بسم الله
من حقك وليس من حقك
خامسا : بعض المسائل الخلافية :
1-من حقك أن لا تسمع الموسيقى –كل موسيقى-لأنك مقتنع بقول من قال بحرمتها , ومن ثم ترى أنها تقسي القلب.ولكن ليس من حقك أبدا أن تمنع غيرك من سماع الهادئ منها والمصاحب لكلام نظيف إن اقتنع بقول من قال بإباحة هذا السماع.كما أنه ليس من حقك أبدا أن ترفض كلامه وتعتبره"كذبا وزورا وبهتانا" إن قال بأنه عندما يسمع سامي يوسف مثلا ينشد أناشيد إسلامية –بالموسيقى-يحس بأن قلبه يلين أكثر ويحس بأن إيمانه يزداد.موقفك مقبول وموقفه مقبول,والإسلام الواسع يسعكما جميعا ويحميكما ويظلكما ويستركما ويحفظكما , إن نبذتما التعصب لعنه الله.
والله الذي لا إله إلا هو-أحلف مليون مرة , بل ما لا نهاية من المرات- لقد كانت ومازالت وستبقى مسألة سماع الموسيقى ( إذا كانت هادئة ومصاحبة لكلام نظيف بطبيعة الحال) محل خلاف بين الفقهاء : منهم من حرمها بإطلاق ومنهم من أجازها.ولكل أدلته القوية أو الضعيفة , والمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد, أي أن الكل مأجور بإذن الله.والمصيب لا يعلمه إلا الله وحده.ونحن - عامة المسلمين غير المجتهدين- ما كلفنا الله سبحانه وتعالى أن لا نأخذ إلا ممن كان دليله أقوى بل فقط طلب منا أن لا نأخذ إلا من عالم"إسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
العالم دليله الكتاب والسنة وأما نحن فدليلنا قول العالم ,ولن يسألني الله إذا سمعت أناشيد لسامي يوسف أو غيره (بموسيقى هادئة وكلام نظيف) , لن يسألني الله تعالى"لماذا أخذت بقول القرضاوي والغزالي وبن حزم وأبي حامد الغزالي و...رحمهم الله –أحياء وأمواتا-ولم تأخذ بقول الألباني وبن باز ومالك وبن تيمية و...رحمهم الله تعالى جميعا ؟!".لن يسألني الله أبدا بإذن الله هذا السؤال.يسألني الله فقط ويعاتبني ويعاقبني إذا أخذت ديني من جاهل أو إذا تتبعت السهل من أقوال الفقهاء في كل مسألة ,لأنني عندئذ أعتبر متبعا لهواي لا للدين والإسلام.
أنت أخي من حقك أن لا تسمع الموسيقى لأنك مطمئن لقول من قال بأنها حرام – وأنت مأجور بإذن الله- ولكن ليس من حقك أن تمنع غيرك من السماع مادام هناك علماء قالوا بالجواز,بغض النظر عن قوة أو ضعف دليل الواحد منهم.المهم أنهم علماء , وهم جميعا بإذن الله ورثة الأنبياء .
ومن حقك أن تقول بأن سماع الموسيقى يقسي عندك القلب , ولكن من حق غيرك كذلك أن يقول لك بأن إيمانه يزداد ومعنوياته ترتفع عندما يسمع أناشيد إسلامية مثل أناشيد سامي يوسف أو غيره من أصحاب الغناء النظيف الطيب المبارك , طبعا بدون أن يبالغ في السماع وبدون أن يلهيه السماع عن أداء واجب أو يجره السماع إلى فعل حرام.
يا ليتنا –إخواننا الكرام- نوسع صدورنا في المسائل الخلافية ولا نتشدد إلا في المسائل الأصولية. يا ليتنا نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.يا ليتـنا نوجه سهامنا إلى أعداء الدين الذين يحاربون الإسلام بالليل والنهار ونحن غافلون,عوض أن نوجه سهامنا لبعضنا البعض.
إن المسألة الخلافية تبقى خلافية إلى يوم القيامة, شئنا أم أبينا, والله أرادها أن تبقى خلافية,وذلك للتيسير على الناس, وليجد المتشدد نفسه معها وهو مسلم,وليجد المتساهل نفسه معها وهو مسلم كذلك ,وليبقى الإسلام صالحا لكل زمان ومكان.إن سماع الموسيقى مسألة خلافية منذ 14 قرنا ولن ترجعها أنت (الذي تقول بأن سماع أناشيد سامي يوسف حرام) لن ترجعها إتفاقية وأصولية مهما حاولتَ , والأفضل لك أن لا تُتعب نفسك مهما كانت نيتك الطيبة.ولو أراد الله لها أن تكون أصولية لجعل أدلتها قطعية لا ظنية , ولمنع علماء الإسلام أن يختلفوا فيها حتى لا يبقى الناس في حيرة من أمرهم. وهذا الذي أقوله عن سماع الموسيقى يقال مثله عن آلاف المسائل الخلافية الفرعية في الدين: في العبادات والمعاملات وكذلك في العقيدة.
