم : صبرك يا الله..
ثم تطلعت لوالدتها قائلة : ولم تظنين أني جننت؟
علا صوت والدتها وهي تقول : أنت تعلمين أن خالد معجب بهذه الفتاة..أنا متأكدة من أنك كنت تعلمين قبل أن تقومي بإدخالها لمنزلنا..أريد أن أفهم.. لمَ تقومين بما هو ضد مصلحتك؟
قالت ليلى بضيق: عن أي مصلحة تتحدثين..
صرخت والدتها بوجهها هذه المرة قائلة: هل تريدين أن تفقديني عقلي..أنسيت أن خالد يعتبر خطيبك !
الجـزء الخــامس عــشر
-15-
القلب لا ينتظر..قرار الحب !
*****************
كانت أم سامي تراقب ابنتها التي يبدو أنها انتقلت بأفكارها لعالم آخر،سلمى ظلت اليوم كله تقريبا جالسة بالقرب من هاتف المنزل..و ممسكة بهاتفها النقال ..وكأنها تنتظر اتصالا مهما من شخص ما..
تشعر أن هناك خطبا بابنتها..فسلمى لا تبدو بخير أبدا.. تخشى أن تكون هناك مشاكل قد حدثت بينها وبين أحمد..تعلم أنها إن سألتها فستراوغ كعادتها ولن ترد ..لكنها لن تخسر شيئا إن سألت..ليت سلمى تصارحها بما بها..لتستطيع مساعدتها..
- سلمى..هل اتصل بك أحمد؟
انتفضت سلمى قائلة : ماذا؟
أم سلمى وهي تدقق نظراتها بملامح ابنتها لعلها تستشف منها ما تخفيه عنها: أقول..هل اتصل بك أحمد؟
ردت سلمى بتوتر : أجل..
رفعت والدتها حاجبيها في عدم تصديق قائلة: متى؟
زاد توتر سلمى وهي تقول: أمس..أمس ليلا..
ظلت والدتها تنظر إليها بشك..
فقالت سلمى في محاولة للهروب من هذه النظرات التي تخبرها أن والدتها لم تصدق كذبتها: أ ما زال حسام فوق مع سامي؟
أم سامي: أجل..
قامت سلمى واقفة وهي تقول: سأحضر لهما وجبة العشاء إذا..
أشارت لها والدتها بيدها كي تعود للجلوس ثم قالت بابتسامة : لا تتعبي نفسك..قد سبق وفعلت ذلك..
عادت سلمى للجلوس..كانت تريد فقط أن تهرب من نظرات والدتها هذه..
تنحنحت قبل أن تقول: أمي..أريد أن أسألك سؤالا..بخصوص والدي أمل..
ابتسمت والدتها.. وإن كان قلقها و شكها أن هناك مشكلة بين ابنتها وأحمد ازداد..وإلا فما الذي يجعل سلمى تبحث عن مخرج يجعلها لا تتحدث عنه..
- اسألي يا سلمى ..اسألي..
اقتربت سلمى من أمها وهي تقول: ألسنا كالعائلة الواحدة..نحن وعائلة أمل..وسامي..ألم يترعرع أمام عينيهما..ويعلمان أي نوع من الشباب هو..فلماذا يرفضان أن نصبح عائلة واحدة بالفعل..لم يرفضان ارتباط أمل بسامي؟
بدا الضيق على ملامح أم سامي وهي تقول: هل أخبرك؟
أجابتها سلمى : بالطبع..تعلمين أنه لا يخفي عني شيئا..
قالت أم سامي بارتباك: لا أدري..لا أدري يا سلمى..
سلمى بعصبية: كيف..هل رفضوه هكذا من دون أي سبب..من المؤكد أن هناك سببا.. على الأقل لا بد أن يكونا قد أخبراك أنت وأبي به..
أشاحت أم سامي بوجهها ..يا الهي..لم تحسب حسابا لهذا..
بالطبع سلمى لن تسكت..سلمى ليست كسامي..ولا تمر عليها الأشياء بهذه السهولة..ستظل تنبش بهذا الموضوع إلى أن تجد سببا مقنعا لتصرف والدي أمل..
لكن إن ظلت تنبش كثيرا ستسبب الأذى لأخيها دون أن تقصد..و الأذى لها أيضا..
كيف ستتصرف أن علمت أن سامي ليس أخا لها حقا..أنه أخوها بالرضاعة فقط !
عليها أن تتأكد بأنها ستكف عن أسئلتها..لا يجب أن تعلم بالحقيقة..
وسامي..لا يجب أن يعلم بالحقيقة..أن يتألم لأنه حرم من الفتاة التي يحب..خير له من أن يتألم وهو يعرف سبب حرمانه منها !
