الهجرة النبوية (عشاق الجزائر)

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

MoOn TeArS

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
2 أفريل 2007
المشاركات
7,108
نقاط التفاعل
24
نقاط الجوائز
1,017
اجتمع مشركو مكة في دار الندوة‏,‏ ليتخذوا قرارا حاسما في أمر الرجل الذي سفه أحلامهم وعاب دينهم‏.‏

رأي بعضهم أن توضع القيود في يديه‏,‏ ويلقي به في السجن حتي يموت‏,‏ ورأي آخر أن ينفي من مكة فلا يدخلها‏,‏ وتنفض قريش يديها من أمره‏,‏ وقد استبعد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما‏,‏ واستقر الرأي علي الاقتراح الذي أبداه أبوجهل‏,‏ قال أبوجهل‏:‏ أقترح أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شابا قويا ونعطي كل شاب منهم سيفا ماضيا ثم يضربوه جميعا ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها‏,‏ ولا أظن أن بني هاشم يقوون علي حرب قريش كافة‏,‏ فلن يبقي أمامهم إلا الدية‏.‏

رضي المؤتمرون بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم‏,‏ وأشار القرآن الكريم إلي تدبير هذه الجريمة بقوله‏:‏

وإذا يمكر بك الذين كفرو ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏.‏

هذا الحكم لم يتخذ في مجلس سر‏,‏ بل اتخذ في اجتماع عام‏,‏ ومن الطبيعي أن يعلم به رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وأن يعرف حقيقة وضعه في مكة‏.‏

وعزم الرسول علي ترك مكة إلي المدينة‏,‏ وألقي الوحي الكريم في قلبه وعلي لسانه هذا الدعاء الجميل‏:‏

وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا‏.‏

يقول الشيخ محمد الغزالي‏:‏ لا نعرف بشرا أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي لاقي في جنب الله ما لاقي‏,‏ ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلي لا يعني التفريط قيد انملة في استجماع أسبابه‏,‏ وتوفير وسائله‏,‏ ومن ثم فإن الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ أحكم خطة هجرته واعد لكل فرد عدته‏,‏ ولم يدع في حسبانه مكانا للحظوظ العمياء‏,‏ وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة أن يقوم بها كلها كأنها كل شيء في النجاح‏,‏ ثم يتوكل بعد ذلك علي الله‏,‏ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله‏.‏
وقعت هجرة الرسول من مكة الي المدينة بإذن من الله تعالي‏,‏ أما هجرة أبي بكر فقد وقعت بإذن من الرسول‏,‏ وجرت علي النحو التالي‏:‏

أفصح أبو بكر للرسول عن نيته في الهجرة وقال الرسول لأبي بكر ـ لا تعجل‏,‏ لعل الله ان يجعل لك صاحبا‏.‏

وأحس أبو بكر كأن الرسول يعني نفسه بهذا الرد‏,‏ فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك‏.‏

أما علي بن أبي طالب فإن الرسول هيأه لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالاخطار‏..‏ انه سينام في فراش الرسول صلي الله عليه وسلم‏,‏ وسوف يؤدي الودائع التي كانت عنده للناس‏.‏

وكان رسول الله ليس بمكة احد عنده شيء يخشي عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته‏.‏

ويلاحظ الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة ان النبي عليه الصلاة والسلام كتم أسرار مسيره‏,‏ فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة بها‏,‏ ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم‏,‏ وقد استأجر الرسول دليلا خبيرا بطريق الصحراء‏,‏ ليستعين بخبرته علي مغالبة المطاردين‏,‏ ونظر في هذا الاختيار الي الكفاءة وحدها فإذا اكتملت في أحد استخدمه ولو كان مشركا‏,‏ واستفاد من خبرته ومع هذه المرونة في وضع الخطة‏,‏ فإن النبي صلي الله عليه وسلم أصر علي ان يدفع ثمن راحلته وأبي ان يتطوع أبو بكر به‏,‏ لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه‏.‏

واتفق الرسول مع أبي بكر علي تفاصيل الخروج‏,‏ وتخيرا الغار الذي يأويان اليه‏,‏ تخيراه جنوبا في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين‏,‏ وحددا الاشخاص الذين يتصلان بهم أثناء الرحلة ومهمة كل شخص‏.‏

وجاءت الليلة الحاسمة‏,‏ وضربت قريش الحصار حول بيت الرسول‏,‏ ووقعت أول آية من آيات الله في الهجرة حين طمس الله أبصار فتية قريش‏,‏ فخرج الرسول في هجعة من الليل وغفلة من الحرس‏,‏ وانسل من بيته الي دار أبي بكر إلي غار ثور‏..‏


