زكي نجيب محمود

د.سيد آدم

:: عضو مُتميز ::
إنضم
28 مارس 2014
المشاركات
787
نقاط التفاعل
472
النقاط
23
(1) :
أقوالٌ كثيرة تلك التي تناولت " مراحل " تطور فكر زكي نجيب محمود :
• فمرة نقرأ أن الرجل مرَّ بثلاث مراحل ... هي : مرحلة التدين الخالص ، ذلك التدين الذي عاشه الرجل بسن مبكرة ، ما جعله إلى التصوف أقرب ! . ثم مرحلة العقل الخالص ، تلك التي تبدو ، ولو من الاسم ، نقيضاً لسابقتها . ومرحلة قد سعى لإشاعة استخدام العقل على غير صعيد ، خاصة ما كان له تعلق بالجوانب الاجتماعية ، حيث عاصر الرجل واقعاً مجتمعياً سيئاً ، ما دعاه لأن ينادي بضرورة استخدام العقل أداةً ثورة على سوء . ثم مرحلة تدين المستنير ، ذلك التدين الذي أراد الرجل أن يؤسسه على دليل العقل .
ولعل هذه المرحلة الأخيرة تكون الأطول بعمر الرجل ؛ إذ بدأت ، على وجه التقريب ، العام 1986م ، واستمرت إلى أن رحل عن دنيانا في التاسع من سبتمبر العام 1993م ! وأثمرت منتوجاتٍ فكرية هي علامات فارقة في التاريخ الفكري العربي والإسلامي ! ... منها : " تجديد الفكر العربي " ، و " المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري " ، و " ثقافتنا في مواجهة العصر " ، و " مجتمع جديد أو الكارثة " .
• وأخرى نقرأ أن الرجل مرّ بخمس ، لا ثلاث ، مراحل ... هي : المرحلة الصوفية ... وقد دامت مع الرجل عشر سنوات في ثلاثينيات القرن العشرين . ثم المرحلة النقدية التحليلية ... وقد صاغها الرجل ، أدبياً وفلسفياً ، في الذي كتبه في مجلتيّ الرسالة والثقافة . ثم المرحلة الوضعية ... وقد بدأت معه وقت أن كان يدرس في إنجلترا . ثم مرحلة الدعوة إلى التحرر العقلي . ثم مرحلة الدعوة إلى تجديد الفكر العربي ... وهي تلك التي دامت من سبعينيات القرن العشرين حتى رحيل الرجل .
• وثالثة نقرأ أن الرجل مرّ بمرحلتين فقط لا غير !!! هما : مرحلة المنطق الوضعي ، ومرحلة تجديد الفكر العربي .
المطالع لتراث زكي نجيب محمود يخرج بملاحظتين مهمتين :
- الملاحظة الأولى ، أن الرجل فتح العقول لفهم أكثر وعياً لـ ، وبـ ، الفلسفة بعد أن كانت متلبسةً وغامضة ، فأزال هذا اللبس عنها ، وبنفس القدر أفسح لها مكاناً مقدراً بعد أن لحقتها ، وأصحابَها ، تُهمُ الزندقةِ والمروق من ، أو عن ، الدين .
أما الغموض ، فكم قرءنا لكُتّاب بصيغ بالغة الصعوبة ، وعلمَ الله أن هذه الصعوبة أخفتْ خلْفَها عدمَ فهم تعمّد أصحابه إخفاءه ليحسبهم الناس مثقفين !!! ، فجاء محمود ليكتب الفلسفة بقلم الأديب ، وليشرح الأدب بعقلية الفيلسوف ، حتى قال عباس محمود العقاد بحقه " هو فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة " .
وأما ما له تعلق بالدين وعلاقته بالفلسفة عامة ، والمنطق خاصةً ، فنعرف ، ويعرف قارئو التاريخ ، عبارات من قبيل " الفلسفة سفه ، والمنطق مدخل الفلسفة ، ومدخل السفه سفه " !!! و " من تمنطق فقد تزندق " !!! و " المنطق علم لا يفيد وجهل لا يضر " !!! و " المنطق لا يحتاجه الذكي ، ولا يستفيد منه الغبي " !!! إلى آخر هذه الأحكام المرسَلة .
بل قرءنا " ما حكم الاشتغال بالمنطق والفلسفة تعلماً وتعليماً : هل أباحه ، واستباحه ، الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ؟ وهل يجوز استخدام الاصطلاحات المنطقية أو لا في إثبات الأحكام الشرعية ؟ وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أو لا ؟ وما الواجب على من تلبّس بتعليمه وتعلمه متظاهراً به ؟ وما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره ؟ وإذا وُجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروف بتعليمها وإقرائها والتصنيف يها ، فهل يجب على سلطان البلد عزله وكفاية الناس شر ه ؟ " ... وكان الحواب : " المنطق مدخل الفلسفة ، ومدخل الشر شر ، وليس تعليمه ، أو تعلمه ، مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر " ما " يقتدى به من أعلام الأمة وساداتها . وأما استخدام الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فهو من المنكَرات المستبشعة ، وليس في الأحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصلاً ، وما يزعمه المنطق من أمر الحد والبرهان ففقاقيع أغنى الله عنها كل صحيح المذهب خاصة من خدم نظريات العلوم الشرعية . وقد تمت علوم الشريعة وعلومها ، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة . ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان . وأما ما يجب على سلطان الوقت في هذا كله ، فهو أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ويخرجهم ويبعدهم ، ويعاقب على الاشتغال بفنهم ، ويعرض من ظهر من اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف والإسلام لتخمد نارهم وتنمحي آثارهم ، ومِن أوجب هذا الواجب عزلُ من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقرار لها ثم سجنه وإلزامه منزله ، ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم ، فإن حاله يكذبه والطريق في قلع الشر قلع أصوله ، وانتصاب مثله مدرساً من العظائم " .
- الملاحظة الثانية ، أن الرجل أثار قضايا ذات تعلق بثلاثة انتماءات : مصر والعرب والمسلمين ! فجاء طرحه نجدةً في وقتها ، وإن لم تؤت ثمارها فلن يكون العيب بالرجل بقدر ما سيكون بالمتلقي وبالظرف المحيط ! ... " الأمر لا يتعلق ، فحسب ، بمن أسعدهم الحظ بالاستماع إلى محاضرات الرجل الجامعية ، وإنما بلغنا ذلك الصدى عن ذلك الأستاذ الذي أثار حواراً فلسفياً لم يكن من قبل ؛ فما من أستاذ ألّف كتاباً في الفلسفة العامة أو في المنطق إلا وكان غليه أن يشير إلى آراء زكي نجيب محمود في الوضعية المنطقية مشايعةً أو نقداً " .
عرض الرجلُ لكثير من القضايا التي كانت محل اهتمام سواء بين المثقفين أو بين حتى العامة ! لكن تبقى قضية " الأصالة والمعاصرة " واحدةً من أهم القضايا التي أثارها زكي نجيب محمود ، حيث لم تثر قبله بالكيف الذي أثاره هو ، ثم تبعه مثقفون آخرون ليثيروا نفس الإشكالية ، فمنهم من أشار إلى أنه مكمّل لما بدأه الرجل ، ومنهم من ادعى أنه " الأول " في هذا المضمار ... وهذا الأخير " كشفه " التاريخ ... إذ للتاريخ مكر ... لكن أكثر الناس لا يعلمون !!! .
يُتبع ...
 
(2) :
تتناثر آراء الرجل في " الأصالة والمعاصرة " في جُل ما جاء عنه ، سواء أكان هذا مكتوباً أو مقروءاً أو مسموعاً ! وتبقى كُتبُه ، وكَتبَها في أكثر من ثلايثن سنة ، " شاهدَ ملك " على حجم همه بأمته ! ؛ فمن " قشور ولباب " إلى " مجتمع جديد أو الكارثة " إلى " قيم من تراثنا " إلى " شروق من الغرب " إلى " هذا العصر وثقافته " يلاحظ المتابعُ كَمَّ الجهد المبذول لبث الوعي عملاً على إنهاض الأمة التي هي ، برغم المغرضين ، خير أمة أخرجت للناس .
ويبقى " المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري " العلامةَ الفارقة في حديث الرجل بشأن هذه الإشكالية ، تلك التي صاغها في سؤال ذي مغزً لا يخفى على أحد " كيف السبيل إلى ثقافة نعيشها اليوم ، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة هذا العصر الذي نحياه ، شريطةَ ألا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاوراً بين متنافرين ، بل يأتي تضافراً تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر ؟ " .
قسّم الرجل كتابه قسمين : عرَضَ في أحدهما لبعض مظاهر المعقول من " تراثنا الفكري " ، وعرَضَ في الثاني لبعض مظاهر اللا معقول في هذا التراث الذي قال عنه إننا لا يمكن أن نرفضه بالكلية ، لكننا لن نقبله بالكلية كذلك !!! .
تشكل جانب المعقول من " تركيبة " جيدة تفاوتت بين علم الكلام ، وهو علم إسلامي النشأة والمشكلات ، وبين الأدب ، وبين الفلسفة ، وبين اللغة والبلاغة : ففي علم الكلام ، تناول الرجل أفكار أبي الهذيل العلاف المتكلم المعتزلي الأشهر ، ثم تناول أفكار إبراهيم بن سيّار النظّام ، وهو ، أيضاً ، أحد أهم رجال المعتزلة . وفي الأدب تناول تناول فكر الجاحظ . وفي الفلسفة تناول فكر إخوان الصفا وأبي حيّان التوحيدي . وفي اللغة والبلاغة تناول فكر ابن جنّي والجرجاني ، ثم دخل الرجل " عش الدبابير " فتناول ما نُسب إلى ابن الراوندي من إلحاد !!! ثم ينتقل إلى أبي العلاء المعري وابن سينا ، ثم تطول وقفته عند أبي حامد الغزالي .