قالت أم سامي بحدة: هي ابنتهما..ومن حقهما أن يرفضا..حتى دون ذكر أية أسباب..
أطرقت سلمى برأسها قائلة بحزن: لكن سامي يحبها يا أمي..وأنت تعلمين هذا..وكنت أظن أن الجميع يعلم..وأن الجميع سيبارك هذا الحب..
ثم فجأة رفعت رأسها وبعيونها بريق فكرة خطرت لها.. وقالت : أمي..وماذا سيحدث إن وقعت أمل بحب سامي..هل سيصر والديها على الرفض..حتى إن رفضا..هل تظنين أن أمل ستترك غيرها يحدد مصير حياتها؟
لم تكد تنهي سلمى عبارتها حتى فُتح باب المنزل، ودخل والدها ثم ابتسم حين رآها جالسة مع والدتها وقال: لوجودك بالمنزل طعم خاص يا سلمى..كم أحسد أحمد..
ضحكت سلمى..ثم رمت بنظرة خاطفة على هاتفها..
فقال والدها: ماذا.. هل تنتظرين اتصالا منه؟
ردت سلمى بسرعة: لا..قد تحدثت مع أحمد أمس..أنتظر اتصالا من أمل..
هز والدها رأسه بتفهم ثم قال وهو يتجه للدرج: سأصعد لأرى سامي..
قالت أم سامي: ستجد حسام برفقته..
ثم ظلت تراقبه إلا أن اختفى و التفتت لسلمى قائلة: وكيف ستقع أمل بحب سامي وتبادله المشاعر..لو كان هذا سيحدث لحدث منذ زمن..لكنها لا تحس به..وتردد دائما أنه بمثابة الأخ لها..
سلمى: كان ليحدث منذ زمن لو أن سامي كان يتصرف معها بما يدل على حبه..لكنه كان يهوى أن يعاندها في كل شيء..منذ أن كنا صغارا..لطالما أحب استفزازها و مضايقتها..صحيح أنه تغير في الآونة الأخيرة..لكن هذا التغيير جاء متأخرا جدا..
وصمتت قليلا قبل أن تضيف: أتعلمين يا أمي..أنا أفهم أمل جيدا..وأفهم شعورها نحوه..منذ أن رأيناها أول مرة و الجميع يخبرها بأن تعتبر سامي كأخ..قد غرست هذه الفكرة بذهنها على مرور السنوات..حتى جعلتها لا تستطيع التفكير فيه إلا كأخ فعلا !
ابتسمت والدتها وهي تقول: والديها ووالدك هم من كانوا يعيدون على مسمعها دائما عبارة..أخوك سامي..أخوك سامي..أما أنا فقد كنت أرى في أمل شيئا آخر..كنت أراها و أعتبرها دائما زوجة ابني بالمستقبل..ربما لأني كنت أعلم بمشاعر سامي نحوها..حتى قبل أن ينتبه هو بنفسه لمشاعره هذه..
وتنهدت بعمق وهي تضيف: كيف سنجعلها الآن تغير رأيها به..كيف سنفهمها أن سامي ليس أخا لها !
ابتسمت سلمى بخبث قائلة: لدي خطة صغيرة..والديها سيسافران..وستظل بمنزلنا طول مدة سفرهما..أمامنا فرصة لا تعوض.. نحن سنغير رأيها به..
أخذت أم سامي تنظر لابنتها بدهشة..ثم قالت بتردد : لا يا سلمى..هما لن يتركا أمل برفقتنا إلا لأنهما أخذا عهدا من سامي بأن ينسى موضوع اقترانه بها..ثم لا أحب أن نستغل غيابهما بهذا الشكل..
ضحكت سلمى قائلة: أمي..نحن لن نستغل غيابهما لنؤذي أمل..بالعكس..نحن سنفعل ما فيه الخير لها و لسامي..ولا تخافي..نحن حتى لن نخبر سامي بخطتنا الصغيرة هذه..لأني أعلم أنه سيرفض..أتركي هذا الأمر لي ..
وابتعدت نظراتها للبعيد و كأنها تدرس خطتها للأيام القادمة جيدا مستطردة : إن لم يقترب سامي و أمل من بعضهما البعض خلال هذه المدة..فلا أمل في اقترابهما بعد ذلك أبدا!
***************
- أقسِم لي أنك لم تكن تفكر فيها حين تعرضت لذلك الحادث..
ضحك سامي ولم يرد..
أضاف حسام: أرأيت..هي السبب في أنك كنت ستفقد حياتك..
انزعج سامي من عبارة حسام هذه وقال بعصبية: لا تقل هذا يا حسام..ليس الذنب ذنبها..
ثم أضاف مازحا: على الأقل ليلى كانت تحب قيس كما يقال..أما أنت فليلاك لا تشعر بك..
