بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة مقالات أهل البدع والأهواء - المرجئة –
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
صنفان من أمتي لا يردان عليَّ الحوض: القدرية و المرجئة
ــــــــــــــــ
صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم 2748
** ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ **
لقد أصبح الحديث عن الإرجاء ، شبهة تلقى في إذن السامع والمتلقي ، بأن الخوض فيها لا يصدر إلا عن تكفيري ، أو حامل لمنهج الخوارج ، حتى أصبح كثير من طلبة العلم الشرعي يتجنبون الحديث في المسألة ، مما جعل بعضهم عرضة للقذع والذم في ترك أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ..
ولئن كان الإرجاء دين الملوك ، فإن التكفير دين الدهماء والجهال ، ولا يقل خطرا عن منهج الخوارج في هدم صرح هذه العقيدة الإسلامية ، إن لم يكن من أشد المعاول خطرا
في هدمها وتقويض أركانها
وسنتحدث هنا بإيجاز حول مفهوم الإرجاء ومقالات المرجئة ونشأتهم
وخطورة هذا الفكر على أمة الإسلام
ونستهل حديثنا بكلمة موجزة للعلامة الآجري في تقرير مذهب السلف في مفهوم الإيمان
لصلتها الوثيقة بالموضوع
قال الإمام الآجري –رحمه الله- في كتابه الشريعة :
باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح
و لا يكون مؤمنا إلا أن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث.
اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم -: أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح
ثم اعلموا: أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث: كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين.
انتهى كلام الإمام الآجري
تعريف الإرجاء لغة وشرعا
الإرجاء لغة : التأخير
نقول أرجيت الشيء أي أخرته
جاء في القاموس: أرجأ الأمر: أخره
وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، كما في قوله تعالى: قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ -
الأعراف:111 - أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
وسميت المرجئة مرجئة لأنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان
أما تعريف الإرجاء شرعا :
فالإرجاء كما أسلفنا هو تأخير مفهوم العمل عن مسمى الإيمان ، فقالت طائفة المرجئة :
كل فاسق وتارك للعمل محقق للأيمان ومرجى لأمر الله .
وكانوا يقولون:
لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم في الدنيا، من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار
فالشهرستاني يرى أن المرجئة إنما لزمهم هذا اللقب لأمرين:
أحدهما: تأخيرهم العمل عن النية والقصد
وثانيهما: إعطاؤهم المؤمن العاصي الرجاء في عفو الله، بإرجائهم العمل عن الاعتبار في مجال الإيمان لان المهم عندهم العقد القلبي
وانقسمت المرجئة إلى قسمين من حيث مقالاتهم
مرجئة الفقهاء و المرجئة الغلاة
ونوردها هنا باختصار شديد مقالاتهم ونحاول ذكر ما صح منها مع عزو كل كلام إلى صاحبه ونركز على الثقات الأثبات من علماء أهل السنة ممن يحضون بقبول لدى العام والخاص من طلبة العلم الشرعي
ونستهل بقول شيخ الإسلام بن تيمية في الموضوع
يرى شيخ الإسلام بن تيمية أن المرجئة ثلاث أصناف فيقول رحمة الله عليه :
* والمرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم لكن ذكرنا جمل أقوالهم ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه والقول الثاني من يقول هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية والثالث تصديق القلب وقول اللسان وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم *
فالمرجئة في رأي شيخ الإسلام هم ثلاث أصناف
الذين يقولون : بأن الإيمان مجرد اعتقاد القلب ، وأعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة
وصنف ثان : وهم من يقولون بان الإيمان مجرد ذكر باللسان وعلى رأسهم الكرامية
والصنف الثالث : الذين يقولون أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وهو المشهور عن مرجئة الفقهاء
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين قرابة اثني عشر طائفة من طوائف المرجئة وهي لا تشذ في تصورها للإيمان عما ذكره شيخ الإسلام بن تيمية ، للأصناف الثلاثة السابقة الذكر ونذكرها هنا عرضا دون التطرق إليها بشيء من الشرح أو التفصيل
. الجهمية - الصالحية - اليونسية- أصحاب أبي شمر ويونس – الثوبانية - النجارية الغيلانية أصحاب محمد بن شبيب - أبو حنيفة وأصحابه - التومنية - أصحاب بشر المريسي - الكرامية
أما من العلماء المعاصرين فقد سئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
عن المرجئة وأقسامهم فأجاب :مع ذكر مقالاتهم في الإيمان
القسم الأول:
الذين يقولون:الإيمان هو مجرد المعرفة ولو لم يحصل تصديق وهذا قول الجهمية، وهذا شر الأقوال وأقبحها، وهذا كفر بالله عز وجل لأن المشركين الأولين وفرعون وهامان وقارون وإبليس كلٌ منهم يعرف الله عز وجل، ويعرفون الإيمان بقلوبهم لكن لما لم ينطقوا بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم لم تنفعهم هذه المعرفة.
القسم الثاني:
الذين قالوا إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وهذا قول الأشاعرة، وهذا أيضاً قول باطل لأن الكفار يصدقون بقلوبهم، ويعرفون القرآن حق وأن الرسول حق، واليهود والنصارى يعرفون ذلك: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ - الأنعام: 20 - فهم يصدقون به بقلوبهم!
قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ - الأنعام:33 - .فهؤلاء لم ينطقوا بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم مع أنهم يصدقون بقلوبهم فلا يكونون مؤمنين.
القسم الثالث:
التي تقابل الأشاعرة وهم الكرامية، الذين يقولون: إن الإيمان نطق باللسان ولو لم يعتقد بقلبه، ولا شك أن هذا قول باطل لان المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بألسنتهم ولكنهم لا يعتقدون ذلك ولا يصدقون به بقلوبهم، كما قال تعالى
إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
القسم الرابع:
وهي أخف الفرق في الإرجاء، الذين يقولون إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول غير صحيح أيضاً
نقلا عن
الإجابات المهمة في المشاكل الملمة/لمعالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان/قام بإعدادها وجمعها:محمد بن فهد الحصين. ص105-107.
** ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ **
وكلام الشيخ في التعريف بمقالات أهل الإرجاء كلام مبسط ميسر مفهوم لا يحتاج إلى تبيان فوق هذا ، وهو الذي عليه مذهب أهل السنة و الجماعة في مفهوم الإرجاء ويمكن حصره على شكل نقاط التالي
الإيمان تصديق بالقلب فقط. - جهمية -
الإيمان نطق باللسان فقط. - كرَّامية -
الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان - مرجئة الفقهاء -
الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالقلب دون الجوارح.
الإيمان لا يزيد ولا ينقص والناس في أصله سواء.
***
هذه هي مقالات المرجئة باختصار شديد تتركز كلها حول مفهومهم للإيمان ولا نريد أن نتوسع في القضية فالغرض من هذه الأسطر هو إلقاء الضوء على هذا الفكر الخطير على عقيدة الأمة الإسلامية والذي لا يقل خطرا عن فكر الخوارج إن لم يكن اشد خطرا
ولا يتضح فكر الإرجاء جليا إلا بتعريف الإيمان ومفهومه وما يناقضه عند السلف وسنفرد للإيمان فصولا مستقلة بعد أن نأتي على ذكر مقالات أهل البدع والأهواء
ونكتفي هنا بذكر بعض أقوال السلف في التعريف بالإيمان
قال الأوزاعي:
(لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة، فكان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم جامع كما جمع هذه الأديان اسمها، وتصديقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله، فذلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدق بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين
قال: محمد بن سليمان بن حبيب :
سمعت ابن عيينة، غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل ، قال ابن عيينة أخذناه ممن قبلنا قول وعمل: وأنه لا يكون قول إلا بعمل
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-:
(وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدر كناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر
قال الإمام المزني :
(والإيمان قول وعمل مع اعتقاده بالجنان، قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وهما سيان ونظامان وقرينان لا نفرق بينهما لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان
****
وقد اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ ظهور الإرجاء ،
فلعل أول من تكلم في الإرجاء هو غيلان الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك بعد مناظرة بينه وبين الإمام الاوزاعي وكان ذلك سنة 125 للهجرة ، ويمكننا القول أن الفكر الارجائي ظهر بعد فتنة الخوارج وتحديدا بعد فتنة بن الأشعث .
ذم الإرجاء
قال الذهبي رحمه الله:
* غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى و البدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الإتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، إنما العبرة بكثرة المحاسن * - سير أعلام النبلاء -
عن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة فضرب لهم مثلا قال: (مثلهم مثل الصائبين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا فما كتابكم؟ قالوا: التوراة، قالوا فمن نبيكم قالوا: موسى، قالوا فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا فمن نبيكم قالوا: عيسى، ثم قالوا فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا فنحن بين دينين
وعن المغيرة بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال:
* المرجئة يهود القبلة *
عن سعيد بن صالح قال: قال إبراهيم: لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة
وعن مسلم الملائي عن إبراهيم قال: الخوارج أعذر عندي من المرجئة
وعن ميمون بن أبى حمزة قال: قال لي إبراهيم النخعي: * لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي بعد ما تكلم في الإرجاء – يعني حمادا –
وحماد هو حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وكان رأسا في الإرجاء.
***
ونكتفي بهذا القدر ونسأل الله جل وعلا أن نكون قد أعطينا فكرة ولو بسيطة حول مفهوم الإرجاء ومقالات القوم فيه ولقد توخيت الحذر من الخوض في بعض المسائل المتعلقة بالإرجاء كتحديد مفهوم الكفر لدى القوم ، ومفهوم عمل الجوارح وجنس العمل وهل هو شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان ، لعلمي أن الحديث في هذه المسألة قد لا ينفع المسلم عموما وهو أكثر نفعا لطلبة العلم الشرعي ، وربما هم ليسو في حاجة إلى أن يفيدهم قاصر مثلي
بشيء في هذا الباب فما أكثر ما خاض فيه أناس غيري ولم يجلب لهم نفعا ولا ضرا سوى وحشة في القلب وفرقة بين الإخوة لم ينتفعوا من ورائها بشيء يذكر
ونسأل الله جل وعلا أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه وان يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ويبصرنا بعيوبنا انه قريب مجيب الدعاء وسبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
ولا اله إلا الله
كتبته وجمع سطوره سراي علي / الجلفة