لكن ، ما المعقول ؟ وما اللا معقول ؟ !!! .
المعقول هو : ما ترتبط فيه الأسباب بالمسببات ، أو هو استدلال ، كالانتقال من الجزئي إلى الكلي !، أو الانتقال من متعين إلى مجرد ، أو من كيفي إلى كمي ، أو هو علاقة قائمة بين السبب والنتيجة .
أما اللا معقول ، فهو ، ما استند إلى الانفعالات والعواطف والرغبات ... ذلك كالسحر والتنجيم و " التصوف " ! .
إن الصالح لربط الحاضر بالماضي هو المعقول ... والمعقول وحده ؛ فاللا معقول فيه تعطيل لقواعد الفكر ، كما أن فيه تعطيلاً لقوانين الطبيعة ... وحال تكلمنا عن " التصوف " يصبح لا شيء فيه يصلح لعصرنا هذا المُعَاش إلا أن يتحلى العلماء في هذا العصر بما كان يتحلّى به " الأولياء " من مُثُل أخلاقية عليا .
في علم الكلام :
يُتبع ...
 
(2) :
في علم الكلام :
(3) :
تناول زكي نجيب محمود عَلَمي المعتزلة أبا الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام . ونعرف أن للرجلين مباحثهما الكلامية على صعيدي الإلهيات والطبيعيات ، لكن الإلهيات أولى بالبحث عن الذي هو " عقلاني " من حيث إنها المجال الذي لم يتأثر ، وإنْ تأثر فقليلاً ، بالفكر اليوناني .
تلقّى المسلمون الوافد اليوناني عبْر موقفين سادا تاريخ العلم في الإسلام بشأن قضية الأخذ بالفلسفة على النحو الآتي :
الموقف الأول : يضم من أيد استخدام " أساليب اليونان " في التعبير عن الجوانب المعرفية ، بل والعقدية ، ولم يمنع أصحاب هذا الموقف من استحداث مقاربات تُصلح التعبيرات الفلسفية وتجعلها قريبةً من التعبيرات الإسلامية ... ومن هؤلاء في المشرق الإسلامي الكندي ، وهو الوحيد من بين الفلاسفة القائل بحدوث العالم ، والفارابي وابن سينا ، وفي المغرب الإسلامي ابن طفيل وابن باجة وابن رشد .
الموقف الثاني : يضم الفقهاء والمحدّثين وبعض المتكلمين ، هؤلاء عارضوا الأخذ بفلسفة ، ومنطق ، اليونان ممثلاً ، بالأساس ، في فلسفة أرسطو . وبرهن هؤلاء على صحة موقفهم بمسائل ، وقضايا ، رأوا أنها تتعارض ، بشكل رئيس ، مع التصور الإسلامي ... منها : مسألة ، أو قضية ، عقيدة الإيمان بالله . ومنها مسألة ، أو قضية ، العلاقة بين الله ، وهو سبحانه الخالق ، وبين العالم ، وهو المخلوق بأمر الله . ومنها مسألة ، أو قضية ، خلود النفس ... فأرسطو لم يهتم كثيراً بمعرفة الله ، كذا لم يعوّل عليه كثيراً في قوانينه الأخلاقية والسياسية ، فالرجل ظل مشغولاً بالعالم الحسي دون البحث في وجوده على أمر خالق كما خلق فهو يدبّر . وبمد الخط على استقامته انتهى أرسطو إلى الكلام في محرك لا يتحرك ليس له من الصفات إلا أنه عقل وفكر خالصان ، وجعل نسبة الكون إليه نسبة العاشق يتحرك شوقاً نحو المعشوق !!! .
ولا شك أن محاولات التوفيق بين الفلسفة اليونانية والمعتقد الإسلامي أخذت شكلاً متدرجاً ؛ فكان الكندي أقرب إلى فكر المتكلمين ، ثم ازداد الأمر قرباً من الفكر اليوناني عند الفارابي ، ثم اكتمل بشكل أشبه ما يكون بالدمج ، وذلك على يد ابن سينا .
وفي الوقت الذي ينقد فيه ابن الجوزي الفلسفة والفلاسفة ... حيث يقول " قد لبس إبليس على قوم من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرتْ منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة " ، فإنه يقر للفلاسفة بالذكاء والفطنة ، وعلى وجه الخصوص سقراط وأفلاطون وأرسطو ، لكنه يخطئّهم في مذهبهم الإلهي .