[font=arial (arabic)]صارت الأمور كما قدر الرسول‏,‏صلي الله عليه وسلم وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبدالله بأن يتسمع لهما ما يقوله الناس ثم يأتيهما إذا أمسي بما يكون في ذلك اليوم من أخبار‏.‏

وقد أخذ الرسول وأبو بكر بالحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة علي أي إنسان‏,‏ وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق‏,‏ ويفتشون كل مهرب‏,‏ وراحوا يرقبون جبال مكة وكهوفها حتي وصلوا في دأبهم قريبا من غار ثور‏,‏ وأنصت الرسول وصاحبه إلي أقدام المطاردين تخفق إلي جوارهم‏,‏ فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث الرسول قائلا‏:‏

ـ لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا‏.‏
ورد عليه الرسول قائلا‏:‏
يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏.‏

ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج فتراكضوا عائدين‏.‏

وروي أحمد أن المشركين اقتفوا الأثر حتي بلغوا جبل ثور فاختلط عليهم الأمر فصعدوا الجبل ومروا بالغار فرأوا علي بابه نسيج العنكبوت فقالوا‏:‏ لو دخل ها هنا أحد لما كان نسيج العنكبوت علي بابه‏.‏

قال الله تبارك وتعالي وهو يقص علينا نبأ الرسول وصاحبه‏:‏

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم‏.‏

يقول الشيخ محمد الغزالي‏:‏ إن الجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة علي نوع معين من السلاح‏,‏ ولا صورة خاصة من الخوارق‏,‏ إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية‏,‏ فإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها‏,‏ فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش جبار وما يعلم جنود ربك إلا هو‏.‏

ونلاحظ أن النص القرآني أشار إلي وقوع المعجزة بقوله تعالي‏:‏ وأيده بجنود لم تروها‏,‏ وهكذا عميت عيون أعدائه عنه برغم أنهم كانوا علي بعد خطوات منه‏.‏

والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏[/font]
[font=arial (arabic)]مرت ثلاث ليال علي مبيت الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الغار‏,‏ وخمد حماس المشركين في الطلب‏,‏ وتأهب المهاجران في استئناف رحلتهما الصعبة‏,‏ وجاء عبدالله بن أريقط في موعده ومعه رواحله قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد‏,‏ وتزود الركب وسار علي اسم الله‏.‏

أما قريش فقد ساءها أن تخفق في استرجاع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصاحبه‏,‏ فجعلت دية لكل واحد منهما مائتي ناقة لمن يجئ بهما حيين أو ميتين‏,‏ ومائتان من الإبل أو مائة في الصحراء ثروة تغري بركوب المخاطر وتحمل المشاق‏.‏

وقد قدر الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن المشركين لن يألوا جهدا في تعقبه والإساءة إليه‏,‏ فالتزم في سيره جانب الحذر‏,‏ وأعانتهما مهارة الدليل علي سلوك دروب لا تسير فيها القوافل‏,‏ ثم أطلق العنان للرواحل فمضت تصل الليل بالنهار‏,‏ فلما مروا بحي مدلج مصاعدين بصر بهم رجل من الحي‏,‏ فقال‏:‏

ـ لقد رأيت ثلاثة أشخاص بالساحل ما أظنهم إلا محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه‏,‏ فطن إلي الأمر سراقة بن مالك ورغب في أن تكون الجائزة له خاصة‏,‏ فقال‏:‏ بل هم فلان وفلان قد خرجا لحاجة لهما‏,‏ ومكث قليلا ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه‏:‏ اخرج بالفرس من وراء الخباء وانتظرني خلف الأكمة‏.‏

قال سراقة‏:‏ فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجه في الأرض حتي أتيت فرسي فركبتها ودفعتها فأسرعت بي حتي دنوت منهما فعثرت بي فرسي فسقطت عنها‏..‏ فقمت‏.‏

وامتطي سراقة فرسه مرة أخري وزجرها فانطلقت به حتي اقتربا من الرسول وصاحبه فسقط عن فرسه‏.‏

وكان أبوبكر يكثر الالتفات‏,‏ يريد أن يتبين هذا العدو‏,‏ فلما دنا عرفه وقال للرسول صلي الله عليه وسلم‏:‏ هذا سراقة بن مالك قد رهقنا‏.‏

لم يكد يتم كلامه حتي هوت الفرس مرة أخري‏..‏ فسقط سراقة من علي ظهرها فقام معفرا ينادي بالأمان‏.‏

