اتمنى اعرف رايكم في هذه المحاولة البسيطه. عن حي عظيم حي القصبة
عشت أيها البطل الصغير , كان هذا صوت الحجة فطيمة.
رمت لي كيس الطعام في حذر. الظلام حالك في الزقاق , سمعت صوت محرك السيارة , وبعض الكلمات بالفرنسية .
- الجنود في كل مكان !.
- قال لي أبو محمود وهو يركض نحوي .
همست :
ـ أين عبدالقادر ؟!
أجاب وهو ينظر إلى كيس الطعام :
ـ لا أعرف .. لقد اختفى .
أطلت الحجة فطيمة من شباك منزلها وهتفت :
ـ ادخلوا .. ادخلوا .
قفزنا من عتبة الشباك ...
اخرج أبو محمود مسدسه من جيبه , صاحت به الحجة فطيمة :
ـ لا .. لدينا أطفال .
أعاد مسدسه إلى جيبه , لكنه بقي متحفزاً .
وقال بحنق :
ـ لن نبقى هنا !
تناهى إلى مسامعنا خطوات الجنود . ثم إطلاق رصاص , وصوت نحيب امرأة .
قالت الحجة فطيمة بهلع :
ـ هذا صوت ! . صوت مليكه .
كان نحيبا قويا مؤلما, بدد سكون المكان هدوءً مخيفاً، كان نحيبها كسر هدوءه ويزيد من الخوف منه .
تلصصت الحجة فطيمة من الشباك بحذر.
ثم قالت :
ـ لقد ذهب الملاعين .
خرجنا ووجدنا مليكه تبكي بألم وعلى حجرها رجل ميت .. صاحت وهي تقبله :
ـ لقد قتلوا أبا فرحات .. قتلوا أبا فرحات .
ظهر طفل صغير أمام الباب , كان يرتجف .
بدأت السماء تمطر. المرة الأولى التي أشاهد فيها رجلا ميتا, ثقب جسده بعدة رصاصات . وبقيت جثة أبو فرحات تلازمني فترة طويلة , تذكرت أبي.
هو أيضاَ مات برصاص الفرنسيين , لكني لم أشاهد جثته .
أخرج أبو محمود مسدسه وصاح :
ـ والله لأقتل أحدهم , وركض مبتعدا عنا .
حاولت اللحاق به لأمنعه لكنه تلاشىتحت المطر و الظلام . بعد قليل سمعنا طلقات رصاص .
وضعت الحجة فطيمة يدها على صدرها وتمتمت :
ـ لا اله إلا الله .
والتفتت إلي :
ـ ارحل الآن .. قبل أن يعودوا .
ركضت كثيرا , كنت وضعت كيس الطعام تحت ثيابي حتى لايبتل.
صوت المطر وارتطامه على الأرض . وهدوء المكان المتقطع . ووقع قدماي زادني رعبا .
ركضت أكثر من ساعة . لم أشعر بالخوف كما أشعر به الان خيل لي أن الفرنسيون يطاردونني .
وصلت البيت ، ركلت بابه بقوة وأنا اصرخ مذعورا :
ـ لقد قتلوا أبا محمود!!.
وصمت !
المكان فارغ ومخيف , ضؤ خافت ينطلق من قنديل وحيد ، معلق بسلسلة تتحرك به ذهابا وإيابا.. الدماء تملأ الغرفة , الجدران مثقوبة بالرصاص ، تراجعت إلى الخلف مذعورا , وتعثرت بشي وسقطت فاقدا الوعي .
لا أعرف كم بقيت فاقداً الوعي , حيث استيقظت على ظلام دامس من حولي .
بصيصاَ من الضوء يتقدم نحوي . كلما يتقدم يبهرني الضؤ , وضع يده على جبهتي بلطف وقال :
ـ أنت في مكان آمن بني .
ثم وضع القنديل بجانبي .
صحت بفرحة :
ـ عم يوسف .. أنت !!
شهدت ابتسامته تتلألأ وقال :
ـ تلك الدماء في البيت ليس دماءنا .