ثم أن ابن تيمية يرى أن سبب مزاولة الفلسفة لدى فلاسفة الإسلام إنما كان نتيجة افتقادهم " الأدلة الصحيحة " كما قرءوها عند المتكلمين ، ولما كان الفلاسفة المسلمون قد ظنوا أن الصواب في التدليلات العقدية إنما هو في مناهج المتكلمين ، ولما وجدوا أن هذه التدليلات ليست تتوافق والأدلة العقلية ، فقد رفضوها وأعلنوا أن دين الإسلام بهذه الصورة غير معقول !!! ... لكن فيلسوفاً كابن سينا ، رغم تبحره في الفلسفة ، انتهى إلى الاعتراف بأنه " لم يقرع العالمَ ناموس كالناموس الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم " .
هذا الإرث دفع زكي نجيب محمود لأن يتبنّى القول " ما أثر الفلسفة اليونانية في مسائل تتعلق بالصفات ، أو الإرادة الإلهية ، أو حرية الإرادة وصلتها بالعدل الإلهي ، أو إعجاز القرآن ؟ " .
وينتهي الرجل ، وهو بصدد الحكم على العلاف والنظّام ،أنهما ليسا ملزِمين لنا نتبعهما فيما بحثاه ، وإنما نتبعهما في " كيف " بحثا الذي بحثاه ... أي في " المنهج " لا " الموضوع " !!! وهنا بيّن الرجل أن العلاف هو من أسس رفض الإيمان عن تقليد قبالة القائلين " اللهم ارزقني إيمان العوام " ، فكانت النتيجة كون هذا الإيمان ظنياً لا يقينياً بحال ! ما مهّد للمثل الشعبي " ربنا عرفوه بالعقل " ! . كذا بين موقف النظام من الشك واليقين ؛ فلا يقينَ إلا وسبقَه ، لزومَ ما يلزم ، شكٌّ .
مع الغزالي :
يُتبع ...

 
(3) :
الغزالي :
(4) :
الغزالي ، برأي زكي نجيب محمود ، هو " من طالت قامته حتى رآه المسافر من بعيد كالنخلة الفارعة ، وهو قد ألقى بظله على العصور التالية له ، حتى لنحس بوجوده معنا إلى يومنا هذا : نهابه ، ونخشع لسطوته . وإن الناقد له ليتردد مائة مرة قبل أن يقدم على نقده ، وهو لم يكتب ما كتب ليملأ الصحف بزخرف اللفظ ، ولا ليلهي قارئه بقدرةٍ يتظاهر بها أمامه ليتعالم في كذب ، بل كتب كل ما كتب مخلصاً صادقاً " .
ولعل ما فات أن يكون به القسم الأكبر من الصدق ، إن لم يكن كله صدقاً ! ولعلنا لم ننس قول البعض ، وهو بمعرض بسط الهيبة للغزالي ، " كاد الإحياء أن يكون قرآناً " !!! وقول البعض الآخر " لا غنى للأحياء عن الإحياء " !!! .
لكن زكي نجيب محمود يؤكد أن الغزالي " ظهرَ ليكون قوةً رجعية قابضة تمسك الناس دون الانبثاقة الحرة المغامِرة ، وهو من أقوى العوامل التي أثّرتْ في مجرى تاريخنا الفكري فجمّدتْه وانتهت به إلى الركود الذي ساد حياتنا العقلية قروناً طويلة !!! ؛ فما الظن برجل في مجلدات مديدة الطول ليرسُم للمسلم حياته بالمسطرة والفرجار ، فيحدد له كل لفظة يفوه بها ، وكل خُطوة يتحركها لكي يضمن إسلامه !!! : يحدد له كيف يأكل ، وكيف يسافر ، وكيف يعاشر زوجته !!! يحدد له كل صغيرة وكبيرة من حياته كيف ينبغي أن يكون لكي يكون مسلماً صحيح العقيدة والسلوك " !!! هذا كله دفع لسؤال ملحٍّ ... هو : ماذا بقي ، إذَن ، للإنسان ليتصرف بتلقائية حرة ليكون مسؤولاً بما يقرره هو بنفسه لنفسه ؟؟؟ !!! .
لعل هذا السؤال يعيد إلينا ما قالته المعتزلة بشأن " الحسن والقبح العقليين " من حيث هو يصب بخانة " القدرة " على الفعل إفساحاً لـ " العدل " في الثواب أو العقاب على حد سواء .
يصبح الغزالي ، بعد الذي تقدم ، وبرأي محمود ، " الرجل الذي أغلق باب الفكر الفلسفي أمام المسلمين ، فلم يُفتحْ بعد ذلك إلا وقد مرّت قرون ثمانية ، انفتح المسلمون بعدها على حضارة جديدة هي الحضارة الأوروبية " !!! .
وهو " الرجل الذي صاغ للمسلمين نموذجاً نظرياً لطريقة العيش ، فأصبح " القيد " الذي يغل اليدين والقدمين واللسان معاً " .
