- إنضم
- 28 جانفي 2008
- المشاركات
- 3,615
- نقاط التفاعل
- 18
- النقاط
- 157
- الجنس
- ذكر
إنّ أبناء الجزائر الأبرار لن تزيدهم عنجرية ومغالة دعاة الإرهاب إلا تمسكا بدينهم، وتوبةً من ذنوبهم، والتحاما فيما بينهم.
الحمد لله وكفى والصّلاة والسلام على المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
أول ما يجب أن نبدأ به، ونحن نذرف الدموع بسبب ما حدث من تفجرات مفجعة وقاتلة لأبناء الأمة، أن نقول لأبناء أمتنا وأهل الضحايا: إنّ لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمّى، فليصبر أبناء الأمة، وليحتسبوا، اللهم اغفر لأبنائنا المسلمين، وارفع درجتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين، واغفر لنا ولهم يا ربّ العالمين، وافسح لهم في قبرهم، ونوّر لهم فيه.
وقدّ بشر المصطفى صلى الله عليه وسلم من واسى أخاه المسلم في مصيبته بخير عميم يوم الدين، فقد أخرج الخطيب في تار يخه، وكذا ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزّى أخاه المؤمن في مصيبةٍ كساه الله حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله ما يحبر بها؟ قال: يغبط بها)، وللحديث شاهد انظره في الإرواء للعلامة الألباني رحمه الله (برقم: 765).
إنّ إيفاء القول في الفاجعة التي أصابت أبناء شرق العاصمة لا يسعها عشرات من المقالات، والمحاضرات والخطب، ولكن أشير إشارة موجزة من دافع الواجب الديني إلى خطورة ما يحدث، وإلى غوائل الفتن التي يتقلد زمامها المغرر بهم ومن يأزهم أزا، وأرجوا أن يجد أبناؤنا في ما نكتب نبراسا يستهدون به في ضلمات الفتن والمحن، ومنهاجا لهم في عهد اخطلط الحق بالباطل، ورخص فيه دم المسلم.
يا أبناء الجزائر الأحرار يقول تعالى في سورة الأنفال: [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ].
قال العلاّمة الـمُفسر الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي في تفسيره: (يحذر تعالى عباده المؤمنين [فِتْنَةً]، أي: اختبارا ومحنة يعمّ بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب، بل يعمها حيثُ لم تُدفع وترفع)(1)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد يعني ابن سعيد، حدثنا غَيلان بن جرير، عن مُطرف قال: (قلنا للزبير يا أبا عبد الله، ما جاء بكم؟ ضيّعتم الخليفة حتى قُتِل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير: إنّا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان: [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً] [الأنفال 25]، لم نكن نَحسِب أنّا أهلها حتى وقعت منّا حيث وقعت)(2).
يا أبناء الجزائر الأبرار لما كان شأن الفتن المضلة التي يوقد نيرانها المغرر بهم ومن يأزهم أزا أنها تصيب المسيء وغيره أكثر النبيّ الكريم محمدٌ صلى الله عليه وسلم من التحذير من نيرانها الهوجاء، والبيان لمعالمها شفقة على أتباعه؛ بيان يحدد أصناف الشرور التي تعصف بأمن المسلمين وإيمانهم إذا حلت الفتن الصماء بساحتهم، ويشرح بوضوح ما بعده وضوح الغوائل الناجمة عن الفتن العامة؛ وأنها -والله العاصم من كل شرّ- تهزُّ كيان الأمة، وتذهب بريحها، وتضعف اقتصادها، وتسيرها ساحة خصبة لأهل المطامع السيئة، والنوايا الفاسدة للعبث بمقوماتها، ولتغيير مصارها التاريخي والوطني المرسوم بإتقان في مؤتمر الصومام وما عقبه من خطوات شجاعة ومثمرة كي تبقى الجزائر الأبية والمحررة من ربقة الإستدمار دولة عربية ومسلمة، وحلقة ذهبية في تاريخ الأمة الإسلامية، وقبلة مشرقة على الغرب بنور الرسالة تذيب الجليد عن أبنائه، وتنفض الغبار عن أهله، لا بقاء لهم إلا ببقائها شامخة شموخ جبالها الراسخة.
لقد أكثر النبي يا أبناء الجزائر من بيان خطورة الفتن على أبناء الأمة حرصا منه -فداه أبي وأمي- على دفع الشرّ عنهم، وعلى المحافظة على إيمانهم وأمنهم، ووحدة كلمتهم، وصلابة بنيانهم، وعلى رغبته لإيصال الخير إليهم، عسى أن يجعلوا بينهم وبين الفتن المضلة حجابا مستورا، [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ]، وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ].
وسأل المصطفى ربّه الغفور الرحيم أن يجنب أمته أصول المهالك، ولا أرى أضر على المسلمين من هذه التفجيرات الهوجداء، والاغتيلات العمياء التي راحت بسببها أنفس ذنبها الوحيد أنها أحبت الجزائر، وأقسمت أن تحافظ على أنفس وأموال موطنيه، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد، عن أبيه؛ أن رسول الله أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربّه طويلا ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3).