ابتسم سامي قائلا: بل قل على الأقل قيس قال شعرا في ليلى..فحرمه أهلها من الزواج بها..كان يعلم سبب حرمانه هذا..أما أنا فلا أعلم سبب حرماني من ليلاي..
غمزه حسام وقال: أمتأكد أنك لم تقل شعرا بأمل؟
ضحك الاثنان ..ثم قال سامي : دعك مني الآن..وأخبرني أنت..هل وجدت لك والدتك الزوجة المناسبة؟
رد عليه حسام وهو يمثل الحزن: لا يا صديقي..للآن لم أقتنع بأية فتاة من الفتيات التي اقترحتهن والدتي علي..
قال سامي ضاحكا: بل قل لم تقبل بك أية فتاة للآن..
رفع حسام حاجبيه قائلا: ولم قد لا تقبل بي أية فتاة؟
سكت سامي و كأنه يفكر ثم قال : هناك أسباب كثيرا..لسخافتك مثلا؟
زم حسام شفتيه ثم قال: لو لم تكن مريضا لكان لي معك حساب آخر على كلامك هذا..
ثم اعتدل وهو يضيف بفخر: حتى إن كنت سخيفا..وهو شيء لا أوافقك عليه..فمالي ونجاحي بمجال عملي يجعل أية فتاة ترى سخافتي هذه من أجمل الصفات بي !
ابتسم سامي قائلا : أرأيت أنت سخيف..أخبرني لم لم تقتنع للآن بأية فتاة؟
قال حسام: في الواقع..من أجدها جميلة..بعد كلمتين يتبين لي أنها تملك عقل عصفور..ومن تشيد والدتي بذكائها..حين أراها تجعلني أعيد التفكير في قراري بالزواج من الأساس !
ضحك سامي وقال: أنت لن تجد فتاة كاملة الصفات مهما بحثت..
قال حسام بجدية: ومن قال أني أبحث عن فتاة كاملة الصفات..كل ما في الأمر..أني أريد فتاة تجمع ثلاث صفات لن أتنازل عنها..
سامي: وما هي هذه الصفات الثلاث؟
رد حسام وهو يعدها بأصابعه: أولا..ذكية..لا أعرف كيف أتعامل مع محدودي الذكاء..ثانيا..مرحة..فالذكاء لا يهمني إن كانت صاحبته متجهمة طول الوقت .. ثالثا..رائعة الجمال طبعا !
**************
فتحت ليلى باب المنزل بملامح عابسة ثم أشارت للداخل قائلة: تفضل..خالد سينزل في الحال..
دخل عادل المنزل ثم ارتمى على أحد المقاعد بالصالة الواسعة قائلا بتهكم : ماذا ..هل أصبحت تقومين بدور الخادمة وتفتحين الباب عوضها؟
احمر وجه ليلى وعقدت حاجبيها قائلة: كنت أتحدث مع خالد فوق..وهو من طلب مني أن أفتح لك الباب..ومن الواضح أنه ما كان علي أن ألبي طلبه..
نظر لها عادل وقال: أتعلمين تبدين جميلة حتى و أنت غاضبة..يناسبك هذا الاحمرار كثيرا !
زفرت ليلى بحدة و اتجهت للدرج صاعدة إلا أنها توقفت فجأة و استدارت قائلة: أنت قليل الذوق..من يأتي بهذه الساعة المتأخرة من الليل قليل ذوق..
ضحك عادل قائلا : هذا ليس شأنك ..هذا منزل صديقي و أنا أحضر إلى هنا متى شئت..لو كنت لا تريدين رؤيتي لذهبت لغرفتك حين أخبرك خالد بمجيئي..لكنك لم تفعلي هذا..وفتحت لي الباب بنفسك..وأنا أفسر هذا بأنك كنت تودين رؤيتي..فكفاك تعاليا وغرورا و اعترفي..
كانت ليلى تستمع لكلماته والدماء تغلي بعروقها..غضبا..وحرجا في نفس الوقت..قالت بتوتر شديد: أعترف بماذا أيها السخيف؟
ابتسم عادل بخبث قائلا : أنك فتحت الباب بنفسك.. لتريني..
همت ليلى أن تقول شيئا لكنها عدلت عن ذلك وظلت تبادله نظراته المستفزة بنظرات كلها غضب ..
واستدار الاثنان حين سمعا صوت خطوات خالد وهو ينزل الدرج..انتقل عينا خالد بينهما بسرعة ثم قال: ماذا..هل فاتني حواركما الممتع هذه المرة؟
أشاحت ليلى بوجهها وقال عادل بابتسامة: لم أرى فتاة بلطف و لباقة ابنة عمك..قد رحبت بي ترحيبا كبيرا..