نقد الغزالي الفلسفة ، والفلاسفة ، في مؤلفه " تهافت الفلاسفة " بعد أن تقمص وجودهم في مؤلفه " مقاصد الفلاسفة " !!! لكن جاء كتاب ابن رشد " تهافت التهافت " ليبين أن الغزالي لم يحسن فهم الفلسفة ، فلسفة أرسطو تحديداً ؛ إذ أخذها عن ابن سينا !!! .
ما فات عن الغزالي يطرح سؤالاً : من المسؤول عن ذلك ؟ ومن يستحق اللوم : آلغزالي أم الذين شايعوه ، فلم يحيدوا عن شيء مما قاله ؟ .
ولنا ، نحن المعاصرين ، أن نطرح نفس السؤال ، لكن لزمن بعيد جداً عن زمن الغزالي : ما يخص أرسطو ، وقد ساد فكرُه عقلَ البشرية أكثر من عشرين قرناً ( !!!!!!!!! ) حتى قيل بحقه " إن آباء الكنيسة مسّحَوْا أرسطو " ، : هل أرسطو هو المسؤول أم شُرّاحه الذين سمحوا أن يسود شرحهم ، أو شروحهم ، لفلسفة أرسطو عقول من جاء بعده وبعدهم ؟؟؟ !!! ... ونفس السؤال الناقد مطروح بشأن كتاب " مدينة الله " لـ " سان أوجستين " الذي ظل " الدستور " الروحي والسياسي لأوروبا طوالَ القرون الوسطى !!! .
ويلفت محمود نظرنا إلى مسألة تصب بخانة " الوعي " : هي المحاصصة بين المطلق والنسبي ! ، فلا يجب الخلط بينهما بحال ؛ فإذا صح أن يكون للأكل ، أو للسفر ، آداب بعينها تصدق على ظروف محددة بزمانها ومكانها ، فلا يصح ، لزوم النهضة ، أن ننقل الصورة " النسبية " المحدودة بالزمان والمكان فنجعلها " مطلقةً " تصدق على " كل " زمان و " كل " مكان !!! .
في التصوف :
يُتبع ...

 
(4) :
في التصوف :
(5) :
لعل جملةً واحدةً كتبها محمود تبيّن لنا موقفه من التصوف : " إن كل ما ذهب إليه الصوفية في طريقة وصولهم إلى الحق ، إنما يندرج تحت اللا معقول في تراثنا الذي ينبغي الإعراض عنه " .
وربما كان هناك فريق من مفكرينا ينكر هذا الموقف من زكي نجيب محمود ، وأسس هذا الفريق إنكاره السابق لرأي ، أو موقف ، محمود على أن الحضارات غير العربية ، أو غير الإسلامية ، احتفظت بجانب من " اللا معقول " في بنائها الحاضر والمعاصر !!! .
يأخذ الفريق المعارض على محمود " تسويته " بين " جميع " حالات اللا معقول ! ثم رجع بنا هذا الفريق إلى التمييز الذي كان قد أقامه بيرجسون بين دينين : دين " سكوني " ( = مغلق ) يدعو إلى الخرافة ، ما يشيع في نفوس تابعيه خوفاً ، غيرَ مبررٍ ، من الكون وقوى الطبيعة ، وبذا يكون هذا المطلوب " دون مستوى العقل " ، ودينٍ آخر " حركي " ( = منفتح ) ، من حيث هو يزوّد منسوبيه بطاقة روحية ، ويبث فيهم السكينة والطمأنينة ، حتى فيما له تعلق بالكون وقوى الطبيعة ... ما يجعل هذه التفرقة دليلاً قائماً بذاته على بطلان الكلام في أن طبيعة الدين واحدة في الحالتين .
في كتابه " المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري " ، يميز محمود بين أمرين : معقول يُقبَل ويؤخَذ به ، سواء على صعيد الموضوع أو على صعيد المنهج ! ولا معقول يُنبَذ ، ويُرفَض ، من حيث هو " لا معقول " ! لكن : التفرقة لا يجب أن تكون بين " معقول ولا معقول " ، بل بين " زمانين " !!! :
أحدهما ، زمنٌ تزدهر فيه الحضارة ، ومن ثم تقوم لها قائمة يشهد لها التاريخ حتى بعد زوالها ! وهنا " ترتقي " النظرة حتى لـ " اللا معقول " !!! فيبدو ، في ثوبٍ قشيبٍ ، معقولاً .
والآخر ، زمنٌ " تنحطّ " فيه الحضارة ، فيُدخِل أهلُها اللا معقولَ إلى حيز " الخرافي " ! .
في معرِض " تحديد الألفاظ ... كذا المفاهيم " نقرأ لمحمود أخْذَه على القشيري قولاً له " إن الكرامات لا تناقِض العقل " ! كما يأخذ عليه الخلطَ بين ما هو ديني : " إنها ، المعجزة ، تتم بمشيئة الله " ، وما هو منطقي : " إن الكرامة ممكنة ، أو جائزة " .
