الجزائر البيضاء
:: عضو منتسِب ::
- إنضم
- 9 أكتوبر 2006
- المشاركات
- 52
- نقاط التفاعل
- 0
- النقاط
- 3
بعثة ((ارتياد الآفاق)) في جبال الشريعة
الجزائر” عروس بيضاء مشربة بالخضرة تحتضنها الجبال الشاهقة
قامت بعثة “ارتياد الآفاق” إلى الجزائر خلال “ندوة الرحالة العرب والمسلمين” برحلة في الطبيعة الجزائرية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي بصحبة ضيوف الندوة والمشاركين بأعمالها من الأساتذة والأكاديميين المهتمين بأدب الرحلة، والذين قدموا بحوثاً قيمة في الندوة على مدار أربعة أيام. بلغت الرحلة جبال الشريعة التي كانت حتى الأمس القريب أكثر مناطق الجزائر خطورة وإحدى أهم القلاع التي اعتصمت بها الجماعات المسلحة.
الساعة الواحدة ليلاً من صباح الجمعة 26/2/2005 والجزائر العاصمة تغفو في قرارة المطر. ومن شرفة غرفتي المطلة على البحر في فندق “الأوراسي” الواقف بأبّهة مهيبة في صدر الجبل، كنت أرقب في هذا الليل الشتوي عرس الطبيعة الخصب ومشهد عشق ليلي ساحر.
دموع غزيرة هانية تسكبها السحب، والجزائر فاردةٌ جسدها في فضاء الليل تستحم بصمت. لِليل أصابع وراحات من الرياح تغرف المطر، وتَغُل به في فروع وأوراق الأشجار، لتُنضرَ خضرتها، وتوقظ شبابها، وتُدلكُ أجساد الأبنية البيضاء ذات الأبواب والنوافذ الزرقاء النيليّة؛ الناهضة بقوة وثبات، وتغسل شفاه وجروح قرميدها المنتشر في هامتها وخواصرها، كالحِناء الناضحة من جذوع شجر العَنْدم.
ساعتان عبرتا، خلتهما لحظات، وأنا أشهد بالقلب والحواس الخمس طقس الخصوبة الهائل. أويت بعدها إلى الفراشِ، وأنا أحس ملءَ جسدي مطراً دافئاً يُرعِشُ الروح.
وفي غفلةٍ من صمت الليل تلفعت السحب بعباءات ذاتها، ومضت خلسةً تخب في دروب السماء ومجاهل العتمة.
في الصباح استيقظت على مشهد آسر. كانت الشمس ترسل أشعتها الرخية، تُجفّفُ البلل وآثار عشق الليل، وتمنح “الجزائر” حورية الجبال، رونق الصبا، والنشاط المتجدد، والصباح البهي.
“الجزائر” عروس بيضاء مشربة بالخضرة تحتضنها الجبال، وتداعب أقدامها زرقة مويجات البحر، وبحنو طفولي تحتضن بدارة ذراعيها المنفردتين خلجة من خاصرة “الأبيض المتوسط”، أجمل وأبهى بحار الدنيا.
كان وجه الشمس مستديراً في السماء، وممتدّاً على صفحة مياه المتوسط كسيفٍ روماني من الذهب. كان ينساب بلطف في أديم الماء رضيّاً كابتسامة العاشقة. كل ما في هذا الصباح يمور بالحيوية والحركة، ويدعونا إلى رحلة في أرض الجزائر الندية وجوها العابق. وفي الحافلات التي أقلتنا غرباً باتجاه مدينة “بليدة” وجبالها العظيمة، كنت أملأ عيني وروحي من مشاهد السهول الخضراء والمزارع والبيوت المتناثرة فيها؛ تلك الأراضي التي استودعها الخالق كنوز الخصب والوفرة والجمال. تلك الجنان المنبثة ما كان للعين أن تشبع من مرآها المشرق الضاحي، وكانت بيوتها ومزارعها ما تزال تحتفظ برونق جمالها الفرنسي وأناقتها الساحرة منذ أن استحوذ عليها الفرنسيون في القرن التاسع عشر بأقل الأثمان، وهجروا منها كل العائلات العربية واستوطنوها إلى أن قرّرت دماء مليون شهيد أن تُرحّل الفرنسيين إلى ديارهم بعد قرن ونيف، وتعيد دفئها الغارب إلى حضن الوطن.
بعد نحوٍ من نصف ساعة كنا على مشارف “بليدة”. بليدة الحسناء الناصعة ذات الشفاه القرميدية الممتدة في بسطة هانية من الأرض عند سفوح جبال “الشريعة” الشامخة. عبرنا المدينة، واستدرنا جنوباً صاعدين في طريق يتلوّى في خواصر تلك الجبال بين غابات السنديان والبلوط وأشجار الشوح والصنوبر الباسقة. جموحُ هائل يحسه الرائي في جزوع الأشجار الضخمة الصاعدة بكل ما في شبابها من قوة وطاقة نحو السماء؛ لكأنّ الأرض بكلّ ثقلها تتشبث بجذور وجذوع تلك الأشجار، حتى لا يتفارق القويان، وترتج الجبال.
وكنّا كلما ارتفعت بنا الحافلات أبرد الجو، واستقبلتنا ابتسامات
الثلج الناصعة المنبثة هنا وهناك، ابتسامات ظلت تفتر وتتوسع حتى غطت الأرض والشجر. وصرنا في ضيافة الأبيض الغامر حيثما سرنا أو يممنا البصر. وفويق الطريق، وعلى امتداد تعرّجاته كانت تتناثر بيوت سياحية صغيرة تتلفّع غافية في فراء الثلج الناصع.
كانت سيارات كثيرة تتسلق معنا الطريق.. عائلات.. شباب وشابات وأطفال كلّهم يتجهون إلى الذروة للسياحة والتزلج والمرح مع الطبيعة الساحرة..
وهناك في القمة الشاسعة توقفت بنا الحافلات عند القصر المتربع بكبرياء حنون، لنعلم أنه القصر الرئاسي هناك، أو كا يسمّونه “شاليه الرئاسة” الذي يستضيفنا بكرم وودٍ عميقين؛ كرم عريق ومحبة دفّاقة غمرنا بها الاخوة الجزائريون منذ أن استقبلتنا أرض الجزائر الخضراء.
هبطنا من الحافلات على فراش ثلجي وثير غطى الأرض بكاملها، وارتفع أمتاراً ليطوق جذوع أشجار الصنوبر والشوح الباسقة، وفوق أغصان الشجر تمدّدت كتلٌ من الثلج كأنها طيور بيضاء بحجم الإنسان، تغفو على فراشٍ أخضر.
الجو مشوع بدكنة وقورة، والضباب يملأ الفضاء فوقنا ومن حولنا، يتهادى ببطء يعبر بنا بصمت، ونتمشى عبره حالمين، وهو يتموّج ويتشكّل في هيئات ساحرة لا تنتهي كأنه أطياف بديعة لآلهة الأوليمب، والوقت أشبه ما يكون بوقت الفجر الباكر، فغدا المكان كله كمعبد ضخم فسيح ومهيب عابق بالبخور ورهبة القداسة.
حتى أنا ابن الجبال والغابات الذي شهدت الثلوج والأماكن الشبيهة بهذا المكان خيم على روحي ما يشبه السحر، وخلت أنني أتهادى في عالم من حلم آسر وكون شفاف؛ ما كان لعيني أن تشهد روح وجسد الطبيعة الخلابة بمثل هذه الروعة، لا في قمم جبل الشيخ والذي يزيد ارتفاعه
على جبال الشريعة بألف متر ونيف، ولا في جبال لبنان العالية التي تقارب جبل الشيخ في الارتفاع، وغاباتها وثلوجها الأكثر شبهاً بجبال الشريعة.
سحر الجبال: ومع أن لكلّ هذه الأماكن سحرها الأخاذ؛ إلا أن جبال الشريعة، كما شهدتها، كانت أكثر رهبةً ودهشاً، وأوغر في النفس. لقد غمرني جمال مداهم عزلني عن الأمكنة، وشدهني بالرهبة والجلال والوقار والقداسة، ووشح مداركي بغموض ينفح النفس بوهل راعش، وخيفة غوية. كانت عناصر الطبيعة كلها تتآلف لتشكل هارمونيا كونية بديعة، وثمة لغة صامتة أو حفية تبثها تلك الطبيعة، فتشرب إلى الأعماق، وتستحوذ على النفس، فلا تحس بحركة الناس وأصواتهم إلاّ كصدى يترجع في حنايا الوعي، وذاكرة السمع. الأرض وما عليها ليست منفصلة عن السماء، والسمهى ليس فراغاً أثيريا يفصل بينهما، لقد تكفلت غلائل الضباب الطيفية بملء هذا الحيز الجوي، ما جعلني أحس البشر كأنهم كائنات مائية يمكنها أن تهبط وتعلو إلى مشارف الكون الأعلى، أو كأن للسديم والضباب المتموج دروبا يستطيع أن يخُب فيها البشر.
بعد جلسةٍ قصيرة في “شاليه الرئاسة” انطلقنا بين أحضان الثلج، وفي ساحة صغيرة تحيط بها حافات الثلج من جهة، ويعبر الطريق جهتها الأخرى كان ثمة كتلة مستديرة تشكلت من قطع وافرة من جذوع وأغصان الصنوبر والشوح لتكوّن موقدة رائعة، وكان لهب النار المشتعلة يتعالى متراقصاً بجسده الهرمي المتماوج، ودفء عظيم ينتشر دائرياً يلفح الوجوه، ويعبق بعطر الصنوبر المحترق فتمتلئ به الرئات والصدور، لتنبعث نشوة سكر فرح في الرأس، وشيء من خدرٍ لطيف ولذيذ في حنايا الجسم.
الجميع صاروا أطفالاً: سارعنا جميعاً للتحلق حول النار
والتقاط الصور حول هذه الموقدة التي كانت أشبه بموقدة آلهة قديمة، يتبرك بها العبدة، ويحتفل حولها المعيدون.
كنا كتّاباً وشعراء وباحثين وفنانين من مختلف الدول العربية، ومنهم من يرى الثلج في الطبيعة ويلمسه لأول مرة في حياته، ولأن للطبيعة سلطانها على الإنسان؛ لم تمض دقائق حتى تبخرت الأيقونات الرجولية والاجتماعية الرصينة من هياكل الأجساد وهيئات وملامح الجميع، وأفسحت للطفولة المُبعدة والغافية في أعماق النفس والذاكرة والزمن، لتعود غضة طرية وناصعة، وكعهدها الأزلي نشيطة وثابة ومرحة، وابتدأ مهرجان الفرح بالركض والتراشق بالثلج والتزلج، والكاميرات تقبض بعينها السحرية على تلك اللحظات الهاربة من رتابة الحياة، وإيقاعها المنضبط الكسول. إن غنى وتنوع المشهد الجبلي، والغابات التي تزيده غنى وتنوعاً أكثر تجعلك تلتقط عشرات ومئات الصور الفوتوغرافية، وما تزال العين والنفس تطلبان المزيد.
