(16) :
* المزدكية :
وأتباعها منسوبون إلى مزدك الذي ظهر ، كداعية إلى مذهبه ، بعهد قباذ في العام 478م ، وذلك في نيسابور بفارس ، داعياً إلى " الإلحاد " و " الإباحية " عبر التحرر من " الأخلاق والدين " .
تظاهرَ الرجل ، في أول دعوته ، بقبول ما كانت عليه عقيدة الفُرس الأولى ، فتبنّى نظرة زرادشت القائلة بوجود إلهين اثنين : أحدهما للنور ، والآخر للظُلمة . لكن الشاهد أن الرجل قال ما قاله على سبيل " التمويه والخداع " ليتمكن من نشر مبادئه التي هي أقرب إلى الإباحية من الدعوة إلى فكر ، وديانة ، زرادشت .
زعم مزدك أنه جاء داعياً لـ " العدالة التامة " بين أفراد الإنسانية ، لكن هذا الطرح ينقضه دعوتُه بأن جميع القوانين الدينية والأخلاقية " هدفها ليس العدل ، بل تقرير الظلم وجعله أمراً مشروعاً " .
وليمرر مزدك دعوته تلك أشاع ، وأتباعُه ، أنما هم يأخذون من الأغنياء ليعطوا الفقراء . ثم صاروا يطالبون أن من معه فضل من " مال " أو " نساء " فعليه أن يردها لغيره ممن ليس هو كذلك ، وصار الأمر أن هؤلاء كانوا " يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله " .
زعم مزدك أن " عقائد العامة " مضادة للمقتضيات " الطبيعة المقدسة " ، تلك الطبيعة التي هي متأصلة في " الفطرة السليمة " للإنسان !!! ويفسر الرجل " الفطرة السليمة " بأنها " فطرة الحيوان " تأسيساً على نظرته في أن الطبيعة وضعت شريعةً مقدسةً لا يجوز ، ولا يمكن ، تجاوزها ، فالطبيعة " اقتضت أن تكون خيراتها من حق الجميع " . إلا أن الحاصل أن بعض الناس سعوا لإلغاء قوانين الطبيعة الـ مقدسة ، التي تبيح المأكل والمشرب والنساء لكل فرد ، بأن وضع قوانين تحرم " نكاح المحرمات من أمهات وأخوات وبنات " فيما يعرف بالشريعة أو الأخلاق ، وهذا ، بعرف الرجل ، لا يجوز . ويسأل مزدك : " أي وجه حق لمن يحجر على امرأة دخلت في عقده ويحظر على الناس نيْلها ، وقد خُلق الذكر للأنثى والأنثى للذكر " ؟ ( !!! ) . وأيضاً : " ماذا يوجد من العدل في قانون يحكم بأن المال الشائع إذا تناولتْه يدُ مغتصب بما يسمونه بيعاً أو شراءً أو إرثاً ، ويكون مختصاً بذلك المغتصب ، ثم يحكم على الفقير المحروم ، إذا احتال لأخذ شيء من حقه والتمتع به ، بأنه خائن أو غاصب " ؟ !!! وهذا الطرح انتهى بمزدك إلى أن يرى في القوانين الدينية والاجتماعية مجرد إجراءات " جائرة " ، ثم يقرر أنه من الخير للإنسان ، حال يريد أن يحيا حياةً سعيدة ، أن يبعد هذه القوانين عن أن تنظم صياغتَها ، على حد تعبير مزدك ، " عقول قاصرة " ، فيستمع لنداء الطبيعة ليرى أن السعادة الحقيقية هي تَحرر النفس البشرية من أي قيد ، وهذا لن يتم إلا إذا : " قاوم الإنسان الجور في مدينته ، وحارب المغتصبين ، وجعل المال والنساء قسمةً عادلةً بينه وبين الآخرين " .
شاع هذا الطرح بين الفرس ، فخلع كثير منهم فضيلة الحياء ، ومارس حياته عبر الغدر والخيانة اللذين أصبحا شريعةً وقانوناً يحكمان تصرفات الناس وتعاملاتهم ، ما أزعج الملك الفارسي قباذاً الذي أمر بقتل مزدك ، وتم له ذلك العام 523م بعد أن سرى كثير من فساد آرائه إلى الجمهور فأنكر القيم والعقائد التي تمثل جُدر حماية للمجتمع فكرياً وسياسياً واجتماعياً ، ما جعل قضاء العرب على هذه الأمة أسهل بكثير مما حدث بشأن الرومان .
لكن تاريخ العقائد يبين لنا أن مثل هكذا أفكار ليس سهلاً انتهاؤها من فضاء الفكر ، فقام فكر مزدك مرة أخرى بين المسلمين عبر فرق كلامية ذات توجهات سياسية ... كان من أهمها الباطنية .
يُتْبع ...
(17):
يبين التاريخ أن أمة العرب لما دانت بالإسلام ، تصرّف أبناؤها على أساس من قيمه وتشريعاته التي تدعو أتباعَها أن لا يحرموا أنفسهم مما أُحل لهم ، وأن يعتبروا هذا كله داخلاً في " التقرب والعبادة " ، فكان أن ساد العربُ العالمَ في مدة زمن وجيزة ، تغاير ما تعارف عليه المؤرخون كأسباب لهكذا سيادة من شروط مادية وجغرافية ، لينتهي الباحث إلى أن السبب وراء هكذا أمر ليس إلا " العقائد الصحيحة والفضائل القيّمة التي غرسها في أتباعه الإسلامُ " .
والحادث ، أن بعض الأتباع ممن كان ينتسب إلى الفُرس ، سعى لأن يقوض بناء الإسلام عبر التظاهر بالإيمان بوجه عام ، وبتولي " آل البيت " بوجه خاص ... وكان في مقدمة هؤلاء عبد الله بن سبأ الذي كان يهودياً ثم أظهر الإسلام ... وهو من قال لعلي بن أبي طالب : " أنت أنت " ... بمعنى أنك الله !!! فنفاه علي إلى المدائن ليأمن الناس فكْرَه ، ثم لما قُتل علي جمعَ ابنُ سبأ أتباعَه ليشيعوا بين الناس أن علياً به " الجزء الإلهي " الذي به " سيعود إلى الدنيا ليملأها عدلاً بعد أن ملأت جوراً " .
