أسباب ضعف المسلمين فى الأندلس وقوة النصارى أولاً: ضعف العقيدة الإسلامية, والانحراف عن المنهج الربَّانى وهذا السبب هو الأساس. ثانيًا: موالاة النصارى, والثقة بهم, والتحالف معهم؛ حيث نجد أن تاريخ الأَنْدَلُس مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة واضطرب بسبب ذلك مفهوم الولاء والبراء، والحُبِّ فى الله والبغض فى الله، بل هذه المعانى كادت تندثر. إن الأمة حين تخالف أمرَ ربِّها, وتنحرف عن طريقِه, فلابُدَّ أن يحلَّ بها سخطُه, وتستوفى أسباب نقمتِه. قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:57]. وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَيْءٍ﴾ [آل عمران:28]. وقوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ [المجادلة:22]. وقد أبان رسول الله طريق الأمة فى الولاء والبراء، فقال: «أَوثَقُ عُرَى الإيمان الموالاة فى الله، والمعاداة فى الله، والحبُّ فى الله، والبغض فى الله». ويقول فيما يرويه عن ربه -عزَّ وجلَّ-: «مَن عادى لي وليًّا فقد آذانته بالحرب». فإذا كان هذا كله مُسطَّرًا فى كتاب ربِّها وسنة نبيها وتخالفه، فلابُدَّ أن تُرى فيها سنة الله التى لا تتغير ولا تتبدل. فحين تجد أن المعتمد بن عَبَّاد يذهب إلى ملك قشتالة ويطلب منه الصلح ويدفع له المال، نراه جاهدًا فى حرب أمراء الطوائف واستئصالهم، أما كان الأفضل له أن يتحد مع إخوانه أمراء الطوائف؛ وفى ذلك مصلحة له ولهم وللأَنْدَلُس عامة، وللإسلام وأهله، ولكنَّك لا تجنى من الشوك العنب¬. بل ضعف مفهومُ الولاء و البراء حتى إن بعض حُكَّام المُسْلِمِين استوزروا وزراء نصارى ويهود يصرفون أمور دولة الإسلام، فهل يؤمن الذئب على الغنم!! . ثالثًـا: السبب الثالث الانغماس في الشهوات والركون إلى الدعة والترف وعدم إعداد الأمة للجهاد، إن الأمة التي تركن إلى الدعة والترف واللهو، وهى غالبة قاهرة يجب أن تُعد غير مستحقة للريادة والقيادة، فما بالك بأمة تغرق في اللهو والدعة والترف، وهى لا تدرى إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها، أم أنه لا يزال ينتظر تلك اللحظات؟!. يقول المؤرخ النصرانى كوندي: «العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات». إن المؤرخين رأوا: «إن الأَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، ناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون، وما يرضى الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، وغدا التهتك والخلاعة والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب واللآلى مِن أبرز المميزات أيام الاضمحلال التي استناموا للشهوات والسهرات الماجنة، والجوارى الشاديات، وإن شعبًا يهوى إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة لا يستطيع أن يصمُد رجاله لحرب أو جهاد». دخل المُسْلِمُون الأَنْدَلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد طارق في العبور «الله أكبر» وبقوا فيها زمنًا، حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه الخمر ليشرب فقال: «إنِّى محتاج لما يزيد في عقلي لا ما ينقصه». يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن الفاتحين الأوائل للأَنْدَلُس: «كانت غيرة هؤلاء المجاهدين شديدة على إسلامهم، فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة، فهو أغلى من حياتهم, أشربت نفوسهم حُبَّه، غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع حياتهم». وضاعت ممالك الأَنْدَلُس من يدى المُسْلِمِين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين: ووزن العود وهات القدحا راقت الخمرة والورد صحا وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة؛ فكانت وقعة بطرنة التي قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي: لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حُلَلَ الحرير عليكم ألوانًا ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم يكن ببطرنة ما كانا ضعف المُسْلِمُون في الأَنْدَلُس وسلب كثير من ديارهم لما تنافس الولاة والحُكَّام من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل. وإليك ما فعله المُعْتَمِد مع إحدى زوجاته: اشتهت زوجة المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن تمشى في الطين وتحمل القرب، فأمر المُعْتَمِد بن عَبَّاد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها ولكن الله المعز المذل أراد أن تنقلب الأمور على المُعْتَمِد، فيؤخذ أسيرًا في أغمات وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن، وفى ذلك يقول المُعْتَمِد وهو شاعر مجيد: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا فساءك العيد فى أغمات مأسورًا ترى بناتك فى الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرًا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن فى الطين والأقدام حافية كأنَّها لم تطأ مسكًا وكافورًا مَن بات بعدك فى مُلك يُسَرُّ به فإنما بات بالأحلام مغرورًا وصدق الحبييب , المؤتى جوامع الكلم إذ يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». رابعًا: إلغاء الخلافة الأموية وبداية عهد الطوائف: لاشكَّ أن بداية الانهيار الفعلى في الأَنْدَلُس بزوال الخلافة الأموية, ونشأ على أثر ذلك عهد السنوات الصعاب، كانت كلمة الأمة واحدة وخليفتهم واحدًا فأصبحت الأمة كما قال الشاعر: مما يزهدنى فى أرض أَنْدَلُس أســـماء معتمد فيها ومعتضـد ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهرَّ يحكى انتفاخًا صولة الأسد وكما قال الآخر: وتفرَّقوا شيعًا فكل محلة فيها أمير المؤمنين ومنبر ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة في عمومهم، واسمع إلى ابن حزم وهو يقول عن هؤلاء الحُكَّام: «والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرب المُسْلِمِين، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفًا من سيوفه». ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن هؤلاء الحُكَّام: «وهكذا وجدت في الأَنْدَلُس أوضاع يحكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات الأثرة والغدر، هانت لديهم معه مصالح الأمة، وتُركت دون مصالحهم الذاتية، باعوا أمتهم للعدو المتربص ثمنًا لبقائهم في السُّلطة، ولقد أصاب الأمة من الضياع بقدر ما ضيعوا من الحظ الخُلقى المسلم، انحرف هؤلاء المسئولون عن النهج الحنيف، الذي به كانت الأَنْدَلُس وحضارته». خامسًا: الاختلاف والتفرق بين المسلمين: كان الاختلاف والتَّفرُّق سمة من سمات عصر ملوك الطوائف، وكان بعضهم يستعدى النصارى على إخوانه ويعقدون مع النصارى عهودًا وأحلافًا ضد إخوانهم في العقيدة، ومِن أجل شهوة سلطة تُراق على أرض الأَنْدَلُس دماء المصلين، حتى قال ابن المرابط واصفًا حال المُسْلِمِين: ما بال شمل المُسْلِمِين مبدَّدٌ فيها وشمل الضد غير مبدد ماذا اعتذاركم غدًا لنبيكم وطريق هذا الغدر غير مُمهَّد إنْ قال لِمَ فرَّطتم فى أُمَّتي وتركتموهم للعدو المعتدي تالله لو إن العقوبة لم تُخَف لكفى الحيا من وجه ذاك السيدِ ولما سقطت طُلَيْطِلَة كان من العجيب إن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين لا يتحركون لنجدة طُلَيْطِلَة, وكأن الأمر لا يعنيهم فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة، بل إن عددًا منهم كان يرتمي على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالبًا عونه, أو عارضًا له الخضوع، بذلة تأباها النفوس المُسلِمة، تغافلوا عن أن ألفونسو لا يفرِّق بين طُلَيْطِلَة وغيرها من القواعد الأَنْدَلُسية، لكن العجب يزول إذا تذكَّرنا نزعتهم الأنانية والعصبية. سادسًا: تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم: لاشكَّ أن حياة الأمة في حياة علمائها فهم تاجها ومنارتها وهم روحها ومادة حياتها, فكلما كان علماء الأمة ربَّانيين كان أمر الأمة فى طريقه نحو العزة والرِّفعة والكرامة، وكلَّما ابتعد العلماء عن الربَّانية وتثاقلت نفوسهم إلى الأرض, وحرصوا على مصالحهم الذاتية, خبا نور الأمة، ودبَّ فى الأمة الضعف والجهالة. «فحين كانت الأمة تغرق في الأَنْدَلُس بسبب الاجتياح النصرانيِّ المتلاطم، انصرف عدد من العلماء إلى العناية المبالغة بالفقه المذهبي وفروعه ونسوا وتناسوا واقع الأمة وآلامها». وبعض هؤلاء هم ممن قال فيهم ابن حزم رحمه الله: «ولا يغرَّنك الفُسَّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المُزيِّنون لأهل الشرِّ شرهم، الناصرون لهم على فسقهم». ولا ننسى دور العلماء الربَّانيين الذين قاموا بجمع شتات الأمة الممزق, وبذلوا وسعهم فى ذلك من أمثال أبى الوليد الباجي، وأبى مُحَمَّد بن حزم، وأبى إسحاق الإلبيرى وغيرهم، عليهم رحمة الله وبركاته. سابعًا: عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء: لقد بذل مجموعة من العلماء جهدًا مشكورًا لتوحيد صفوف المُسْلِمِين وتصدَّى أبو الوليد الباجى لهذه المهمة بنفسه بعد عودته من المشرق الإسلامي، «فرفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون، ولكنَّه لم يصادف أسماعًا واعية، لأنَّه نفخ فى عظام نخرة، وعطف على أطلال داثرة، بَيْدَ أنه كُلَّما وفد على ملك منهم فى ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه في التنافس والتقريب، وهو في باطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه - رحمه الله- بأمورهم وأعلمه بتدبيرهم، لكنَّه كان يرجو حالاً تثوب، ومذنبًا يتوب» ولم يكن حُكَّام الأَنْدَلُس أهلاً لقيادة الأمة، ولم تنفعهم نصائح العلماء حتى حلَّت بهم مصيبة وكارثة ألا وهى سقوط طُلَيْطِلَة. ثامنًا: مؤتمرات النصارى ومخططاتهم: استطاع النصارى أن يضعوا برامج مُحكمة للقضاء على ملوك الطوائف ومِن ثَمَّ على المُسْلِمِين عمومًا، وكان من أكبر المجرمين من ملوك النصارى الذي أشرف على هذه المُخَطَّطَات وسهر على تنفيذها فرناندو ملك قشتالة. تاسعًا: وحدة كلمة النصارى: في الوقت الذي كان المُسْلِمُون في الأَنْدَلُس يعانون من التَّفرُّق والشتات، كان النصارى في وحدة كلمة وتراص صفًّ في مواجهة أمة الإسلام في الأَنْدَلُس. عاشرًا: غدر النصارى ونقضهم للعهود: لم يكن النصارى عُبَّاد الصليب محلاً للعهود وأهلاً للوفاء إلا في القليل النادر؛ فهم تبع لمصالحهم وأهوائهم, وهى التي تحكم وفاءهم ونقضهم. قال تعالى:﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة:14]. لقد سطَّر النصارى في الأَنْدَلُس تاريخًا مليئًا بالدماء وهتك الأعراض، وقتل النفوس وسبى النساء. قال تعالى: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ [التوبة:14]. وقال تعالى:﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:12]. لقد استمات النصارى في حربهم للمُسْلِمِين فمارسوا كل الأساليب المعوجَّة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية. الحادي عشر: التخاذل عن نصرة من يحتاج إلى نصرة: لقد كانت أحاديث الرسول في تلك المرحلة مُعطَّلة كأنَّهم لم يسمعوا قول رسول الله ×: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه», وقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». لقد تخاذل ملوك الطوائف عن نصرة مَن يستحق النصرة، وإليك ما حدث في طُلَيْطِلَة، يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن سقوط طُلَيْطِلَة وموقف حُكَّام الطوائف: «قام حاكم بطليوس عمر بن مُحَمَّد الأفطس الملقب بالمُتَوَكِّل على الله ببعض واجبه تجاه طُلَيْطِلَة في محنتها، التي لو أدَّى بقيَّةُ ملوك الطوائف ما يجب عليهم لما لاقت هذا المصير، ولحَمَوْها وحَموا أنفسهم، كان بعضهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته, وكأن الأَنْدَلُس وجدت لمنفعته وليتربع على كرسي حكم، مهما كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد». فهذه مجموعة من الأسباب التي أدَّت إلى الحالة التعيسة التي آلت إليها الأَنْدَلُس، وعندي أن من أعظم الأسباب في خذلان الأمة ابتعادها عن منهج ربها وضياع عقيدتها وتربيتها على الترف والدعة، وترك الجهاد في سبيل الله، ولذلك عندما تربَّى المرابطون على معاني الجهاد في سبيل الله، ومنهج أهل السنة, وفقهم الله لإقامة دينه وإعزاز سنة نبيه ونصرة إخوانهم في الدِّين. إن الجهاد من أعظم الدروس, فلما وُجد في الأَنْدَلُس بقيت الأمة في عزة ومنعة ومَهَابَة، ولما فُقد أصبحت الأمة مطمعًا لكل جبار عنيد أو متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. قال رسول الله: «رأسُ الأمر الإسلام وعموده الصَّلاة وذروة سنامه الجهاد». وقال : «لغدوةٌ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها».