mouici djamel ed
:: عضو مُشارك ::
- إنضم
- 21 فيفري 2008
- المشاركات
- 128
- نقاط التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
<B>
رسالة مقتضبة من كتاب (حسن المقصد في عمل المولد) تأليف العلامة جلال الدين السيوطي 849-911هـ، تحقيق محمد سعيد الطريحي.
لا شك أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي من تلقاء أنفسهم، كانوا يحتشدون لذلك احتشاداً شعبياً ذا روعة وجلال، وكان رجال الدولة يتغافلون عنهم ويغضون النظر عن تصرفاتهم، ولا يحاولون إزعاج أحد يقوم بذلك لأنهم لم يقبلوا أمر الإبطال إلا مكرهين، ولما آلت الخلافة الفاطمية إلى الآمر بأحكام الله في سنة (495هـ/1102م)، واغتيال الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش، وإسناد منصب الوزارة إلى المأمون البطائحي، وفي يوم 13 ربيع الأول سنة (517هـ/1123م) صدر المرسوم الآمري بإطلاق الجواري الخاصة بالصدقات، والتي جرى عليها الرسم فيما مضى، فكانت: ستة آلاف درهم، وأربعين صينية فطرة، وأربعمائة رطل حلاوة، وألف رطل خبز، وذلك غير السكر واللوز والعسل والشيرج وأن يفرق من ذلك على المتولين وسدنة المشاهد، وغيرهم من الفقراء، وكان يتولى توزيع ذلك كله سناء الملك ابن ميسر القاضي.
وذكر تقي الدين المقريزي، عن ابن الطوير ، أن الرسم كان في الموالد الستة التي هي: مولد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ومولد السيدة فاطمة، ومولد ولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومولد الخليفة الحاضر ـ وكان من عادة الخليفة أثناء هذه الموالد والاحتفالات يجلس في المنظرة القريبة من الأرض لإطلاق الأموال وملاحظة توزيعها في مستحقيها، وكانت هذه المنظرة قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجد. قال: فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تقدم (الخليفة) بأن يعمل في دار الفطرة: عشرون قنطاراً من السكر اليابس، حلواء يابسة من طرائفها، وتعبّى في ثلاثمائة صينية من النحاس، وتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراءة بالحضرة، والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، فإذا صلّى الخليفة الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة ومن معه ـ إن كانت الدعوة إليه ـ وإلا حضر الداعي ومعه نقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك وقد سُلكت الطريق على السالكين من الركن المخلّق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست فيما بين ذلك ورشت بالماء رشّاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة (التي يجلس فيها الخليفة) بالرمل الأصفر، ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة ماضٍ وعائد لحفظ (النظام) ذلك اليوم، ومنع الزحام فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلّق هو وقت استدعاء القاضي ومن معه من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة، ويترجلون قبل الوصول إليها بخطوات فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة فتفتح إحدى الطاقات فيظهر منها وجهه وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدة من الأستاذين المحنكين وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه، ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، والجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد، ثم يستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة ويكونون قياماً في الصدر ووجوههم إلى الحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقوم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما منّ الله به على ملّة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخّر ويقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال القراءة يقرأون، فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان فينفض الناس.
وعلى هذه الرسوم وهاتيك القواعد مضى الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف طوال عهد الدولة الفاطمية، إلى أن زالت بقيام الدولة الأيوبية، وقام صلاح الدين، وخلع الخليفة العاضد الفاطمي، وقبض على أعقاب الأسرة الفاطمية، وألغى رسوم الدولة الفاطمية، ومن بين هاتيك الرسوم أعيادها ومواسمها وأيام احتفالاتها، ويؤيدنا في هذا الباب ما أورده السيد حسن السندوبي، قال: (وقد بحثت فيما كتبه الكتاب، وتتبعت ما دونه أصحاب الأخبار، عن أحداث هذه الدولة الأيوبية، وما رواه رواتها وفُصاحها من شؤونها، فلم أعثر على خبر يشير إلى أنه قد كان لهذه الدولة شيء من العناية بأمر إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، أو ينوّه بأن أحداً من ملوكها نهض به، أو فكر به، وهذا من غرائب تصرفات الدول، وتقلبات أوضاعها. إذ ممّا يمكن فهمه والتسليم به أن الدولة الأيوبية قد يكون من حقها الذي تجيزه السياسة القائمة على الانقلاب وتغيير الخطط الإدارية، أن تبطل الرسوم والتقاليد والعادات التي اقتضاها المذهب الشيعي إذا كان فيها غلوّ أو خروج على الشريعة، لأن الأيوبيين كانوا يذهبون إلى التسنّن، ولكن ما لا يمكن فهمه، ويبعد تصوره أن يدخل في مضمون ذلك إلغاء الاحتفال بذكرى المولد النبوي وذلك لأن إحياء هذه الذكرى والعناية بالاحتفال بها، وتعظيم شأنها وإنفاق الأموال في الأعمال الخيرية أثناء أيامها ولياليها، وتوزيع المبرات على أهل الفاقة من الشعب في خلالها ليس خاصاً بأهل مذهب أو أصحاب نحلة أو ذوي رأي، دون غيرهم من أهل المذاهب والآراء والنحل الأخرى، بل هو عام شامل لجميع المسلمين على السواء، يشترك في الاضطلاع بواجباته والنهوض بنوافله السنّي منهم والشيعي وغيرهما من أهل الإسلام).
وبالرغم ممّا جرى يظهر أن الدولة الأيوبية لم تشدد في إلغاء الاحتفال بالمولد النبوي، والدليل على ذلك أن الملك مظفر الدين صاحب أربل ، كان يحتفل بإحياء ذكرى المولد النبوي احتفالاً كان مضرب الأمثال والعظمة والجلال، وقد كان هذا الملك من عظماء الدولة الأيوبية، ومن أقوى أركانها، وكبار أعيانها، وكان من المشهود لهم بالكفاية التامة، والمعروفين بالنهوض بجلائل الأعمال الهامة، وكانت له المشاهد المذكورة مع صلاح الدين، والمواقف المشهودة في مكافحة الصليبيين، وبلغ من ثقة صلاح الدين به أن زوّجه من أخته (ربيعة خاتون) بنت أيوب.
ذكر سبط ابن الجوزي ، في كتابه مرآة الزمان، عمن شاهد سماط الملك المظفر في بعض هذه الاحتفالات المولدية، إنه عدّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلو، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص معهم بنفسه، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
ونقل السخاوي في (التبر المسبوك) أنه كان للملك المظفر صاحب اربل (بالمولد النبوي) أتم عناية، واهتمام جاوز الغاية، بحيث أثنى عليه بذلك الإمام العلامة أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) قال: إن هذا يحسن ويُندب إليه، ويُشكر فاعله ويُثني عليه.
وذكر ابن خلكان طرفاً من وصف احتفال هذا الملك، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به كما يقول. فقال: إن أهل البلاد كانوا سمعوا بحسن اعتقاده فيه (أي في المولد) فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من اربل مثل بغداد، والموصل، والجزيرة، وسنجار، ونصيبين، وبلاد العجم، وتلك النواحي، خلق كثير من الفقهاء، والصوفية، والوعاظ، والقراء، والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة.
فإذا كان أول صفر زيّنوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، ويعدّ في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى يرتبوا فيها جوقاً وتبطل معايش الناس في تلك المدّة وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.
وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاور للميدان، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على قبة قبة، إلى آخرها، ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلون في القباب، ثم يبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها ، ثم يركب عقيب صلاة الفجر يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، وهكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد.
وكان يعمل (المولد) سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثاني عشرة، السبب الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً كثيراً زائداً عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات، وبعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، ومن جملتها شمعتان أو أربع من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على أظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه.
