مقتطف من ذاكرة الجسد

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

jojocosta

:: عضو مُتميز ::
إنضم
24 نوفمبر 2006
المشاركات
581
نقاط التفاعل
9
النقاط
17
مقتطف من رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي
.................................


"تشرع مضيفةٌ باب الطائرة، ولا تتنبّه إلى أنها تشرع معه القلب على مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرةالآن؟

من سيقدر على إغلاق شبّاك الحنين، من سيقف في وجه الرياح المضادة،ليرفع الخمار عن وجه هذه المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء.


ها هي قسنطينة إذن..
وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر معي سفرهاالأخير، بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة.

ها هي "حنين"، النسخة الناقصة عن قسنطينة، في لقاء ليليّ مع اللوحة الأصل..

تكاد مثلي تقع من علىسلّم الطائرة تعباً.. ودهشة.. وارتباكاً.

تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة،تتقاذفنا العبارات التي تنهى وتأمر. وكل هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه الجدران الرمادية الباهتة..

فهل هذا هو الوطن؟

قسنطينة..

كيف أنتِ يااميمة.. واشك؟

أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة هذهالعودة..

باردٌ مطارك الذي لم أعد أذكره. باردٌ ليلك الجبلي الذي لم يعديذكرني.

دثّريني يا سيدة الدفء والبرد معاً.

أجلي بردك قليلاً.. أجّلي خيبتي قليلاً.

قادمٌ إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن الثلجوالوحدة.

فلا تتركيني واقفاً في مهب الجرح.

كانت الإشارات المكتوبةبالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيراً أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطاراتالعربية.
وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاءالأول.. مع ذلك المطار.
وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة جزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة:

"واش.. مازلت تنقّل فيالطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفك هنا..!".

شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّببي.

وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورهاومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟
هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس.
كان يحضر لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي ما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسمالعائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بناتو لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي.

أكتشف اليوم، أن هذاالرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهم وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير.

أكنت أجهل هذا؟ لا!

ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعرأن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازلي الداخلية، والصد رالوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلك اللحظة.

عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي).

كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنت أشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانتتلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدورالذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسانالذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي.

تُراه لهذا أيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلة التي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر.

فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل مقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغر وأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر..

ترى لأنه هو الذي يحمل حقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتي وكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته معهذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر..

أم تراها قسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتني بوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثين سنة؟

نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟
هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتاف العريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّارالشنطة.. والبؤساء.

أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أنتتأملني؟

سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتى يعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر".
وكنت أنا غائبها الذي لم يعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر..
ولكن قسنطينة لم تكن قدسمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراث العربي!

لم أنم تلك الليلة..
أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجةحسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كانسبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟
أم أن السبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي على جدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادة تلغي كل شيء عداها؟

ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام منيتوسّد ذاكرته؟

مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيلكندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبييطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء فيالبيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرف البعيدة.
أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليهأبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادةأخرى..
وبعدها لا شيء..

توقّف اهتمامه بي ليبدأاهتمامه بأشياء أخرى،ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنهمنذ مدة.

أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد منقراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم.
أكاد أرى موكباً آخر يعود بعدأسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل.
ثم تلكا لليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة.
لم يسألني ليلتهاإلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمره بسنوات.

كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظ لنفسه بالأسئلة.

سألني:

- .. وأنا؟

وأجبته بالذهول نفسه:

- مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني..

فقال وكأنه يتقمّص فجأةصوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ:

- عندك على روحك.. آ خالد..

وأجهشبالبكاء.

ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً.
كنت أعتقد أنه وحده قادرعلى شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي.

اليوم.. بعد كل هذا العمر،بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّة الأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.

هنالك أوطان لا أمومةلها.. أوطان شبيهة بالآباء."

.........................

((هناك سطورٌ وانحناءات قلم تستحق اكثر من القراءة إذ انها ليست مجرد أهازيج او تراتيل تُكتب..وايضا قد نقلت لكم هذه الصفحات اذ وجدت فيها رائحة الوطن واشياءً من الام قسنطينة..
فكم انتي مبدعة يا أحلام..!!))



كل من مروا من هنا..لكم صافي الود


تحياتي
جوجوكوستا
 
هل ثمة ابداع اجمل من هذا ؟

اه ، ليتني ارزق انا ايضا تغريبة كهذه اشفى بها من عقد الطفولة

تقبل خالص الود .
 
أحيانا قد نرزق بتغريبة تزيد من الطفولة تعقيدا اذا لم نحسن توجيهها..! ولكن حتما غربة احلام كانت من نوع اخر.. من خيال اخر.. ومن احساس اخر..

سعدت أخي "فقير الى رحمته" بعبورك من هنا اذ كنت قد تركت اريجا قبل الرحيل

شكرا لك ..
جوجوكوستا
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top