التفتت إليه ليلى قائلة: وأنا لم أرى بحياتي شخصا أسخف منك..أود لو أنك تختفي من هذا العالم و لا أراك أبدا !
وأكملت طريقها صاعدة الدرج بخطوات سريعة ..فقال عادل ضاحكا: ليلى..أعلم أنك لا تقصدين هذا الكلام فعلا..إن اختفيت ..فأنا أعلم أنك ستكونين أول من يبحث عني..
ضربه خالد على ذراعه قائلا: ألن تترك ابنة عمي العزيزة و شأنها..
حرك عادل رأسه نفيا ثم قال: لا..هي من ..
وقطع كلامه حين رن هاتف خالد..
أخرج هذا الأخير هاتفه من جيب سرواله و نظر لشاشته ثم قال بهدوء: إنها مروى..
هز عادل كتفيه قائلا: لا ترد عليها..
قال خالد: إن لم أرد ستظل تتصل طول الليل..
ثم ابتعد بضعة خطوات ..لم يستغرق حديثه معها إلا بضعة ثوان..عاد بعدها وجلس قبالة عادل قائلا: مروى تشك بأني أحب أمل..
سأله عادل بخبث: وهل هي محقة..
ظل خالد ينظر إليه بهدوء دون أن يرد..
ثم قال بعد للحظات من الصمت: تهددني بأنها ستجعل أمل تكرهني..
تحولت ملامح عادل إلى الجدية وهو يقول: وماذا قلت لها؟
رد خالد : طبعا أخبرتها أني لا أخشى تهديداتها ..و أن تفعل ما تريد..
وعاد لصمته ..وكأنه يفكر في الأمر بإمعان..ثم قال: لكن أنت تعلم..مروى فعلا قادرة على تنفيذ تهديدها هذا..
************
كانت أمل مستلقية على سريرها، تطالع كتابا من كتب خالد..لكنها تحاول التركيز فيما تقرأ منذ نصف ساعة ولم تقدر..
لا تستطيع التوقف عن التفكير به..بخالد..
عليها أن تواجه نفسها بهذه الحقيقة..خالد يشغل تفكيرها كثيرا بالآونة الأخيرة..
ماذا يعني هذا..
هل يعني أنها..
لا..لا يمكن..
وضعت أمل الكتاب على المنضدة وقامت من السرير ثم جلست أمام مرآتها..
هل هي معجبة به؟ !
أجل..معجبة به..على الأقل لتعترف بهذا..لكن لماذا هو بالذات..
لم تشعر من قبل بهذه المشاعر تجاه أي شخص..
لم هو بالذات..
لأنه غامض..و تصرفاته غريبة..يجمع بشخصيته صفات من الصعب أن تجتمع بشخصية واحدة..
هذا ما يعجبها فيه ويشدها نحوه؟
لا تدري..ربما..
لكن ماذا إن كان ما تشعر به يفوق الإعجاب..ماذا إن كانت تحبه؟
انتفضت أمل من وقع هذه الفكرة عليها..وتمتمت لنفسها: ما هذا لذي أقول..عن أي حب أتكلم..
أمل لم تعط لنفسها الفرصة من قبل لتقع بالحب..
رأت كل صديقتها يقعن فيه..سمعتهن وهن يحكين عن روعته..وعن آلامه أيضا..
أما هي..فكانت تخشاه..هي ترى الحب ضعفا..لا تريد أن تكون ضعيفة..لذا قررت أن لا تحب أبدا..
ابتسمت أمل..وهل القلب ينتظر قرارات..هل ستستطيع التحكم بقلبها للأبد..
قامت متجهة للشرفة..لا تشعر بالنعاس الآن..
فتحت الباب..الجو بارد..
أفضل..لعل البرد يجمد هذه الأفكار التي تدور بذهنها الآن..
تطلعت لشرفة سامي..لمحت خيالا متكئا على الجانب الآخر منها..اقتربت أكثر..هذا سامي..
ما الذي يفعله بالشرفة..لازال مريضا !
- سامي !
التفت سامي لمصدر الصوت..ثم اقترب من أمل وقال بابتسامة: ماذا ..ألم تستطيعي النوم أنت أيضا؟
ردت أمل وهي تتطلع إليه بدهشة: ما الذي تظن أنك تفعله..لم قمت من سريرك..أنت لازلت مريضا..والجو بالشرفة بارد..
وأشارت لملابسه.. وهي تكمل: وحتى لا ترتدي شيئا يقيك هذا البرد..
ضحك سامي قائلا: دعك من ملابسي ..لا أشعر بالبرد..من الواضح انك لم تستطيعي النوم مثلي..ما رأيك أن نسهر هنا سويا؟
عقدت أمل يديها على صدرها قائلة بعصبية: لا..عد للداخل..لا زلت مريضا..تتصرف كالأطفال يا سامي..