سمعت سعدي يقول :
ـ الفرنسيون .
تمتمت :
ـ الحمد الله .
عرفت أن العم يوسف ورجاله أحسوا بحركة خارج البيت . فخرجوا من خلال نفق سري، وشاهدوا ثلاثة من الجنود الفرنسيين يدخلون البيت , باغتوهم بإطلاق رصاص عليهم وقتلوا اثنين وأسروا الثالث .
سألت العم يوسف :
ـ ماذا ستفعلون بالأسير ياعم يوسف؟
قال تؤده :
ـ سنبادله أحد رجالنا , هذا إذا لم يمت من الخوف منّا ..
اكتشفت أننا جميعا نقيم في حارتنا ، حي القصبة . حيث ولدت وترعرعت في هذا الحي الكبير، كانت لي طفولتي الخاصة. واشتهر الحي بقصوره العثمانية و منازله العتيقة أزقته الضيقة . وبالمحلات، والدكاكين ، خياطون وصانعيوا الفخار، حذاؤن ، وبائعيوا ملابس التقليدية . وعرف هذا الحي بأنه كان معقلا الثوار الجزائريين .
كان الفرنسيون يرهبونه ، لم يتجرأو كثيرا في التوغل إلى عمقه ، فالثوار يتوزعون في أزقته وبيوته، وما سهل لهم كثيراَ الإفلات من الفرنسيين .
ذات يوم كان العم يوسف مجتمعا مع رجاله ، فيها تردد إلى مسامعي ـ غير مره ـ اسم جميلة بوحيرد لأول مرة .
سمعت صوت امرأة تصرخ :
ـ سأحمل السلاح مثل جميلة .
وخرجت مسرعة وبيدها بندقية ، باليد الأخرى تجر طفل خلفها .
تبعها بوعلي صائحا :
ـ مليكة انتظري .. يا أم فرحات .. انتظري .
يلحقه العم يوسف بصوته :
ـ دعها .. إنها امرأة شجاعة .
التفت إلي بوعلي وقال :
ـ أنت ! .. نمّ .
وأغلق الباب خلفه .
لم أكن أحب بوعلي ، كان يعتبرني طفلاً ، رغم أني بلغت السادسة عشر من عمري ، العم يوسف وهو صديق والدي ، يعتمد علي كثيرا في القبام ببعض الأعمال ، كجلب الطعام للثوار، وفي نقل الرسائل ، وفي التجسس على أماكن الفرنسيين ورصد تحركاتهم ، وهو عمل بقدر ماكان يشعرني بالمتعة ، كان له رهبته .
ما زلت أذكر وجه سعدي متجهماً عندما دخل علينا الغرفة وبيده صحن من الطعام ، قال بصوت ضعيف :
الفرنسي .. لقد انتحر .
ركضنا جميعاً إلى البدروم ، يسبقنا العم يوسف ، وجدنا الفرنسي ممددا على الأرض والدماء تنزف من رسغ يده اليسرى. وقنينة زجاج مكسورة .
تحرك الفرنسي ، ارتبكنا ، اسرع العم يوسف في ربط مكان الجرح ليمنع نزيف الدم ، وصاح بنا :
ـ ليذهب أحدكم ويحضر الحكيم بسرعة .
بقيت أراقب الفرنسي وهو ينازع الموت ، لا أدري لم حاول الانتحار رغم أني أخبرته بأننا سوف نبادله بأحد من رجالنا .
قال سعدي غاضباً :
ـ كان يجب أن تدعه يموت .
جاء الحكيم ، وعالج الفرنسي ، و خرج علينا قائلاً :
ـ سوف يشفى ، لم يكن الجرح عميقاً .
وقبل أن يغادر المنزل قال بصوت هادئ وعميق :
ـ احذروا .. إنهم يبحثون عنه ، يفتشون بيتاَ. بيتاَ .. مع السلامة .
بدأ اسم جميلة بو حيرد يتردد بيننا كثيراَ وأيضاَ جميلة أبو عزة .
