التفاعل
18
الجوائز
677
- تاريخ التسجيل
- 28 جانفي 2008
- المشاركات
- 3,615
- آخر نشاط
- الجنس
- ذكر
1/2

سفر المرأة إلى الحجِّ والعمرة بلا مَحْرَمٍ (1)
للأخ الفاضل صالح الدين رمضة الجزائري حفظه الله ورعاه
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد:
فإنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة مبنيَّة على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد رتَّب الله عز وجل مصالح الدِّين والدُّنيا على طاعته، واجتناب معصيته، وسدِّ باب الذَّرائع المفضية إلى الشَّرِّ والفساد، واختلاط الأنساب، وهتك الأعراض، وحصول الفتنة، ومن ذلك ما ورد من نصوص الكتاب والسُّنَّة الَّتي فيها الحثُّ على صيانة المرأة وحفظ عزَّتها وكرامتها كتحريم تبرُّجها وإظهار زينتها، ولهذا كان لباسها المشروع الَّذي رضيه الله لها ورسوله صلى الله عليه وسلم لباسًا يسترها، وحرَّم الشَّرع خَلْوَتَها بالرَّجل الأجنبي عنها الَّذي ليس من محارمها، والفقهاء في كتبهم يأمرون المرأة في الصَّلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها، وتتربَّع ولا تفترش، وفي الإحرام بالحجِّ والعمرة ألاَّ ترفع صوتها إلاَّ بقدر ما تُسمع رفيقتها، وكذلك لا ترفع صوتها بالتَّلبية، وبالتَّكبير أيَّام التَّشريق، وألا تضطبع وألاَّ ترمل في الطَّواف ولا بين الصَّفا والمروة بين العلمين، وأن لا ترقى فوق الصَّفا والمروة، ولا يستحب لها تقبيل الحجر الأسود ولا استلام الرُّكنين إلاَّ عند خلوِّ المطاف، كلُّ ذلك لتحقيق ستر المرأة وصيانتها، والحاصل كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله أنَّ: كلَّ ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها([2]).
ومن الذَّرائع المفضية إلى الفتنة والفساد سفر المرأة بلا زوج ولا محرم يحفظها؛ وقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سفرها بلا محرم بأدلَّة في غاية الوضوح كما سيأتي تفصيله.
ونظرًا لشيوع هذه الظَّاهرة في هذه الأزمنة وتساهل بعض النَّاس فيها، إمَّا جهلاً بحكم الشَّريعة فيها، وإمَّا تساهلاً منهم لضعف الإيمان، وتسلُّط الشَّيطان على الإنسان، ونظرًا أيضًا لكون بعض المعاصرين يدَّعي إجماع الصَّحابة على الجواز، وعدُّوا إجماعًا ما ليس بإجماع مع أنَّ النِّزاع فيها معروف، والخلاف فيها مشهور مذكور في كتب أحكام القرآن والتَّفسير والفقه وشروح الحديث وغيرها، ولأجل ذلك أحببت أن أحرِّر محل النِّزاع في هذه المسألة ببيان موضع الوفاق وموضع الخلاف، مع نسبة كلِّ قول لقائله، ثمَّ أذكر الأدلَّة الدَّالَّة على تحريم سفر المرأة بلا محرم نصحًا للأولياء المسؤولين على رعاية أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وصيانتهن من كلِّ خطر، وتذكيرًا للنِّساء المؤمنات المحافظات على دينهنَّ الممتثلات أوامر ربِّهنَّ، فأقول وبالله التَّوفيق:
أجمع أهل العلم على جواز سفر المرأة بلا محرم للضَّرورة، كما إذا أسلمت المرأة فهاجرت من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها أحد من محارمها، وكذلك المرأة الأسيرة إذا تخلَّصت من أيدي الكفَّار فإنَّها تسافر وإن لم يكن معها محرم.
وذهب جماهير العلماء من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنابلة وغيرهم إلى اشتراط مرافقة الزَّوج أو المحرم للمرأة في الأسفار الَّتي ليست واجبة كالسَّفر للحجِّ والعمرة المستحبَّين أو السَّفر لزيارة الأقارب أو للتِّجارة أو نحو ذلك ([3]).
قال القاضي عياض: ولم يختلفوا أنَّه ليس لها أن تخرج في غير فرض الحجِّ إلاَّ مع ذي محرم([4])، وقال نحوه العلاَّمة القرطبي ([5]).
وقال المحبُّ الطَّبري: قال البغوي في «شرح السُّنَّة»: والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث، ولم يختلفوا أنَّها ليس لها الخروج في غير الفرض إلاَّ مع محرم إلاَّ في كافرة أسلمت في دار الحرب، أو أسيرة تخلَّصت([6]).
ونقل الحافظ ابن حجر نصَّ البغوي المتقدِّم ثمَّ قال: وزاد غيرُه أو امرأة انقطعت من الرِّفقة فوجدها رجل مأمون فإنَّه يجوز له أن يصحبها حتَّى يبلغها الرِّفقة ([7]).
وقال العلاَّمة الزّرقاني: ومحلُّ الخلاف في حجِّ الفرض، فأمَّا التَّطوُّع فلا تخرج إلاَّ مع محرم أو زوج... ومحلُّ هذا كلِّه ما لم تدعُ ضرورة، كوجود امرأة أجنبيَّة منقطعة مثلاً، فله أن يصحبها، بل يجب عليه إذا خاف عليها لو تركها ([8]).
وذهب بعض متأخِّري الشَّافعية إلى جواز سفر المرأة بلا محرم في جميع الأسفار: في سفر الطَّاعة: كحجِّ التَّطوُّع، والسَّفر المباح كسفر التِّجارة، وكلّ سفر ليس بواجب، وهو قول ضعَّفه الماوردي والنَّووي وغيرهما؛ لأنَّه يخالف الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة كما سيأتي، ويخالف المنصوص عن الإمام الشَّافعي وما عليه جمهور أصحابه ([9]).
قال الحافظ ابن حجر: أغرب القفال فطرده في الأسفار كلّها، واستحسنه الروياني ([10]). قال ابن حجر: وهو يعكِّر على نفي الاختلاف الَّذي نقله البغوي آنفًا ([11]).
وفرَّق الإمام أحمد في رواية عنه، وبعض المالكيَّة كابن رشد الجدِّ بين المرأة الشَّابَّة والعجوز، فمنعوا الشَّابَّة من السَّفر إلاَّ مع ذي محرم، وأجازوا للكبيرة غير المشتهاة الَّتي انقطعت حاجة النَّاس منها أن تسافر للحجِّ خاصَّة عند أحمد، وعند ابن رشد حيث شاءت في كلِّ الأسفار بلا زوج ولا محرم ([12]).
سُئل أحمد في رواية عن امرأة عجوز كبيرة ليس لها محرم، ووجدت قومًا صالحين، فقال: إن تولَّت هي النُّزول والرُّكوب، ولم يأخذ رجل بيدها فأرجو؛ لأنَّها تفارق غيرها في جواز النَّظر إليها للأمن من محذور، فكذا هنا ([13]).
ومال إلى هذا التَّفريق شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بعض فتاويه وذكر قيودًا حيث سُئل: هل يجوز أن تحجَّ المرأة بلا محرم؟ فأجاب: إنْ كانت من القواعد اللاَّتي لم يحضن، وقد يئست من النِّكاح، ولا محرم لها، فإنَّه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحجَّ مع مَنْ تأمنه، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشَّافعي ([14]).
وردَّ هذا القول ابن مفلح، فقال: كذا قال ـ يعني الإمام أحمد ـ فأخذ من جواز النَّظر الجواز هنا، فتلزمه في شابَّة قبيحة، وفي كلِّ سفر والخلوة كما سيأتي في آخر العِدد، مع أنَّ الرِّواية فيمن ليس لها محرم ([15]).
وقد تعقَّب العلاَّمة القرطبي رحمه الله ما ذهب إليه بعض المالكيَّة كابن رشد من جواز سفر الكبيرة في الأسفار كلِّها بلا زوج ولا محرم، فقال: وفيه بعد؛ لأنَّ الخلوة بها تحرم، وما لا يطلع عليه من جسدها غالبًا عورة، فالمظنَّة موجودة فيها، والعموم صالح لها، فينبغي ألاَّ تخرج منه ([16]).
وقال العلاَّمة النَّووي رحمه الله: وهذا الَّذي قاله الباجي ([17]) لا يوافق عليه؛ لأنَّ المرأة مظنَّة الطَّمع فيها، ومظنَّة الشَّهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: «لكلِّ ساقطة لا قطة» ويجتمع في الأسفار من سفهاء النَّاس، وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلَّة دينه، ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك، والله أعلم ([18]).
ويردُّ هذا التَّفريق، قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» الحديث ([19]) إذ هو على العموم لجميع النِّساء؛ لأنَّ المرأة نكرة في سياق النَّفي، فتدخل فيه الشَّابَّة والكبيرة؛ ولأنَّ المرأة في السَّفر بحاجة إلى من يُركبها ويُنزلها، وحاجة العجوز إلى ذلك أشدُّ؛ لأنَّها أعجز ([20]).
إذا تقرَّر هذا، فقد اختلفت الأمَّة في اشتراط المحرم للمرأة لأداء حجَّة الإسلام على قولين مشهورين، بعد إجماعهم ([21]) على وجوب الحجِّ عليها إذا استطاعت.
القول الأوَّل: لا تسافر المرأة لأداء الحجِّ الواجب ولا غيره إلاَّ مع زوجها أو ذي محرم منها، وهو مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري، وهو قول الحسن البصري، وعِكْرمة، وإبراهيم النَّخعي، وطاوس بن كيسان، والشَّعبي، وأبي ثور، والثَّوري ([22])، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ([23])، وقول عند المالكيَّة، حكي عن ابن عبد الحكم، واختاره اللَّخمي ([24])، وقال ابن ناجي وأبو الحسن المنوفي: كأنَّه مال إليه ابن أبي زيد ([25])، وهو أحد قولي الشَّافعي ([26])، وأحمد في المشهور([27])، وإسحاق في المشهور عنه أيضًا ([28])، واختاره ابن نصر المروزي، وابن المنذر، والخطَّابي، والبغوي، والمحب الطَّبري من الشَّافعيَّة ([29])، ونصره ابن تيميَّة في «شرح العمدة»، واختاره: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين ([30]).
القول الثَّاني: لا يشترط المحرم في سفر الحجِّ الواجب، بل يشترط الأمن على نفسها، وهو مرويٌّ عن عائشة رضي الله عنها، وابن عمر رضي الله عنه ([31])، وقال به عطاء، وسعيد بن جُبَيْر، وابن سيرين، والحكم بن عتيبة، والأوزاعي ([32])، ومالك، وهو مشهور المذهب ([33])، والشَّافعي في المشهور عنه ([34])، وأحمد في رواية ([35])، وحكاه ابن نصر المروزي عن إسحاق ([36])، وداود الظَّاهري وجميع أصحابه ([37]).
ثمَّ اختلفوا بما يحصل الأمن: فقال مالك: تخرج مع جماعة من النِّساء([38])، وقال الشَّافعي وهو الصَّحيح المشهور من مذهب الشَّافعية: يحصل الأمن بنسوة ثقات إن لم يكن معها زوج أو محرم، وفي قول للشَّافعي: تخرج ولو مع امرأة واحدة حرَّة ثقة مسلمة([39])، وروى الكرابيسي عن الشَّافعي قولاً ثالثًا: أنَّها تخرج من غير نساء إذا كان الطَّريق آمنًا، واختاره الشِّيرازي، والقفَّال، والرّوياني وصحَّحوه، وضعَّفه الماوردي والنَّووي وغيرهما من الشَّافعيَّة، وقالوا: هو خلاف نصِّ الشَّافعي([40])، وقال ابن سيرين: تخرج مع ثقاة المسلمين من الرِّجال ولو مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول، تتَّخذ سلَّمًا تصعد عليه وتنزل، ولا يقربها رجل، إلاَّ أنَّه يأخذ رأس البعير، وتضع رجلها على ذراعه([41]).
والدَّليل على تحريم سفر المرأة لأداء الحجِّ الواجب إلاَّ مع زوج أو ذي محرم منها السُّنَّةُ والقياس والنَّظرُ:
أوَّلاً: الدَّليل من السُّنَّة:
أ- أحاديث عامَّة دالَّة على نهي المرأة عن السَّفر أيّ سفرٍ كان بلا مَحْرَم:
1- عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ».
وفي رواية: «لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»([42]).
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا، فأعجبنني وآنَقْنني ([43]): «نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلاَّ ومعها زوجها أو ذو محرم» واقتصَّ باقي الحديث ([44]).
وفي رواية بلفظ: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوْ ابْنُها، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» ([45]).
وفي رواية: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» ([46]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ، إِلاَّ وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا» ([47]).
وفي رواية: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» وفي رواية: «مَسِيرَةَ يَوْمٍ».
وفي رواية: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ([48]).
وجه الدِّلالة: دلالة هذه الأحاديث ظاهرة على اشتراط المحرم للمرأة في سفرها للحجِّ الواجب؛ لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُسَافِرَ» وفي رواية: «أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا» عامٌّ في كلِّ الأسفار سواء كان سفر طاعة أو غيره ([49])، فيدخل تحت هذا العموم سفر المرأة لأداء الحجِّ الواجب، بل هو داخل في هذا العموم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّ الغالب في سفر المرأة في الزَّمن الغابر كان لأجل الحجِّ، ولم تكن المرأة تسافر للتِّجارة أو الجهاد أو غير ذلك إلاَّ نادرًا، فثبت بهذه الأحاديث منع المرأة من السَّفر إلى الحجِّ إلاَّ مع زوج أو محرم.
ب - أحاديث تنصُّ على نهي المرأة عن السَّفر إلى الحجِّ بلا محرم:
1 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فقام رجل، فقال: يا رسول الله! إِنَّ امْرأتي خرجت حاجَّة، وإنِّي اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، قال: اِنْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»([50]).
وجه الدّلالة: دلَّ هذا الحديث دلالة صريحة قويَّة على اشتراط المحرم للمرأة لأداء الحجِّ الواجب وأنَّه لا يحلُّ لها أن تحجَّ إلاَّ به؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر المرأة بلا محرم وهو يخطب أيَّام الحجِّ بمسمع من الصَّحابة رضي الله عنه، ففهم الصَّحابة رضي الله عنهم ـ ومنهم السَّائل ـ من خطابه أنَّ النَّهي يعمُّ الحجَّ وغيره من الأسفار، ولذلك سأل عن الحجِّ مع امرأته، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أقرَّه على هذا الفهم ولم ينكر سؤاله، بل أمره أن يحجَّ مع امرأته، ولم يستفصل منه أهو حجُّ فرض أو تطوُّع ؟ بل الظَّاهر أنَّه كان حجَّ فرضٍ؛ لأنَّه لو كان تطوُّعًا لما أمره بترك الغزو الَّذي هو فرض لتطوُّع المرأة بالحجِّ.
فلو لم يكن الْمَحْرَم شرطًا في سفر المرأة، لما أمره صلى الله عليه وسلم بالسَّفر معها، والتَّخلُّف عن الغزو الَّذي اكتُتب فيه([51]).
وكذلك فهم عكرمة مولى ابن عبَّاس من النَّهي أنَّه يعمُّ الحجَّ، فعن عكرمة سُئل عن المرأة تحجُّ مع غير ذي محرم أو زوج؟ فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة فوق ثلاثة إلاَّ مع ذي محرم» فكيف تصنع ما نهاها؟!([52]).
قال الإمام الطَّحاوي رحمه الله: فدلَّ ذلك على أنَّها لا ينبغي لها أن تحجَّ إلاَّ به، ولولا ذلك لقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما حاجتها إليك؛ لأنَّها تخرج مع المسلمين، وأنت فامض لوجهك فيما اكتتبت»، ففي ترك النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يأمره بذلك، وأمره أن يحجَّ معها، دليل على أنَّها لا يصلح لها الحجُّ إلاَّ به([53]).
وقال العلاَّمة الجصَّاص رحمه الله: هذا يدلُّ على أنَّ قوله: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» قد انتظم المرأة إذا أرادت الحجَّ من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ السَّائل عقل منه ذلك؛ ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحجَّ، ولم ينكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليه، فدلَّ على أنَّ مراده صلى الله عليه وسلم عامٌّ في الحجِّ وغيره من الأسفار.
والثَّاني: قوله: «حُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» وفي ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحجِّ في قوله: «لاَ تُسَافِرُ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ».
والثَّالث: أمره إيَّاه بترك الغزو للحجِّ مع امرأته، ولو جاز لها الحجُّ بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو، وهو فرض للتَّطوُّع، وفي هذا دليل أيضًا على أنَّ حجَّ المرأة كان فرضًا ولم يكن تطوُّعًا؛ لأنَّه لو كان تطوُّعًا لَمَا أمره بترك الغزو الَّذي هو فرض لتطوُّع المرأة.
ومن وجه آخر: وهو أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن حجِّ المرأة أفرض هو أم نفل؟ وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم، فثبت بذلك أنَّ وجود المحرم للمرأة من شرائط الاستطاعة([54]).
وجاء في رواية سعيد بن منصور ـ إن صحَّت ـ أنَّه نذر أن يخرج في غزوة كذا، والنَّذر يجب الوفاء به، ومع ذلك فقد رخَّص له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ترك نذره، وأمره بأن يحجَّ مع امرأته ممَّا يؤكِّد اشتراط المحرميَّة في سفر المرأة في أداء الحجِّ الواجب.
فعن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب ـ يقول: «لاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فقال رجل: يا رسول الله! إنِّي نَذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحجَّ، قال: فَاخْرُجْ مَعَهَا»([55]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فلو لم يكن شرطًا ما رخَّص له في ترك النَّذر([56]).
وفي الباب أحاديث أخرى هي نصٌّ في محلِّ الخلاف؛ لكنَّها ضعيفة الإسناد، ولذلك أحببت أن أذكرها لبيان ضعفها حتَّى لا يغترَّ بها، لا سيما وأنَّ طائفة من الفقهاء احتجُّوا بها، وصحَّحها بعض العلماء، منها:
2 - عن ابن جريج، عن عَمْرو بن دينار، قال: أخبرني عكرمة، أو أبو معبد، عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال: جاء رجل إلى المدينة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ نَزَلْتَ؟ قال: على فلانة، قال: أَغَلَّقَتْ عَلَيْكَ بَابَهَا ـ مرَّتَيْن ـ؟ لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ([57]).
وفي رواية البزَّار عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَحُجُّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فقال رجل: يا نبيَّ الله! إنِّي اكتتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجَّة، قال: اِرْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا»([58]).
فالحديث صريح الدِّلالة، ونصٌّ في مورد النِّزاع من أنَّ المرأة لا تسافر للحجِّ إلاَّ مع ذي محرم منها.
قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا صريح في الحكم ([59]).
إلاَّ أنَّ هذا الحديث بهذا اللَّفظ وإن كان صحَّحه أبو عوانة وابن حجر في موضع، فهو ضعيف، قال ابن حزم: وأمَّا حديث عكرمة فمرسل... ([60]).
وقال ابن حجر: والمحفوظ في هذا مرسل عكرمة ([61]).
3- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ سَفَرًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَحُجَّ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا» ([62]).
ثانيًا: الدَّليل من القياس:
1- أنَّها أنشأت سفرًا عن اختيار في دار الإسلام، فلم يجز بغير زوج أو محرم كالسَّفر لحجِّ التَّطوُّع وسائر الأسفار ([63]).
2 - أنَّ المرأة لو كانت في عدَّتها لم يكن لها أن تخرج للحجِّ، وتأثير عدم المحرم في المنع من السَّفر كتأثير العِدَّة، فإذا منعت من الخروج لسفر الحجِّ بسبب العِدَّة، فكذلك تمنع بسبب عدم المحرم([64]).
ثالثًا: الدَّليل من النَّظر.
المرأة عرضة للفتنة، وقد زُيِّن للنَّاس حبُّ النِّساء، والميل إليهنَّ، وباجتماع النِّساء تزداد الفتنة ولا ترتفع، إنَّما ترتفع بحافظ يحفظها، ويصونها، ويذبُّ عنها، ولا يطمع فيها، وذلك هو المحرم، ألا ترى أنَّه يجوز له أن يخلو بها؛ لأنَّه لا يطمع فيها وهو يعلم أنَّها محرَّمة عليه أبدًا، لما جبل الله النُّفوس عليه في النُّفرة عن المحارم، فكذلك يسافر بها ([65]).
قال الإمام اللَّخمي: «ولأنَّ الفساد لا يتعذَّر باللَّيل وإن كانت مع جماعة إذا لم يكن وليٌّ يطَّلع عليها ويحفظها» ([66]).
وقال القاضي عياض: «والمرأة فتنة ممنوع الانفراد بها لما جبلت عليه نفوس البشر من الشَّهوة فيهنَّ، وسلّط عليهم من الشَّيطان بواسطتهنَّ؛ ولأنَّهنَّ لحم على وَضَم ([67]) إلاَّ ما ذبَّ عنه، وعورة مضطرَّة إلى صيانة وحفظ، وذي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهن والذَّبِّ عنهنَّ ما يؤمن عليهن في السَّفر معهم ما يخشى» ([68]).
وقال ابن الجوزي: «وأمَّا السَّفر فإنَّ المرأة إذا خلت عن محرم كانت كأنَّها في خلوة، ولا يؤمن عليها من جهة ميل طبعها إلى الهوى وعدم المحرم المدافع عنها» ([69]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وقد أجمع المسلمون على أنَّه لا يجوز لها السَّفر إلاَّ على وجه يؤمن فيه البلاء، ثمَّ بعض الفقهاء ذكر كلٌّ منهم ما اعتقده حافظًا لها وصائنًا، كنسوة ثقات، ورجال مَأْمُونين، ومنعه أن تسافر بدون ذلك، فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحقُّ وأوثق، وحكمته ظاهرة؛ فإنَّ النِّساء لحم على وضم إلاَّ ما ذبَّ عنه، والمرأة معرَّضة في السَّفر للصُّعود، والنُّزول، والبروز، محتاجة إلى من يعالجها، ويمسُّ بدنها تحتاج هي ومن معها من النِّساء إلى قيِّمٍ يقوم عليهنَّ، وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى النَّاس؛ فإنَّ القلوب سريعة التَّقلُّب، والشَّيطان بالمرصاد، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلاَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا» ([70]).
قال: وأمر النِّساء صعب جدًّا؛ لأنَّ النِّساء بمنزلة الشَّيء الَّذي يُذبُّ عنه، وكيف تستطيع المرأة أن تحجَّ بغير محرم، فكيف بالضَّيعة، وما يخاف عليها من الحوادث» ([71]).
تنبيه:
إن قيل: قد اختلفت ألفاظ الحديث في تقدير مسيرة السَّفر يعني المسافة الَّتي تنهى المرأة أن تسافر فيها بلا محرم، والأخذ ببعضها ليس أولى من الأخذ بالبعض الآخر.
فالجواب: أنَّ هذا وإن كان ممَّا ظاهره الاختلاف والتَّنافر، إلاَّ أنَّ العلماء قد أجابوا عن هذا الاختلاف بأجوبة متعدِّدة، ولعلَّ أحسنها، والله أعلم: ما قاله ابن عبد البرِّ والبيهقيُّ وطائفة من المحقِّقين وعمل به جمهور العلماء: إنَّ محملها أنَّها خرجت على أجوبة السَّائلين في مواطن مختلفة ونوازل متفرِّقة، فحدث كلُّ واحد من الرُّواة بما سمع، كأنَّه قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا محرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيَّام بغير محرم؟ فقال لا، وكذلك معنى اللَّيلة والبريد ونحو ذلك، فأدَّى كلُّ واحد ما سمع على المعنى.
وأمَّا ما رُوي من اختلاف في الألفاظ عن صحابيٍّ واحد، فيُحمل على أنَّه حدَّث مرَّات بها على اختلاف ما سمع وشاهد في مواطن، فَيَرْوِي تارة هذا وتارة هذا، وكلُّه صحيح ([72]).
وهناك أجوبة أخرى ذكرها أهل العلم تُنظر في موضعها.
قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: ويجمع معاني الآثار في هذا الباب وإن اختلفت ظواهرها الحظر على المرأة أن تسافر سفرًا يخاف عليها الفتنة بغير محرم قصيرًا كان أو طويلاً، والله أعلم([73]).
وقال العلاَّمة النَّووي: فالحاصل أنَّ كلَّ ما يسمَّى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيَّام، أو يومين، أو يومًا، أو بريدًا، أو غير ذلك؛ لرواية ابن عبَّاس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السَّابقة: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وهذا يتناول جميع ما يسمَّى سفرًا([74]).
وقال الحافظ ابن حجر: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التَّقييدات([75]).
وقال العلاَّمة المناوي: ليس القصد بها التَّحديد، بل المدار على ما يسمَّى سفرًا عُرْفًا، والاختلاف إنَّما وقع لاختلاف السَّائل، أو المواطن، وليس هو من المطلق والمقيَّد، بل من العامِّ الَّذي ذكرت بعض أفراده، وذا لا يخصِّص على الأصح ([76]).
إذا تقرَّر هذا، علمت غلط من قال من المعاصرين: لو قطعت المرأة بلا محرم مسافة في وسيلة من وسائل النَّقل المعاصرة السَّريعة في وقت قصير يستغرق ساعات قليلة أو ساعة أو أقلّ كالسَّفر في الطَّائرة جاز، فهذا غير صحيح؛ لأنَّ المراد بالمسيرة: المسافة، وليس المراد: الوقت الزَّمني والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأوتي جوامع الكلم ولا يعني بالمسيرة: الوقت.
فالشَّرع أناط الحكم بالسَّفر، وهو كلُّ ما يسمَّى سفرًا في العُرْفِ والعَادَة، سواء كان قصيرًا أو طويلاً على الصَّحيح، وأمَّا وسيلة النَّقل ووقته فهذه أوصاف طرديَّة، واختلاف الزَّمان والمكان وتغيُّر وسائل النَّقل لا أثر له في تغيير الحكم الَّذي ثبت بالسُّنَّة.
ثمَّ إنَّ سفر المرأة بالطَّائرة وقطع المسافة الطَّويلة في وقت يسير لا يعني هذا أنَّ المرأة في أمان، وأنَّه لا خوف عليها، فإنَّ خطر سفرها في الطَّائرة بلا محرم لا يقلُّ خطورة عن سفرها بوسائل النَّقل الأخرى؛ لأنَّ الطَّائرة عُرْضَة للتَّأخير، وقد تهبط في مكان آخر لتغيُّر الأحوال الجوِّيَّة، أو للتَّزوُّد بالوقود، أو لعطل، أو لاختطاف الطَّائرة، وقد تجلس في المكان المخصَّص لها بجوار الرِّجال، والمرأة ضعيفة، فهي لحم على وضم إلاَّ ما ذبَّ عنه، فأين المحرم الَّذي يذبُّ عنها ويحفظها في تلك الظُّروف الاستثنائيَّة والأوقات الحرجة؟ ([77]).
وإليك أخي القارئ فتاوى علماء العصر الأكابر في سفر المرأة بلا محرم:
للأخ الفاضل صالح الدين رمضة الجزائري حفظه الله ورعاه
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد:
فإنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة مبنيَّة على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد رتَّب الله عز وجل مصالح الدِّين والدُّنيا على طاعته، واجتناب معصيته، وسدِّ باب الذَّرائع المفضية إلى الشَّرِّ والفساد، واختلاط الأنساب، وهتك الأعراض، وحصول الفتنة، ومن ذلك ما ورد من نصوص الكتاب والسُّنَّة الَّتي فيها الحثُّ على صيانة المرأة وحفظ عزَّتها وكرامتها كتحريم تبرُّجها وإظهار زينتها، ولهذا كان لباسها المشروع الَّذي رضيه الله لها ورسوله صلى الله عليه وسلم لباسًا يسترها، وحرَّم الشَّرع خَلْوَتَها بالرَّجل الأجنبي عنها الَّذي ليس من محارمها، والفقهاء في كتبهم يأمرون المرأة في الصَّلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها، وتتربَّع ولا تفترش، وفي الإحرام بالحجِّ والعمرة ألاَّ ترفع صوتها إلاَّ بقدر ما تُسمع رفيقتها، وكذلك لا ترفع صوتها بالتَّلبية، وبالتَّكبير أيَّام التَّشريق، وألا تضطبع وألاَّ ترمل في الطَّواف ولا بين الصَّفا والمروة بين العلمين، وأن لا ترقى فوق الصَّفا والمروة، ولا يستحب لها تقبيل الحجر الأسود ولا استلام الرُّكنين إلاَّ عند خلوِّ المطاف، كلُّ ذلك لتحقيق ستر المرأة وصيانتها، والحاصل كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله أنَّ: كلَّ ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها([2]).
ومن الذَّرائع المفضية إلى الفتنة والفساد سفر المرأة بلا زوج ولا محرم يحفظها؛ وقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سفرها بلا محرم بأدلَّة في غاية الوضوح كما سيأتي تفصيله.
ونظرًا لشيوع هذه الظَّاهرة في هذه الأزمنة وتساهل بعض النَّاس فيها، إمَّا جهلاً بحكم الشَّريعة فيها، وإمَّا تساهلاً منهم لضعف الإيمان، وتسلُّط الشَّيطان على الإنسان، ونظرًا أيضًا لكون بعض المعاصرين يدَّعي إجماع الصَّحابة على الجواز، وعدُّوا إجماعًا ما ليس بإجماع مع أنَّ النِّزاع فيها معروف، والخلاف فيها مشهور مذكور في كتب أحكام القرآن والتَّفسير والفقه وشروح الحديث وغيرها، ولأجل ذلك أحببت أن أحرِّر محل النِّزاع في هذه المسألة ببيان موضع الوفاق وموضع الخلاف، مع نسبة كلِّ قول لقائله، ثمَّ أذكر الأدلَّة الدَّالَّة على تحريم سفر المرأة بلا محرم نصحًا للأولياء المسؤولين على رعاية أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وصيانتهن من كلِّ خطر، وتذكيرًا للنِّساء المؤمنات المحافظات على دينهنَّ الممتثلات أوامر ربِّهنَّ، فأقول وبالله التَّوفيق:
أجمع أهل العلم على جواز سفر المرأة بلا محرم للضَّرورة، كما إذا أسلمت المرأة فهاجرت من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها أحد من محارمها، وكذلك المرأة الأسيرة إذا تخلَّصت من أيدي الكفَّار فإنَّها تسافر وإن لم يكن معها محرم.
وذهب جماهير العلماء من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنابلة وغيرهم إلى اشتراط مرافقة الزَّوج أو المحرم للمرأة في الأسفار الَّتي ليست واجبة كالسَّفر للحجِّ والعمرة المستحبَّين أو السَّفر لزيارة الأقارب أو للتِّجارة أو نحو ذلك ([3]).
قال القاضي عياض: ولم يختلفوا أنَّه ليس لها أن تخرج في غير فرض الحجِّ إلاَّ مع ذي محرم([4])، وقال نحوه العلاَّمة القرطبي ([5]).
وقال المحبُّ الطَّبري: قال البغوي في «شرح السُّنَّة»: والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث، ولم يختلفوا أنَّها ليس لها الخروج في غير الفرض إلاَّ مع محرم إلاَّ في كافرة أسلمت في دار الحرب، أو أسيرة تخلَّصت([6]).
ونقل الحافظ ابن حجر نصَّ البغوي المتقدِّم ثمَّ قال: وزاد غيرُه أو امرأة انقطعت من الرِّفقة فوجدها رجل مأمون فإنَّه يجوز له أن يصحبها حتَّى يبلغها الرِّفقة ([7]).
وقال العلاَّمة الزّرقاني: ومحلُّ الخلاف في حجِّ الفرض، فأمَّا التَّطوُّع فلا تخرج إلاَّ مع محرم أو زوج... ومحلُّ هذا كلِّه ما لم تدعُ ضرورة، كوجود امرأة أجنبيَّة منقطعة مثلاً، فله أن يصحبها، بل يجب عليه إذا خاف عليها لو تركها ([8]).
وذهب بعض متأخِّري الشَّافعية إلى جواز سفر المرأة بلا محرم في جميع الأسفار: في سفر الطَّاعة: كحجِّ التَّطوُّع، والسَّفر المباح كسفر التِّجارة، وكلّ سفر ليس بواجب، وهو قول ضعَّفه الماوردي والنَّووي وغيرهما؛ لأنَّه يخالف الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة كما سيأتي، ويخالف المنصوص عن الإمام الشَّافعي وما عليه جمهور أصحابه ([9]).
قال الحافظ ابن حجر: أغرب القفال فطرده في الأسفار كلّها، واستحسنه الروياني ([10]). قال ابن حجر: وهو يعكِّر على نفي الاختلاف الَّذي نقله البغوي آنفًا ([11]).
وفرَّق الإمام أحمد في رواية عنه، وبعض المالكيَّة كابن رشد الجدِّ بين المرأة الشَّابَّة والعجوز، فمنعوا الشَّابَّة من السَّفر إلاَّ مع ذي محرم، وأجازوا للكبيرة غير المشتهاة الَّتي انقطعت حاجة النَّاس منها أن تسافر للحجِّ خاصَّة عند أحمد، وعند ابن رشد حيث شاءت في كلِّ الأسفار بلا زوج ولا محرم ([12]).
سُئل أحمد في رواية عن امرأة عجوز كبيرة ليس لها محرم، ووجدت قومًا صالحين، فقال: إن تولَّت هي النُّزول والرُّكوب، ولم يأخذ رجل بيدها فأرجو؛ لأنَّها تفارق غيرها في جواز النَّظر إليها للأمن من محذور، فكذا هنا ([13]).
ومال إلى هذا التَّفريق شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بعض فتاويه وذكر قيودًا حيث سُئل: هل يجوز أن تحجَّ المرأة بلا محرم؟ فأجاب: إنْ كانت من القواعد اللاَّتي لم يحضن، وقد يئست من النِّكاح، ولا محرم لها، فإنَّه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحجَّ مع مَنْ تأمنه، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشَّافعي ([14]).
وردَّ هذا القول ابن مفلح، فقال: كذا قال ـ يعني الإمام أحمد ـ فأخذ من جواز النَّظر الجواز هنا، فتلزمه في شابَّة قبيحة، وفي كلِّ سفر والخلوة كما سيأتي في آخر العِدد، مع أنَّ الرِّواية فيمن ليس لها محرم ([15]).
وقد تعقَّب العلاَّمة القرطبي رحمه الله ما ذهب إليه بعض المالكيَّة كابن رشد من جواز سفر الكبيرة في الأسفار كلِّها بلا زوج ولا محرم، فقال: وفيه بعد؛ لأنَّ الخلوة بها تحرم، وما لا يطلع عليه من جسدها غالبًا عورة، فالمظنَّة موجودة فيها، والعموم صالح لها، فينبغي ألاَّ تخرج منه ([16]).
وقال العلاَّمة النَّووي رحمه الله: وهذا الَّذي قاله الباجي ([17]) لا يوافق عليه؛ لأنَّ المرأة مظنَّة الطَّمع فيها، ومظنَّة الشَّهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: «لكلِّ ساقطة لا قطة» ويجتمع في الأسفار من سفهاء النَّاس، وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلَّة دينه، ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك، والله أعلم ([18]).
ويردُّ هذا التَّفريق، قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» الحديث ([19]) إذ هو على العموم لجميع النِّساء؛ لأنَّ المرأة نكرة في سياق النَّفي، فتدخل فيه الشَّابَّة والكبيرة؛ ولأنَّ المرأة في السَّفر بحاجة إلى من يُركبها ويُنزلها، وحاجة العجوز إلى ذلك أشدُّ؛ لأنَّها أعجز ([20]).
إذا تقرَّر هذا، فقد اختلفت الأمَّة في اشتراط المحرم للمرأة لأداء حجَّة الإسلام على قولين مشهورين، بعد إجماعهم ([21]) على وجوب الحجِّ عليها إذا استطاعت.
القول الأوَّل: لا تسافر المرأة لأداء الحجِّ الواجب ولا غيره إلاَّ مع زوجها أو ذي محرم منها، وهو مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري، وهو قول الحسن البصري، وعِكْرمة، وإبراهيم النَّخعي، وطاوس بن كيسان، والشَّعبي، وأبي ثور، والثَّوري ([22])، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ([23])، وقول عند المالكيَّة، حكي عن ابن عبد الحكم، واختاره اللَّخمي ([24])، وقال ابن ناجي وأبو الحسن المنوفي: كأنَّه مال إليه ابن أبي زيد ([25])، وهو أحد قولي الشَّافعي ([26])، وأحمد في المشهور([27])، وإسحاق في المشهور عنه أيضًا ([28])، واختاره ابن نصر المروزي، وابن المنذر، والخطَّابي، والبغوي، والمحب الطَّبري من الشَّافعيَّة ([29])، ونصره ابن تيميَّة في «شرح العمدة»، واختاره: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين ([30]).
القول الثَّاني: لا يشترط المحرم في سفر الحجِّ الواجب، بل يشترط الأمن على نفسها، وهو مرويٌّ عن عائشة رضي الله عنها، وابن عمر رضي الله عنه ([31])، وقال به عطاء، وسعيد بن جُبَيْر، وابن سيرين، والحكم بن عتيبة، والأوزاعي ([32])، ومالك، وهو مشهور المذهب ([33])، والشَّافعي في المشهور عنه ([34])، وأحمد في رواية ([35])، وحكاه ابن نصر المروزي عن إسحاق ([36])، وداود الظَّاهري وجميع أصحابه ([37]).
ثمَّ اختلفوا بما يحصل الأمن: فقال مالك: تخرج مع جماعة من النِّساء([38])، وقال الشَّافعي وهو الصَّحيح المشهور من مذهب الشَّافعية: يحصل الأمن بنسوة ثقات إن لم يكن معها زوج أو محرم، وفي قول للشَّافعي: تخرج ولو مع امرأة واحدة حرَّة ثقة مسلمة([39])، وروى الكرابيسي عن الشَّافعي قولاً ثالثًا: أنَّها تخرج من غير نساء إذا كان الطَّريق آمنًا، واختاره الشِّيرازي، والقفَّال، والرّوياني وصحَّحوه، وضعَّفه الماوردي والنَّووي وغيرهما من الشَّافعيَّة، وقالوا: هو خلاف نصِّ الشَّافعي([40])، وقال ابن سيرين: تخرج مع ثقاة المسلمين من الرِّجال ولو مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول، تتَّخذ سلَّمًا تصعد عليه وتنزل، ولا يقربها رجل، إلاَّ أنَّه يأخذ رأس البعير، وتضع رجلها على ذراعه([41]).
والدَّليل على تحريم سفر المرأة لأداء الحجِّ الواجب إلاَّ مع زوج أو ذي محرم منها السُّنَّةُ والقياس والنَّظرُ:
أوَّلاً: الدَّليل من السُّنَّة:
أ- أحاديث عامَّة دالَّة على نهي المرأة عن السَّفر أيّ سفرٍ كان بلا مَحْرَم:
1- عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ».
وفي رواية: «لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»([42]).
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا، فأعجبنني وآنَقْنني ([43]): «نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلاَّ ومعها زوجها أو ذو محرم» واقتصَّ باقي الحديث ([44]).
وفي رواية بلفظ: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوْ ابْنُها، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» ([45]).
وفي رواية: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» ([46]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ، إِلاَّ وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا» ([47]).
وفي رواية: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» وفي رواية: «مَسِيرَةَ يَوْمٍ».
وفي رواية: «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ([48]).
وجه الدِّلالة: دلالة هذه الأحاديث ظاهرة على اشتراط المحرم للمرأة في سفرها للحجِّ الواجب؛ لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُسَافِرَ» وفي رواية: «أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا» عامٌّ في كلِّ الأسفار سواء كان سفر طاعة أو غيره ([49])، فيدخل تحت هذا العموم سفر المرأة لأداء الحجِّ الواجب، بل هو داخل في هذا العموم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّ الغالب في سفر المرأة في الزَّمن الغابر كان لأجل الحجِّ، ولم تكن المرأة تسافر للتِّجارة أو الجهاد أو غير ذلك إلاَّ نادرًا، فثبت بهذه الأحاديث منع المرأة من السَّفر إلى الحجِّ إلاَّ مع زوج أو محرم.
ب - أحاديث تنصُّ على نهي المرأة عن السَّفر إلى الحجِّ بلا محرم:
1 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فقام رجل، فقال: يا رسول الله! إِنَّ امْرأتي خرجت حاجَّة، وإنِّي اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، قال: اِنْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»([50]).
وجه الدّلالة: دلَّ هذا الحديث دلالة صريحة قويَّة على اشتراط المحرم للمرأة لأداء الحجِّ الواجب وأنَّه لا يحلُّ لها أن تحجَّ إلاَّ به؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن سفر المرأة بلا محرم وهو يخطب أيَّام الحجِّ بمسمع من الصَّحابة رضي الله عنه، ففهم الصَّحابة رضي الله عنهم ـ ومنهم السَّائل ـ من خطابه أنَّ النَّهي يعمُّ الحجَّ وغيره من الأسفار، ولذلك سأل عن الحجِّ مع امرأته، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أقرَّه على هذا الفهم ولم ينكر سؤاله، بل أمره أن يحجَّ مع امرأته، ولم يستفصل منه أهو حجُّ فرض أو تطوُّع ؟ بل الظَّاهر أنَّه كان حجَّ فرضٍ؛ لأنَّه لو كان تطوُّعًا لما أمره بترك الغزو الَّذي هو فرض لتطوُّع المرأة بالحجِّ.
فلو لم يكن الْمَحْرَم شرطًا في سفر المرأة، لما أمره صلى الله عليه وسلم بالسَّفر معها، والتَّخلُّف عن الغزو الَّذي اكتُتب فيه([51]).
وكذلك فهم عكرمة مولى ابن عبَّاس من النَّهي أنَّه يعمُّ الحجَّ، فعن عكرمة سُئل عن المرأة تحجُّ مع غير ذي محرم أو زوج؟ فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة فوق ثلاثة إلاَّ مع ذي محرم» فكيف تصنع ما نهاها؟!([52]).
قال الإمام الطَّحاوي رحمه الله: فدلَّ ذلك على أنَّها لا ينبغي لها أن تحجَّ إلاَّ به، ولولا ذلك لقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما حاجتها إليك؛ لأنَّها تخرج مع المسلمين، وأنت فامض لوجهك فيما اكتتبت»، ففي ترك النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يأمره بذلك، وأمره أن يحجَّ معها، دليل على أنَّها لا يصلح لها الحجُّ إلاَّ به([53]).
وقال العلاَّمة الجصَّاص رحمه الله: هذا يدلُّ على أنَّ قوله: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» قد انتظم المرأة إذا أرادت الحجَّ من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ السَّائل عقل منه ذلك؛ ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحجَّ، ولم ينكر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليه، فدلَّ على أنَّ مراده صلى الله عليه وسلم عامٌّ في الحجِّ وغيره من الأسفار.
والثَّاني: قوله: «حُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» وفي ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحجِّ في قوله: «لاَ تُسَافِرُ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ».
والثَّالث: أمره إيَّاه بترك الغزو للحجِّ مع امرأته، ولو جاز لها الحجُّ بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو، وهو فرض للتَّطوُّع، وفي هذا دليل أيضًا على أنَّ حجَّ المرأة كان فرضًا ولم يكن تطوُّعًا؛ لأنَّه لو كان تطوُّعًا لَمَا أمره بترك الغزو الَّذي هو فرض لتطوُّع المرأة.
ومن وجه آخر: وهو أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن حجِّ المرأة أفرض هو أم نفل؟ وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم، فثبت بذلك أنَّ وجود المحرم للمرأة من شرائط الاستطاعة([54]).
وجاء في رواية سعيد بن منصور ـ إن صحَّت ـ أنَّه نذر أن يخرج في غزوة كذا، والنَّذر يجب الوفاء به، ومع ذلك فقد رخَّص له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ترك نذره، وأمره بأن يحجَّ مع امرأته ممَّا يؤكِّد اشتراط المحرميَّة في سفر المرأة في أداء الحجِّ الواجب.
فعن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب ـ يقول: «لاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فقال رجل: يا رسول الله! إنِّي نَذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحجَّ، قال: فَاخْرُجْ مَعَهَا»([55]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فلو لم يكن شرطًا ما رخَّص له في ترك النَّذر([56]).
وفي الباب أحاديث أخرى هي نصٌّ في محلِّ الخلاف؛ لكنَّها ضعيفة الإسناد، ولذلك أحببت أن أذكرها لبيان ضعفها حتَّى لا يغترَّ بها، لا سيما وأنَّ طائفة من الفقهاء احتجُّوا بها، وصحَّحها بعض العلماء، منها:
2 - عن ابن جريج، عن عَمْرو بن دينار، قال: أخبرني عكرمة، أو أبو معبد، عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال: جاء رجل إلى المدينة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ نَزَلْتَ؟ قال: على فلانة، قال: أَغَلَّقَتْ عَلَيْكَ بَابَهَا ـ مرَّتَيْن ـ؟ لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ([57]).
وفي رواية البزَّار عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَحُجُّ امْرَأَةٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فقال رجل: يا نبيَّ الله! إنِّي اكتتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجَّة، قال: اِرْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا»([58]).
فالحديث صريح الدِّلالة، ونصٌّ في مورد النِّزاع من أنَّ المرأة لا تسافر للحجِّ إلاَّ مع ذي محرم منها.
قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا صريح في الحكم ([59]).
إلاَّ أنَّ هذا الحديث بهذا اللَّفظ وإن كان صحَّحه أبو عوانة وابن حجر في موضع، فهو ضعيف، قال ابن حزم: وأمَّا حديث عكرمة فمرسل... ([60]).
وقال ابن حجر: والمحفوظ في هذا مرسل عكرمة ([61]).
3- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ سَفَرًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَحُجَّ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا» ([62]).
ثانيًا: الدَّليل من القياس:
1- أنَّها أنشأت سفرًا عن اختيار في دار الإسلام، فلم يجز بغير زوج أو محرم كالسَّفر لحجِّ التَّطوُّع وسائر الأسفار ([63]).
2 - أنَّ المرأة لو كانت في عدَّتها لم يكن لها أن تخرج للحجِّ، وتأثير عدم المحرم في المنع من السَّفر كتأثير العِدَّة، فإذا منعت من الخروج لسفر الحجِّ بسبب العِدَّة، فكذلك تمنع بسبب عدم المحرم([64]).
ثالثًا: الدَّليل من النَّظر.
المرأة عرضة للفتنة، وقد زُيِّن للنَّاس حبُّ النِّساء، والميل إليهنَّ، وباجتماع النِّساء تزداد الفتنة ولا ترتفع، إنَّما ترتفع بحافظ يحفظها، ويصونها، ويذبُّ عنها، ولا يطمع فيها، وذلك هو المحرم، ألا ترى أنَّه يجوز له أن يخلو بها؛ لأنَّه لا يطمع فيها وهو يعلم أنَّها محرَّمة عليه أبدًا، لما جبل الله النُّفوس عليه في النُّفرة عن المحارم، فكذلك يسافر بها ([65]).
قال الإمام اللَّخمي: «ولأنَّ الفساد لا يتعذَّر باللَّيل وإن كانت مع جماعة إذا لم يكن وليٌّ يطَّلع عليها ويحفظها» ([66]).
وقال القاضي عياض: «والمرأة فتنة ممنوع الانفراد بها لما جبلت عليه نفوس البشر من الشَّهوة فيهنَّ، وسلّط عليهم من الشَّيطان بواسطتهنَّ؛ ولأنَّهنَّ لحم على وَضَم ([67]) إلاَّ ما ذبَّ عنه، وعورة مضطرَّة إلى صيانة وحفظ، وذي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهن والذَّبِّ عنهنَّ ما يؤمن عليهن في السَّفر معهم ما يخشى» ([68]).
وقال ابن الجوزي: «وأمَّا السَّفر فإنَّ المرأة إذا خلت عن محرم كانت كأنَّها في خلوة، ولا يؤمن عليها من جهة ميل طبعها إلى الهوى وعدم المحرم المدافع عنها» ([69]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وقد أجمع المسلمون على أنَّه لا يجوز لها السَّفر إلاَّ على وجه يؤمن فيه البلاء، ثمَّ بعض الفقهاء ذكر كلٌّ منهم ما اعتقده حافظًا لها وصائنًا، كنسوة ثقات، ورجال مَأْمُونين، ومنعه أن تسافر بدون ذلك، فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحقُّ وأوثق، وحكمته ظاهرة؛ فإنَّ النِّساء لحم على وضم إلاَّ ما ذبَّ عنه، والمرأة معرَّضة في السَّفر للصُّعود، والنُّزول، والبروز، محتاجة إلى من يعالجها، ويمسُّ بدنها تحتاج هي ومن معها من النِّساء إلى قيِّمٍ يقوم عليهنَّ، وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى النَّاس؛ فإنَّ القلوب سريعة التَّقلُّب، والشَّيطان بالمرصاد، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلاَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا» ([70]).
قال: وأمر النِّساء صعب جدًّا؛ لأنَّ النِّساء بمنزلة الشَّيء الَّذي يُذبُّ عنه، وكيف تستطيع المرأة أن تحجَّ بغير محرم، فكيف بالضَّيعة، وما يخاف عليها من الحوادث» ([71]).
تنبيه:
إن قيل: قد اختلفت ألفاظ الحديث في تقدير مسيرة السَّفر يعني المسافة الَّتي تنهى المرأة أن تسافر فيها بلا محرم، والأخذ ببعضها ليس أولى من الأخذ بالبعض الآخر.
فالجواب: أنَّ هذا وإن كان ممَّا ظاهره الاختلاف والتَّنافر، إلاَّ أنَّ العلماء قد أجابوا عن هذا الاختلاف بأجوبة متعدِّدة، ولعلَّ أحسنها، والله أعلم: ما قاله ابن عبد البرِّ والبيهقيُّ وطائفة من المحقِّقين وعمل به جمهور العلماء: إنَّ محملها أنَّها خرجت على أجوبة السَّائلين في مواطن مختلفة ونوازل متفرِّقة، فحدث كلُّ واحد من الرُّواة بما سمع، كأنَّه قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا محرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيَّام بغير محرم؟ فقال لا، وكذلك معنى اللَّيلة والبريد ونحو ذلك، فأدَّى كلُّ واحد ما سمع على المعنى.
وأمَّا ما رُوي من اختلاف في الألفاظ عن صحابيٍّ واحد، فيُحمل على أنَّه حدَّث مرَّات بها على اختلاف ما سمع وشاهد في مواطن، فَيَرْوِي تارة هذا وتارة هذا، وكلُّه صحيح ([72]).
وهناك أجوبة أخرى ذكرها أهل العلم تُنظر في موضعها.
قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: ويجمع معاني الآثار في هذا الباب وإن اختلفت ظواهرها الحظر على المرأة أن تسافر سفرًا يخاف عليها الفتنة بغير محرم قصيرًا كان أو طويلاً، والله أعلم([73]).
وقال العلاَّمة النَّووي: فالحاصل أنَّ كلَّ ما يسمَّى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيَّام، أو يومين، أو يومًا، أو بريدًا، أو غير ذلك؛ لرواية ابن عبَّاس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السَّابقة: «لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وهذا يتناول جميع ما يسمَّى سفرًا([74]).
وقال الحافظ ابن حجر: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التَّقييدات([75]).
وقال العلاَّمة المناوي: ليس القصد بها التَّحديد، بل المدار على ما يسمَّى سفرًا عُرْفًا، والاختلاف إنَّما وقع لاختلاف السَّائل، أو المواطن، وليس هو من المطلق والمقيَّد، بل من العامِّ الَّذي ذكرت بعض أفراده، وذا لا يخصِّص على الأصح ([76]).
إذا تقرَّر هذا، علمت غلط من قال من المعاصرين: لو قطعت المرأة بلا محرم مسافة في وسيلة من وسائل النَّقل المعاصرة السَّريعة في وقت قصير يستغرق ساعات قليلة أو ساعة أو أقلّ كالسَّفر في الطَّائرة جاز، فهذا غير صحيح؛ لأنَّ المراد بالمسيرة: المسافة، وليس المراد: الوقت الزَّمني والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأوتي جوامع الكلم ولا يعني بالمسيرة: الوقت.
فالشَّرع أناط الحكم بالسَّفر، وهو كلُّ ما يسمَّى سفرًا في العُرْفِ والعَادَة، سواء كان قصيرًا أو طويلاً على الصَّحيح، وأمَّا وسيلة النَّقل ووقته فهذه أوصاف طرديَّة، واختلاف الزَّمان والمكان وتغيُّر وسائل النَّقل لا أثر له في تغيير الحكم الَّذي ثبت بالسُّنَّة.
ثمَّ إنَّ سفر المرأة بالطَّائرة وقطع المسافة الطَّويلة في وقت يسير لا يعني هذا أنَّ المرأة في أمان، وأنَّه لا خوف عليها، فإنَّ خطر سفرها في الطَّائرة بلا محرم لا يقلُّ خطورة عن سفرها بوسائل النَّقل الأخرى؛ لأنَّ الطَّائرة عُرْضَة للتَّأخير، وقد تهبط في مكان آخر لتغيُّر الأحوال الجوِّيَّة، أو للتَّزوُّد بالوقود، أو لعطل، أو لاختطاف الطَّائرة، وقد تجلس في المكان المخصَّص لها بجوار الرِّجال، والمرأة ضعيفة، فهي لحم على وضم إلاَّ ما ذبَّ عنه، فأين المحرم الَّذي يذبُّ عنها ويحفظها في تلك الظُّروف الاستثنائيَّة والأوقات الحرجة؟ ([77]).
وإليك أخي القارئ فتاوى علماء العصر الأكابر في سفر المرأة بلا محرم: