حالة البلاد العربية قبل عصر النهضة :
عرفت البلاد العربية تقهقرا و انحطاطا بعد سقوط بغداد في يد التتار سنة 656 ه، و لهذا
أطلق بعض المؤرخين عصر الانحطاط على الفترة الممتدة بين سنة 656 ه و 1213 ه .
تميزت هذه الحقبة التاريخية الطويلة التي دامت ما يقرب من سبعة قرون بالاستبداد، و الفتن، و
خنق حريّة الفكر، و تكبيل الإبداع من حكام يعملون المستحيل من أجل بقائهم في السلطة .
و كان من نتائج استفحال الفساد، و اضطراب الحياة الاجتماعية آثار سيئة على الحياة الفكرية و
الأدبية التي اضمحلت، و لم تبق منها إ ّ لا شعاعٌ خافت في مصر و بلاد الشام، و أماكنَ أخرى قليلة .
و كان من آثار الجهل، و توقف حركة الإبداع و الاختلاف و الضعف، أن تجرّأت بعض الدول
الأوروبيّة على احتلال الوطن العربي بحجج واهية، كالثار للكرامة، أو حماية مصالحها من الخطر، أو
الدفاع عن المستضعفين إلى ما هنالك من شعارات جوفاء مظّللة .
و قد اتخذ الاستعمار صورا مختلفة، فمن استعمار مباشر كما حدث في الجزائر، إلى حماية، أو
وصاية، أو انتداب كما حدث في المشرق العربي إلى انتزاع وطن من أهله و منحه للصهاينة كما فعل
الاحتلال الانجليزي بالتواطؤ مع بعض الدول الكبرى عبر منظمة الأمم المتحدة التي قسّمت أرض
فلسطين إلى دولتين سنة 1948 ، و منذ ذلك التاريخ و الفلسطينيون يعانون من هذا الكيان الاستيطاني
العنصري الدخيل .
مطلع عصر النهضة :
يرجع اغلب المؤرّخين بداية عصر النهضة إلى حملة نابليون العسكرية على مصر عام 1213
ه / 1798 م .
و للتاريخ المذكور مغزى عميق، فهو يمثل الهوة السحيقة التي كانت تفصل بين الغرب
المتحضر، و الشرق المتخلف، كما يمثل بداية الهيمنة الاستعمارية في ثوبها الجديد .
و الحقيقة أن احتلال فرنسا لمصر بقدر ما كان مؤلما للشعوب العربية و الإسلامية، فإّنه
أيقظها من سباتها العميق، و نبّهها إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم علمي وتكنولوجي، وظَّفه بأسلوب
مدروس للهيمنة و السيطرة على الشعوب المتخلِّفة، و منها الشعوب العربية لتي كانت تعيش في قلق
وضنك وجهل تحت راية ح ّ كام يفكرون في مصالحهم الشخصية و بقائهم في السلطة، و لا يعملون على
تقدّم و ازدهار أوطانهم إ ّ لا القليل .
و كان لاحتكاك المصريين بالعلماء الفرنسيين الذي استقدمهم نابليون معه أثناء حملته آثاره
الايجابية، فقد رأَوْا بأم أعينهم ما وصلت إليه المدنية الغربية في مجالات الحياة المختلفة .
اضطر الفرنسيون إلى الجلاء عن مصر عام 1801 م، و حاول محمد علي حاكم مصر أن يكوّن
دولة قوية مبنية على أسس سليمة، فاستعان بالخبراء الأوروبيين في مرافق الحياة، و بني بعض
المعاهد، و أوفد الطلبة إلى الجامعات الأوروبية ليهيأ هم لحمل الرسالة الحضارية .
العوامل المؤثرة في النهضة الأدبية في العصر الحديث :
أ./ المؤسسات التعليمية .
ب./ الطباعة .
ج./ الصحافة .
د./ المجامع اللغوية والجمعيات والأندية .
ه./ الترجمة والنقل والتأليف .
و./ المستشرقون .
أ./ المؤسسات التعليمية :
منذ سقوط بغداد انخفض مستوى التعليم، و قّلت المؤسسات التعليمية و ما بقي منها لم يواكب
المستجدات، و بقي التعليم محصورا في بعض الزوايا والكتاتيب و الأديرة، و كان يغلب عليه الطابع
الدينيّ.
كانت بعض الجوامع منارات علم و أدب، مثل جامع الأزهر بمصر، و جامع الزيتونة بتونس، و
جامع القرويين بالمغرب، و قد لعبت هذه المعاهد الكبرى دورا كبيرا للحفاظ على التراث العربيّ
الإسلامي من الضياع ولكن التعليم بها ظل تقليديا، فلم تتطوّر أسالبيه.
و في مطلع عصر النهضة انتشرت المدارس و المعاهد، و الجامعات ولاسيما في مصر ولبنان،
و في بلاد المغرب انشأ الفرنسيون بعض المؤسسات التعليمية للمعمّرين، و لم يدخلها إ ّ لا المحظوظون
من المواطنين، و كانت هذه المدارس تدرّس باللغة الفرنسية، و تطبق البرامج الفرنسية .
و في المقابل كانت المدارس الحرة تقوم بدورها الحضاري في غرس الثقافة العربية الإسلامية،
متأثرة في ذلك بمستجدات العصر .
و قد أدّت المؤسسات التربوية التقليدية و الحديثة دورا كبيرا في تعليم الأجيال، و تثقيفهم، فما
هي إلا مدّة قصيرة حّتى ظهر الرعيل الأول من رجال الفكر و العلم والأدب الذين حملوا مشعل إحياء
التراث، و نقل الآثار الغربية، ثم الإبداع .
ب./ الطباعة :
لا ريب أن الكتاب أهم وسيلة للعلم و المعرفة، و كانت صناعته م ّ كلفة، و ثمنه باهظا، فلا يستطيع
أن يقتنيه سوى الح ّ كام والأغنياء، و لما ظهرت المطبعة قضت على مشكلة ندرته وخّفضت ثمنه،
وجعلته في متناول متوسطي الحال .
وتعتبر الطباعة بشكلها المعروف حديثة العهد، لم تظهر إ ّ لا سنة 1440 م على يد العالم الألماني
"جُوتنبرج" ثم انتشرت في أوروبا .
و أول مطبعة بالعربية قامت بايطاليا سنة 1514 م و أول كتاب طبع بها هو كتابة السواعية .
أما في مصر فقد ظهرت أول مطبعة بالعربية على يد العلماء الفرنسيين أثناء حملة نابليون، و
كانت مخصّصة لطبع المنشورات التي يحتاجها المحتلُّ ليتصل بالمواطنين .
و في سنة 1821 م أنشا محمد علي مطبعة "بولاق " و على الرغم من طابعها الحكومي فإنها
لعبت دورا كبيرا في النهضة الفكرية و الأدبية .
و ظهرت عدّة مطابع في بلاد الشام، و كانت تهتم بشكل كبير بطبع الكتب الدينية، أما مطبعة
"الاستانة" التي ظهرت سنة 1728 م فقد اهتمت بطبع الكتب العربية على اختلاف أنواعها، وَ حَذ ْ ت
حذوها المطبعة الأمريكية التي تأسست في لبنان عام 1834 م، و المطبعة اليوسوعية التي ظهرت في
بيروت سنة 1848 م.
ثم انتشرت الكثير من المطابع في مختلف الأماكن الحساسة، و ظهرت مطابع ضخمة تهتم بنشر الثقافة
العربية نجد اغلبها في مصر و لبنان .
ج./ الصحافة :
أدى انتشار المطابع إلى ظهور الصّحافة، و كانت عاملا فعّالا من عوامل النهضة الفكرية و
الأدبية، و إيقاظ المجتمع و توعيته بمقالاتها، و تحليلاتها الأدبية و الاجتماعية و الدينية و السياسية ..
و أول صحيفة ظهرت بالمشرق العربي كانت صحيفة عسكرية تعبر عن سياسة الحملة
العسكرية الفرنسية.
و في سنة 1828 أنشأ محمد علي جريدة الوقائع المصرية، و قد تعاقب على تحريرها كتاب
كبار من أمثال رفاعة الطهطاوي، و أحمد فارس الشدياق، و محمد عبده و غيرهم من الأعلام البارزين
.
و في سوريا ظهرت جريدة "مرآة الأحوال" سنة 1855 م، و تهتم بالسياسة، و في بيروت ظهرت
جريدة "حديقة الإخبار" سنة 1858 م، و ظهرت جريدة "الأهرام" بمصر سنة 1875 م، ثم تتابع ظهور
الصحف و لاسيما في بلاد الشام.
و من الصحف الرائدة التي ظهرت في الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي جريدة " المبشر" سنة
1847 م، و كان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين دور كبير في نشر الصحف العربية منها :
النجاح، و المنتقد، و الشهاب، و السنة، و الشريعة، و الصراط، البصائر"
و معظم هذه لصحف تعرّضت لمضايقات الاحتلال الفرنسي، و المنع من الصدور لقيامها
بدورها الحضاري، و رسالتها في التوعية و التوجيه، و محاربة البدع و الخرافات، و كشف الوجه
الحقيقي للمحتل .
د. المجامع اللغوية والجمعيات والأندية :
من عوامل النهضة العلمية و الأدبية في أيّ مجتمع وجود الجمعيات و المجامع المهتمة باللغة و
الفكر و الأدب، و كانت المجامع العربية و الجمعيات الثقافية مزدهرة في العصر العباسي، ثم تلاشى
دورها في عصر الضعف، و في مطلع عصر النهضة أنشأ نابليون المجمع العلمي، و كان يفتح أبوابه
للمصريين المهتمين بأمور العلوم، فيطلعهم على أبحاثه في الفيزياء، و الكيمياء، و علم الآثار...
و أنشأت الإرساليات الأجنبية في بلاد الشام جمعيات علمية و ثقافية و أدبية و كانت هذه
الجمعيات تنشر أبحاثها، و تتيح تبادل الرأي و الحوار، و أهم المجامع التي ساهمت مساهمة كبيرة في
تطوّر اللغة و آدابها .