وزاد الرجل فأعلن اعتقاده بالتناسخ ؛ فجاء قوله إن " الجزء الإلهي " في علي قد انتقل ، بعد موته ، إلى أبنائه من بعده . وليس بعيداً تأثر هذا الطرح بعقيدة الحلول لدى بعض الأديان السابقة على الإسلام ، والتي تتبنى القول إن الله حل في بعض الأشخاص ، ثم زاد الباطنية بأن زعموا أن علياً إله ، ما دفع علياً لأن يقتلهم حرْقاً ، فلم ينتهوا ، بل قالوا إن ما فعله علي ببعضهم لهو دليل على أنه الإله لأنه " لا يُعذب بالنار إلا رب النار " !!! .
وخلاصة القول إن طرحاً كهذا يتخذ من تأليه علي ، وآله ، مدخلاً لهدم أساس المعتقد الإسلامي الذي هو التوحيد ... : " لا شيء أكثر وضوحاً وأقل غموضاً من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد " ، و ... : " للإسلام أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم " ... وتلك نصوص ، وغيرها كثير ، تبين قدر التباين بين عقيدة التوحيد وبين ما يذهب إليه أصحاب نظرية الحلول .
وتفرع عن الباطنية الأم فرق كثيرة ، منها الكيسانية نسبة إلى مؤسسها كيسان ، الذي كان مولى لعلي بن أبي طالب . فكان أن ادعى ولايته ، ثم بدأ الرجل في إظهار معتقده " الباطني " فأعلن أن الدين ، في حقيقته ، ليس الطاعة بمعنى أداء الفرائض ، بل الطاعة هي " طاعة الرجل للإمام المعصوم " .
أنكر الرجل البعث ، ما سيتفرع عنه إنكاره التكاليف الدينية برمّتها ، لينتهي إلى القول بالتناسخ والحلول .
وجزء من مستخلصات هكذا نظرية أن " الدهريين " ، بوجه عام ، يغررون بالعامة حتى يتم خداعهم عبر " العاطفة الدينية " ، ثم إذا تأكدوا من انسياق العضو في جماعتهم أطلعوه على حقيقة المذهب خاصة من الناحية الخُلقية والتكليفية . وهذا ما سيدفع الباحثين لأن يذهبوا إلى أن التشيع لآل البيت " لم يكن ، في كثير من الأحيان ، إلا ستاراً وذريعة لنشر مذهب الإلحاد " حتى افترض باطني ، هو المختار بن عبيد ، موتَ الجسين ليتخذ من هذا القول ذريعة للتمويه على العامة ، فجمع حوله أنصاراً بدعوى القتال ثأراً لمقتل الحسين ، لكنه بدأ يلقن هؤلاء عقيدة جديدة مؤداها أن الوحي يتنزل عليه عبر جبريل ، بل ذهب لأبعد من ذلك فادّعى أن الله ، عز وجل ، يكشف له ما سيحدث مستقبلاً ، وكان حال يصدق ما رواه يزعم أنه مطلع على علم الغيب ، وحال لا يصدق كان يزعم أن الله أراد أولاً أن تجري الأمور كما قال الرجل ، ثم " بدا " لله ، تعالى ، أن يغير مراده / مشيئته !!! ما يعني أن الرجل ينسب إلى الله ، عز وجل ، التردد ليثبت الرجل لنفسه " وهم " أنه نبي يوحى إليه .
وبعهد هشام بن عبد الملك قام باطني آخر ، هو أبو منصور العجلي فادّعى النبوة لشخصه ، ناسباً نفسه ، زوراً ، إلى محمد بن علي الباقر ، وزاد أن قال إنه " أسري به إلى السماء ، فرأى معبوده ، فمسح على رأسه ، وقال له : يا بني ْ ، قم فبلّغْ عني " . وهذا من الرجل افتراء على فكرة ، أو عقيدة ، انقطاع الوحي بموت محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث يدعي أن الوحي لم يزل يتنزّل على " الأئمة " !!! وربما يذكرنا هكذا طرح بفكرة الكاثوليك عن الوحي من حيث إنهم يرون أن الوحي ما زل ينزل على " رؤساء الكنيسة " .
وللرجل تأويلات لا تمر حتى على ضعيف الفكر والعقل :
- الجنة هي الإمام المعصوم .
- النار هي خصم هذا الإمام المعصوم .
ومن ثم أحل الرجل لأتباعه تكفير جمهور المسلمين الذين لا يأخذون بهكذا تأويلات . وبنفس الجرأة حط عن أتباعه التكاليف الشرعية تأسيساً على أن " من انتهى إلى معرفة الإمام ، فقد بلغ الجنة وغاية الكمال " .
ويلاحظ الباحثون أثراً للمجوسية وللنصرانية في فكر هذا الرجل ومن شابهه من الباطنية ، لكن الأثر النصراني يبقى أقل من نظيرة المجوسي ، فهو قد أخذ فكرة الحلول من النصرانية عبر الاستشهاد بإشكالية خلق عيسى ، لكنه مزج هكذا فكرة بفكرة التناسخ التي أخذها من المجوس .
هذا المزج من الرجل لم يكن اعتباطياً بحال ، لأنه بحال يسلّم التابع بهكذا فكرة ، فلا بد أن يسلم بإمكان " انتقال الأرواح " ما يمهد للاعتقاد بأن الجانب الإلهي في علي سينتقل منه إلى أبنائه ، ثم إلى إمام من إمام ، ما يؤدي ، في النهاية ، إلى أنه لا جدوى من الكلام في جنة أو نار ، لأن العقاب والثواب مجالهما هنا في الدنيا : فتثاب النفوس ، أو تشقى ، في أجساد غير أجسادها .
يُتْبع ...
(18) :
وفي الكوفة ، في العام 176هـ ، ظهر الباطني الأشهر : ميمون بن ديصان داعياً لـ الإمام المعصوم !!! . بدأ الرجل دخوله دنيا العامة بتفسيره للقرآن ، لكنه جاء تفسيراً ما أنزل الله به من سلطان : التحريف ، وإخراج الآيات عن دلالتها حتى المجازية :
- الفروض التي أوجبها الإسلام ليست ، على الإطلاق ، هي تلك التي يأتيها المسلمون ، بل هي " رموز وإشارات " .
- كذلك الجنة والنار والبعث والمعجزات هي " رموز وإشارات " .
- عصا موسى هي غلَبة حجته التي تلقّفت كل ما كان يقدمه السحرة لفرعون من شُبه وأباطيل .
- الغَمام الذي أظل بني إسرائيل هو الإمام الذي نصبه عليهم موسى ليرشدهم .
- الجراد والضفادع والقمل هي الإلزامات التي أوجبها موسى على بني إسرائيل .
- خلق عيسى من أم بلا أب هو أنه لم يكن له إمام يأخذ عنه ، بينما هو له أب حقيقي هو يوسف النجار .
- إحياء الموتى هو أن عيسى يحيي من موت الجهل بالباطن .
