في احد الليالي الباردة، بينما الريح تعصف و الامطار تنهمر، قرب المدفأة كان شيخ بلغ من العمر ما بلغ، درس الحياة و طوى دروبها، كان مستلقيا على الفراش عليلا غير قادر على الحراك، لكن رأفته بالأولاد ألزمته أن يوصيهم كما حثنا النبي أبا القاسم (ص)،
أمر ابنه الأصغر أن يأتيه بقليل من الماء، فمن علامات الموت أن يصيب الانسان عطش شديد، شرب الماء بصعوبة، فما سال على جسده أكثر بكثير مما شربه، ثم استدار الى أولاده الأربعة بنظرة الأب الحنون فقال متلعثما و بصعوبة بالغة: "قد كانت سنن الأنبياء و الصالحين ألا يتوفاهم الله الا و قد تركوا الوصية فهاأنا ذا أوصيكم فاسمعوا و تلمسوا قولي..."، سكت الشيخ حينا من الزمن حيث أخذه سعال شديد في مشهد من سيفارق الحياة بعد برهة غلبت الدموع الأولاد الأربعة الدائرين حول فراش أبيهم.
استدرك أبوهم قائلا : "كي تواجهوا الدنيا فتشوا عن كنزها و قد روي لي غير ذي مرة أن أغلى كنز منذ خلق الخلق موجود في قرية صغيرة على سفح جبل" و سمى لهم المكان ثم أطرد قائلا: "من يصبه يغنم في الدنيا و الاخرة , بعد ذلك لفظ انفاسه الاخيرة ..".
حزن الأولاد حزنا شديدا على فراق أبيهم، لكنهم وعدوا أنفسهم و عاهدوا بعضهم بعضا على اتمام وصية والدهم، حزموا أمتعتهم و أخذوا زادهم و بدأوا مسيرة البحث عن هذا الكنز الغامض.
انتشر الأولاد في دروب هذه الأرض الواسعة، باحثين عن هذه القرية التي ستفتح لهم أبواب العيش الرغيد، كما خيل لهم و اتفقوا على بذل النفس و النفيس و الغالي و الرخيص حرصا على ايجاد الكنز المفقود رغبة في تلبية رغبة والدهم ......
فشق الاخوة طريقهم نحو الجبل الذي وصفه لهم أبوهم المتوفى، و كلهم امل في ان يجدوه و يغنموه، فلمحوا على سفح الجبل قرية صغيرة تحيط بها حدائق و أشجار مثمرة في مظهر بهيج، فضلا عن سكانها الذين كان يبدوا عليهم العمل و الكد و التعاون و التآزر، في أول المطاف كان التعود على حال اهل القرية صعبا على الاخوة الأربعة ظنا منهم أنهم سيلقون صعوبة في الاندماج في هذا المجتمع القروي المنعزل..
واجه الاخوة الكثير من العقبات ، فحياة الجبل تحتاج إلى جهد و حذر و كد و عمل، كان سكان القرية رغم أخوتهم و تحابهم الا أن البعض أحيانا يريد كسر هذه الأخوة و هذا التضامن.
مرة من المرات حدثت أزمة مع بعض قرى الجوار، لكن معروف عن تلك القرى أنها مرتبطة معا بروابط مشتركة كثيرة و دم واحد يجري في عروق كلا القريتين، كان أصحاب القرى الأخرى المنبوذين من جيرانهم مرحب بهم عند أهل تلك القرية و لم يجدوا معهم الا الخير، لم يكونوا الضيوف بل كانوا السادة و أصحاب البيت كما يقال،
فتعلم الأولاد من هذه القرية ألا يردوا الاساءة بالاساءة و أن يرموا من رماهم حجر بالتمر الطيب كما أمرنا الرسول حين قال (( "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا ))
لكن رغم تناغم أفراد القرية و مودة ساكنيها الا أنها لم تكن المدينة الفاضلة، بل جاء اليوم الذي جاءت معضلة عصفت بذلك الحب و المودة و التناغم الى حيث لا يعلم أحد، اذ اعتزلت فتاة من ساكني القرية معتزلا، و ادعت بحيلة و خبث أنها مريضة بالسرطان و بورم خبيث مستعصي، و لأن الفتاة كانت ممثلة باارعة لا يكاد يفرق أحد بين صدقها و كذبها، صدقها الجميع من أعيان القرية و عامتها و أقيمت المحازن و رفعت الرايات و أعدت الولائم تضرعا الى الله و تقربا له لشفاء هذه الفتاة التي كانت ذئبا في ثوب حمل وديع ، لكن الكذب حبله قصير فبعد مدة ليست بطويلة بدأت الحقائق تنكشف و المعلومات تتضح، بل أن الفتاة نفسها اعترفت بفعلتها الشنيعة، فألهب ذلك أصحاب القرية و أصابتهم حمى الاتهام فهذا يتهم الآخر بمسؤولية الكارثة التي حلت و ألمت بهم فحدث الشقاق بينهم و حزن الاخوة عما آل اليه هذا العالم الجميل، لكن الحب طغى على القلوب، لا عجب من ذلك فقد شرب أصحاب القرية من عين الصفح و التسامح و حب الآخر مصداقا لقوله عز و جل ''وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ''
فعادت الأمور الى نصابها و انقشع السحاب بعد أن غيب أشعة الأمل على أهل القرية لوقت ليس بقصير، فبقيت هذه البقعة على سفح الجبل كعادتها تفرح لفرح الآخرين و تحزن لحزنهم و تهب للمساعدة في أي وقت فلو كان لهم رغيف واحد لآثروا على اقتسامه مع بعض.
حين أتى فصل الربيع ، لم تنفتح الأزهار و لم تنمو البراعم بل بدأت الأمطار تهطل بغزارة فكان الطوفان قد مسح القرية عن الوجود كما أنها لم تكن يوما ما أصلا.
حزن الاخوة لمصاب القرية و رأوا اليأس يتسلل الى قلوبهم، فزل كل واحد منهم الى السفح، كل في اتجاه معين و ذهب كل منهم الى ركن من أركان القرية الأربعة، فشجعوا أهلها على النهوض و البناء و اعادة ما تم تدميره من الطوفان المشؤوم، فبعد محاولات جادة من الاخوة اقتنع أهل القرية بوجوب النهوض و بناء القرية من جديد .
فبعد مدة كان المراد قد تحقق و الهدف قد تجسد فعادت معالم القرية كما كانت بل و أحسن، ففرح أهلها بنجاحهم و هم بمظهر المتشوق الى من غاب عليه برهة من الزمن.
استمر الاخوة الأربعة في البحث عن الكنز فهذا يحفر و الآخر يبعد التراب و الآخر يأتي بالماء و ذلك يحرس العتاد كل له دور محدد و واضح فالغاية جليلة و مغرية هي البحث عن كنز لم يجده كل من حاول البحث عنه من قبل.
يوما كان الاخوة كالعادة ينقبون عن هذا الكنز المدفون، سمعوا خبرا أن شابا يافعا في مقتبل العمر قد أخذ الله روحه و توفاه، فكان الخبر صاعقة عليهم و نبأ هز كل أركان القرية هزا، فقام الاخوة بواجب التعزية ثم اتفقوا على المغادرة لأن الزمن قد طال و لم يعثروا على الكنز و لم يجدوا له سبيلا، فغادروا خائبين صفر الأيادي.
لكن نبأ آخر نزل عليهم أن فردا آخر قد توفاه الله فقال الاخوة لبعضهم : يجب علينا الرجوع الى القرية للتعزية فهم أهل الخير و الجود و لن ننسى ما فعلوه من أجلنا يوما ما
رجعوا الى القرية و قدموا العزاء لأهلها.
و بينما هم في ليلة ظلماء باردة يتدفئون بحر النار التي أشعلوها قد قال بعضهم الى بعض; يستحيل أننا لم نجد الكنز رغم كل هذا العناء، كيف لم نجد الكنز؟ ألم نبحث جيدا؟ أين دفنوه ؟؟
يا الله أين الكنز؟ متمتمين و قد أخذ منهم اليأس مأخذا، تنهدوا كلهم و أصدروا صوتا ينم عن اليأس و الاستسلام و الخيبة.
لم يكن كبير القرية ببعيد و قد كان في الماضي صديقا وفيا لوالد هؤلاء الأربعة
كان قريبا منهم بحيث أنه سمع حديثهم كله، فقال لهم و هو يقترب مرتجفا واضعا يده على لحيته الطويلة مستندا الى العصا التي لا يستغني عنها; مبارك عليكم الكنز يا أولادي
فقال الاخوة في صوت واحد مستهزئين بالشيخ: لم نجد الكنز يا كبيرنا.
فرد عليهم بجدية و تيقن; بلى و رب الكعبة قد وجدتموه و قد سبقتم غيركم اليه
يا أولادي لقد أتى الكثير من قبلكم يبحثون عن الكنز و يحفرون أرض القرية و يستخرجون ما في جوفها و غاب عنهم .....
سكت الشيخ برهة و قد سالت دمعة من على خده التي تملؤه التجاعيد
فقال الشبان بلهفة و شوق و فضـول : ما غاب عنا يا شيخ أخبرنا أرجوك !!
رد الشيخ و كأن قوة خفية تمنعه من الكلام، بعد تردد عميق صرح بصوت خافت و قال مبتسما : قد غاب عنكم أن .....
ثم قهقه ضاحكا ستقتلوني ان أخبرتكم و انا شيخ كبير بودي أن أكمل سويعات حياتي في هناء و سكينة، فرد عليه الأولاد بنفس نبرتــه المازحة أن الموت واحد و الكل سالك ذلك المسلك فهو حق فلم الخوف اذا؟
فأطرد قائلا يا أولادي قد غاب عنكم .... و قبل أن يتلفظ الشيخ الجملة، قال الشبان الأربعة انها القرية يا شيخ الكنز هي القرية نفسها، قالوا هذا وهم يضربون الكف بالكف
تبسم كبير القرية و قد سعد جدا لهؤلاء الأربعة أنهم فهموا الدرس و المعنى و
اكتشفوا غموض الكنز و سره.
فقال لهم مبتعدا و هو يلوح بيده انها الكنز يا أولادي انها هذه القرية:اللمة الجزائرية
النهـــاية