* مجمع اللغة العربية بدمشق، و تأسس سنة 1919 ، وكان اسمه المجمع العلمي العربي و كان له فضل
عظيم في تصحيح الأخطاء اللغوية، و وضع المصطلحات، و نشر بعض المؤلفات .
* الجمعية السورية، و تأسست عام 1847 و كانت أهدافها علمية أدبية .
* المجمع الملكي للغة العربية بمصر و تأسس عام 1932 ، و هو الآن "مجمع اللغة العربية"، و يهدف
إلى المحافظة على سلامة اللغة العربية، و جعلها قادرة على التعبير عن حاجات العصر، و مازال يقدّمُ
خدماته الجليلة إلى اليوم .
ثم تعاقب ظهور هذه المجامع في بيروت و بغداد، و مختلف الأقطار العربية، و استطاعت جهود
هذه المؤسسات أن تساعد اللغة العربية على التطوّر .
و أهم الجمعيات التي كان لها أياد بيضاء في تطور الأدب العربي شعرا و نثرا جماعة الديوان،
وجماعة أبولو.
و أنشأ المثقفون المغتربون جمعيتين ساهمتا بقسط وافر في تحديد الأدب من حيث الشكل و
المضمون، و هاتان الجمعيتان هما :
أ./ الرابطة القلمية، و تأسست في الولايات المتحدة الاميريكية ومن أقطابها البارزين : جبران خليل
جبران، و ميخائيل نعيمة، و إيليا أبو ماضي.
ب./ العصبة الأندلسية و تأسست بالبرازيل و من أعضائها المرموقين الشاعر فوزي المعلوف.
ه./ الترجمة والنقل والتأليف :
كانت الترجمة مزدهرة في العصر العباسي حيث ترجمت إلى العربية الكثير من آثار الفرس و
الإغريق ثم انطفأت جذوتها في عصور الضعف .
و في عصر النهضة احتكّ الشرق بالغرب احتكاكا مباشرا، و كانت الحاجة ماسة إلى
المترجمين، و لتلبية الحاجة افتتح محمد علي دارا للترجمة بمصر و أوفد الطلبة إلى أوروبا لدراسة
القانون و الفنون و الآداب، و ترجمة ما تعلموه إلى اللغة العربية، و ُترجِمت الكثير من الآثار الغربية
إلى العربية في مجال العلوم و الفنون و الآداب، قام بها أفراد و جماعات، فنقل "مارون النقاش "
مسرحية البخيل "لموليار" و قام آخرون بترجمة كتب علمية و أدبية، و نقدية، و قد أدّت المجامع
اللغوية دور كبيرا في إمداد المترجمين بالمصطلحات التي يحتاجونها. و إلى جانب الترجمة ظهرت
المؤلفات القيمة في المسرح و القصّة و الرواية و النقد الأدبي، و كان لهذه الآثار فضلها الكبير في
تطور اللغة العربية و آدابها حيث وصلت إلى العالمية بنيل الكاتب الكبير "نجيب محفوظ" جائزة نوبل
للآداب .
و./ المستشرقون :
المستشرقون هم علماء وباحثون غربيون ينتمون إلى جنسيات مختلفة تخصصوا في الآثار
الشرقية لأسباب سياسية، و دينية و ثقافية .
و قد اهتمّ الغربيون بعلوم الشرق و آدابه منذ مدّة طويلة فأنشأوا المعاهد المتخصصة لهذا
الغرض في بلدانهم .
قام المستشرقون بإيعاز من بلدانهم بدراسة آثار الحضارة العربية الإسلامية و كان لبعضهم
فضل عظيم في البحث عن كنوز الثقافة المندثرة فقاموا بإحيائها و حققوا بعض المخطوطات، وفق
أساليب التحقيق العلمي، و نشروا الكثير من الآثار، و طبعوا الكتب النفيسة و المخطوطات النادرة، و
نقلوا إلى بلدانهم، و ن ّ ظموا المكتبات و اتجهوا اتجاهات جديدة في دراسة الأدب و تاريخه .
بيد أن معظم المستشرقين، شوّهوا الحقائق، ف َ غضُوا الطرف عن الحضارة العربية الإسلامية، و
حاولوا النيل منها لجهلهم، أو عدم معرفتهم الكافية أو لانطلاقهم في أبحاثهم من خلفية عقائدية، أو ثقافية
فنقلوا إلى بلدانهم صورة شنيعة عن الثقافة العربية الإسلامية، و هل ُت َ غ ّ طى الشمس بالغربال؟
و هناك عوامل أخرى ساهمت في النهضة الأدبية في العصر الحديث، منها المكتبات، و
المسارح، قنوات الاتصال مثل التلفاز و الإذاعة، و النقد ... و كل هذه العوامل ساهمت في تطوّر
الأدب العربي، و سََتلْحَ ُ ظ هذا التطوّر في النَّمَاذج التي تقدّمُ إليك في دروس لاحقة .