الرّبيع يقضي أيّامه الأخيرة و يودّع النّاس و قد يئسوا من أن تدرّ عليهم السّماء بالغيث الكافي و النّافع لتزدهر أعمالهم الفلاحيّة و تجد ما تأكله دوابّهم و ماشيتهم. ينزع الجوّ في هذه الصّبيحة إلى السّخونة، على علوّ منخفض تحرّكت تيّارات هواء منعشة و ملطّفة، كانت الشّمس تتسلّق قبّة السّماء الزّرقاء الصافية و ترسل أشعّتها الحادّة على الأراضي و الحقول المترامية في كلّ الاتّجاهات، الأرض اكتست ببساط زئبري خفيف مبقّع هنا و هناك بالأعشاب و الورود البرّية و الّتي اجتاحها الذّبول و الاصفرار لقلّة الأمطار و لبشائر موسم الصّيف الّذي على الأبواب، هناك في التّلال فوق هضبة في الجهة المقابلة انتشر قطيع متوسّط العدد من الماشية، ارتاحت عيناه للمشهد و للاتّساع و الرّحابة أين التفت و أنّى اتّجه، غمره إحساس غامر بالحرّية الغير مقيّدة من جرّاء سفر بصره دون أن يعترضه حاجز أو عائق، أدهشه جمال لم يعهده و استقرّت نفسه و حواسّه لهدوء خيّم على المكان إلاّ من أصوات الطّيور و بعض الكائنات الصّغيرة و هي تداعب بأصواتها الشّجيّة أذنه و روحه على حدّ سواء، استلبه صفاء و عذريّة الطّبيعة و هي تتجلى باحتشام من عطشها و قلّة ما جادت به السّماء عليها من أمطار، شعر بالانبهار و الضّآلة، تصاعدت حولهم روائح الرّوث و التّبن و اختلطت داخل خياشيمه برائحة الأعشاب البرّية الّتي أتت بها تيّارات الهواء من جهات قريبة و بعيدة و هم يغادرون الزّريبة إلى حيث التقوا و جلسوا أوّل مرّة يشربون القهوة و يتبادلون السّلام، نهق حمار على بعد عشرات الأمطار يعلن عن نفسه و تناهى إلى سمعه نباح كلب من جهة ما على مسافة قريبة، استرعى انتباهه بضع دجاجات في قيادة ديك منفعل و قد انهمكت في التقاط رزقها من الأرض المتربة.