- نبعُ الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم هو كثرة العلم لديه .
- جن سليمان بن داود هم باطنية عصره .
- الطهور هو التبرؤ من كل اعتقاد سوى مبايعة الإمام .
- الصيام هو الإمساك عن كشف سر الباطن لمن ليس أهلاً له .
- الكعبة هي النبي .
- الطواف بها هو الطواف بمحمد حتى الأئمة السبعة .
- الصلوات هي رمز ترمز به كل صلاة لواحد من الأئمة .
- الفرائض الشرعية إنما هي للجهلة و " الحمير " ، بينما هناك " فرائض خاصة " لعقلاء الأمة الذين هم " أتباع الإمام " .
وحال يحصل الواحد منهم " علْمَ الباطن " فإنه تسقط عنه " أغلال التكاليف " و " يسعد بالخلاص منها " .
جعل ميمون الإسماعيلية فرقة سرية ، وقسّم نظرياته سبعة أقسام / درجات لا يسمح للفرد أن ينتقل من واحدة دنيا إلى أخرى عليا إلا بعد اجتياز اختبار دقيق ، فإذا انتهى إلى الدرجة / القسم السابع صُرّح له بأن " جميع الديانات أوهامٌ وخرافات ، وأن أفعال الإنسان لا توصف لا بالخير ولا بالشر " .
ذهب الرجل ، كقرمط ، إلى أن هناك إلهين قديمين : العقل والنفس ! ولا يجب وصف أياً منهما لا بالوجود ولا بغير الوجود ، ولا بالمعلوم ولا بالمجهول ، لأن في ذلك ، برأيه ، تشبيهاً لهما بالمخلوقات ! وقد يظن ظانٌّ أن مراد الرجل الحرص على " تنزيه " الإلهين ، وهذا غير صحيح ؛ فالرجل إنما أراد أن يتدرج نحو " إنكار " فكرة الألوهية برمتها ... : " للكواكب تأثير في حياة الخلق " ما يعني إنكار " العناية الإلهية " ، ثم سيتم إنكار الكثير من الغيبيات كـ الوحي والملائكة والبعث والجنة والنار .
وتبقى سمة أساس لدى الرجل ، بل كل الباطنية ، وهي : التحلل من التكاليف الشرعية ... :
خذي الدف يا هذه والعبــي ... ... وغني هزازيك ثم اطربـــي
فكل نبي مضى شرعــــــه ... ... وهذي شرائع هذا النبــــي
فقد حط عنا فروضَ الصـــلا ... ... ة وحط الصيامَ فلم يتعــــب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... ... وإن صاموا فكلي واشربـي
ثم بدأ باطني إسماعيلي آخر في الظهور ... وهو الحسن بن الصباح .
يُتْبع ...
(19) :
وهذا رجلٌ له " تاريخ " في الفكر الباطني معتبرٌ من حيث العمل على القضاء على الدولة العباسية : فهو ذهب إلى مصر حيث تلقى تعاليم الباطنية في" دار الحكمة " ، ثم سافر إلى الشام والجزيرة العربية ، لينتهي به المطاف في خراسان بعهد نظام المُلك .
يحسب للرجل أنه " نظّم " الباطنية ثلاث طبقات : اثنتان ، لكلّ منهما تسع درجات بحيث يرتقي فيها المريدون درجة بعد أخرى ، والثالثة عبارة عن درجة واحدة مستقلة .
سمّى الرجل الطبقة الأولى بـ الإخوان ، وهم يقابلون ، في النظام الماسوني من يُعرفون بـ الرفقاء ( Apprentis ) ، وسمى أعضاء الطبقة الثانية بـ الدعاة / المرشدين ، وهم يقابلون ، في النظام الماسوني من يُعرفون بـ الأساتذة (Maitres ) . أما الطبقة الثالثة فهي طبقة الفدائيين ، وهؤلاء يقابلون ، في النظام الماسوني ، من يُعرفون بـ ( Forestiers ) . هؤلاء كان عملهم ، في الغالب الأعم ، اغتيال حكام ، وعلماء ، المسلمين !!! باعتبار أن هؤلاء يقفون بوجه " انتشار مذهب الباطنية " .
هذه الفئة " لما وجدوا المسلمين متمسكين بدينهم وفضائله ، وأن علماءهم ساهرون على هذه العقائد والفضائل عمدوا إلى استخدام التدليس واستغلال جهل الجماهير في بذر الشك في النفوس . وإذا وجدوا في أحد الأعضاء قبولاً لفكرتهم أخذوه إلى مرشدهم ، ثم صرحوا له بأن جميع الأعمال الباطنة والظاهرة ، كذلك سائر الحدود والاعتقادات ، إنما " إُلزمت فرائضها بالناقصين المصابين بأمراض من ضعف النفوس ونقص العقول . أمَا وقد صرتَ كاملاً ، فلكَ الاجتيار في مجاوزة كل حد مضروب والخروج من أكنان التكاليف إلى الإباحة الواسعة . ما الحلال ؟ وما الحرام ؟ ما الأمانة ؟ وما الخيانة ؟ ما الصدق ؟ ، وما الكذب ؟ ما الفضائل ؟ وما الراذائل ؟ : ألفاظ وُضعت لمعانٍ مخيلة ، وما لها من حقيقة واقعية " .
ويمكننا قسمة أنصار هذه الفئة صنفين :
- صنف أُعجبَ بكل غريب ، ونفر أصحابه من كل شائع أجمعَ عليه الناس . وهذا الصنف أُعجبوا بأنفسهم ظناً منهم أنهم يسيرون خلف خطى حكماء اليونان ، فنراهم " يزهون بأنفسهم لأنهم يريدون أن يتشبهوا بأرسطو وأفلاطون " ما يؤهلهم لأن يفارقوا / يفترقوا عن ، الآخرين الذين وصفوهم بأنهم أصحاب جهل .
- وصنف اعتنق الفكر الباطني لأن نفسه ضاقت بتكاليف الشرع ، وبما أنه وجد في هكذا فئة دعوةً لمتابعة هواه ، واستفراغ شهواته وملذّاته دون ضابط من قيم أو ضمير ، فقد وجد في هكذا دعوة ما يتمناه من حيث إن " كل إنسان مصدق لما يوافق هواه ويلائم غرضه ومُناه " .
... : " الفرائض التي يقرها أهل الظاهر ليست مقصودةً لذاتها ، وإنما تكليف الجوارح في حق من يجري جهله مجرى الحُمر التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة " .
وترصد دراساتٌ تاريخية أثراً للباطنية حتى في الديانة النصرانية ؛ فقد تواصل هؤلاء مع من يعرفون لدى القوم بفرسان المعبد ( Les Templiers ) ، فأخذ الأخيرون عنهم الكثير من أنظمتهم ، وارتدوا كملابسهم ، وقسموا أنفسهم ، كما فعل الباطنيون ، ثلاث طبقات ، وفعلوا مثلهم في سعيهم لـ " هدم المعتقدات الدينية ، والرجوع إلى فكر الإلحاد ذي الصلة بالغنوصية والمانوية " .
كان لفرسان المعبد ، بأول أمرهم ، حماسٌ ظاهر للديانة النصرانية ، ثم أصبحوا ، بنهاية القرن الثالث عشر ، مناهضين لهذه الديانة ! وأعلنوا معتقدهم الجديد القاضي بالاعتقاد بوجود إلهين اثنين أحدهما إله الخير والآخر إله الشر ، ما أهّل مؤرخين غربيين لأن يذهبوا إلى الكلام في رد حركة الإلحاد الأوروبية إلى فرسان المعبد هؤلاء ، ما دفع " فيليب الجميل "1 لأن يتتبعهم ويقضي عليهم .
• المادية الحديثة :
--- 1- هو فيليب الرابع ، ابن فيليب الثالث . ( 1268 : 1314 ) أحد ملوك فرنسا ، ينتسب لأسرة كابيه الفرنسية . يطلق عليه لقب الجميل أو الوسيم . يعد أحد عظماء فرنسا في العصور الوسطى ، حيث وصلت فرنسا في عهده إلى الذروة . تولّى حكم فرنسا بعد وفاة أبيه في نوفمبر العام 1285م ، بقي في الحكم ثلاثين سنة . بعهده بدأ ظهور مفاهيم سياسية كـ مفهوم الوطن ومفهوم القوميات .
يُتْبع ...
(20) :
بأواخر القرن الثامن عشر ، ظهرت بعض النظريات ، أو لنقل الفروض ، العلمية التي حاول أصحابها " تفسير نشأة الحياة على سطح الأرض " ! هذه الـ نظريات ، أو الـ فروض ، كانت ، بحقيقةِ الأمر ، امتداداً " منهجياً " لما قام به علماء جيولوجيون خلَصوا إلى أن " المادة غير العضوية التي تتكون منها القشرة الأرضية مرّت بأطوار ، وبعصور ، جيولوجية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن " .
أراد علماء " التاريخ الطبيعي " أن يطبّقوا " فكرة " التطور التي انتهت إليها بحوث ، وتجارِب ، علماء الجيولوجيا على " الكائنات العضوية " كـ النبات والحيوان ! حتى ذهب بعضهم إلى القول : " إن ظهور الحياة على ظهر الأرض يرجع إلى ما يقرب من مليارين من السنين كما تدل على ذلك نتائج علم طبقات الأرض " . هؤلاء اختلفوا في " السبب المباشر للحياة " :
- ففريق قال إن حرارة الشمس كانت تختلف عنها في العصر الأرضي ، وأنها احتوتْ " قدراً كبيراً من الأشعة تحت البنفسجية عمل على تفاعل بعض العناصر المادية فظهرت الحياة " .
- وفريق آخر قال إن كل ما يمكن الكلام بشأنه في إشكالية نشأة الحياة على الأرض " هو مجرد فروض احتمالية لا تمثل أكثر من كونها نقطةَ بدءٍ لدراسة تطور الكائنات الحية لا بداية الحياة نفسها " . !!!
ومع ذلك كله ، فقد كانت حتى إشكالية " تطور " الكائنات الحية / العضوية موضع خلاف جد كبير بين علماء الأحياء :
- ففريق ، ويمثله العالم كوفييه ( Georges Cuvier ) ، تبنى ما يمكن تسميته بـ نظرية ثبات الأنواع ، فذهب إلى أن الفصائل النباتية ، وكذلك الحيوانية ، التي هي موجودة في العصور الجيولوجية الحديثة هي التي وُجدت ، من أول الأمر ، على حالها الراهنة ... فهي : " منفصلة ومستقلة بعضها عن بعض " كما أنها : " وُجدت بخلق الموجود اللانهائي لها منذ أول الخليقة ، حيث حدد لها أشكالَها وخصائص كل شكل منها " . وما انقرض من هذه الفصائل ، فإن السبب في هكذا انقراض / اندثار / اختفاء هو " الكوارث الطبيعية " ، ثم يتم حلول فصائل جديدة تأتي من مواطن أخرى . هذا الطرح من كوفييه ، وفريقه ، دفع أصحاب نظرية التطور إلى اعتبار الحيوانات المنقرضة ، وقد كشف علم طبقات الأرض ( = الجيولوجيا ) عن هياكل لها ، مجردَ حلقاتٍ في سلسلة حيوانية انتهت ، تطوراً ، إلى الفصائل الحالية .
- وفريق آخر ، ويمثله كل من لامارك1 ( Jean-Baptiste Lamarck ) وداروون ( Charles Robert Darwin ) ، ذهب إلى أن الحياة إنما بدأت جرثومةً ضئيلةً في ظروف طبيعية مادية مناسبة ، فأخذت تتشكل بصور بدائية ساذَجة ، ثم تطورت نحو التعقيد / التركيب إلى أن انتهى أمرها إلى الفصائل التي بين أيدينا الآن .
وكان دليل أصحاب هذا الطرح :
- أنهم رأوا أن للمختصين بتربية كل من النبات والحيوان طُرقاً معينةً للحصول على فصائل / أنواع جديدة في عالَمَيْ النبات والحيوان ... ومن هذه الطرق ، على مستوى النبات : هناك " تطعيم " الفصائل النباتية المتقاربة بغرض تحصيل فصائل جديدة مركّبة تجمع بين خواص فصيلتين أو أكثر . وعلى مستوى الحيوان : هناك " تهجين " : بين الحيوانات بغرض تحسين النسل الحيواني .
- هناك نتائج قرّرها علمُ الحيوانات المتقرضة مفادها وجود حيوانات هي " وسط " بين الزواحف والطيور ، وأن : " بعض الأعضاء التي توجد ، حالياً ، في بعض الأنواع ، مثل " المصران الأعور " لدى الإنسان والقرد هي رواسب ، أو بقايا ، لأعضاء أكثر نمواً في الفصائل التي تطورت حتى أصبحت على وضعها الحالي في هذين النوعين من الحيوان " .
- هناك تشابُه في الأطوار التي يمر بها الجنين في مختلف أنواع الحيوانات ، وهذا دليل على وجود " صلة " ما بين هذه الأنواع وكونها من " أصل واحد " تفرع عنه كل أنواعه .