نظر إليها سامي..ثم أخذ يتطلع للسماء وهو يقول: أنا بخير الآن..ولن أعود للداخل..إن أردت أنت عودي لغرفتك..
ظلت أمل تنظر إليه للحظات ..ثم اتكأت على جانب الشرفة قائلة باستسلام: كما تريد..لكن إن أردت أن أظل معك..عد وارتدي شيئا يقيك هذا البرد..
رفع سامي حاجبيه قائلا: لكني لا أشعر ببرد !
أمل : أرحني فقط..اذهب و ارتدي شيئا..
زفر سامي ودلف لداخل الغرفة ثم عاد و قد ارتدى سترة جلدية و وقال بضيق: هل هذا أفضل بالنسبة إليك؟
هزت أمل رأسها والابتسامة على وجهها..
أخذ سامي يتطلع لملامحها البريئة..والجميلة..اهتمامها به يسعده..يسعده جدا...
لكن عليه أن لا يدع أفكاره تذهب به بعيدا..تهتم به كأخ..لا أكثر و لا أقل..
التفتت إليها سامي مبتسما ثم قال: هل أخبرك بشيء؟
أمل : قل..
عاد سامي يتطلع للسماء قائلا: حين كنت بالمستشفى..سألتني إحدى الممرضات عن من تكونين..
ضمت أمل نفسها من برودة الجو وقالت: ولم سألتك..
رد سامي وعيونه تحلق في السماء..وكأنه يحصي عدد النجوم: قالت لي.. تلك الفتاة رفضت أن تفارقك للحظة..
ثم تطلع لأمل..ونظر لعينيها مباشرة وهو يضيف:.. واضح أنها تحبكَ جدا..
أشاحت أمل بوجهها قائلة وهي تضم نفسها أكثر: وهل كان لديك شك في هذا..
وصمتت قبل أن تضيف: هل أخبرك أنا أيضا بشيء؟
هز سامي رأسه فأكملت أمل: أظنها نفس الممرضة..أخبرتني بأن المسعفين حين وجدوك سمعوك تردد اسم أمل ..قد كنت نصف غائب عن الوعي..
وأنهت عبارتها..ثم التفتت إليه..
بدا على سامي انه تفاجئ من كلامها..
قالت أمل وقد بدأ جسدها يرتعش من البرد : ما بك..لا أظن أن الممرضة كانت تكذب..فمن أين لها أن تعرف اسمي..
اكتفى سامي بالنظر إليها دون أن يجيب..ثم أزاح السترة الجلدية عنه..ورماها على كتفيها..
أمل: ماذا تفعل؟
أمسك سامي بكتفي أمل وقربها منه قليلا..ثم أغلق أول زرار بالسترة وهو يقول: قلت لك..لا أشعر بالبرد !
*****************
قطعت ليلى الخطوات التي كانت تفصلها عن أمل بسرعة ثم وضعت يديها على عينيها قائلة: خمني من أكون..
ضحكت ساره ..
وابتسمت أمل مزيلة يدي ليلى عن عينيها ثم قالت : من ستكونين غير ليلى..
- ولم هذه الثقة؟
اتسعت ابتسامة أمل وهي ترد عليها: لا أعرف أحدا يقوم بهذه التصرفات الصبيانية مثلك..
شهقت ليلى قائلة: أنا يا أمل صبيانية..حسنا..سنتحاسب على كلامك هذا في ما بعد..الآن جئت لأرى إن كنت قد انتهيت من محاضراتك..
نظرت أمل لساره ثم قالت : أجل أنهينا آخر محاضرة للتو..
صفقت ليلى بيدها بطريقة طفولية قائلة: رائع..ستأتين معي للمنزل..
أمل : لم..هل تحتاجينني في شيء؟
هزت ليلى رأسها قائلة: أجل..والدي وعمي سينظمان حفلا بالمنزل بعد بضعة أيام..بمناسبة نجاح إحدى صفقاتهم..وأريدك أن تأتي وتحددي معي ما سأرتديه..موافقة؟
ردت أمل : لن أستطيع يا ليلى..قد وعدت سلمى بأن نخرج سويا اليوم..
رسمت ليلى على وجهها علامات خيبة الأمل وهي تقول: لكني فعلا بحاجة إليك..
ثم ابتسمت وهي تكمل: أمل..أرجوك..من أجلي..اتصلي بسلمى و أخبريها أنك لن تستطيعي الذهاب معها..
نظرت إليها أمل بتردد فاستطردت: أو أخبريها أنك ستتأخرين قليلا فقط..
التفتت أمل لساره فهزت هذه الأخيرة كتفيها قائلة: لا أظن سلمى ستغضب أن تأخرتي عليها قليلا فقط..
ظلت أمل تفكر للحظات ثم أخرجت هاتفها و اتصلت بسلمى..وأنهت الاتصال بعد دقيقتين قائلة لليلى بابتسامة : حسنا..لا بأس..سأذهب برفقتك..لكن لنسرع..
بعد نصف ساعة كانت أمل برفقة ليلى في غرفتها..تساعدها في تحديد ما سترتديه..
ليلى جعلت الأمر صعبا..فهي لم تقتنع بأي شيء من الملابس الكثيرة المتناثرة في كل ركن من غرفتها..وقالت أخيرا: لا تعجبني أي من هذه الأشياء..
رفعت أمل حاجبيها بدهشة : لكنها ملابس جميلة..وأظنك أنت من قمت بشرائها ..فكيف لا تعجبك..
ثم رفعت فستانا أزرق و أردفت: هذا سيناسبك جدا..
أمسكته ليلى و اتجهت للمرآة..ويبدو أن الصورة التي عكستها المرآة لم تعجبها فقد رمت به بعيدا وزفرت قائلة: لا..لا أحبه..
عقدت أمل حاجبيها..ثم قامت واقفة وقالت: ليلى..قد تأخرت على سلمى..اسمعي لنحدد يوما آخر نتسوق فيه..ما زال على هذا الحفل أيام..أليس كذلك؟
أمسكت ليلى بذراع أمل و جعلتها تجلس ثانية قائلة: لن أستطيع..أحب أن أحدد ملابسي بوقت مبكر..
ثم اتجهت خارجة من الغرفة قائلة: سأذهب لأحضر لنا شيئا نشربه..
همت أمل أن ترد عليها لكنها كانت قد خرجت وأقفلت الباب ورائها..
تنهدت وهي تحدث نفسها: بالتأكيد ستغضب..تأخرت عليها كثيرا..
ولم تكمل عبارتها حين سمعت طرقا خفيفا على الباب..
قامت أمل وفتحته.. فإذا بخالد واقفا أمامها..
تعودت على ضربات قلبها التي تتسارع كلما رأته..وأصبحت أكثر قدرة الآن على إخفاء التوتر الذي يكتفنها بوجوده ..
لكن نظراته الهادئة و العميقة هذه..تفقدها قدرتها على التفكير..حتى على الحركة..تجعلها تتجمد بمكانها..في انتظار كلمة قد يقولها..يخرجها بها من هذا العالم السحيق التي ترميها نظراته فيه..
ظل الاثنين صامتين للحظات..لغة العيون كانت سيدة الموقف..
لكن أمل لم تستطع مجاراته ..فكانت أول من أشاح بوجهه هربا..
أطرق خالد برأسه هو الآخر..ثم رفعه مبتسما وقال: لم أكن أعلم أنك هنا...
ردت أمل بهدوء لا يبين شيئا من ما يعتمل في داخلها : ليلى نزلت للتو..
اتسعت ابتسامة خالد وقال: قد جئت من اجلها فعلا..لكن لا أنكر سعادتي لأني رأيتك عوضها..
مررت أمل أناملها على شعرها بتوتر..خالد يقصد هذا..يقصد أن يجعلها ترتبك..لن تجعله يلاحظ ارتباكها..
قالت وهي تحاول إبعاد نظراتها عنه : ولم أنت سعيد برؤيتي؟
صمت خالد..وبدا أنه فضل أن لا يرد عليها غير بنظراته الهادئة تلك..
لكنه قال بعد لحظات : سؤال مهم..وربما تجدين جوابه عندك..
أشارت أمل لنفسها قائلة بارتباك : عندي أنا؟
ارتسمت على شفتي خالد ابتسامة جانبية..وقال: أجل..عندك يا أمل..
عادت أمل تمرر أناملها على شعرها بتوتر..ثم التفتت لداخل الغرفة و كأنها تبحث عن شيء..عن مهرب من الشخص الواقف أمامها ربما..ومن نظراته..
التفتت إليه بعد لحظة قائلة: هل أخبرتك..أستاذي كان سعيدا جدا بذلك البحث..قال أنه لم يندم على منحي وقتا إضافيا..مادمت قدمت عملا جيدا..
أشاح خالد بوجهه ضاحكا..
فقالت أمل بارتباك: لم تضحك؟
هز خالد كتفيه و أخذ ينظر للمر بابتسامة ثم قال: كيف حال خالتي؟
سمعت أمل صوت أم ليلى وهي تقول: بخير..ما الذي تفعله عندك..ألا تملان أنت وليلى الحديث أبدا..
ووصلت للغرفة بنهاية عبارتها..عقدت حاجبيها حين رأت أمل..ونظرت لخالد..ثم أعادت نظراتها لأمل قائلة: أهلا بك يا أمل..كيف حالك يا ابنتي..