وفي صبيحة يوم المولد تنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية وعلى أيد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر فينزل من ذلك شيء كثير ثم ينزل (الملك المظفر) إلى الخانقاه، ويجتمع الأعيان والرؤساء، وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعظ وقد نصب لمظفر الدين برج من الخشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس، والكرسي، وشبابيك أخر للبرج إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضون ذلك النهار، والملك المظفر تارة ينظر إلى الجند، وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماط ثان في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي.
وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب (الملك المظفر) واحداً من الأعيان والرؤساء الوافدين لشهود هذا الموسم من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعده، ثم يبيت المظفر تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة.
هكذا دأبه في كل سنة، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلدته فيدفع لكل شخص شيء من النفقة
هذه صورة مختصرة للاحتفالات بمناسبة المولد النبوي أيام هذا الملك المظفر، وإذا كان هذا في بلاد المشرق، ففي بلاد المغرب أيضاً شاع إحياء المولد الكريم وبالأخص في تلمسان من ممالك أفريقية الإسلامية، إذ كان سلاطين بني زيّان يحتفلون بالمولد الشريف، ولا سيما في عهد السلطان أبو حمّو من آل زيان، فقد عني عناية خاصة تفوّق بها على أسلافه، وكان ذلك في القرن الثامن للهجرة، على ما ذكره المقرّي في نفح الطيب.
وفي المغرب الأقصى شاع تكريم هذا اليوم المبارك لا سيما في عهد السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذي تولى الملك في أواخر القرن العاشر من الهجرة، وكذلك في تونس كما في كتاب (المؤنس في أخبار أفريقية وتونس) لمؤلفه الشيخ أبي عبد الله بن أبي القاسم الرعيني القيرواني المعروف بابن أبي دينار، قال: وأول من عُني بتعظيمه في البلاد المغربية السلطان أبو عنان المريني، ثم اقتدى به بنو أبي حفص من بعده، وكان ذلك في أول المائة الثامنة.
وشاع كذلك في البلدان الأفريقية الإسلامية وتلك التي تضمّ جماعات كبيرة من المسلمين، وفي دول آسيا المختلفة كالهند وباكستان وسيلان وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا ذات الأقليات الإسلامية، وغيرها من البلاد، وما يزال الاحتفاء بالمولد جارياً شائعاً بين الكثير من المسلمين بوضع يلائم الظروف الحاضرة.
</B>
لمحة من تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
لا شك أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي من تلقاء أنفسهم، كانوا يحتشدون لذلك احتشاداً شعبياً ذا روعة وجلال، وكان رجال الدولة يتغافلون عنهم ويغضون النظر عن تصرفاتهم، ولا يحاولون إزعاج أحد يقوم بذلك لأنهم لم يقبلوا أمر الإبطال إلا مكرهين، ولما آلت الخلافة الفاطمية إلى الآمر بأحكام الله في سنة (495هـ/1102م)، واغتيال الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش، وإسناد منصب الوزارة إلى المأمون البطائحي، وفي يوم 13 ربيع الأول سنة (517هـ/1123م) صدر المرسوم الآمري بإطلاق الجواري الخاصة بالصدقات، والتي جرى عليها الرسم فيما مضى، فكانت: ستة آلاف درهم، وأربعين صينية فطرة، وأربعمائة رطل حلاوة، وألف رطل خبز، وذلك غير السكر واللوز والعسل والشيرج وأن يفرق من ذلك على المتولين وسدنة المشاهد، وغيرهم من الفقراء، وكان يتولى توزيع ذلك كله سناء الملك ابن ميسر القاضي.