مليكه قبض عليها وهي تحاول قتل تاجر فرنسي ، عذبت واغتصبت ثم أطلق سراحها عن طريق الخطأ ، لم أرها ، سمعت بأنها تزوجت رجلاَ من الثوار وشكلت معه فصيلة من المقاومين .
أعدم أبو محمود وعبد القادر بالمقصلة بعد محاكمة سريعة ، وبقت جثتاهما معلقتين بجانب ثكنة عسكرية فرنسية .
حزن العم يوسف عليهما حزنا ً عميقاً ، أول مرة أشاهده يبكي ، كان أبو محمود أكثر الرجال المقربين إليه ، قال وفي عينيه إصرار عجيب :
ـ قسماَ بالله إني لن أموت ألا شهيداً مثلك يا أبا محمود .
لكن العم احمد لم يمت شهيداً حيث عمر وعاش فترة طويلة ما بعد الثورة .
كنت نائماً عندما خرج العم يوسف ورجاله من البيت في الساعة الثانيةصباحا وعادوا قبل الفجر بقليل ، قال لي وهو يلكزني بكعب بندقية :
ـ انهض أيها الشاب .
فتحت عينّي وجدتهم جميعهم حولي مبتسمين .. سألت :
ـ ماذا حدث ؟! .
قال لي زبانه :
ـ لقد ضربناهم .. قتلنا الكثير منهم
ـ حقاً ، ثم لمّ لم تدعوني أذهب معكم ؟!.
رفع العم يوسف البندقية عالياً وقال :
ـ هذه بندقيتك سترافقنا في المرة القادمة .
قفز بوعلي واحتج قائلاً :
ـ لا .. مازال صغيراَ .
- ـ لقد كبر ..
قال ذلك وقذف البندقية في حجري .
بقيت جالساً في فراشي والبندقية في يدي .. كنت فرحاً أتمنيت طويلاً حمل البندقية مثل أبي ، أبي مات شهيداً ، مات واقفاً وبيده بندقيته ، بكيت بشده ، كم تمنيت الانتقام لأبي ، فجأة قفزت من فراشي ، وركضت إلى البدروم وصوبت فوهة البندقية على رأس الأسير الفرنسي فأخذ يصرخ من الخوف حتى تبول على بنطلونه ، والعرق يسيل من جبهتي رغم برودة المكان وينقط على كعب البندقية ثم يمر إلى الزناد لينحصر هناك ، لحقني العم يوسف وتبعه الآخرون ، سحب من يدي البندقية وهمس:
ـ اهدأ بني .
ارتميت على صدره وأجهشت بالبكاء .
في اليوم التالي أخبرني العم يوسف أن الجندي الفرنسي قد مات ، قال لي سعدي مبتسماً : ـ لقد أخفته .
لم أعلق ، كنت أحب مواجهة الجندي في ساحة المعركة .
دار نقاش حاد بين بوعلي والعم يوسف بسببي ، لم يكن بوعلي يوافق على ذهابي معهم للقتال مبرراً بأني مازلت طفلاً ، فدخلت عليه غاضباً ووقفت إمامه مستعداً لمصارعته .. صحت :
ـ هييه .. دعني أر قوتك .
قال بلا مبالاة :
ـ أبق في فراشك .
فعجلته بلكمه بوجهه ، لم يترنح ، لكمني بقوة حتى سقطت متألماً ، لكني نهضت كالثور وحملته ورميته بعيداً ، وشجعني العم يوسف ورجاله :
ـ هيا بني .. دعه يُرِى قوتك .
نهض بوعلي مسدداً لي عدة لكمات قوية ، ترنحت لكني بقيت واقفاً ، لم أسقط . أنفي وفمي ينزفان ، ثم سدد لكمه قويه قذفت بي أرضاً ، تقدم بعد ذلك نحوي ومد يده ليرفعني , صافحني ,ً وشدني إلى صدره واحتضنني بقوه .
مليكه وزوجها استشهدا في كمين نصب لهما .
أخبرنا أحدهم أنه تم القبض على جميلة بوحيرد .. لم نصدقه .
عرفناه بعد أيام أن الخبر كان ملفقاً من قبل الفرنسيون .. تحولت جميله إلى أسطورة .