إن القارئ للقشيري يعلم أن الرجلَ جعل " الكرامات " من حيث " الجهة في المنطق " تحت الإمكان / الجواز ! بينما زكي نجيب محمود جعل علاقتها بالمعقول علاقة " التقابل بالتناقض " ! ما يجعلها في حكم الاستحالة ... والدليل على ذلك " أن صاحب الكرامة يمكن أن يُظهر للجائعين خبزاً دون أن يكون هناك دقيق ، ولا أن يكون هناك القمح الذي يسبق الدقيق ، ولا التربة التي تنمو فيها شجرة القمح " ثم : " كيف يتم له ذلك ، وكيف لا يتناقض الأمر مع العقل " ؟ .
وتحرير الإشكالية ، عند الناقدين لموقف محمود ، يتأسس على ضرورة بيان المعنى الدقيق لـ " الكرامة " ؛ فهذا المعنى لم يكن ، إبان ازدهار الحضارة الإسلامية ، يعني أن الولي ( = الصوفي ) يريد شيئاً ، ثم يحققه الله ، تعالى ، له ، حتى لو كان هذا المراد شيئاً مناقضاً لقوانين الكون ! .
إن الصوفي " فاقد الإرادة " قبالة " إرادة " الله تعالى ؛ تأسيساً على أن إرادة الله ، تعالى ، سابقةٌ ، ومقيِّدة ، لإرادة الصوفي ، ذلك في أي قول له أو فعل . فـ ( الله جعل قلوب أوليائه متعلقةً بمشيئته ، فإذا شاء شيئاً شاءوه ؛ فالله هو الذي يشاء أولاً ، ومشيئة الولي لاحقة ومترتبة على مشيئة الله . تأملوا : دعوة يوسف على نفسه بالسجن " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " أما كان أولى بيوسف ، بعد أن كادت له امرأةُ العزيز ... وافتتنتْ به نسوةُ المدينة ، أن يقول : يا رب ، خلّصني من كيد النساء . لكن قد جرى حكم القضاء الإلهي على يوسف بالسجن ، فكان أن دعا على نفسه به ) .
تروي لنا كتب السيَر أنه بعد قتْلِ الإمام زيدٍ ، عمِّ الإمام جعفر الصادق ، أنشدَ الحكم بن العباس الكلبي ، وكان والياً للأمويين :
صلبْنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ ... ... ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ
فدعا جعفر عليه بقوله " اللهم سلّطْ عليه كلباً من كلابه ينهشه " ثم يكمل الرواة : أنه لم يمضِ وقت حتى كانت الذئاب قد افترست هذا الوالي المنشد بينما كان في طريقه من الشام إلى الكوفة !!! .
الملاحَظ هنا : أن دعاء جعفر ، في ظاهره ، دعوةٌ مستجابة ، لكنه ، بقياس الذوق وقتها ، أن الله ، تعالى ، قد أجرى على لسان الإمام جعفر ما قدّره على هذا الوالي منذ ولادته ! ، وإلا فلمَ لم تكن دعوة الإمام جعفر على الخليفة هشام بن عبد الملك ، وهو الآمر بالقتل ؟ ، أو على القاتل نفسه ؟ .
وقد يحق لنا أن نشير إلى أن الصوفية الأوائل قد اشترطوا ، وتشددوا في شروطهم ، في الكرامة : ألا تُطلب ، وألا تُظهَر ، وألا يُتحاجّ بها .
يُتبع ...


 
(6) :
والقارئ لتراث زكي نجيب محمود يخلص إلى نتيجة مؤداها أن الرجل " بدأ متديناً ، وانتهى متديناً " !!! حيث " لازمته المشاعر الدينية طوال حياته ، ولم يتخلّ عنها قط ، وإنْ كانت قد توارت في فتراتٍ معينة ، فالسبب أنه رأى ، عندئذ ، أن ما يحتاجه مجتمعه هو ضرورة الاهتمام بمنطق العقل الذي هو صانع الحضارة ، والذي اختفى من ثقافتنا نظراً لسيادة الوجدان . فالرجل لم تفارقه مشاعره الدينية ، وإن كانت في حال كمون بانتظار الفرصة للظهور ، وقد واتته في السنوات الخمس التي قضاها أستاذاً في جامعة الكويت " .