وقع في نفس سراقة أن الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ حق فاعتذر إليه وسأله أن يدعو الله له وعرض عليهما الزاد والمتاع‏..‏ فقالا‏:‏ لا حاجة لنا‏,‏ ولكن عم عنا الطلب‏..‏ قال سراقة‏:‏ قد كفيتم‏.‏

أصبح أول النهار جاهدا عليهما‏,‏ وأمسي آخره حارسا لهما‏.‏[/font]
[font=arial (arabic)]إن اسفار الصحراء تشق علي العمالقة الآمنين فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق‏.‏

ما يحس هذه المتاعب إلا من اصطلي نارها‏,‏ لقد برزنا لوهج الظهيرة يوما فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة علي الرمال تخطف ابصارنا فعدنا مغمضين نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه‏,‏ وعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لاتنتهي حتي تبدأ‏,‏ تخال العالم كله مهامة مغبرة الارجاء داكنة الأرض والسماء‏.‏

وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلي أي ظل في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله‏,‏ حتي إذا جنحت الشمس للمغيب تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكري‏.‏ وللعرب طاقة علي احتمال هذا الشظف مع قلة الزاد والري‏.‏

وقد مربك أن الرسول ـ وهو طفل ـ قطع هذه الطريق‏..‏ ذهب مع أمه لزيارة قير ابيه‏,‏ ثم عاد وحده إليه‏,‏ وإنه الآن ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين لا لزيارة ابويه اللذين ماتا بالمدينة بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها بعد ما تمردت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله‏.‏

أنه أرسخ أهل الأرض يقينا بأن الله ناصره ومظهر دينه‏,‏ بيد أنه اسيف للفظاظة التي قوبل بها‏,‏ وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتي اضطره إلي الهجرة علي هذا النحو العنيف‏,‏ وها هو يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله‏,‏ ومما يلفت النظر أن انطلاق الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة شاع في جوانب الصحراء وكأن اسلاك البرق طيرته إلي أقصي البقاع فعلم به البدو والحضر علي طول الطريق حتي يثرب‏,‏ بل إن المحال التي عرج بها وصل نبؤها إلي أهل مكة بعد أن انصرف عنها‏.‏

والناس يعجبون بقصص البطولة وتستثيرهم الوان التحدي‏,‏ وهم يتناقلون الأخبار السيالة علي الالسن فيضفون عليها ثياب الاساطير‏,‏ وقد سرت قلوب كثيرة بانتصار محمد عليه الصلاة والسلام علي من تبعوه وترجمت عواطفها هذه شعرا يتغني به ولا يعرف قائله‏,‏ من ذلك ماروي عن أسماء بنت أبي بكر قالت ـ مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم‏,‏ حتي اقبل رجل من أسفل مكة يتغني بأبيات من الشعر‏.‏

جزي الله رب الناس خير جزاءه ـ رفيقين حلا خيمة أم معبد‏.‏
هما نزلا بالبر ثم تروحا ـ فأفلح من امسي رفيق محمد‏.‏
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ـ ومقعدها للمؤمنين بمرصد‏.‏

قالت أسماء فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلي الله عليه وسلم‏,‏ وأن وجهه إلي المدينة‏.‏

من القائل؟ تذكر الرواية أنه من الجن‏,‏ وتلك عادة العرب في نسبة شعرها فلكل شاعر عندهم شيطان‏.‏

والراجح أن الأبيات المذكورة‏,‏ كما يقول الشيخ محمد الغزالي من إنشاء مؤمن يكتم إيمانه بمكة ويتسمع أخبار المهاجرين فيبدي فرحته بما يلقون من توفيق‏,‏ ويجد متنفسا لمشاعره المتوارية في هذا الغناء المرسل‏.‏[/font]

[font=arial (arabic)]لم تكن هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة فرارا من الخطر أو بعدا عن المشكلات‏.‏

إنما كانت شيئا يختلف تماما

لقد أدرك الرسول صلي الله عليه وسلم أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمنوا‏.‏

لقد حوصرت الدعوة في مكة‏,‏ والإسلام دعوة عالمية من طبيعتها الانتشار‏,‏ ثم إن الرسول صلي الله عليه وسلم لا يستقل باتخاذ القرارات المصيرية‏,‏ وإنما يوجهه الله تبارك وتعالي فيها‏.‏

وقد أوحي الله إلي رسوله بالهجرة فخرج وهو يقول لمكة‏:‏ والله إنك أحب أرض الله إلي قلبي‏,‏ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت‏.‏

وترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلي المدينة فكان أهلها يخرجون كل صباح ويمدون أبصارهم إلي الأفق البعيد‏,‏ ويتشوقون إلي مقدمه بلهفة‏,‏ فإذا اشتد الحر عادوا إلي بيوتهم وهم يتواعدون علي اللقاء غدا‏,‏ وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول برز الأنصار علي عادتهم عندما سمعوا بخروج الرسول صلي الله عليه وسلم‏,‏ ووقفوا ينتظرون طلعته فلما حميت الظهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلي بيوتهم صعد رجل من اليهود علي تل مرتفع فرأي الرسول صلي الله عليه وسلم وصاحبه يتقاذفهم السراب وتدنو بهم الرواحل رويدا رويدا إلي المدينة‏.‏

فصرخ اليهودي بأعلي صوته‏:‏ هذا صاحبكم قد جاء‏..‏ هذا جدكم الذي تنتظرون‏,‏ وأسرع الأنصار إلي ملابسهم الجديدة ولبست يثرب حلة العيد ومباهجها‏.‏

كان أول من جاء إلي المدينة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم مصعب بن عمير‏,‏ وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس القرآن‏,‏ ثم جاء عمار وبلال وسعد‏,‏ ثم جاء عمر بن الخطاب‏,‏ ثم جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبوبكر‏.‏

ومن المعروف أن كثيرا من أهل المدينة لم يكن قد رأي الرسول صلي الله عليه وسلم من قبل‏,‏ فلما قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة‏,‏ حتي إن النساء كن يتساءلن من فوق أسطح البيوت ويقلن‏:‏

أيهما هو الرسول صلي الله عليه وسلم‏.‏[/font]

[font=arial (arabic)]كان الأمر الأول الذي بادر به الرسول عليه الصلاة والسلام هو بناء مسجده بعد وصوله إلي المدينة لتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض ودسائس الحياة الدنيا‏,‏ والمعروف أن الرسول صلي الله عليه وسلم بني مسجده الجامع حيث بركت ناقته في قطعة أرض مملوكة لغلامين يكفلهما أسعد بن زرارة‏,‏ وكان الغلامان يريدان النزول عنها لله فأبي رسول الله صلي الله عليه وسلم إلا ابتياعها بثمنها‏.‏

أمر الرسول صلي الله عليه وسلم بالنخل فقطع‏,‏ وبالقبور فنبشت‏,‏ وبالخرب فسويت‏,‏ وصفوا النخيل قبالة المسجد وكانت القبلة يومئذ هي بيت المقدس‏,‏ واشترك الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار علي كواهلهم‏,‏ وتم المسجد في حدود البساطة فراشه الرمال والحصباء وسقفه الجريد وأعمدته الجذوع‏,‏ وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه وقد تفلت الكلاب فيه فتغدو وتروح‏.‏

هذا البناء المتواضع البسيط هو الذي ربي ملائكة البشر ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة‏..‏ في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من آمن به يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلي غسق الليل‏.‏

يري الشيخ محمد الغزالي أن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة ومدرسة للعلم وندوة للأدب‏,‏ وقد ارتبط بفريضة الصلاة‏,‏ ولكن الناس لما أعياهم بناء النفوس علي الأخلاق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة‏,‏ تضم مصلين أقزاما‏.‏

أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلي تزكية أنفسهم وتقويمها فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام‏.‏

والمسجد الذي وجه الرسول صلي الله عليه وسلم همته إلي بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها‏,‏ فالأرض كلها مسجد والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان‏.‏

إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث ويتشبث به أقوي تشبث وهو وصل العباد بربهم وصلا يتجدد مع الزمن‏,‏ ويتكرر آناء الليل والنهار فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد وتجهل اليوم الآخر‏,‏ وتخلط المعروف بالمنكر‏.‏

والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكر أبدا بالله وبلقائه‏,‏ وتمسك بالمعروف‏,‏ وتبغض في المنكر‏.‏

كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلي الله عليه وسلم في المدينة أن قام فحمد الله وأثني عليه بما هو أهله‏,‏ ثم قال‏:‏ أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم‏,‏ تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه‏:‏ ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك‏,‏ وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك ؟‏..‏فينظر يمينا ويسارا فلا يري شيئا ثم ينظر قدامه فلا يري غير جهنم‏,‏ فمن استطاع أن يقي نفسه من النار ولو بشق تمرة فليفعل‏,‏ ومن لم يجد فبكلمة طيبة‏.‏[/font]​


 
انشالله يعجبكوا
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
العودة
Top