وذكر تقي الدين المقريزي، عن ابن الطوير ، أن الرسم كان في الموالد الستة التي هي: مولد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ومولد السيدة فاطمة، ومولد ولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومولد الخليفة الحاضر ـ وكان من عادة الخليفة أثناء هذه الموالد والاحتفالات يجلس في المنظرة القريبة من الأرض لإطلاق الأموال وملاحظة توزيعها في مستحقيها، وكانت هذه المنظرة قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجد. قال: فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تقدم (الخليفة) بأن يعمل في دار الفطرة: عشرون قنطاراً من السكر اليابس، حلواء يابسة من طرائفها، وتعبّى في ثلاثمائة صينية من النحاس، وتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراءة بالحضرة، والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، فإذا صلّى الخليفة الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة ومن معه ـ إن كانت الدعوة إليه ـ وإلا حضر الداعي ومعه نقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك وقد سُلكت الطريق على السالكين من الركن المخلّق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست فيما بين ذلك ورشت بالماء رشّاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة (التي يجلس فيها الخليفة) بالرمل الأصفر، ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة ماضٍ وعائد لحفظ (النظام) ذلك اليوم، ومنع الزحام فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلّق هو وقت استدعاء القاضي ومن معه من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة، ويترجلون قبل الوصول إليها بخطوات فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة فتفتح إحدى الطاقات فيظهر منها وجهه وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدة من الأستاذين المحنكين وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه، ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، والجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد، ثم يستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة ويكونون قياماً في الصدر ووجوههم إلى الحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقوم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما منّ الله به على ملّة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخّر ويقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال القراءة يقرأون، فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان فينفض الناس.
وعلى هذه الرسوم وهاتيك القواعد مضى الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف طوال عهد الدولة الفاطمية، إلى أن زالت بقيام الدولة الأيوبية، وقام صلاح الدين، وخلع الخليفة العاضد الفاطمي، وقبض على أعقاب الأسرة الفاطمية، وألغى رسوم الدولة الفاطمية، ومن بين هاتيك الرسوم أعيادها ومواسمها وأيام احتفالاتها، ويؤيدنا في هذا الباب ما أورده السيد حسن السندوبي، قال: (وقد بحثت فيما كتبه الكتاب، وتتبعت ما دونه أصحاب الأخبار، عن أحداث هذه الدولة الأيوبية، وما رواه رواتها وفُصاحها من شؤونها، فلم أعثر على خبر يشير إلى أنه قد كان لهذه الدولة شيء من العناية بأمر إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، أو ينوّه بأن أحداً من ملوكها نهض به، أو فكر به، وهذا من غرائب تصرفات الدول، وتقلبات أوضاعها. إذ ممّا يمكن فهمه والتسليم به أن الدولة الأيوبية قد يكون من حقها الذي تجيزه السياسة القائمة على الانقلاب وتغيير الخطط الإدارية، أن تبطل الرسوم والتقاليد والعادات التي اقتضاها المذهب الشيعي إذا كان فيها غلوّ أو خروج على الشريعة، لأن الأيوبيين كانوا يذهبون إلى التسنّن، ولكن ما لا يمكن فهمه، ويبعد تصوره أن يدخل في مضمون ذلك إلغاء الاحتفال بذكرى المولد النبوي وذلك لأن إحياء هذه الذكرى والعناية بالاحتفال بها، وتعظيم شأنها وإنفاق الأموال في الأعمال الخيرية أثناء أيامها ولياليها، وتوزيع المبرات على أهل الفاقة من الشعب في خلالها ليس خاصاً بأهل مذهب أو أصحاب نحلة أو ذوي رأي، دون غيرهم من أهل المذاهب والآراء والنحل الأخرى، بل هو عام شامل لجميع المسلمين على السواء، يشترك في الاضطلاع بواجباته والنهوض بنوافله السنّي منهم والشيعي وغيرهما من أهل الإسلام).
وبالرغم ممّا جرى يظهر أن الدولة الأيوبية لم تشدد في إلغاء الاحتفال بالمولد النبوي، والدليل على ذلك أن الملك مظفر الدين صاحب أربل ، كان يحتفل بإحياء ذكرى المولد النبوي احتفالاً كان مضرب الأمثال والعظمة والجلال، وقد كان هذا الملك من عظماء الدولة الأيوبية، ومن أقوى أركانها، وكبار أعيانها، وكان من المشهود لهم بالكفاية التامة، والمعروفين بالنهوض بجلائل الأعمال الهامة، وكانت له المشاهد المذكورة مع صلاح الدين، والمواقف المشهودة في مكافحة الصليبيين، وبلغ من ثقة صلاح الدين به أن زوّجه من أخته (ربيعة خاتون) بنت أيوب.