كتب الرجل كتاباتٍ ذات صبغة ، وأسلوب ، أقرب إلى الدين ورحانيته منه إلى أي جانب آخر له جفاف يبتعد عن " روح " الإنسان من حيث هو إنسان ؛ فكتب عن " هجرة الروح " في ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ... " فلئن هاجر النبي من مكةَ إلى المدينة ، فجاءه نصر الله والفتح ، فهاجرْ أنت من خلال العقل إلى إيمان القلب والسكينة والقرار " ! ... بل في إشكالية " الخلود " يقول ، مبرهناً على حقيقته ، : " رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً ! . ورغبة الإنسان في زمالة الآخرين يستحيل أن تنشأ إن لم يكن للإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه . ويستحيل أن يكون لدى الإنسان رغبة في الخلود ما لم يجد في فطرته ، وجبلّته ، ما يوحي إليه أنه خالد " !!! ... بل الرجل يكتب عن تولستوي ... فيرى أنه " غاص في أغوار الفكر وغاص ، ثم انتهى به الزمن ألا يبقي في مكتبته إلا الكتاب المقدس وبعض الكتب الدينية " ! ما يعني أن تولستوي ، وقد قرأ المذاهب المختلفة ، واستطلع آراء أفلاطون وكانت وشوبنهاور وبسكال ، لم يجد السكينة والطمأنينة إلا في الدين .
لا يجد زكي نجيب محمود تعارضاً ، بحال ، بين المعجزة والعلم ، فيأخذ على من يزعم وجود تعارض بين " المعجزة " و " قوانين الطبيعة " ومن ثم " ينكر هذا الفريق المعجزات التي وردت في الكتب المقدسة : مثل أن البحر انشق لعصا موسى ، وأن السيد المسيح كان يبرئ الأكمه والأبرص بلمسةٍ منه " !!! .
يحلل زكي نجيب محمود القوانين العلمية ، فينتهي إلى أن " المعجزة لا تبطل القانون العلمي " :
أولاً : انتهى العلم إلى الإقرار بأن " الطبيعة ليست تسير بحسب قانون صارم " !!! بمعنى أنها قد تغير " سلوكها " بما لا يمكن التنبؤ به ! ، وهي في ذلك أشبه الأشياء بالكائن الحي تماماً بتمام ! حتى أعلن بعض علماء الطبيعة أنه " ليس في الطبيعة كلها موجودات تخلو من الحياة ، أو ما يشبه الحياة " ! ... ما يعني صحة القول إن الفارق بين هذه الحياة وتلك هو فارق في " الدرجة " لا في " النوع " . وإذا كان الإنسان الفرد قد يغير سلوكه ، لكنه يبقى ، في المنظور العام ، وفق أسس وقواعد لا تعرف الشذوذ .
ثانياً : إذا قال قائل إن الطبيعة لا تخطئ ، وإنها لا تملك تغييراً ، ولا تبديلاً ، للقانون المسيّر لها ، وبالتالي يجب إلغاء كلمة " المعجزة " ، باعتبارها " تغييراً " لهذا القانون ، من قاموس تعاملنا الفكري ! ، فمن أين الصواب لمن يزعم أن المعجزة " كسر لقانون الطبيعة " ؟؟؟ !!! ... ويضرب الرجل مثالاً لهذا " افرض أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن الفرع سقطت على الأرض ، لكن ألا يمكن أن تمتد يد إلى التفاحة فتلقفها فتمنع سقوطها على الأرض " ؟ . إن هذا لا يعد كسراً لقانون الجاذبية الذي هو سار وقوي وفعال .
إن " الإرادة البشرية " تستطيع أن " تتوسط " بين القانون وبين تطبيقه ، فيقوم هناك " تعطيل " لا " إبطال " ! ما يعني أن الذي كان هو " تعطيل " لا " تبطيل " !!! ومن ثم ، وقياساً عليه ، فلله ، تعالى ، إرادة " حرة " كهذه التي للإنسان ، بل وأعلى ، يستطيع بها أن " يعطل " قانون الطبيعة حيناً ما ، طال هذا الحين أم قصُر ، ويبقى القانون قائماً .
ثالثاً : العجز عن الإدراك ، ليس دليلاً على عدم وجود المدرَك ، ما يعني عدم ضرورة الاعتماد على أن الحواس " مقياس الحقيقة " ... إذ " هناك طائفة من الناس تمتد أيديها وأنوفها إلى جانب من الطبيعة تتحسسه ، ثم تجزم في يقين ، لا يعرف الشك ولا التردد ، أن هذه الطبيعة جمادٌ في جمادٍ في جماد ! ، يسيّرها هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة لن تشذ عنها خارقةٌ ولا معجزة " لكن " الكون كتابٌ مفتوح ، به من المعاني السامية ما يمكن فهمه ، وإدراكه ، لذوي الفطَر ، والبصائر ، السليمة " .
---
النص المقتبَس عاليه يعني أن الصوفي لو لم يأخذ بهكذا شروط ، فإن ذلك يخرجه " من " إرادة الله " إلى " إرادته هو ! كما يُخرج الكرامة عن أن تكون فعلاً خالصاً لله تعالى .
وهذا الشرح يتماهى مع معنى الكرامة بحسب القشيري في رسالته ؛ فالرجل يرى أنها " جائزة " و " ممكنة " و " ليست مناقضة لحكم العقل " !!! .