عشت أيها البطل الصغير , كان هذا صوت الحجة فطيمة.
رمت لي كيس الطعام في حذر. الظلام حالك في الزقاق , سمعت صوت محرك السيارة , وبعض الكلمات بالفرنسية .
- الجنود في كل مكان !.
- قال لي أبو محمود وهو يركض نحوي .
همست :
ـ أين عبدالقادر ؟!
أجاب وهو ينظر إلى كيس الطعام :
ـ لا أعرف .. لقد اختفى .
أطلت الحجة فطيمة من شباك منزلها وهتفت :
ـ ادخلوا .. ادخلوا .
قفزنا من عتبة الشباك ...
اخرج أبو محمود مسدسه من جيبه , صاحت به الحجة فطيمة :
ـ لا .. لدينا أطفال .
أعاد مسدسه إلى جيبه , لكنه بقي متحفزاً .
وقال بحنق :
ـ لن نبقى هنا !
تناهى إلى مسامعنا خطوات الجنود . ثم إطلاق رصاص , وصوت نحيب امرأة .
قالت الحجة فطيمة بهلع :
ـ هذا صوت ! . صوت مليكه .
كان نحيبا قويا مؤلما, بدد سكون المكان هدوءً مخيفاً، كان نحيبها كسر هدوءه ويزيد من الخوف منه .
تلصصت الحجة فطيمة من الشباك بحذر.
ثم قالت :
ـ لقد ذهب الملاعين .
خرجنا ووجدنا مليكه تبكي بألم وعلى حجرها رجل ميت .. صاحت وهي تقبله :
ـ لقد قتلوا أبا فرحات .. قتلوا أبا فرحات .
ظهر طفل صغير أمام الباب , كان يرتجف .
بدأت السماء تمطر. المرة الأولى التي أشاهد فيها رجلا ميتا, ثقب جسده بعدة رصاصات . وبقيت جثة أبو فرحات تلازمني فترة طويلة , تذكرت أبي.
هو أيضاَ مات برصاص الفرنسيين , لكني لم أشاهد جثته .
أخرج أبو محمود مسدسه وصاح :
ـ والله لأقتل أحدهم , وركض مبتعدا عنا .
حاولت اللحاق به لأمنعه لكنه تلاشىتحت المطر و الظلام . بعد قليل سمعنا طلقات رصاص .
وضعت الحجة فطيمة يدها على صدرها وتمتمت :
ـ لا اله إلا الله .
والتفتت إلي :
ـ ارحل الآن .. قبل أن يعودوا .
ركضت كثيرا , كنت وضعت كيس الطعام تحت ثيابي حتى لايبتل.
صوت المطر وارتطامه على الأرض . وهدوء المكان المتقطع . ووقع قدماي زادني رعبا .
ركضت أكثر من ساعة . لم أشعر بالخوف كما أشعر به الان خيل لي أن الفرنسيون يطاردونني .
وصلت البيت ، ركلت بابه بقوة وأنا اصرخ مذعورا :
ـ لقد قتلوا أبا محمود!!.
وصمت !
المكان فارغ ومخيف , ضؤ خافت ينطلق من قنديل وحيد ، معلق بسلسلة تتحرك به ذهابا وإيابا.. الدماء تملأ الغرفة , الجدران مثقوبة بالرصاص ، تراجعت إلى الخلف مذعورا , وتعثرت بشي وسقطت فاقدا الوعي .
لا أعرف كم بقيت فاقداً الوعي , حيث استيقظت على ظلام دامس من حولي .
بصيصاَ من الضوء يتقدم نحوي . كلما يتقدم يبهرني الضؤ , وضع يده على جبهتي بلطف وقال :
ـ أنت في مكان آمن بني .
ثم وضع القنديل بجانبي .
صحت بفرحة :
ـ عم يوسف .. أنت !!
شهدت ابتسامته تتلألأ وقال :
ـ تلك الدماء في البيت ليس دماءنا .
سمعت سعدي يقول :
ـ الفرنسيون .
تمتمت :
ـ الحمد الله .
عرفت أن العم يوسف ورجاله أحسوا بحركة خارج البيت . فخرجوا من خلال نفق سري، وشاهدوا ثلاثة من الجنود الفرنسيين يدخلون البيت , باغتوهم بإطلاق رصاص عليهم وقتلوا اثنين وأسروا الثالث .
سألت العم يوسف :
ـ ماذا ستفعلون بالأسير ياعم يوسف؟
قال تؤده :
ـ سنبادله أحد رجالنا , هذا إذا لم يمت من الخوف منّا ..
اكتشفت أننا جميعا نقيم في حارتنا ، حي القصبة . حيث ولدت وترعرعت في هذا الحي الكبير، كانت لي طفولتي الخاصة. واشتهر الحي بقصوره العثمانية و منازله العتيقة أزقته الضيقة . وبالمحلات، والدكاكين ، خياطون وصانعيوا الفخار، حذاؤن ، وبائعيوا ملابس التقليدية . وعرف هذا الحي بأنه كان معقلا الثوار الجزائريين .
كان الفرنسيون يرهبونه ، لم يتجرأو كثيرا في التوغل إلى عمقه ، فالثوار يتوزعون في أزقته وبيوته، وما سهل لهم كثيراَ الإفلات من الفرنسيين .
ذات يوم كان العم يوسف مجتمعا مع رجاله ، فيها تردد إلى مسامعي ـ غير مره ـ اسم جميلة بوحيرد لأول مرة .
سمعت صوت امرأة تصرخ :
ـ سأحمل السلاح مثل جميلة .
وخرجت مسرعة وبيدها بندقية ، باليد الأخرى تجر طفل خلفها .
تبعها بوعلي صائحا :
ـ مليكة انتظري .. يا أم فرحات .. انتظري .
يلحقه العم يوسف بصوته :
ـ دعها .. إنها امرأة شجاعة .
التفت إلي بوعلي وقال :
ـ أنت ! .. نمّ .
وأغلق الباب خلفه .
لم أكن أحب بوعلي ، كان يعتبرني طفلاً ، رغم أني بلغت السادسة عشر من عمري ، العم يوسف وهو صديق والدي ، يعتمد علي كثيرا في القبام ببعض الأعمال ، كجلب الطعام للثوار، وفي نقل الرسائل ، وفي التجسس على أماكن الفرنسيين ورصد تحركاتهم ، وهو عمل بقدر ماكان يشعرني بالمتعة ، كان له رهبته .
ما زلت أذكر وجه سعدي متجهماً عندما دخل علينا الغرفة وبيده صحن من الطعام ، قال بصوت ضعيف :
الفرنسي .. لقد انتحر .
ركضنا جميعاً إلى البدروم ، يسبقنا العم يوسف ، وجدنا الفرنسي ممددا على الأرض والدماء تنزف من رسغ يده اليسرى. وقنينة زجاج مكسورة .
تحرك الفرنسي ، ارتبكنا ، اسرع العم يوسف في ربط مكان الجرح ليمنع نزيف الدم ، وصاح بنا :
ـ ليذهب أحدكم ويحضر الحكيم بسرعة .
بقيت أراقب الفرنسي وهو ينازع الموت ، لا أدري لم حاول الانتحار رغم أني أخبرته بأننا سوف نبادله بأحد من رجالنا .
قال سعدي غاضباً :
ـ كان يجب أن تدعه يموت .
جاء الحكيم ، وعالج الفرنسي ، و خرج علينا قائلاً :
ـ سوف يشفى ، لم يكن الجرح عميقاً .
وقبل أن يغادر المنزل قال بصوت هادئ وعميق :
ـ احذروا .. إنهم يبحثون عنه ، يفتشون بيتاَ. بيتاَ .. مع السلامة .
بدأ اسم جميلة بو حيرد يتردد بيننا كثيراَ وأيضاَ جميلة أبو عزة .
مليكه قبض عليها وهي تحاول قتل تاجر فرنسي ، عذبت واغتصبت ثم أطلق سراحها عن طريق الخطأ ، لم أرها ، سمعت بأنها تزوجت رجلاَ من الثوار وشكلت معه فصيلة من المقاومين .
أعدم أبو محمود وعبد القادر بالمقصلة بعد محاكمة سريعة ، وبقت جثتاهما معلقتين بجانب ثكنة عسكرية فرنسية .
حزن العم يوسف عليهما حزنا ً عميقاً ، أول مرة أشاهده يبكي ، كان أبو محمود أكثر الرجال المقربين إليه ، قال وفي عينيه إصرار عجيب :
ـ قسماَ بالله إني لن أموت ألا شهيداً مثلك يا أبا محمود .
لكن العم احمد لم يمت شهيداً حيث عمر وعاش فترة طويلة ما بعد الثورة .
كنت نائماً عندما خرج العم يوسف ورجاله من البيت في الساعة الثانيةصباحا وعادوا قبل الفجر بقليل ، قال لي وهو يلكزني بكعب بندقية :
ـ انهض أيها الشاب .
فتحت عينّي وجدتهم جميعهم حولي مبتسمين .. سألت :
ـ ماذا حدث ؟! .
قال لي زبانه :
ـ لقد ضربناهم .. قتلنا الكثير منهم
ـ حقاً ، ثم لمّ لم تدعوني أذهب معكم ؟!.
رفع العم يوسف البندقية عالياً وقال :
ـ هذه بندقيتك سترافقنا في المرة القادمة .
قفز بوعلي واحتج قائلاً :
ـ لا .. مازال صغيراَ .
- ـ لقد كبر ..
قال ذلك وقذف البندقية في حجري .
بقيت جالساً في فراشي والبندقية في يدي .. كنت فرحاً أتمنيت طويلاً حمل البندقية مثل أبي ، أبي مات شهيداً ، مات واقفاً وبيده بندقيته ، بكيت بشده ، كم تمنيت الانتقام لأبي ، فجأة قفزت من فراشي ، وركضت إلى البدروم وصوبت فوهة البندقية على رأس الأسير الفرنسي فأخذ يصرخ من الخوف حتى تبول على بنطلونه ، والعرق يسيل من جبهتي رغم برودة المكان وينقط على كعب البندقية ثم يمر إلى الزناد لينحصر هناك ، لحقني العم يوسف وتبعه الآخرون ، سحب من يدي البندقية وهمس:
ـ اهدأ بني .
ارتميت على صدره وأجهشت بالبكاء .
في اليوم التالي أخبرني العم يوسف أن الجندي الفرنسي قد مات ، قال لي سعدي مبتسماً : ـ لقد أخفته .
لم أعلق ، كنت أحب مواجهة الجندي في ساحة المعركة .
دار نقاش حاد بين بوعلي والعم يوسف بسببي ، لم يكن بوعلي يوافق على ذهابي معهم للقتال مبرراً بأني مازلت طفلاً ، فدخلت عليه غاضباً ووقفت إمامه مستعداً لمصارعته .. صحت :
ـ هييه .. دعني أر قوتك .
قال بلا مبالاة :
ـ أبق في فراشك .
فعجلته بلكمه بوجهه ، لم يترنح ، لكمني بقوة حتى سقطت متألماً ، لكني نهضت كالثور وحملته ورميته بعيداً ، وشجعني العم يوسف ورجاله :
ـ هيا بني .. دعه يُرِى قوتك .
نهض بوعلي مسدداً لي عدة لكمات قوية ، ترنحت لكني بقيت واقفاً ، لم أسقط . أنفي وفمي ينزفان ، ثم سدد لكمه قويه قذفت بي أرضاً ، تقدم بعد ذلك نحوي ومد يده ليرفعني , صافحني ,ً وشدني إلى صدره واحتضنني بقوه .
مليكه وزوجها استشهدا في كمين نصب لهما .
أخبرنا أحدهم أنه تم القبض على جميلة بوحيرد .. لم نصدقه .
عرفناه بعد أيام أن الخبر كان ملفقاً من قبل الفرنسيون .. تحولت جميله إلى أسطورة .