ذكر سبط ابن الجوزي ، في كتابه مرآة الزمان، عمن شاهد سماط الملك المظفر في بعض هذه الاحتفالات المولدية، إنه عدّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلو، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص معهم بنفسه، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
ونقل السخاوي في (التبر المسبوك) أنه كان للملك المظفر صاحب اربل (بالمولد النبوي) أتم عناية، واهتمام جاوز الغاية، بحيث أثنى عليه بذلك الإمام العلامة أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) قال: إن هذا يحسن ويُندب إليه، ويُشكر فاعله ويُثني عليه.
وذكر ابن خلكان طرفاً من وصف احتفال هذا الملك، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به كما يقول. فقال: إن أهل البلاد كانوا سمعوا بحسن اعتقاده فيه (أي في المولد) فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من اربل مثل بغداد، والموصل، والجزيرة، وسنجار، ونصيبين، وبلاد العجم، وتلك النواحي، خلق كثير من الفقهاء، والصوفية، والوعاظ، والقراء، والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة.
فإذا كان أول صفر زيّنوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، ويعدّ في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى يرتبوا فيها جوقاً وتبطل معايش الناس في تلك المدّة وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.
وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاور للميدان، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على قبة قبة، إلى آخرها، ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلون في القباب، ثم يبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها ، ثم يركب عقيب صلاة الفجر يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، وهكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد.
وكان يعمل (المولد) سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثاني عشرة، السبب الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً كثيراً زائداً عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات، وبعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، ومن جملتها شمعتان أو أربع من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على أظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه.
وفي صبيحة يوم المولد تنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية وعلى أيد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر فينزل من ذلك شيء كثير ثم ينزل (الملك المظفر) إلى الخانقاه، ويجتمع الأعيان والرؤساء، وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعظ وقد نصب لمظفر الدين برج من الخشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس، والكرسي، وشبابيك أخر للبرج إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضون ذلك النهار، والملك المظفر تارة ينظر إلى الجند، وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماط ثان في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي.
وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب (الملك المظفر) واحداً من الأعيان والرؤساء الوافدين لشهود هذا الموسم من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعده، ثم يبيت المظفر تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة.
هكذا دأبه في كل سنة، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلدته فيدفع لكل شخص شيء من النفقة
هذه صورة مختصرة للاحتفالات بمناسبة المولد النبوي أيام هذا الملك المظفر، وإذا كان هذا في بلاد المشرق، ففي بلاد المغرب أيضاً شاع إحياء المولد الكريم وبالأخص في تلمسان من ممالك أفريقية الإسلامية، إذ كان سلاطين بني زيّان يحتفلون بالمولد الشريف، ولا سيما في عهد السلطان أبو حمّو من آل زيان، فقد عني عناية خاصة تفوّق بها على أسلافه، وكان ذلك في القرن الثامن للهجرة، على ما ذكره المقرّي في نفح الطيب.
وفي المغرب الأقصى شاع تكريم هذا اليوم المبارك لا سيما في عهد السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذي تولى الملك في أواخر القرن العاشر من الهجرة، وكذلك في تونس كما في كتاب (المؤنس في أخبار أفريقية وتونس) لمؤلفه الشيخ أبي عبد الله بن أبي القاسم الرعيني القيرواني المعروف بابن أبي دينار، قال: وأول من عُني بتعظيمه في البلاد المغربية السلطان أبو عنان المريني، ثم اقتدى به بنو أبي حفص من بعده، وكان ذلك في أول المائة الثامنة.
وشاع كذلك في البلدان الأفريقية الإسلامية وتلك التي تضمّ جماعات كبيرة من المسلمين، وفي دول آسيا المختلفة كالهند وباكستان وسيلان وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا ذات الأقليات الإسلامية، وغيرها من البلاد، وما يزال الاحتفاء بالمولد جارياً شائعاً بين الكثير من المسلمين بوضع يلائم الظروف الحاضرة.
</B>