2-من حقك أن تؤكد على أنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما لم يُعلِـن هذا الحاكمُ كفرا بواحا واضحا بينا لا لبس فيه ولا شك فيه ولا ريب فيه.ولكن ليس من حقك أبدا أن تُـنكرَ بأن علماء كثيرين قدامى : من المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية ومن الظاهرية ومن الجعفرية , ومعاصرين (كذلك) فرقوا بين الحكومة الإسلامية الظالمة التي لا يجوز الخروج عليها : لأن الحاكم مازال مسلما لم يكفر كفرا بواحا , ولأن الخروج والتغيير يؤدي غالبا إلى منكر أكبر من ظلم الحكومة الإسلامية , ومنه وجب عدم الخروج وعدم التغيير بالقوة.
وقال هؤلاء بأن هذا الحكم متعلق فقط بالحكومة الظالمة , أما الحكومة الكافرة التي لا تحكم بما أنزل الله بل تحكم بقوانين جاهلية وبأنظمة كافرة (حتى ولو بقي الحاكِم مسلما , لأن كفر النظام أهم بكثير من كفر شخص الحاكم) فلا يجوز ويُباح الخروجُ عليها فحسب بل قالوا بوجوب الخروج[وقالوا بأن منكر الخروج لا يمكن-في هذه الحالة – أن يكون أكبر أو يساوي منكر الحكم بغير ما أنزل اللهُ وكذا منكر السكوت عليه].وما أبعد الفرق بين عدم جواز الخروج ووجوب الخروج.
ولكن هؤلاء قيدوا الخروج بشروط معينة تجعل الظن غالبا في أن يؤدي الخروج إلى التخلص من النظام الكافر وتطبيق شرع الله بدلا منه.أي لا يجوز أن يتم الخروج بالطرق الفوضوية كما حصل في القرن العشرين (بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924 م) في أكثر من مكان وفي أكثر من زمان وفي أكثر من ظرف وفي أكثر من بلاد عربية أو إسلامية .
إذن من حقك أن تـتبنى رأيا ولكن ليس من حقك أن تُسفه الرأي الآخر,لأن رأيك قال به علماء ورأي غيرك قال به علماء آخرون, والكل مأجور بإذن الله.
3-من حقك أن تؤكد على أنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما لم يُعلن هذا الحاكمُ كفرا بواحا واضحا بينا لا لبس فيه ولا شك فيه ولا ريب فيه . ولكن ليس من حقك أن تُسفه رأي شخص إن قال بأن هذا المنع : المقصود به هو منع الخروج بقوة اليد والسلاح , وأما النصيحة والتوجيه للحاكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق للحاكم قوية مدوية فلا علاقة لكل هذا وما يُشبهه لا من قريب ولا من بعيد بالخروج على الحاكم الممنوع عند كثير من الفقهاء خاصة القدامى, بل هو داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله التي هي من فروض الكفاية ومن مهمات العظماء من العلماء والدعاة الربانيين.
4-من حقك أن تعتبر –كما قال بعضُ العلماء – بأن البدعةَ نوعٌ واحد كله مذمومٌ وكله شرٌّ , وكله مكروهٌ أو حرامٌ.أما ما كان جائزا في الدين أو مستحبا فلا يسمى بدعة بل يسمى استحسانا أو مصالح مرسلة أو...أو أي شيء آخر , إلا أن يوصف بأنه بدعة . من حقك أن تأخذ بهذا الرأي وتعتز به وتدافع عنه وتنشره وتنتقد الرأي المخالف و... ولكن ليس من حقك أبدا أن تعتبر بأن هذا هو الرأي الوحيد في هذه المسألة أو أن تتعصب ضد من يأخذ برأي آخر أو تُجرِّح شخصه.وذلك لأن بعضَ العلماء من القدامى (منهم الشاطبي رحمه الله) ومن المعاصرين (منهم أبو زهرة رحمه الله والقرضاوي وغيرهم كثيرون) قالوا بأن البدعة نوعان :
أول : بدعة لغوية , بمعنى كل شيء لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق خصوصا بالمعاملات.وهذه تنطبقُ عليها الأحكامُ الخمسة : الوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة والحرمة.
وثاني : بدعة شرعية , متعلقة أساسا بالعبادات , وهذه هي البدعة المذمومة دوما "كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة في النار",وهي دوما إما مكروهة وإما حرام.
وعلى رأي هؤلاء العلماء فإن الاحتفال –مثلا- بالمولد النبوي الشريف إذا قصدنا به التعبد لله أي احتفلنا به على اعتبار أن الاحتفال من الدين وأنه سنة متبعة فإن الاحتفال يعتبر عندئذ بدعة شرعية سيئة لأن فيها إدخالُ ما ليس من الدين في الدين.وأما إذا احتفلنا بالمولد على اعتبار أن الاحتفال عادة متبعة نقوم بها لتذكر (وتذكير الناس) السيرة النبوية والسنة النبوية ليس إلا, فإن الاحتفال يصبح لا حرج فيه ويصبح عادة لا عبادة , وحتى إذا اعتبرناه بدعة فإن البدعة تكون هنا لغوية مباحة أو مستحبة , على رأي هؤلاء العلماء بطبيعة الحال.
.