العلم روضة يَكتنفها التعب، ولذَّة مشوبة بالمعاناة، وخشيَة تُزيِّن حقيقته، وبهاء يعلو سادته، اتَّفقت الشرائع على حُسنِه، وأجمع العقلاء على مدحه، ولا يكاد يذمُّه إلا أحمق مغبون في عقله، كم كُتبت في فضله أشعار، وسطِّرت في تمجيده أسفار، ورغم اتِّساع روضة الإشادة به في كل زمان ومكان، إلا أني أحببت أن أقتطف مِن هذه المقولات الرائعة بعض أزهارها، وأرصد من أقوال الشعراء خير ترانيمها، راجيًا شحْذ الهِمم، وتذكير أهل العلم والفضل بشرف مقاماتهم وعُلوِّ غاياتهم.
قَدِم هارون الرشيد الرَّقَّة؛ فانجفل الناس خلف عبدالله بن المبارك، فقالت أُمُّ ولدٍ لهارون كانت مُشرفة على ذلك: مَن هذا؟ فقالوا لها: عالم أهل خراسان قَدِم الرَّقَّة، يُقال له: عبدالله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملْك! لا ملْك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان!
يُقال: إن الخضِر قال لنبي الله موسى - عليه السلام -: "يا موسى، تفرَّغ للعلم إن كنتَ تريده؛ فإنما العلم لمن تفرَّغ له".
إن الوقوف عند حدٍّ مُعيَّن مِن العلم ما هو إلا ضمور في العقل وقصور في الهمَّة، ولقد نعى الله - تعالى - على قوم وقَفوا عند حدٍّ مُعيَّن من العلم فكان وقوفهم سببًا لضلالهم؛ فقال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [النجم: 30]، لكنَّ طالب العلم الجاد مع إطلالة كل صباح، يستذكر قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، فتراه يسأل ربَّه مُتواضِعًا: ﴿ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، اعترافًا بقلَّة ما تعلَّمه ضمن دوائر المعرفة والعلم المتَّسعة.
طلبتُ العلم فوجدته صعبَ المُراد، لا يُصاد بالأزلام، ولا يُورَث عن الأخوال والأعمام، فاستعنْتُ عليه بطول السهر، وإعمال الفِكر، وافتراش المدَر، حتى لانت لي قناته.
قال يَحيى بن خالد لابنه: "عليك بكل نوع مِن العلم فخذ منه؛ فإن المرء عدوُّ ما جَهِل، وأنا أكره أن تكون عدو شيء مِن العلم". يا بُني، تعلموا العلم، فإن كنتم وسطًا سُدْتم، وإن كنتم سوقة عِشتم.
لو لم يكن مِن فائدة العلم والاشتغال به، إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المُضنيَة، ومطارح الآمال التي لا تُفيد غير الهَمِّ، وكفاية الأفكار المُؤلِمة للنفس - لكان ذلك أعظم داعٍ إليه، فكيف وله مِن الفضائل ما يطول ذكره؟!