شعرت أمل و كأن أم ليلى تضايقت حين رأت خالد واقفا برفقتها ..ردت: أنا بخير يا خالتي..وأنت كيف حالك؟
ردت أم ليلى وهي تنظر لخالد : أنا بخير..
والتفتت لأمل متسائلة: أين ليلى؟
تطلعت أمل لخالد..الابتسامة لم تفارق شفتيه بعد..ويبدو أنه شعر أيضا بضيق أم ليلى..ومستمتع به..
أمل بهدوء: ذهبت لتحضر شيئا..
قال خالد وهو يتطلع لأمل: خالتي..أيرضيك أن تترك ليلى صديقتها لوحدها هكذا؟
نظرت له أم ليلى بضيق وقالت بلهجة جافة : لا..لا.. يرضيني..والدتك كانت تسأل عنك يا خالد ..اذهب وانظر ما تريده منك..وأنا سأبقى مع أمل حتى تعود ليلى..
استغربت أمل لهجتها الجافة و نظرت لخالد بعينين متسائلتين..هز هذا الأخير كتفيه ..
ثم قال وهو يبتعد: المهم أن لا تتركيها لوحدها يا خالتي..أمل هذه ضيفة عزيزة علينا..
التفتت أم ليلى لأمل بحدة..جعلت هذه الأخيرة ترجع للوراء بضعة خطوات..
ابتسمت أمل وجلست على المقعد..تبعتها أم ليلى وجلست هي الأخرى ثم أخذت تتطلع لأمل قبل أن تقول: ما أخبار دراستك؟
أمل: جيدة..الحمد لله..
تنهدت أم ليلى قائلة: لو أن ليلى فقط تفعل مثلك و تهتم بدراستها..
ابتسمت أمل دون أن تتكلم..
أكملت أم ليلى : لكن سأقول لك شيئا..بيني وبينك..صحيح أن دراستها مهمة..لكن الأهم الآن بالنسبة لي كأم هي أن يتم زواجها على خير..
رفعت أمل حاجبيها مندهشة..لم تحدثها ليلى من قبل عن أي خطط للزواج..قالت: أي زواج؟
ابتسمت أم ليلى وهي تقول: ماذا ألا تعرفين..ليلى هي خطيبة خالد..
نزلت هذه الكلمات على أمل كالصاعقة..
خالد..خطيب ليلى..كيف؟
- علي أن أذهب الآن يا خالة..
قالتها أمل..وخرجت من الغرفة مسرعة..
***************
- سلمى..لا تغضبي هكذا..سنذهب غدا..
صرخت سلمى بحدة: اذهبي غدا مع صديقتك تلك..لن أذهب غدا لأي مكان..
ضحكت أمل..
وحين لمحت الغضب الذي ازداد بعيون سلمى توقفت عن الضحك قائلة: أنت تغارين منها أم ماذا؟
رفعت سلمى حاجبيها قائلة: أنا أغار منها..أنت تحلمين..
أمل: أقسم أني لم أجد سيارة أجرة..لهذا تأخرت..
أعطت سلمى ظهرها لأمل قائلة: كان عليك أن تحسبي حسابا لهذا..
التفت أمل حول سلمى لتواجهها قائلة: أتردين الصراحة..لا أعتقد انك غاضبة بخصوص هذا الموضوع..أعتقد أن غضبك سببه شيء آخر..
سلمى: ماذا تقصدين؟
ردت أمل : أقصد أحمد..أنت غاضبة لأنه لم يتصل بك للآن..
سلمى : ومن قال لك أنه لم يتصل..
وسكتت قليلا قبل أن تضيف: اتصل بي..لكني نسيت أن أخبرك..
نظرت أمل إليها بشك..فأبعدت سلمى نظراتها بعيدة..
أمل: دعيني أرى هاتفك..
شدة سلمى قبضتها على الهاتف قائلة: لماذا..ألا تصدقينني..
حركت أمل رأسها نفيا و مدت يدها مشيرة لسلمى أن تعطيها الهاتف..
ظلت سلمى تنظر إليها دون أن تتحرك فخطفت أمل الهاتف من يديها و ابتعدت عنها قليلا ثم أخذت تقلب فيه قليلا قبل أن تقول لسلمى بعتب: الخطأ خطأك يا سلمى..عليك أن تتصلي به..بإمكانك حل هذه المشكلة..لكن إن ظللت على عنادك فستكبر المشكلة أكثر..
ظلت أمل تتطلع لسلمى قليلا ثم رفعت الهاتف و طلبت رقما..
سلمى: بمن تتصلين..
نظرت إليها أمل دون أن تجيب..
قامت سلمى واقفة و حاولت خطف الهاتف من يد أمل وهي تردد: بمن تتصلين !
أفلتت أمل منها بخفة و ابتعدت قليلا..
ثم وضعت يدها على الهاتف و اقتربت من سلمى قائلة: خذي..هذا أحمد....إن أردت أن تغلقي الخط ..أغلقيه..لكن تأكدي انك لن تسمعي صوته بعد ذلك أبدا..
ضحكت أمل ثم قامت بإخراج سلمى من غرفتها وهي تقول لها بصوت منخفض: اذهبي إلى منزلك الآن..واستخدمي سحرك المعهود ليسامحك على غبائك..
ابتسمت لها سلمى بامتنان..ثم غادرت الغرفة..
لم تكد أمل تغلق الباب ..حتى سمعت رنين هاتفها..التقطته من فوق المكتب..إنها ليلى..من المؤكد ستسألها لم غادرت دون أن تودعها..
لم تكد أمل ترد حتى جاءها صراخ ليلى مدويا: أمل..لم ذهبت دون حتى أن تخبريني..ماذا حدث؟
ردت أمل بهدوء: أخبرتك أني لا أريد أن أتأخر على سلمى..
ليلى: لا..هناك شيء آخر دفعك للرحيل..خالد أخبرني أنه تركك مع والدتي..قولي هل أزعجتك والدتي؟
ردت أمل بسرعة: لا ..أبدا..ما هذا الذي تقولينه..
ليلى: إذا ما الذي حدث؟
ترددت أمل للحظة قبل ان تقول: ليلى..أريد أن أسألك شيئا..
ليلى: تفضلي..
قالت أمل بسرعة قبل أن تعدل عن رأيها ولا تسألها: لم لم تخبريني أنك و خالد مخطوبين..
سمعت أمل صوت ضحكات ليلى فقالت : ليلى..أنا أتحدث بجدية..لم لم تخبريني..
ليلى وهي تحاول التوقف عن الضحك: اسمعيني جيدا..أنا وخالد كالأخ و الأخت..وأنا زيادة على هذا أعامله كصديق..وهو كذلك يعاملني كصديقة..لا أكثر من هذا ولا أقل..لسنا مخطوبين..تأكدي من هذا..
أمل باستغراب: لكن والدتك هي من أخبرتني أنك خطيبته..وأنك تستعدين للزواج منه..
ليلى: سأشرح لك هذا الموضوع حين أراك..
وعادت للضحك قبل أن تكمل: إذن هذا ما حدث..أخبريني ولم أنت مهتمة إن كنت خطيبة خالد أم لا؟
ضحكت ليلى قائلة: أليس هناك ما أزعجك بهذا الموضوع غير كوني لم أخبرك به؟
أمل كانت تحاول المحافظة على هدوءها..لا تريد أن تعرف ليلى سبب انزعاجها الحقيقي..حتى إن كانت ليلى قد شعرت به..فهي لا تريد أن تأكد لها شعورها هذا..
أجابتها أمل بنفس الهدوء: وما الذي سيزعجني غير هذا !
********************
رشفت أم خالد من كوب العصير وقالت : يا أم ليلى..أنا وزوجي مستعدان لنعقد قرانهما بأية لحظة..لكن كما ترين..خالد يتهرب من هذا الموضوع كلما حدثته..
قالت أم ليلى بحدة : إن تركناه أكثر من هذا..فربما يتعرف على أخرى..وبكلمتين قد تخدعه..وتذهب ثروة العائلة كلها للغريب..
وضعت أم خالد كوب العصير على الطاولة وقالت وقد عقدت حاجبيها..كلام أم ليلى لم يعجبها : أخبريني..هل أنت تريدين خالد زوجا لابنتك..لأنه خالد..أم تريدينه زوجا لابنتك من أجل ثروة العائلة؟
ارتبكت أم ليلى..وتلعثمت..فأكملت أم خالد: ثم واضح أنك لا تعرفين خالد..خالد ليس من النوع الذي قد يخدع بكلام معسول من فتاة..
قالت أم ليلى بسرعة: وتلك الفتاة التي تأتي مؤخرا للمنزل..أنت بنفسك من أخبرتني بأنه طلب منك التعرف إليها..لماذا قد يطلب شيئا كهذا..تلك الفتاة لديها أهداف تخفيها من وراء صداقتها مع ليلى..
ضحكت أم خالد ثم قالت : من أمل..هذه الفتاة طيبة جدا..هذا رأيي فيها..وأنا لم أخطئ الرأي في أحد من قبل..تلك الفتاة لا يُخشى منها..في الواقع أنا أخشى عليها من ابنتك..
وعادت ترشف من كأسها قبل أن تضيف: وبصراحة..أخشى عليها من خالد أيضا !
*********** اسمحولي كيعاد الموضوع طويل اتمنى ان ينال إعجابكم