ها هي جبال “الشريعة” الجزائرية كشقيقاتها ، تولد في نفسي مشاعر وأحاسيس وأسئلة تتفتح على الدوام. ويدور في خلدي تساؤل خطير، ترى ماذا لو كانت اليابسة كلها سهولاً؟ ويبدهني خوف مما يشبه الموت السريري لدى هذا التساؤل! ويحضر من غياهب الأساطير إلى الذاكرة صورة
الجزائر” عروس بيضاء مشربة بالخضرة تحتضنها الجبال الشاهقة
قامت بعثة “ارتياد الآفاق” إلى الجزائر خلال “ندوة الرحالة العرب والمسلمين” برحلة في الطبيعة الجزائرية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي بصحبة ضيوف الندوة والمشاركين بأعمالها من الأساتذة والأكاديميين المهتمين بأدب الرحلة، والذين قدموا بحوثاً قيمة في الندوة على مدار أربعة أيام. بلغت الرحلة جبال الشريعة التي كانت حتى الأمس القريب أكثر مناطق الجزائر خطورة وإحدى أهم القلاع التي اعتصمت بها الجماعات المسلحة.
الساعة الواحدة ليلاً من صباح الجمعة 26/2/2005 والجزائر العاصمة تغفو في قرارة المطر. ومن شرفة غرفتي المطلة على البحر في فندق “الأوراسي” الواقف بأبّهة مهيبة في صدر الجبل، كنت أرقب في هذا الليل الشتوي عرس الطبيعة الخصب ومشهد عشق ليلي ساحر.
دموع غزيرة هانية تسكبها السحب، والجزائر فاردةٌ جسدها في فضاء الليل تستحم بصمت. لِليل أصابع وراحات من الرياح تغرف المطر، وتَغُل به في فروع وأوراق الأشجار، لتُنضرَ خضرتها، وتوقظ شبابها، وتُدلكُ أجساد الأبنية البيضاء ذات الأبواب والنوافذ الزرقاء النيليّة؛ الناهضة بقوة وثبات، وتغسل شفاه وجروح قرميدها المنتشر في هامتها وخواصرها، كالحِناء الناضحة من جذوع شجر العَنْدم.
ساعتان عبرتا، خلتهما لحظات، وأنا أشهد بالقلب والحواس الخمس طقس الخصوبة الهائل. أويت بعدها إلى الفراشِ، وأنا أحس ملءَ جسدي مطراً دافئاً يُرعِشُ الروح.
وفي غفلةٍ من صمت الليل تلفعت السحب بعباءات ذاتها، ومضت خلسةً تخب في دروب السماء ومجاهل العتمة.
في الصباح استيقظت على مشهد آسر. كانت الشمس ترسل أشعتها الرخية، تُجفّفُ البلل وآثار عشق الليل، وتمنح “الجزائر” حورية الجبال، رونق الصبا، والنشاط المتجدد، والصباح البهي.
“الجزائر” عروس بيضاء مشربة بالخضرة تحتضنها الجبال، وتداعب أقدامها زرقة مويجات البحر، وبحنو طفولي تحتضن بدارة ذراعيها المنفردتين خلجة من خاصرة “الأبيض المتوسط”، أجمل وأبهى بحار الدنيا.
كان وجه الشمس مستديراً في السماء، وممتدّاً على صفحة مياه المتوسط كسيفٍ روماني من الذهب. كان ينساب بلطف في أديم الماء رضيّاً كابتسامة العاشقة. كل ما في هذا الصباح يمور بالحيوية والحركة، ويدعونا إلى رحلة في أرض الجزائر الندية وجوها العابق. وفي الحافلات التي أقلتنا غرباً باتجاه مدينة “بليدة” وجبالها العظيمة، كنت أملأ عيني وروحي من مشاهد السهول الخضراء والمزارع والبيوت المتناثرة فيها؛ تلك الأراضي التي استودعها الخالق كنوز الخصب والوفرة والجمال. تلك الجنان المنبثة ما كان للعين أن تشبع من مرآها المشرق الضاحي، وكانت بيوتها ومزارعها ما تزال تحتفظ برونق جمالها الفرنسي وأناقتها الساحرة منذ أن استحوذ عليها الفرنسيون في القرن التاسع عشر بأقل الأثمان، وهجروا منها كل العائلات العربية واستوطنوها إلى أن قرّرت دماء مليون شهيد أن تُرحّل الفرنسيين إلى ديارهم بعد قرن ونيف، وتعيد دفئها الغارب إلى حضن الوطن.
بعد نحوٍ من نصف ساعة كنا على مشارف “بليدة”. بليدة الحسناء الناصعة ذات الشفاه القرميدية الممتدة في بسطة هانية من الأرض عند سفوح جبال “الشريعة” الشامخة. عبرنا المدينة، واستدرنا جنوباً صاعدين في طريق يتلوّى في خواصر تلك الجبال بين غابات السنديان والبلوط وأشجار الشوح والصنوبر الباسقة. جموحُ هائل يحسه الرائي في جزوع الأشجار الضخمة الصاعدة بكل ما في شبابها من قوة وطاقة نحو السماء؛ لكأنّ الأرض بكلّ ثقلها تتشبث بجذور وجذوع تلك الأشجار، حتى لا يتفارق القويان، وترتج الجبال.
وكنّا كلما ارتفعت بنا الحافلات أبرد الجو، واستقبلتنا ابتسامات
الثلج الناصعة المنبثة هنا وهناك، ابتسامات ظلت تفتر وتتوسع حتى غطت الأرض والشجر. وصرنا في ضيافة الأبيض الغامر حيثما سرنا أو يممنا البصر. وفويق الطريق، وعلى امتداد تعرّجاته كانت تتناثر بيوت سياحية صغيرة تتلفّع غافية في فراء الثلج الناصع.
كانت سيارات كثيرة تتسلق معنا الطريق.. عائلات.. شباب وشابات وأطفال كلّهم يتجهون إلى الذروة للسياحة والتزلج والمرح مع الطبيعة الساحرة..
وهناك في القمة الشاسعة توقفت بنا الحافلات عند القصر المتربع بكبرياء حنون، لنعلم أنه القصر الرئاسي هناك، أو كا يسمّونه “شاليه الرئاسة” الذي يستضيفنا بكرم وودٍ عميقين؛ كرم عريق ومحبة دفّاقة غمرنا بها الاخوة الجزائريون منذ أن استقبلتنا أرض الجزائر الخضراء.
هبطنا من الحافلات على فراش ثلجي وثير غطى الأرض بكاملها، وارتفع أمتاراً ليطوق جذوع أشجار الصنوبر والشوح الباسقة، وفوق أغصان الشجر تمدّدت كتلٌ من الثلج كأنها طيور بيضاء بحجم الإنسان، تغفو على فراشٍ أخضر.
الجو مشوع بدكنة وقورة، والضباب يملأ الفضاء فوقنا ومن حولنا، يتهادى ببطء يعبر بنا بصمت، ونتمشى عبره حالمين، وهو يتموّج ويتشكّل في هيئات ساحرة لا تنتهي كأنه أطياف بديعة لآلهة الأوليمب، والوقت أشبه ما يكون بوقت الفجر الباكر، فغدا المكان كله كمعبد ضخم فسيح ومهيب عابق بالبخور ورهبة القداسة.
حتى أنا ابن الجبال والغابات الذي شهدت الثلوج والأماكن الشبيهة بهذا المكان خيم على روحي ما يشبه السحر، وخلت أنني أتهادى في عالم من حلم آسر وكون شفاف؛ ما كان لعيني أن تشهد روح وجسد الطبيعة الخلابة بمثل هذه الروعة، لا في قمم جبل الشيخ والذي يزيد ارتفاعه
على جبال الشريعة بألف متر ونيف، ولا في جبال لبنان العالية التي تقارب جبل الشيخ في الارتفاع، وغاباتها وثلوجها الأكثر شبهاً بجبال الشريعة.