ولمّا كان البأسُ بين المسلمين واقعا بخبر الصادق المصدوق، وها نحن نلمس أثاره السيئة في الجزائر، ونرى ناره السوداء تأتي على الأخضر واليابس، اهتم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيان الفتن وغوائلها حتى يحذرها المسلمون ويبتعدوا عن بؤرها، ويتقوا أضرارها ولهيبها، وإن وقعوا في حمأتها كما هو الحال عندنا خرجوا من نفقها المظلم إذا استرشدوا بهديه صلى الله عليه وسلم، وعملوا بإرشداته بأقلّ الخسائر، وأدنى الأضرار على المستوى الروحي والمادي على حدٍ سواء، وصدق من قال:
عـرفـت الشرّ لا للشر *** لكن لتوقيــه.
ومن لا يعرف الشرّ *** من الناس يقع فيه.
ومن صور نذاته بخطورة الفتن، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقف خطيبا الساعات الطوال محذرا من أوار الفتن، ولا يترك مناسبة إلا أرشد الناس إلى البعد عن إيقاد نيران الفتنة، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي زيد الأنصاري عمرو بن أخطب الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أنه قال: (صلى بنا رسول الله الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتّى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هوكائن، فأعلمنا أحفظنا)(4).
وعن أبي ذر قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتقلب في السماء طائرٌ إلا ذكّرنا منه علما)(5).
وإنني من هذا المنبر الطيب أطالب وزارة الشؤون الدينية والإعلام والثقافة بتخصيص وقت ليس بالهيّن لتعريف المسلمين بدينهم الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا علاج لأدواء المسلمين من تفجيرات والاغتيالات إلا أن يكونوا مسلمين حقا كما أراد الله ورسوله، يعودون إلى العمل بدين الله تعالى الذي ارتضى لهم، ولا يعرضون عنه عنادا، ولا يتركونه تأوٌُّلا، ويدعون أهواءهم، ونزوات رؤوسهم.
وسيرا على منهج رسول الله كان اعتناء الصحابة بهذا الأمر جليا، فكانوا يتدارسون أحوال الفتن بينهم، ويسأل بعضهم بعضا عن تفاصيلها وأنواعها، ويعلِّم بعضُهم بعضا من كان يجهلها، فقد جاء عن حذيفة أنّه قال: (كنّا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا. قال: إنك لجريء! وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر؟ قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أ فيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر. قال: ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا)(6).
وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة، ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، عَلِمه من علمه، وجَهِله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيتُ (في نسخة: نسيته)، فأعرف ما يعرف الرجلُ وفي نسخة: (فأعرفه كما يعرف الرجلُ الرجلَ) إذا غاب عنه فرآه فعرفه)(7).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب الزهري، أنّ أبا إدريس الخولاني كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله، إنِّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إليّ في ذلك شيئا، لم يحدِّثه غيري، ولكن رسول الله قال، وهو يحدِّث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال: رسول الله وهو يَعُدُّ الفتن (منهن ثلاثٌ لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتنٌ كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار).
قال حذيفة: فذهب أولئك الرَّهط كلُّهم غيري)(8)
وقد تفاوت الصحابة الأبرار في حفظ النصوص الواردة في التحذير من الفتن المضلة، وكان حُذَيْفَة بن اليمان بن حسيل رضي الله عنه أكثرهم حفظا وسؤالا، لأن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير، وكان رضي الله عنه يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، ومَن فَهِم من الباحثين أن حذيفة انفرد عن سائر الصحابة بالاعتناء بأحاديث الفتن، ومنه أدرجها في باب الأخبار الخاصة، وأنها ليست من الفقه الذي يخاطب به العامة فقد أخطأ، والحق أن التخصيص لا دليل عليه كما هو واضح من روايات حذيفة رضي الله عنه، فقد أخبر أن ما حفظه في شأن الفتن كان في مجلس عام، وجاء في بعض الروايات أنه كان في المسجد كما مرّ بنا في حديث أبي زيد، فتحذير المسلمين في هذه العصور من شرور الفتن التي ذهبت بالناس ضبعا لبعا من الأمر الواجب، و"العلم الواجب يجب بثه ونشره، ويجب على الأمة حفظه"(9).
قال ابن أبي جمرة شارحا لحديث حذيفة " كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني" الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟: (في الحديث حكمة الله في عباده، كيف أقام كلاً منهم فيما شاء، فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعملوا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشرّ ليجتنبه ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة).
ومن عناية الصحابة الأبرار بحفظ أحاديث الفتن المضلة لتحذير النّاس منها بضوابط شرعية ما جاء عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثته، وأما الآخر فلو بثته قطع هذا البلعوم)(10).
وقد حمل الحفاظ الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي الأمراء وأحوالهم وزمنهم، جلبا للمصالح ودرء للمفاسد، وكان أحيانا يُعرِّض عند الحديث عن أمراء السوء، ليس الأمر كما هو الشأن عند بعض الوعاظ أو خطباء المساجد في هذا العصر، فإنه منذ أن يشرع في الحديث وهو يبث في أنفس سامعيه داء التمرد على السلطان والخروج عليه بالقول والفعل إلى أن تقام الصلاة، أما الصحابة الأبرار فإنهم كانوا يراعون حالة المتلقي عند بثّ العلم، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبيد الله بن موسى، عن معروف بن خرَّبوذ، عن أبي الطُّفيل، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدَّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّبَ الله ورسوله)(11).