إن في كل حضارة ، كائنة ما كانت ، محوراً مركزياً تؤخذ عنه كل مظاهر الثقافة الدالة على هذه الحضارة أو تلك ! ، وهنا نشير إلى أن الدين ، الإسلام ، هو المحور المركزي للحضارة العربية الإسلامية ، زمناً إثر زمن ، حتى في " الفن " ؛ فـ " شبنلجر " ، أعلن أن التعبير الفني في الحضارة الإسلامية واضح ، أجلى وضوح ، في " الزخرفة " ! ، تلك التي هي خطوط " مجرّدة " ، لأن " إله المسلمين " ... هكذا يقول شبنلجر ، مفارق منزَّه عن التشبيه والتجسيم ، ما نفّر " المِزاج " الإسلامي من النحت ، ليس بسبب قرب عهد أوائل المسلمين بعبادة الأوثان ، كما يحلل الأمرَ البعضُ ، بل لما في النحت من تعبير عن تجسيد ليس يلائم هذا المزاج الذي خلقه الإسلام خلقاً جديداً في منسوبيه ، مثلما خلق في هؤلاء قيماً أخرى ذات تعلق بالحياة ، لا الأخروية فقط ، بل الدنيوية كذلك .
إن عامل الدين " هو أقوى العوامل في إصلاح العامة والخاصة ، وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل ، الذي هو خاصة نوعهم ،" ... ذلك لأن قوائم الدولة " مستقرة على أديم الدين ، وكلما قوي الدين في الأفئدة ، ظهرت آثاره في الأعمال ، وكلما ضعف الدين ، ضعف أثره بحكم الضرورة " .
وبما أن الكلام له تعلق بالدكتور زكي نجيب محمود ، فلنا أن ندّعي أن أنفس المصريين " أُشربتْ الانقياد إلى الدين ، حتى صار طبعاً فيها ، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين ، فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعه فيها ، فلا نبت ، ويضيع تعبه ، ويخفق سعيه " ذلك لأن الدين " وضع إلهي ، وهو أول ما يمتزج بالقلوب ، ويرسخ في الأفئدة ، وتصطبغ النفوس بعقائده ، وما يتبعها من الملكات والعادات ، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها ، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات ، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها ، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل ، وأول ما يُخَطّ فيه رسمُ الدين ، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده ، وما يطرأ على النفوس من غيره فهو نادر وشاذ ، حتى لو خرج مارق عن دينه ، لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات ، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال " .
نحن مسلّمون أن العلوم الدينية واللغوية " قد انبثقت بسبب من الإسلام " ! وهنا يثار سؤال " حضاري " : لمَ كان للحضارة الإسلامية الدور الأساس في اكتشاف " علم الكيمياء " ؟؟؟ !!! والإجابة ، لدينا ، : بسبب من هذا الدين الذي جمع بين الحياتين : الدنيوية والأخروية ! ، والتاريخ يشير إلى أن الإمام جعفر الصادق ، وهو عالم دين ، هو الذي أشار إلى تلميذه جابر بن حيان ووجهه هذه الوِجهة " الدنيوية " !!! ، فكيف لإمام من أئمة الدين أن يرشد إلى " علم دنيوي " ؟ .
كانت فلسفة أرسطو ، وقد تسيدت الفكر البشري زمناً طويلاً ، قد انتهت إلى أن " الصيرورة " إنما تقع في " الأعراض " دون " الجواهر " ! ما أحال قيام علم للكيمياء في حضارة الإغريق ، لكن ، وعلى النقيض ، رفعت الحضارة الإسلامية مبدأين اثنين :
الأول ، خروج " الضد من الضد " ! تأسيساً على " يُخرج الحيَّ من الميت ، ويخرج الميتَ من الحي " ! و " من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " ! بمعنى أنه من شوائب ، وقاذورات ، المعدة والأمعاء ، وهذه مما تعافه النفْس البشرية ، يخرج لنا اللبنُ ذو الطعم الحسن والمذاق المقبول ، بل المطلوب ! . هذا مجال ، وآخر ، في الفقه ، نجد : الخمر المُسْكِر يخرج من العنب غير المسكر ! ، ومن " الروث " تأتي الأسمدة العضوية ! ، ومن " دم " الغزال يأتي " المسك " !!! .
الثاني ، المبدأً ، أو الأساس ، الذي عليه أقام ابن حيان علم الكيمياء ، حيث " الاختلاف بين المركّبات ليس ، فقط ، في الكيف ، بل في الكم كذلك ، وهذا راجعٌ إلى اختلاف النسب والمقادير ؛ فلو كان كيفياً فقط ، " لما أمكن لضد أن يكون عن ضد " !!! .
انتهى .
 
آخر تعديل:
كل الشكر والامتنان على روعهـ بوحـكـ
..
وروعهـ مانــثرت .. وجماليهـ طرحكـ
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top