التفاهة لا تقتل ولكنها تُذلّ
التفاهة حقيقة لا تقتل صاحبها، لكنها تسقط به إلى الحضيض وتجلب له المذلّة والإحتقار. هذا بالضبط ما ينطبق على مصر الرسمية الحكومية. لقد فقدت كل رصيد لها لدى قطاعات واسعة من الشعب الجزائري، لأن العائلة الحاكمة هناك على ضفاف النيل، تجاوزت كل حدود اللياقة والتهذيب، وهي تدفع أبواقها وسفهاءها إلى شتم الشعب الجزائري والمساس بكرامته وبكبريائه من أجل أجندة سياسية داخلية. ولا يقلل من تفاهة النظام هناك ومن أزلامه أن بعض الأصوات، حتى الرسمية منها، بدأت تستعيد وعيها على طريقة توفيق الحكيم في ''عودة الروح'' بعد رحيل ساحر عبقري كان اسمه عبد الناصر.
الشعب الجزائري لم يفهم حتى الآن أسباب هذا الشطط في رد فعل ''الإخوة'' في مصر! هل يمكن لخسارة في مقابلة كروية أن تنتج كل هذا الحقد والغل والضغينة؟ فمن المطرب الذي يعمد إلى سحب أغنية جزائرية من ألبوم جديد له قيد الطبع، إلى ممثلة تعيد إلى السفارة الجزائرية بالقاهرة جائزة قدمت لها في الجزائر، إلى إعلاميين وسياسيين تباروا في الدعوة إلى مقاطعة الجزائر مقاطعة شاملة كاملة نهائية وأبدية! القائمة طويلة. قائمة ''أصحاب الحضارة والريادة'' الذين يتمنون كل شرّ لـ''برابرة الجزائر''و لأنهم انتصروا عليهم في مقابلة لكرة القدم!
السلطات المصرية لا يبدو أنها اتعظت وعاد لها وعيها. بل إنها تعمل جاهدة على استمرار حالة العداء تجاه الجزائر. لقد قررت الإنسحاب من تنظيم دورتين رياضيتين كانتا مبرمجتين من قبلو لمجرد أن الجزائريين موجودون فيهما. من حسن حظنا أننا لسنا مجاورين لمصرو وإلا لتعرضنا لعدوان من جانبهاو كما وقع لليبيا أيام السادات. الأسلحة العربية دائما تكون فعالة حين تُوجّه نحو صدور العرب، ومن حقنا أن نُخمّن أن عامل الجغرافيا هو الذي يكون قد أنقذنا من ''حملة تأديبية'' كتلك التي سبق للسادات أن أمر بها على ليبيا المجاورة.
الأدهى في المسألة أن تقحم مؤسسة الأزهر المبجلة نفسها فيهاو وهي حامية الدين وحارس الإيمان. لقد وصمنا الأزهر بالعارو ووضع بلادنا في خانة الكفر. وبالطبعو فليس هناك أليق من وصم شخص أو بلد بالكفر لتبرير كل مغالاة في حقه وكل عدوان عليه. وقد أقدم على ذلك شيخ أزهري يحمل لقب ''دكتور''و ووقّع ''فتواه'' كعضو في الهيئة العلمية الأزهرية! إنه ''الدكتور'' عبد الله النجار، وقد كتب مقالا بعد مقابلة المريخ في ركن أسبوعي له يحمل عنوان ''قرآن وسنة'' بجريدة ''الجمهورية'' المصرية، وقال من جملة ما قاله: ''لقد فقد الجزائريون دينهم بعد أن فقدوا عقولهم (...) إنه المنتخب الجزائري اللعين (...) بعد أن فاز هؤلاء المتخلفون الأوغاد وتحقق لهم حلم الوصول إلى كأس العالم، لن يحصلوا عليه حتى ولو رأى رئيسهم حلمة أذنه. إنهم عار على الرياضة وعلى الرياضيينو ولن يزدادوا بتلك الرياضة إلا شرا وبهيمية وتخلفا وحقدا وإجراما تشهد به الدنيا. سيحصدون مرّ الهزيمة وحصرمها في اللقاءات الأولى (في جنوب إفريقيا)، لأنهم عار على الرياضة وعلى الرياضيين''.
يمكن للبعض من أصحاب النوايا الطيبة ـ وأنا لست منهم في هذا المقام ـ أن يعترضوا بالقول إن هذا الشيخ المحترم لا يمثل سوى نفسه، وأن كلماته الطيبة في حق الجزائر والجزائريين تعبّر عن عاطفة شخصية جياشة، حتى ولو ذيّل مقاله بصفته الرسمية. ما لم يصل إلى علمي بيان من الجامع الأزهر يتنصّل فيه من هذه البذاءات، فسأبقى أميل إلى اعتبار تلك المؤسسة المباركة ''مباركية''. وحقيقة، فإن شيخ الأزهر هو موظف سام في سلم موظفي الدولة. إنه يحتل مكانا مماثلا لمكان الوزير الأول، من حيث الأجر والإمتيازات ومن حيث الطاعة العمياء لصاحب تعيينه في منصبه.. العائلة الحاكمة. وفي كل تاريخه منذ تأسيسه كمؤسسة دينية شيعية في الأصل، الأزهر من الزهراء البتول، لم يكن الأزهر يؤدي دورا آخر غير التسويغ لأفعال الملك. وربما جاز هنا الإستشهاد على ذلك بما حدث للشيخ علي عبد الرزاق، صاحب كتاب ''الإسلام وأصول الحكم الشهير''، الذي عارض به جهود شيوخ الأزهر الداعين إلى تعيين الخديوي خليفة للمسلمين من منطلق ديني عتيق، يعتبر الخلافة فرضا دينيا بعد أن أسقطها كمال أتاتورك. الأزهر عمد إلى طرد الشيخ عبد الرزاق وإخراجه من زمرة العلماء، وبعد ذلك بسنوات، أعاده إلى منصبه تنفيذا لقرار من الخديوي. في عهد عبد الناصر، وجد الأزهر للإشتراكية ''جذورا'' إسلامية، كما سيجد فيما بعد ''جذورا إسلامية'' لانفتاح السادات.
كنا نتمنى لو أصدر الأزهر تعقيبا، ولو من بعيد، على إطلاق إسم ''الفراعنة'' على الفريق المصري لكرة القدم، وهل أن تعبير ''فرعون'' فقد المعاني الملتصقة به في القرآن وحتى في التوراة؟ وهل يتطابق ذلك مع بلد مسلم عريق في الإسلام؟ هذا مع العلم أن ملوك مصر الأقدمين لم يكونوا يحملون هذا اللقب. إنه سبة وشتيمة أطلقتها التوراة على ''فرعون موسى''، بمعنى الجبار الظالم الطاغية الكافر. ألم يكن من الأوفق لـ''الكتور'' إياه أن يتعرض لهذا الموضوع في ركنه الأخير، فهو أقرب إلى ''القرآن والسنة'' من تكفير الجزائر والجزائريين.
من جملة أشياء سخيفة أخرى اجتهد أزلام العائلة الحاكمة في اختراعها تقربا وتزلفا منها، إقدام المسؤولين ببلدة صغيرة تقع قرب القاهرة على تغيير إسمها إلى ''مبارك سيتي'' بعد أن ظلت لسنوات طويلة تحمل إسم ''الجزائر''، تخليدا لكفاح الشعب الجزائري الذي أعاد للعرب كرامة لا يبدو أنهم نجحوا في الحفاظ عليها!
توجد بالولايات المتحدة بلدة صغيرة تحمل إسم ''الكادر''، تنويها بمقاومة الأمير عبد القادر للغزو الفرنسي. سيكون من الصعب عليّ للغاية أن يدور بخلدي رمشة عين أن الأمريكان المكروهين الممقوتين المتكبرين المتجبرين قد يعمدون إلى تغيير إسم تلك البلدة من الكادر سيتي إلى أوباما سيتي لو أننا غلبناهم في لقاءات إفريقيا الجنوبية. لقد شاءت القُرعة أن تضع الجزائر والولايات المتحدة في نفس المجموعة، ولكي يتقابل الجزائريون مع الأمريكيين، يجب عليهم الإنتصار على سلوفينيا، ويجب على الأمريكان الفوز على إنجلترا. كل شيء ممكن في كرة القدم، لكنني لن أراهن بـ''جنيه مصري'' واحد على إمكانية إقدام الأمريكيين على تغيير الكادر سيتي إلى أوباما سيتي لو غلبهم الفريق الجزائري!
وبالطبع، فإن ذلك العدوان الإعلامي علينا لا ينبغي أن ينسينا طيبة الشعب المصري الأسطورية، الشعب البسيط العامل الكادح. من بين القنوات العربية التي توجهت لاستطلاع موقف الشعب المصري، بعيدا عن التهريج الرسمي والتفاهة الحكومية، قناة ''ال بي سي'' اللبنانية. فماذا قال الناس الطيبون؟ قالوا بكل عفوية وصدق إنهم كانوا يتمنون بالطبع فوز الفريق المصري، أما وقد فاز الجزائريون، فهم يهنئونهم ويتمنون لهم حظا طيبا!
يمكن أيضا أن نشير إلى كتابات فهمي هويدي، الذي كان من بين الصحفيين المصريين القلائل الناقمين على السفالة والسفاهة اللتين انجر إليهما الإعلام المصري وبعض الوجوه الفنية وبعض السياسيين. لقد استوحى من ''بلايا مصر العشر'' الواردة في التوراة مقالا أسماه ''خطايا مصر العشر''، عدّد فيه بدقة المحاسب تصرفات مصر الرسمية والإعلامية تجاه الجزائريين، فريقا وأنصارا، منذ ''الضرب بالطوب'' في القاهرة إلى تمثيلية المريخ. على فكرة، بدأت ألسنة إخواننا المصريين تنحل، وأخذوا يعترفون بضرب حافلة الفريق الجزائري في القاهرة.
الخطيئة العاشرة والأخيرة، كما كتب فهمي هويدي في مقاله المنشور في ''الجزيرة نت''، أن مصر في الأزمة التي مرت صغُرت وفقدت الكثير من حجمها كأكبر دولة عربية. صغّرها الخطاب الإعلامي الذي قدّمها إلى العالم الخارجي في صورة غير مشرّفة، حتى قال لي بعض المصريين المقيمين بالخارج إنهم كانوا يتوارون خجلا مما كانوا يسمعونه في البرامج التلفزيونية المصرية. وصغّرها أنها حين هزمت في الخرطوم، بعد الأداء المشرّف لفريقها، فإنها تمسكنت ولعبت دور الضحية التي تستحق الرثاء والعطف. وصغرها أنها ملأت الفضاء ضجيجا وصخبا، وعجزت عن أن تقدم دليلا مقنعا يؤكد ما تدّعيه (...) بعض وسائل الإعلام وبعض الشخصيات المعتبرة ـ علاء مبارك مثلا ـ وأرجعت ما جرى إلى ''حقد'' يكنه الجزائريون لمصر، في تسطيح وتبسيط مدهشين. وهو كلام لا يليق ولا دليل عليه، لأن العكس هو الصحيح تماما. ذلك أن الموقف الرسمي للجزائر تعامل دائما مع مصر بمودة واحترام كبيرين.
عندنا في الجزائر تعبير شعبي قد يبدو غريبا لغير العارفين، ولكنه يلخّص موهبتنا في السخرية من الغيورين والحسّاد والمتمسكنين من كل نوع. إنها جملة ''حميصة بالكمّون'' الشهيرة! ¯