وأخرج الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قال: حدثني أبو طاهر، وحرملة بن يحي، قالا: أخبرنا بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن مسعود قال: (ما أنت بمحدِّثٍ قوما حديثا لا تبلغه عقولُهم إلاّ كان لبعضهم فتنةً)(12).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/424 ط: سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم): (وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنّه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمد من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)، ثم ذكر الحافظ ضابطا مهما يشرح كلامه السابق ويوضح معناه: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم).
إن العلم بمراتب الأعمال، ودرجات المصالح ودركات المفاسد يتصل أتصالا وثيقا بفقه التحذير من الفتن المضلة، الذي ركيزته الخبرة بالأعمال التي تدفع البلايا والرزايا عن الأمة، والأحكام التي تُنجي من الأضرار والمفاسد، فمن أراد الله به خير من الأفراد والجماعات وفَّقه إلى العلم الذي يستطيع به أن يميز بين الأعمال والتصرفات، وما تشتمل عليه من منافع وشرور.
وسيرا على طريق الصحابة الواضح كان حال التابعيين الأبرار في سؤال علمائهم عن الفتن المضلة، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق الواسطي، حدثنا خالد، عن بيان، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسناً، قال: فبادَرَنا إليه رجلٌ فقال يا أبا عبد الرحمن حدِّثنا عن القتال في الفتنة، واللهُ يقول: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] [البقرة 193]، فقال: هل تدري ما الفتنة، ثكِلتك أمُّك؟ إنّما كان محمد صلى الله عليه وسلم يُقاتل المشركين، وكان الدُّخولُ في دينهم فتنةً، وليس كقتالكم على الملك)(13).
ووقع نحو هذا سؤال من نافع بن الأزرق(14) وجماعته لعمران، إلا أنهم لم ينتفعوا من سؤال أهل العلم ومصاحبتهم، واستشرفوا للفتن فأهلكتهم.
وأخرج الإمام ابن ماجهْ القزوينيّ في سننه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا عليّ بن مسهر، عن عاصم، عن السُّمَيْط بن السُّمير، عن عمران بن الحصين قال: أتى نافع بن الأزرقِ وأصحابُه، فقالوا: هلكت يا عمران! قال: ما هلكت. قالوا: بلى. قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ] قال: قد قاتلناهم حتّى نفيناهم، فكان الدين كلُّه لله، إن شئتم حدّثتكم حديثا سمعته من رسول لله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين، فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرّمح، فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: (وما الذي صنعت؟) مرّة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهلا شققتَ عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟) قال: يا رسول الله! لو شققتُ بطنه لكنت أعلم ما في قلبه، قال: (فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه)، قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، فدفنَّاه فأصبح على ظهر الأرض، فقالوا: لعل عدوّأ نبشه، فدفناه، ثم أمرنا غلمانا يحرسونه(15)، فأصبح على ظهر الأرض، فقلنا لعلّ الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا، فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب)(16).
ورواه كذلك ابن ماجه من طريق إسماعيل بن حفص الأُبلِّي، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن السميط، عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الأرض لتقبل من هو شرّ منه، ولكن الله أحبّ أن يريكم تعظيم حُرمة لا إله إلا الله).
وفي ختام هذه الصيحة في وجه دعاة الفساد والاعتداء على الخلق بالباطل، أذكر بنودا موجزة أرى من خلالها الحل الأشمل والأمثل لهذه الأعمال الإجرامية التي طال مقامها في ساحة الأمة، وتعددت أسالبها للإضرار بأبنائنا، ولتنغيص معيشتهم، وتكدير نفسهم ونحن على أبواب شهر رمضان شهر الخير والغفران
-1-: الرجوع إلى المرجعية العلمية الصحيحة، فكل باب من أبواب العلم له مرجع: فالفتوى والمسائل الشرعية - لاسيما في النوازل والفتن- فهي عند أهل الاجتهاد والإدراك، سواء كانوا من أبناء الوطن الحبيب، أو يسكنون في أوطان أخرى مسلمة، فالعلم رحم بين أهله، فعلى ن بيده زمام الأمر أن يعقد مؤتمرات وندوات يستضيف فيها أهل الاجتهاد من أهل العلم للنظر في مسائل الإرهاب، وسبل علاجها، وأما إذا ترك الأمر للنطيحة والمتردية ممن يزعمون أنهم من أهل العلم فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر الساعة). روه البخاري.
-2-: احترام أهل العلم والعلماء، وتوقيرهم، وتقديمهم للنظر في قضايا الأمة، فقد روى الإمام عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى طاووس أنه قال: (من السّنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسّلطان، والوالد).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس: (البركة مع أكابركم)(17).
وقال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي اللبيب الناصح: (مثل العلماء كمثل النجوم التي يهتدى بها، والأعلام التي يقتدى بها، فإذا تغيبت تحيروا، وإذا تركوها ضلوا)(18).
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: (وكان بنو إسرائيل كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، فكانت تسوسهم الأنبياء، والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل)(19).