سحر الجبال: ومع أن لكلّ هذه الأماكن سحرها الأخاذ؛ إلا أن جبال الشريعة، كما شهدتها، كانت أكثر رهبةً ودهشاً، وأوغر في النفس. لقد غمرني جمال مداهم عزلني عن الأمكنة، وشدهني بالرهبة والجلال والوقار والقداسة، ووشح مداركي بغموض ينفح النفس بوهل راعش، وخيفة غوية. كانت عناصر الطبيعة كلها تتآلف لتشكل هارمونيا كونية بديعة، وثمة لغة صامتة أو حفية تبثها تلك الطبيعة، فتشرب إلى الأعماق، وتستحوذ على النفس، فلا تحس بحركة الناس وأصواتهم إلاّ كصدى يترجع في حنايا الوعي، وذاكرة السمع. الأرض وما عليها ليست منفصلة عن السماء، والسمهى ليس فراغاً أثيريا يفصل بينهما، لقد تكفلت غلائل الضباب الطيفية بملء هذا الحيز الجوي، ما جعلني أحس البشر كأنهم كائنات مائية يمكنها أن تهبط وتعلو إلى مشارف الكون الأعلى، أو كأن للسديم والضباب المتموج دروبا يستطيع أن يخُب فيها البشر.
بعد جلسةٍ قصيرة في “شاليه الرئاسة” انطلقنا بين أحضان الثلج، وفي ساحة صغيرة تحيط بها حافات الثلج من جهة، ويعبر الطريق جهتها الأخرى كان ثمة كتلة مستديرة تشكلت من قطع وافرة من جذوع وأغصان الصنوبر والشوح لتكوّن موقدة رائعة، وكان لهب النار المشتعلة يتعالى متراقصاً بجسده الهرمي المتماوج، ودفء عظيم ينتشر دائرياً يلفح الوجوه، ويعبق بعطر الصنوبر المحترق فتمتلئ به الرئات والصدور، لتنبعث نشوة سكر فرح في الرأس، وشيء من خدرٍ لطيف ولذيذ في حنايا الجسم.
الجميع صاروا أطفالاً: سارعنا جميعاً للتحلق حول النار
والتقاط الصور حول هذه الموقدة التي كانت أشبه بموقدة آلهة قديمة، يتبرك بها العبدة، ويحتفل حولها المعيدون.
كنا كتّاباً وشعراء وباحثين وفنانين من مختلف الدول العربية، ومنهم من يرى الثلج في الطبيعة ويلمسه لأول مرة في حياته، ولأن للطبيعة سلطانها على الإنسان؛ لم تمض دقائق حتى تبخرت الأيقونات الرجولية والاجتماعية الرصينة من هياكل الأجساد وهيئات وملامح الجميع، وأفسحت للطفولة المُبعدة والغافية في أعماق النفس والذاكرة والزمن، لتعود غضة طرية وناصعة، وكعهدها الأزلي نشيطة وثابة ومرحة، وابتدأ مهرجان الفرح بالركض والتراشق بالثلج والتزلج، والكاميرات تقبض بعينها السحرية على تلك اللحظات الهاربة من رتابة الحياة، وإيقاعها المنضبط الكسول. إن غنى وتنوع المشهد الجبلي، والغابات التي تزيده غنى وتنوعاً أكثر تجعلك تلتقط عشرات ومئات الصور الفوتوغرافية، وما تزال العين والنفس تطلبان المزيد.
ها هي جبال “الشريعة” الجزائرية كشقيقاتها ، تولد في نفسي مشاعر وأحاسيس وأسئلة تتفتح على الدوام. ويدور في خلدي تساؤل خطير، ترى ماذا لو كانت اليابسة كلها سهولاً؟ ويبدهني خوف مما يشبه الموت السريري لدى هذا التساؤل! ويحضر من غياهب الأساطير إلى الذاكرة صورة