ولكن للأسف الشديد الذي نلمسه أن أهل العلم وطلبة العلم الشرعي، وخاصة الذين لهم دراية تامة بمنهج الخوارج وأذنابهم من دعاة الإرهاب والاعتداء على البشرية؛ مؤخرون إن لم أقل مهمشون، وهذا أمر لا يخدم الحسّ الأمني، ولا يقوي ركائزه في عصر تلاطم الأفكار، وكثرة الشبه، ولهذا لابد أن نعيد للعلم منزلته، ولأهله مكانتهم في المجتمع، وأن تعتني بهم الدولة في معاشهم، وأن تسهل لهم السبل لتنظيف عقول المغرر بهم، فأهل العلم هم نبراس الأمة في عصر ظلمات الفتن والجهل.
-3-: نشر مذهب السلف الصالح في علاج الفكر المفضي إلى التكفير والتفجير.
لقد ألّف علماؤنا قديما وحديثا مصنفات متينة في ردّ فكر الخوارج، والتحذير منه، وعقدوا مناظرات عديدة فيها دحضوا شبهات أهل الباطل من الانتحاريين وأعوانهم، فما علينا إلا نشرها بين المسلمين وشرح متونها في المساجد والإذاعات، بل يجب أن توزع على طلاب المدارس والجامعات إذا أردنا قهر فكر الإرهابيين ورمسه من على وجه هذا الوطن الحبيب.
-4-:ومن الدواء النافع - والذي لابد منه في هذا الباب -: قيام ولاة الأمور بما أوجبه الله عليهم من الحكم بما أنزل الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، في الظاهر والباطن، في الأقوال والأفعال، والعقائد والنيات، والابتعاد عن كل ما حرم الله، والسير في رعيتهم بما أمرهم الله به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فهكذا شُرِعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها، فإنه متى كان قصده صلاح الرعية، والنهي عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم، ودفْع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، وطاعة أمره؛ ألان الله له القلوب، وتيسّرتْ له أسباب الخير، وكفاه الله العقوبة البشرية، وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد، وأما إذا كان قصده العلو عليهم، وإقامة رياسته ليعظِّموه، أو ليبذلوا له ما يريد من أموال؛ انعكس عليه مقصوده...)
وقال - رحمه الله تعالى -: (... ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس؛ صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله: صلاح النية، والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة... )
وعظ ابن الجوزي في سنة 574هـ بحضور الخليفة المستضيء بأمر الله، فكان مما قال: ((يا أمير المؤمنين،كن لله سبحانه - مع حاجتك إليه - كما كان لك - مع غناه عنك - إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا ترضَ أن يكون أحد أشكر له منك)) فتصدَّق أمير المؤمنين بصدقات، وأطلق محبوسين.
وقال مَرَّةً له: (يا أمير المؤمنين، لأن تصحب من يُخَوِّفك، حتى تدرك الأمن؛ خير لك من أن تصحب من يُؤَمِّنك ، حتى تدرك الخوف...).
وقال له أيضًا: (يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ خِفْتُ منك، وإن سكتُّ خِفْتُ عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك، وقول الناصح: اتق الله؛ خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم).
-5-: نشر فقه الحوار والمصالحة مع المخالف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق كلامه على نوعي التعامل مع الولاة من مجموع الفتاوى (28/283-284): (الأول: تعاون على البر والتقوى: من الجهاد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة؛ فقد ترك فرضًا على الأعيان، أو على الكفاية، متوهمًا أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل والورع، إذْ كلُ منهما كَفٌّ وإمساك...[إلى أن قال رحمه الله]: فإن مدار الشريعة على قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]المفسر لقوله: [اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ؛ وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أخرجاه في الصحيحين، وعلى أنّ الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع المفسدتين مع احتمال أدناهما: هو المشروع).
وقال رحمه الله في منهاج السنة (6/118 تحقيق محمد رشاد سالم): (فالأقَلُّ ظلمًا ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلمًا، فإنّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حتى يُقَدَّم عند التزاحم خير الخيرين، ويُدْفَع شر الشرين، ومعلوم أن شرّ الكفار، والمرتدين، والخوارج: أعظم من شر الظالم).
-6-:أن تتعاون عدة وزارات في البلد الإسلامي لعلاج هذه الأفكار:
فمن ذلك وزارة التربية والتعليم: فعليها أن تراعي في المنهج الذي يُدرَّس لأبناء الأمة ما سبقت الإشارة إليه من دراسات ناضجة وافية لعلاج هذا الداء، مع مراعاة عمل دورات علمية في ذلك للمدرِّسين والموجِّهين، حتى يظهر أثر ذلك على الطلاب.
وكذا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تقوم بعمل دورات علمية للخطباء، وتوزع عليهم الدراسات المذكورة، وتوجِّههم توجيهًا صحيحًا، فإنهم اللسان الناطق للأمة، وأثر المنبر على المسلمين - رجالًا ونساءً، وكبارًا وصغارًا –لا يخفى على أحد.
وكذا وزارة الإعلام: وعليها حمل ثقيل في توجيه المسلمين إلى الاعتدال، ومجال هذه الوزارة واسع جدًّا في هذا الشأن، فليتقِ اللهَ القائمون عليها، وليكونوا مفاتيح خير، مغاليق شرٍّ، فإن الإعلام يعمل ما لا تعمله الجيوش الجرارة.
وكذا؛ فهناك عدد من الجهات التي لها صلةٌ بهذا الشأن، فالكلُّ على ثغر، والمصلحة العامة هدف الصادقين حيثما كانوا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
===========
الحمد لله وكفى والصّلاة والسلام على المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
أول ما يجب أن نبدأ به، ونحن نذرف الدموع بسبب ما حدث من تفجرات مفجعة وقاتلة لأبناء الأمة، أن نقول لأبناء أمتنا وأهل الضحايا: إنّ لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمّى، فليصبر أبناء الأمة، وليحتسبوا، اللهم اغفر لأبنائنا المسلمين، وارفع درجتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين، واغفر لنا ولهم يا ربّ العالمين، وافسح لهم في قبرهم، ونوّر لهم فيه.
وقدّ بشر المصطفى صلى الله عليه وسلم من واسى أخاه المسلم في مصيبته بخير عميم يوم الدين، فقد أخرج الخطيب في تار يخه، وكذا ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزّى أخاه المؤمن في مصيبةٍ كساه الله حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله ما يحبر بها؟ قال: يغبط بها)، وللحديث شاهد انظره في الإرواء للعلامة الألباني رحمه الله (برقم: 765).
إنّ إيفاء القول في الفاجعة التي أصابت أبناء شرق العاصمة لا يسعها عشرات من المقالات، والمحاضرات والخطب، ولكن أشير إشارة موجزة من دافع الواجب الديني إلى خطورة ما يحدث، وإلى غوائل الفتن التي يتقلد زمامها المغرر بهم ومن يأزهم أزا، وأرجوا أن يجد أبناؤنا في ما نكتب نبراسا يستهدون به في ضلمات الفتن والمحن، ومنهاجا لهم في عهد اخطلط الحق بالباطل، ورخص فيه دم المسلم.
يا أبناء الجزائر الأحرار يقول تعالى في سورة الأنفال: [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ].
قال العلاّمة الـمُفسر الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي في تفسيره: (يحذر تعالى عباده المؤمنين [فِتْنَةً]، أي: اختبارا ومحنة يعمّ بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب، بل يعمها حيثُ لم تُدفع وترفع)(1)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد يعني ابن سعيد، حدثنا غَيلان بن جرير، عن مُطرف قال: (قلنا للزبير يا أبا عبد الله، ما جاء بكم؟ ضيّعتم الخليفة حتى قُتِل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير: إنّا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان: [وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً] [الأنفال 25]، لم نكن نَحسِب أنّا أهلها حتى وقعت منّا حيث وقعت)(2).
يا أبناء الجزائر الأبرار لما كان شأن الفتن المضلة التي يوقد نيرانها المغرر بهم ومن يأزهم أزا أنها تصيب المسيء وغيره أكثر النبيّ الكريم محمدٌ صلى الله عليه وسلم من التحذير من نيرانها الهوجاء، والبيان لمعالمها شفقة على أتباعه؛ بيان يحدد أصناف الشرور التي تعصف بأمن المسلمين وإيمانهم إذا حلت الفتن الصماء بساحتهم، ويشرح بوضوح ما بعده وضوح الغوائل الناجمة عن الفتن العامة؛ وأنها -والله العاصم من كل شرّ- تهزُّ كيان الأمة، وتذهب بريحها، وتضعف اقتصادها، وتسيرها ساحة خصبة لأهل المطامع السيئة، والنوايا الفاسدة للعبث بمقوماتها، ولتغيير مصارها التاريخي والوطني المرسوم بإتقان في مؤتمر الصومام وما عقبه من خطوات شجاعة ومثمرة كي تبقى الجزائر الأبية والمحررة من ربقة الإستدمار دولة عربية ومسلمة، وحلقة ذهبية في تاريخ الأمة الإسلامية، وقبلة مشرقة على الغرب بنور الرسالة تذيب الجليد عن أبنائه، وتنفض الغبار عن أهله، لا بقاء لهم إلا ببقائها شامخة شموخ جبالها الراسخة.
لقد أكثر النبي يا أبناء الجزائر من بيان خطورة الفتن على أبناء الأمة حرصا منه -فداه أبي وأمي- على دفع الشرّ عنهم، وعلى المحافظة على إيمانهم وأمنهم، ووحدة كلمتهم، وصلابة بنيانهم، وعلى رغبته لإيصال الخير إليهم، عسى أن يجعلوا بينهم وبين الفتن المضلة حجابا مستورا، [لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ]، وقال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ].
وسأل المصطفى ربّه الغفور الرحيم أن يجنب أمته أصول المهالك، ولا أرى أضر على المسلمين من هذه التفجيرات الهوجداء، والاغتيلات العمياء التي راحت بسببها أنفس ذنبها الوحيد أنها أحبت الجزائر، وأقسمت أن تحافظ على أنفس وأموال موطنيه، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد، عن أبيه؛ أن رسول الله أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربّه طويلا ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3).
ولمّا كان البأسُ بين المسلمين واقعا بخبر الصادق المصدوق، وها نحن نلمس أثاره السيئة في الجزائر، ونرى ناره السوداء تأتي على الأخضر واليابس، اهتم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيان الفتن وغوائلها حتى يحذرها المسلمون ويبتعدوا عن بؤرها، ويتقوا أضرارها ولهيبها، وإن وقعوا في حمأتها كما هو الحال عندنا خرجوا من نفقها المظلم إذا استرشدوا بهديه صلى الله عليه وسلم، وعملوا بإرشداته بأقلّ الخسائر، وأدنى الأضرار على المستوى الروحي والمادي على حدٍ سواء، وصدق من قال:
عـرفـت الشرّ لا للشر *** لكن لتوقيــه.
ومن لا يعرف الشرّ *** من الناس يقع فيه.
ومن صور نذاته بخطورة الفتن، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقف خطيبا الساعات الطوال محذرا من أوار الفتن، ولا يترك مناسبة إلا أرشد الناس إلى البعد عن إيقاد نيران الفتنة، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي زيد الأنصاري عمرو بن أخطب الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أنه قال: (صلى بنا رسول الله الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتّى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هوكائن، فأعلمنا أحفظنا)(4).
وعن أبي ذر قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتقلب في السماء طائرٌ إلا ذكّرنا منه علما)(5).
وإنني من هذا المنبر الطيب أطالب وزارة الشؤون الدينية والإعلام والثقافة بتخصيص وقت ليس بالهيّن لتعريف المسلمين بدينهم الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا علاج لأدواء المسلمين من تفجيرات والاغتيالات إلا أن يكونوا مسلمين حقا كما أراد الله ورسوله، يعودون إلى العمل بدين الله تعالى الذي ارتضى لهم، ولا يعرضون عنه عنادا، ولا يتركونه تأوٌُّلا، ويدعون أهواءهم، ونزوات رؤوسهم.
وسيرا على منهج رسول الله كان اعتناء الصحابة بهذا الأمر جليا، فكانوا يتدارسون أحوال الفتن بينهم، ويسأل بعضهم بعضا عن تفاصيلها وأنواعها، ويعلِّم بعضُهم بعضا من كان يجهلها، فقد جاء عن حذيفة أنّه قال: (كنّا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا. قال: إنك لجريء! وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر؟ قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أ فيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر. قال: ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا)(6).
وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة، ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، عَلِمه من علمه، وجَهِله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيتُ (في نسخة: نسيته)، فأعرف ما يعرف الرجلُ وفي نسخة: (فأعرفه كما يعرف الرجلُ الرجلَ) إذا غاب عنه فرآه فعرفه)(7).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من طريق ابن شهاب الزهري، أنّ أبا إدريس الخولاني كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله، إنِّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إليّ في ذلك شيئا، لم يحدِّثه غيري، ولكن رسول الله قال، وهو يحدِّث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال: رسول الله وهو يَعُدُّ الفتن (منهن ثلاثٌ لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتنٌ كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار).
قال حذيفة: فذهب أولئك الرَّهط كلُّهم غيري)(8)
وقد تفاوت الصحابة الأبرار في حفظ النصوص الواردة في التحذير من الفتن المضلة، وكان حُذَيْفَة بن اليمان بن حسيل رضي الله عنه أكثرهم حفظا وسؤالا، لأن الناس كانوا يسألون رسول الله عن الخير، وكان رضي الله عنه يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، ومَن فَهِم من الباحثين أن حذيفة انفرد عن سائر الصحابة بالاعتناء بأحاديث الفتن، ومنه أدرجها في باب الأخبار الخاصة، وأنها ليست من الفقه الذي يخاطب به العامة فقد أخطأ، والحق أن التخصيص لا دليل عليه كما هو واضح من روايات حذيفة رضي الله عنه، فقد أخبر أن ما حفظه في شأن الفتن كان في مجلس عام، وجاء في بعض الروايات أنه كان في المسجد كما مرّ بنا في حديث أبي زيد، فتحذير المسلمين في هذه العصور من شرور الفتن التي ذهبت بالناس ضبعا لبعا من الأمر الواجب، و"العلم الواجب يجب بثه ونشره، ويجب على الأمة حفظه"(9).
قال ابن أبي جمرة شارحا لحديث حذيفة " كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني" الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟: (في الحديث حكمة الله في عباده، كيف أقام كلاً منهم فيما شاء، فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير ليعملوا بها ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشرّ ليجتنبه ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة).
ومن عناية الصحابة الأبرار بحفظ أحاديث الفتن المضلة لتحذير النّاس منها بضوابط شرعية ما جاء عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثته، وأما الآخر فلو بثته قطع هذا البلعوم)(10).
وقد حمل الحفاظ الوعاء الذي لم يبثه أبو هريرة على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي الأمراء وأحوالهم وزمنهم، جلبا للمصالح ودرء للمفاسد، وكان أحيانا يُعرِّض عند الحديث عن أمراء السوء، ليس الأمر كما هو الشأن عند بعض الوعاظ أو خطباء المساجد في هذا العصر، فإنه منذ أن يشرع في الحديث وهو يبث في أنفس سامعيه داء التمرد على السلطان والخروج عليه بالقول والفعل إلى أن تقام الصلاة، أما الصحابة الأبرار فإنهم كانوا يراعون حالة المتلقي عند بثّ العلم، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبيد الله بن موسى، عن معروف بن خرَّبوذ، عن أبي الطُّفيل، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدَّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّبَ الله ورسوله)(11).
وأخرج الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قال: حدثني أبو طاهر، وحرملة بن يحي، قالا: أخبرنا بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن مسعود قال: (ما أنت بمحدِّثٍ قوما حديثا لا تبلغه عقولُهم إلاّ كان لبعضهم فتنةً)(12).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/424 ط: سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم): (وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنّه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمد من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)، ثم ذكر الحافظ ضابطا مهما يشرح كلامه السابق ويوضح معناه: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم).
إن العلم بمراتب الأعمال، ودرجات المصالح ودركات المفاسد يتصل أتصالا وثيقا بفقه التحذير من الفتن المضلة، الذي ركيزته الخبرة بالأعمال التي تدفع البلايا والرزايا عن الأمة، والأحكام التي تُنجي من الأضرار والمفاسد، فمن أراد الله به خير من الأفراد والجماعات وفَّقه إلى العلم الذي يستطيع به أن يميز بين الأعمال والتصرفات، وما تشتمل عليه من منافع وشرور.
وسيرا على طريق الصحابة الواضح كان حال التابعيين الأبرار في سؤال علمائهم عن الفتن المضلة، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق الواسطي، حدثنا خالد، عن بيان، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسناً، قال: فبادَرَنا إليه رجلٌ فقال يا أبا عبد الرحمن حدِّثنا عن القتال في الفتنة، واللهُ يقول: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] [البقرة 193]، فقال: هل تدري ما الفتنة، ثكِلتك أمُّك؟ إنّما كان محمد صلى الله عليه وسلم يُقاتل المشركين، وكان الدُّخولُ في دينهم فتنةً، وليس كقتالكم على الملك)(13).
ووقع نحو هذا سؤال من نافع بن الأزرق(14) وجماعته لعمران، إلا أنهم لم ينتفعوا من سؤال أهل العلم ومصاحبتهم، واستشرفوا للفتن فأهلكتهم.
وأخرج الإمام ابن ماجهْ القزوينيّ في سننه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا عليّ بن مسهر، عن عاصم، عن السُّمَيْط بن السُّمير، عن عمران بن الحصين قال: أتى نافع بن الأزرقِ وأصحابُه، فقالوا: هلكت يا عمران! قال: ما هلكت. قالوا: بلى. قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ] قال: قد قاتلناهم حتّى نفيناهم، فكان الدين كلُّه لله، إن شئتم حدّثتكم حديثا سمعته من رسول لله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين، فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرّمح، فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: (وما الذي صنعت؟) مرّة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهلا شققتَ عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟) قال: يا رسول الله! لو شققتُ بطنه لكنت أعلم ما في قلبه، قال: (فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه)، قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، فدفنَّاه فأصبح على ظهر الأرض، فقالوا: لعل عدوّأ نبشه، فدفناه، ثم أمرنا غلمانا يحرسونه(15)، فأصبح على ظهر الأرض، فقلنا لعلّ الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا، فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب)(16).
ورواه كذلك ابن ماجه من طريق إسماعيل بن حفص الأُبلِّي، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن السميط، عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الأرض لتقبل من هو شرّ منه، ولكن الله أحبّ أن يريكم تعظيم حُرمة لا إله إلا الله).
وفي ختام هذه الصيحة في وجه دعاة الفساد والاعتداء على الخلق بالباطل، أذكر بنودا موجزة أرى من خلالها الحل الأشمل والأمثل لهذه الأعمال الإجرامية التي طال مقامها في ساحة الأمة، وتعددت أسالبها للإضرار بأبنائنا، ولتنغيص معيشتهم، وتكدير نفسهم ونحن على أبواب شهر رمضان شهر الخير والغفران
-1-: الرجوع إلى المرجعية العلمية الصحيحة، فكل باب من أبواب العلم له مرجع: فالفتوى والمسائل الشرعية - لاسيما في النوازل والفتن- فهي عند أهل الاجتهاد والإدراك، سواء كانوا من أبناء الوطن الحبيب، أو يسكنون في أوطان أخرى مسلمة، فالعلم رحم بين أهله، فعلى ن بيده زمام الأمر أن يعقد مؤتمرات وندوات يستضيف فيها أهل الاجتهاد من أهل العلم للنظر في مسائل الإرهاب، وسبل علاجها، وأما إذا ترك الأمر للنطيحة والمتردية ممن يزعمون أنهم من أهل العلم فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله؛ فانتظر الساعة). روه البخاري.
-2-: احترام أهل العلم والعلماء، وتوقيرهم، وتقديمهم للنظر في قضايا الأمة، فقد روى الإمام عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى طاووس أنه قال: (من السّنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسّلطان، والوالد).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس: (البركة مع أكابركم)(17).
وقال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي اللبيب الناصح: (مثل العلماء كمثل النجوم التي يهتدى بها، والأعلام التي يقتدى بها، فإذا تغيبت تحيروا، وإذا تركوها ضلوا)(18).
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: (وكان بنو إسرائيل كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، فكانت تسوسهم الأنبياء، والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل)(19).
ولكن للأسف الشديد الذي نلمسه أن أهل العلم وطلبة العلم الشرعي، وخاصة الذين لهم دراية تامة بمنهج الخوارج وأذنابهم من دعاة الإرهاب والاعتداء على البشرية؛ مؤخرون إن لم أقل مهمشون، وهذا أمر لا يخدم الحسّ الأمني، ولا يقوي ركائزه في عصر تلاطم الأفكار، وكثرة الشبه، ولهذا لابد أن نعيد للعلم منزلته، ولأهله مكانتهم في المجتمع، وأن تعتني بهم الدولة في معاشهم، وأن تسهل لهم السبل لتنظيف عقول المغرر بهم، فأهل العلم هم نبراس الأمة في عصر ظلمات الفتن والجهل.
-3-: نشر مذهب السلف الصالح في علاج الفكر المفضي إلى التكفير والتفجير.
لقد ألّف علماؤنا قديما وحديثا مصنفات متينة في ردّ فكر الخوارج، والتحذير منه، وعقدوا مناظرات عديدة فيها دحضوا شبهات أهل الباطل من الانتحاريين وأعوانهم، فما علينا إلا نشرها بين المسلمين وشرح متونها في المساجد والإذاعات، بل يجب أن توزع على طلاب المدارس والجامعات إذا أردنا قهر فكر الإرهابيين ورمسه من على وجه هذا الوطن الحبيب.
-4-:ومن الدواء النافع - والذي لابد منه في هذا الباب -: قيام ولاة الأمور بما أوجبه الله عليهم من الحكم بما أنزل الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، في الظاهر والباطن، في الأقوال والأفعال، والعقائد والنيات، والابتعاد عن كل ما حرم الله، والسير في رعيتهم بما أمرهم الله به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فهكذا شُرِعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها، فإنه متى كان قصده صلاح الرعية، والنهي عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم، ودفْع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، وطاعة أمره؛ ألان الله له القلوب، وتيسّرتْ له أسباب الخير، وكفاه الله العقوبة البشرية، وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد، وأما إذا كان قصده العلو عليهم، وإقامة رياسته ليعظِّموه، أو ليبذلوا له ما يريد من أموال؛ انعكس عليه مقصوده...)
وقال - رحمه الله تعالى -: (... ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس؛ صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله: صلاح النية، والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة... )
وعظ ابن الجوزي في سنة 574هـ بحضور الخليفة المستضيء بأمر الله، فكان مما قال: ((يا أمير المؤمنين،كن لله سبحانه - مع حاجتك إليه - كما كان لك - مع غناه عنك - إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا ترضَ أن يكون أحد أشكر له منك)) فتصدَّق أمير المؤمنين بصدقات، وأطلق محبوسين.
وقال مَرَّةً له: (يا أمير المؤمنين، لأن تصحب من يُخَوِّفك، حتى تدرك الأمن؛ خير لك من أن تصحب من يُؤَمِّنك ، حتى تدرك الخوف...).
وقال له أيضًا: (يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ خِفْتُ منك، وإن سكتُّ خِفْتُ عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك، وقول الناصح: اتق الله؛ خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم).
-5-: نشر فقه الحوار والمصالحة مع المخالف:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق كلامه على نوعي التعامل مع الولاة من مجموع الفتاوى (28/283-284): (الأول: تعاون على البر والتقوى: من الجهاد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة؛ فقد ترك فرضًا على الأعيان، أو على الكفاية، متوهمًا أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل والورع، إذْ كلُ منهما كَفٌّ وإمساك...[إلى أن قال رحمه الله]: فإن مدار الشريعة على قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]المفسر لقوله: [اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ؛ وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أخرجاه في الصحيحين، وعلى أنّ الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع المفسدتين مع احتمال أدناهما: هو المشروع).
وقال رحمه الله في منهاج السنة (6/118 تحقيق محمد رشاد سالم): (فالأقَلُّ ظلمًا ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلمًا، فإنّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حتى يُقَدَّم عند التزاحم خير الخيرين، ويُدْفَع شر الشرين، ومعلوم أن شرّ الكفار، والمرتدين، والخوارج: أعظم من شر الظالم).
-6-:أن تتعاون عدة وزارات في البلد الإسلامي لعلاج هذه الأفكار:
فمن ذلك وزارة التربية والتعليم: فعليها أن تراعي في المنهج الذي يُدرَّس لأبناء الأمة ما سبقت الإشارة إليه من دراسات ناضجة وافية لعلاج هذا الداء، مع مراعاة عمل دورات علمية في ذلك للمدرِّسين والموجِّهين، حتى يظهر أثر ذلك على الطلاب.
وكذا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تقوم بعمل دورات علمية للخطباء، وتوزع عليهم الدراسات المذكورة، وتوجِّههم توجيهًا صحيحًا، فإنهم اللسان الناطق للأمة، وأثر المنبر على المسلمين - رجالًا ونساءً، وكبارًا وصغارًا –لا يخفى على أحد.
وكذا وزارة الإعلام: وعليها حمل ثقيل في توجيه المسلمين إلى الاعتدال، ومجال هذه الوزارة واسع جدًّا في هذا الشأن، فليتقِ اللهَ القائمون عليها، وليكونوا مفاتيح خير، مغاليق شرٍّ، فإن الإعلام يعمل ما لا تعمله الجيوش الجرارة.
وكذا؛ فهناك عدد من الجهات التي لها صلةٌ بهذا الشأن، فالكلُّ على ثغر، والمصلحة العامة هدف الصادقين حيثما كانوا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
===========