- ملاحَظ أن أنواع النبات ، وكذا الحيوان ، ترجع كلها ، رغم الكثرة والتنوع ، إلى عدد قليل من النماذج التي يمكن القول إنها تطورت من آلاف السنين حتى أصبحت على الشكل الحالي .
... هذا ، وقد اختلف أنصار هذه المدرسة ، مدرسة التطور ، حول : كيف تطورت الكائنات الحية ؟ وانتهوا إلى اتجاهين رئيسين ... هما : اتجاه لامارك ، واتجاه دروون .
• اتجاه لامارك :
--- 1- عالم فرنسي ، ولد العام 1769 ، وتوفي العام 1832 عن اثنتين وستين سنة . أحد علماء التاريخ الطبيعي والأحياء والتشريح . عارض معاصريْه جيفري ولامارك في نظرية التطور ، حيث أعلن الإيمان بتكرار عملية الخلق بعد الكوارث الطبيعية . يُتْبع ...
(21):
أما لامارك ، فقد درس الفصائل الحيوانية ، وتحديداً " ذوات العمود الفقَري " لينتهي إلى أن توزيع أعضائها " يتبع نظاماً معيناً بهدف تحقيق غاية محددة " كـ الأسنان ووظيفتها ، والأقدام ووظيفتها ، والعينين ووظيفتهما . لكنه أكد أن هذا النظام " ليس مطرداً في جميع الأحوال " ! حيث هناك حالات تشذ عن هكذا نظام فتختلف ، أو تنحرف ، عن النموذج الطبيعي الشائع ، ما يعني أن التدرج هنا لن يكون منتظماً ، بل سيقوم هناك نوع من " الفروق " و " الصفات " التي لن تكون موجودةً في بقية أفراد الفصيلة محل الملاحظة ... هنا سأل الرجل عن " سبب هذه الحالات " دون أن يبرز القول برفض الفكرة السائدة عن " تطور الكائنات " وتدرجها شيئاً فشيئاً فتنتقل ، طبيعياً ، من شكل / نوع إلى شكل / نوع آخر .
انتهى لامارك إلى تحديد سببين اثنين يمثلان العاملين الأساس الذين يؤديان إلى ظهور بعض تغييرات في أفراد النوع ... وهما :
السبب / العامل الأول : البيئة التي يعيش فيها الحيوان .
السبب / العامل الثاني : الحاجات العضوية الداخلية التي يطلب هذا الكائن الحي إشباعها .
هذان السببان هما الحاكم في " تطور " الحيوان ... فإنه : " إذا تغيرت ظروف المكان الذي يقطن فيه الحيوان ، أو تغيرت العوامل الجغرافية أو الغذائية ، تبعَ ذلك ، ضرورةً ، تغيرٌ في خصائص الحيوان من حيث شكله وقامته والتناسب بين أعضائه وألوانه " .
إذا ... ، نحن أمام قول يشدد على حدوث تغير في حاجات الحيوان ، بل والنبات ، حال يحدث أي تغير في المكان أو الغذاء المتعلقين بالكائن الحي ، ذلك كي يتكيف هذا الكائن الحي مع الظروف الجديدة . وبالطبع ، فإن هذه الحاجات الجديدة ستتطلب وسائل جديدة ، مثلها ، تستخدم في عملية الإشباع ، وسوف تؤثر هذه " الوسائل " في " الأعضاء " فينتهي الأمر إلى نموها أو ضمورها أو تغير موضعها ... وهذا " الافتراض " يقوم على أساس القانون الطبيعي القاضي أن أي عضو لا يستخدم يتدهور ، وأن أي عضو يستخدم ينمو .
صار إذاً ، أن أي تفاعل لـ " البيئة الخارجية " مع " الحاجات الداخلية " للكائن الحي يؤدي إلى " تغيّرات " جسمية ، ومن شأن هذه التغيرات ، حال ثبتت بطريق العادة ، أن تنتقل إلى سلالة الحيوان الواحد بطريق " الوراثة " .
• اتجاه داروون :
يُتْبع ...
(22) :
نقل
... : " أهم ما تفعله الأسرة الكبيرة لواحد من أطفالها ... أن تقتله " . مارجريت سانجر ، عضو الداروونية الاجتماعية في أمريكا .
---
وأما داررون ، فهو ، أيضاً ، من القائلين بـ " تطور " الكائن الحي ، وذلك مما لاحظه الرجل من " انحراف " في التركيب العضوي في عدد من الفصائل الحيوانية .
انتهى الرجل إلى أن ما يقوم به مربيو الحيوانات لتحسين الفصائل الحيوانية هو من جنس ما تقوم به الطبيعة لإيجاد الفصائل المختلفة .
... : " إنه إذا كان الإنسان يستطيع أن يختار ، وينتقي ، ويختار ، السلالات الحيوانية لإحداث تغيرات فيها تمكّنه من الحصول على أنواع ممتازة ، فإن الطبيعة تختار وتنتقي فصائل معينة لكي تُحدث فيها بعض التغيرات التي تتجمّع فتؤدي إلى تطور الأنواع " ... وهذا عين ما يسمى عند علماء الأحياء بـ الاختيار الطبيعي ( Natural Selection ) وهو ما يحدث بنفسه ، أو مصادفةً ، فيقوم بنفس الوظيفة التي يقوم بها الاختيار / الانتقاء الطبيعي .
يرى داروون أن " الفصائل الحيوانية ، مستأنسة أو غير مستأنسة ، تحتوي على قوة داخلية تؤدي إلى التغير ، فيستغل الإنسان ، أو الطبيعة ، هذه القوة المجهولة في إنتاج فصائل جديدة " .
ثم يحدد الرجل طرق التغيّر كالآتي : يوجَد لدى عنصر في النوع الواحد فروق جسمانية ليست بالحد الكبير ، وهذه تجعل هذا " العنصر " يختلف عن غيره من العناصر الأخرى . هذه الفروق ستزداد عبر سلالة كل فرد ، فإذا مرّت عدة أجيال طويلة الأمد تتجمع هذه الفروق ، وقد كانت قليلةً ، لتشكل فرْقاً كبيراً بين سلالة النوع الواحد . وهذا كله لا يسير ، بحسب رأي داروون ، عبر " خطة مرسومة " بل هذا كله عبارة عن " تغيرات عرَضية " تسير باتجاهات مختلفة ، ما يعني أن الرجل يقول بنفي ما تعارف عليه بـ العناية الإلهية ، حيث الرجل واقف بصف أنه لا غايةً في الطبيعة تحددها ، وتقوم بها عناية الإله .
ويرى داروون أنه ليست الوراثة هي المحدد لاستمرار ، أو انقراض ، نوع من الحيوان ، بل المحدد لهكذا أمر هو الصراع لأجل البقاء ! .
إنه ثابتٌ أن الوسائل التي تجدد ، وتحفظ ، أنسجة الكائن الحي فتعوّض له ما يفقده ، هذه الوسائل ليست بسرعة تكاثر هذا الكائن الحي ، أي أن الغذاء ليس ، في أي وقت ، كافياً لجميع الكائنات الحية ، وهذا أمر يولّد ، لا محالةَ ، الصراع بين الكائنات الحية من أجل البقاء ، ما يعني أنه : " ليست الوراثة هي العامل على استمرار سلالة نوع من الأنواع وتطورها ، بل هناك عامل جوهري في التطور ، وهو التنافس ، أو الصراع ، من أجل الحياة " .
هذا الصراع ليس ذا وجه واحد ، بل له وجوه عِدة :
- قد يكون الصراع ضد " الظروف " الطبيعية / السيطرة عليها إما للاستفادة من " الظواهر الطبيعية " ، أو لتجنب أخطار هذه الظواهر .
- وقد يكون الصراع من فصيل حيواني ضد الفصائل الأخرى ، فيقضي " الغالب " على " المغلوب " ومن ثم يصبح الأخير طعاماً للأول .
- وقد يكون الصراع بين أفراد الفصيل الواحد !!! ... وهذا ما عني به داروون حال تكلم عن " الاختيار الطبيعي " / " البقاء للأصلح " .
أكد علماء الأحياء ، في غير مناسبة ، أن الحياة لا تكون إلا لـ الممتازين داخل كل نوع ، تأسيساً على أن " التغيرات العرَضية التي تطرأ على الكائنات الحية ليست من جنس واحد ، بل بعضها ضار ، وبعضها نافع " . ما يعني أن الممتازين من أفراد النوع هم من ستظهر فيهم التغيرات النافعة ، بينما النوع الذي ستظهر فيه التغيرات الضارة سوف تعمل هذه التغيرات الضارة على التغلب على التغيرات النافعة ، ومن ثم ستجرّد الكائن الحي من قوته ، فلا يعود يقوى على " مغالبة " الظروف الطبيعية ... ومن ثم يتدهور ، وتتجه " سلالته " نحو الانقراض مفسحةً المجال لسلالة أخرى أكثر قدرةً على المواجهة والتغلب على عقبات الوجود والاستمرار ... فـ : " الضعفاء هم من كُتبَ عليهم الاختفاء لكي يفسحوا الطريق أمام الأقوياء " .
هذه هي " وسيلة " الطبيعة حتى لا تفنى " الأنواع " الحيوانية حال تترك تتكاثر بما لا يتناسب وكميات الغذاء اللازم لها ( !!! ) .
هذا الطرح يعني ، في نهايته ، أن " قانون " البقاء للأصلح ليس في صالح " الفرد " ، بل أيضاً في صالح " النوع " من حيث إنه " يحافظ على الأنواع الحيوانية لتنتج أنواعاً حيوانية جديدة " هذه الأنواع ستسمح لها " خصائصها الجديدة " بأن تكون أكثر قدرةً على التكيّف مع البيئة وظروفها .
إذاً ، وبرأي داروون ، فإن الإنسان يعتبر آخرَ ما انتهى إليه التطور الطبيعي الذي كان مستمراً إلى أن وصل إلى " الإنسان " الذي هو " آخر الأنواع " الحيوانية ، وهو ، في نفس الوقت ، نتيجة وخاتمة لهكذا تطور ، ولم يكن ، أدباً ، : " نوعاً ثابتاً وُجِدَ منذ وُجِدتْ الأنواع الأخرى " .
وبنفس الدرجة ، يمكن تفسير " الخصائص " الإنسانية الأخرى ... أي عبر القول بالتطور ؛ فنمو العقل الإنساني ، وظهور اتجاهاته ، وقواه الأخلاقية والدينية ، كل هذا ليس ، في الحقيقة ، إلا نتيجة للتغيرات البيولوجية ( = الحيوية ) الواقعة في القسم " النافع " من هكذا تغيرات ! هذه التغيرات " تراكمت " ، وثبتت لتكون مساعداً للإنسان أن يبقى / يستمر موجوداً مع بقية أنواع الحيوانات الأخرى . وما ذلك لها إلا لأنها ترشده إلى الوسائل التي يستطيع استخدامها في صراعه ضد الظروف الطبيعية ، أو ضد غيره من الفصائل الأخرى ، أو ضد أفراد نوعه حتى .
انتهى داروون ، إذاً ، إلى أن الإنسان ليس نوعاً منفصلاً مستقلاً قائماً بذاته ، بل هو من " سُلالة " من فصائل سبقته وتطورت ، وكان آخر مظهر من مظاهر هكذا تطور هو فصيلة القِرَدَة ! ما يعني ، برأيه ، تهافت النظرية القائلة بثبات الأنواع واستقلال كل نوع بخواصه عن الأنواع الأخرى .
كل الحيوانات تفرعت عن أصل واحد ، وقد جاء الاختلاف في الشكل والخصائص تبعاً لما طرأ على هذه الموجودات من تغيرات عرَضية ، كما أن كل نوع من الحيوانات يسلك طريقاً محدداً في التطور يختلف عن طريق الحيوانات الأخرى .
ويبين داروون أن سبب تعدد الفصائل الحيوانية ، رغم " حدوث التغيرات ، وثباتها ، لدى كل الحيوانات " هو أن هذه التغيرات ليست تسير على " معدل واحد " ، بمعنى أنها تتطور بسرعة لدى بعض الفصائل وببطء لدى البعض الآخر .
كما يبين الرجل أن سبب أننا " لا نلاحظ تغيراً من هذا القبيل في العصر الحاضر " هو أن التطور ، مهما اختلف في السرعة ، فإنه بطيء في ذاته بما لا يمكّن من الملاحظة ، إضافةً إلى " أن وسائلنا العلمية لتحديد هذا التطور لم تصل ، بعد ، إلى درجة كافية من الدقة " . كما أن " الزمن التاريخي " الذي يعرف الإنسان من أمره شيئاً ليس هذا " المعروف " إلا شيئاً ضئيلاً بالقياس لتاريخ العالم .
إذاً ، قامت نظرية داروون على أسس :
منها :
- أن كل الكائنات الحية ، على كوكب الأرض ، انحدرت عن " أصل واحد " .
- هذه الكائنات الحية انتهت إلى ما انتهت إليه عبْر مجموعة من التغيرات البطيئة على مر أحقاب زمنية طويلة جداً.
- هذه التغيرات تمت عبر ما يسميه الرجل بـ الانتخاب ، والاختيار ، الطبيعي ... وهذا ما اصطُلح على تسميته " التأقلم " ... وهو مصطلح سيؤسس ، بعدُ ، لمفهوم " البقاء للأقوى " وهو مفهوم " سلطوي " تبريري ، فيه تختفي الكائنات التي لا تستطيع " التأقلم " ، ومن ثم فهي عاجزةٌ عن أن تورّث " جيناتها " إلى أجيال جديدة ، ومن ثم يكون نصيبها الانقراض ... وهكذا ، دواليك ، تتغير الأنواع .
تداعيات الداروونية :
يُتْبع ...
(23) :
- هربرت سبنسر :
أراد سبنسر أن يأخذ بمبدأ داروون في الدراسات الفلسفية ، فرأى ضرورة الفصل بين ما هو " علمي " وما هو " ديني " ، وانتهى إلى الإقرار بفكرة الحقيقتين : العلمية والدينية ( = حقيقة الشرع وحقيقة العقل ) وحقيقة العقل هي التي يهتم بها ، ويقررها ، العلمُ في استقلالية تامة عن الدين الذي " يدرس الموجود الذي يعجز العقل عن معرفة كنهه ( = Inconnaissable ) " ما أهّل لأن يقول البعض ، روبرت بيرسيج تحديداً ، عن الدين ، هو " وهم " ... : " " عندما يعاني شخص واحد من الوهم ، يسمون هذا جنوناً ، وعندما يعاني عدد كبير من الناس من الوهم ، يسمونه الدين " . هذا عما يدرسه الدين ، أما العلم فهو يدرس " الطبيعة ، وكيف تطورت حتى تنوعت فصائلها " .
انتهى سبنسر إلى القول : " إن الدين ليس له أن يتدخل فيما ليس من شأنه ، كدراسة العالَم الطبيعي والعالَم الإنساني " ، أي الظواهر المادية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية .
وعن الكون / العالَم الطبيعي ، ذهب الرجل إلى أنه نشأ من مادة واحدة تتنوع بناء على أن عناصرها تتجمّع وترتبط فيما بينها بصور مختلفة " وذلك كله ليس عن " تدبير " / " قصد " ، بل هو مصادفةٌ واتفاقٌ ، ما يعني أنه ليست هناك " غايات ، أو عناية ، حددت هذه الغايات سلفاً " .
ثم سعى الرجل لأن يطبق هكذا فكر على الكون / العالم النفسي ... : " إن الإحساسات تنشأ بطريقة مادية صرفة ، لأنها تتكون من صدمات تعبّر كل صدمة منها عن اهتزازات فسيولوجية ، فتتجمّع هذه الصدمات على هيئة إحساسات ، ثم تتألف هذه الإحساسات بصور مختلفة فتؤدي إلى نشأة بقية الحالات النفسية من صور خيالية ومعانٍ كلية وأحكام جزئية وضروب استدلال " .
إذاً ، فما يصدق على تطور الحياة الفيزيائية هو نفسه ما يصدق على الحياة السيكولوجية ؛ فقانون الترابط بين الأمثلة التي قدمها الرجل هو نفسه قانون الترابط بين عناصر المادة العضوية وغير العضوية !!! فيصبح هذا مظهراً من مظاهر " التطور العام " الذي يحكم كل مظاهر كائنات الكون .
وليست الحياة النفسية ، ككل ، سوى مظهر للمجهود الذي يقوم به الفرد لمقاومة العوامل الخارجية التي تهدد وجوده على أي مستوً كانت ، ما يعني أن الحالة النفسية للمرء هي " وسيلة دفاع " هذا المرء في " معركة الحياة " .
والأمر لن يختلف كثيراً حال نظرنا إلى الظواهر الاجتماعية ، إذ بالإمكان فهمها من خلال العامل ، أو العوامل ، المادية .
إنه بحال زاد عدد سكان مدينة من المُدن ، فهذا سوف يدفع " المادة الاجتماعية " لأن تنقسم ليتكون كل قسم من " أفراد " ، وسيكون لهم " خصائص " تميزهم عن سواهم في ، أو من ، الأقسام الأخرى ، بحيث تقوم بينهم " فروق " تشبه ، جداً ، تلك الفروق التي تحدث في العالم الطبيعي ؛ فإن المادة الأولى ، وهي السديم ، التي تكوّن منها العالم : " كانت متجانسةً في أول أمرها ، ثم انفصلتْ عناصرُها فكونت عدة مجموعات شمسية احتوت كل مجموعة أجراماً مختلفة لها خصائصها التي تميّزها عن غيرها " ، أما في حال " المجتمع " ، فإن انقسام " المادة الاجتماعية " سيؤدي إلى نشأة " طوائف " / " فئات " مستقلة ، بمعنى : لكل طائفة / فئة حرفتها / أعمالها ، ما ينشأ عنه " تقسيم العمل " بين طوائف / فئات المجتمع ... وهذا التقسيم أحد أهم الظواهر الاجتماعية .
إذاً ، يرى سبنسر أن النظام الاجتماعي ينشأ ، ويتطور ، بطريقة ، وعوامل / أسباب ، مادية شأنه شأن أي تطور لأي عنصر مادي غير عضوي آخر . بل الرجل يتبنى فكرة " البقاء للأصلح " التي أسسها داروون . وبمد الحبل على استقامته ، سنرى الرجل وهو يؤسس على ، هذه النظرية المفرطة في المادية ، أفكارَه ، واتجاهاتِه ، الأخلاقية والسياسية .
فالترقي في مجال " الأخلاق " و " السياسة " مرهون في " قدرة " الفرد ، والمجتمع ، على مواجهة الحياة متغلباً عليها ، ما يفضي إلى أن " يبقى " القوي وينقرض الضعيف ، من حيث امتلاك القوي لمقومات " البقاء " ، بينما الضعيف فاقد لهكذا مقومات فيصبح عاجزاً عن أن يستمر في " المعركة " .
هذا معناه أن " الخير " هو : " مطابقة حياة الفرد لمقتضيات الطبيعة " ، ومعناه ، أيضاً ، أن الطبيعة هي من يفرض " نوع " الخير الواجب تسيّده في الوجود !!! ... وهنا لن تكون الإنسانية بحاجة لـ ضمير يملي على صاحبه الاختيار بين الخير والشر ، لأننا ، والحال هذه ، سنكون أمام " قانون طبيعي " لا بد أن نتعامل معه بأدواته ونتائجه ، ولا حق لأحد ، كائناً من كان ، أن يتدخل لوقف ، أو تعديل ، هذه النتيجة أو تلك ؛ فلا عفو ، ولا إحسان ، ولا عطف ، ولا أي من الوسائل التي قد يعتمدها البشر مجتمعياً للتكفير عن ذنب هنا أو خطأ هناك ! .
وينتهي سبنسر إلى أن الحياة الاجتماعية لا تقوم على أساس ديني ، بل قيامها على أسس مادية اجتماعية فقط لا غير : فهناك " بيئة " / " طبيعة " تفرز طريقة التعامل ، وهناك " بشر " يسلكون تبعاً لما تفرزه هذه البيئة / الطبيعة .
- هيجل :
يُتْبع ...
(24) :
وهذا مفكر مادي آخر1 . وفي " ألغاز العالم " تكلم الرجل في " قِدم " العالم ونشأته من مادة ذات حركة مستمرة بدءاً وانتهاءً ، ما يعني أن هذه المادة لا أولَ لها ولا انتهاء ! وهذا يعني ، أيضاً ، أن الموجودات ، كلها ... حية ولا حية ، نشأت بطريق تجمّع بعض العناصر بأشكال ، وصور ، مختلفة ومحدودة ، ثم يكون التطور ، ثم الـ " تحطّم " ثم العود إلى المادة الأساس الأولى ... وهذ كله يتم في فترات زمنية منتظمة .
أما التطور ، بحد ذاته ، فهو يتم كالآتي :
المادة الأولى ، وهي التي منها جاء كل الكائنات والأشياء ، من أخص خصائصها : التركّز والانكماش والتجمع والانمحاء ! ويحدث أن هذه المادة ، بعد حدوث هذه الظواهر تنفجر دفعة واحدة فتتناثر أجزاؤها ما يُنتج كماً هائلاً من الحرارة ، وهذه تمثل " القوة الحيوية " الفعّالة القادرة على تجميع المتفرق لتتكون أجسام جديدة تتطور لزمن ما ، وحين تبلغ المدى تتحطم من جديد ... وهكذا .
إذاً ، نحن أمام " كوبي " ( = نسخة طبق الأصل ) من النظرية المادية الافتراضية التي ترى ، من زمن ابن طفيل ، أن الحرارة هي السبب في نشأة الأحياء خاصة بعد انفصال الأرض عن الشمس .
ونجد طرحاً كهذا عند الإغريق بنيت عليه هذه الفرضية ... ذلك عند هيراقليطس فيما قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة قرون ! ما يعني أن الاتجاه المادي ليس وليد هذا العصر .
ذهب هيراقليطس إلى أنه لا وجوداً ، على الحقيقة ، إلا لـ التغير / الصيرورة ، والعالم ليس أكثر من " حركة " مستمرة و "صيرورة " دائمة و " تطور دائري " لا ينتهي : كل شيء يتطور ويتحول ، ثم يَفنَى ويعود إلى أصله ، وليس هناك شيء ، أي شيء ، ظل على حاله أبداً !!! ورغم ذلك ، فهناك شيء " لا سبيل للشك في وجوده " : النار ! وهي " أصل كل المظاهر الطبيعية المتغيرة " وهي " مبدأ يسري في الكون " فهي كـ الروح للطبيعة ! ما يعني أن الاثنين : الروح والطبيعة ، أحياء من حيث إن " الطبيعة حية ، والنار روحها " . والتطور ، عند هيراقليطس ، أن تُخرج النارُ العناصرَ الأربعة : النار والهواء والتراب والماء لتتألف منها الموجودات بنوعيها الحية واللاحية ، ويستمر الكون في " صيرورته " لحقبٍ طويلة إلى أن يأتي أمد ذلك كله فيتحطم في دورة كونية ليعود كل شيء إلى النار التي تلتهمه باعتبارها الأصل ! والدورة المحدثة لذلك كله هي " كارثة طبيعية " تشمل الكون كله ، لتبدأ دورة كونية جديدة تأخذ مجرى التي سبقتها .
إذاً ، القولان ينتيهان إلى جذر واحد : التطور المستمر هو لمادة واحدة تتشكل بصور مختلفة " ، تبقى زمناً ، ثم تفنى على إثر " كارثة طبيعية " هي " دورة كونية " ... وهكذا دواليك ! .
لكن يبقى أن هيجل أخرج " نظريته " تلك المقلدة لنظرية سابقيه كرد فعل لما عاصره الرجل من طروحات " روحية " أراد أصحابها مناهضة ، أو مناقضة ، طرح داروون المادي بأن ميّزوا بين عالمي الروح والمادة ، ما جعل نظرية هيجل نوعاً من " العناد " بوجه معارضي داروون الذي ، لا شك ، تأثر به هيجل كثيراً خاصة وأن الرجل يعلي من قيمة " أصل الأنواع " و " سلالة الإنسان " باعتبارهما أثبتا أنه " لا جدوى من فكرة الله ، أو النفس ، أو الحرية " كمداخل للكلام في تفسير الكون ، وكائناته ، تفسيراً علمياً . حيث الرجل يكتفي بالقوانين المادية مفسراً لهذا كله ، بل زادَ بأن أعلن أن الكلام في مثل هذه " المعتقدات " إنما هو " عقبة " في طريق المعرفة الذي هو يعتمد على " التطور " وينتهي إلى أن الإنسان ليس " نوعاً " ممتازاً من بين غيره من الأنواع ، بل هو مثلها : " موجودٌ مؤلف من بعض العناصر التي تحركها طاقة من النشاط " .
مذهب الرجل ، إذاً ، ميتافيزيقي موغل في المادية يعتمد على أن المادة " هي كل شيء " ، ولما كتب " عجائب الحياة " طوّر فكرته فذهب إلى القول إن المادة حية ، بمعنى أن كل شيء في الكون تسري فيه الحياة عضوياً كان أم غير عضوي .
وحال يتكلم عن " الدين " يجعله مجرد دينٍ وضعي يعتمد على الوعي بالقوانين الطبيعية ! ما يعني أن الرجل ، شأنه شأن كثير من الماديين ، ينادي بـ ديانة طبيعية على رجاء أن تقوم هكذا ديانة مقام الديانات الموحى بها .
- رينان :
--- 1- هو إرنست هيجل ( Emst Haeckel ) عالم أحياء ألماني ، عاش ما بين 1834 ، 1919 . وهو غير جورج ويلهلم فريدريش هيجل / Georg Wilhelm Friedrich Hegel ، الذي عاش ما بين 1660 ، 1831 ، ويعد أحد رواد الفلسفة المثالية الألمانية . يُتْبع ...
(25):
هو أحد أهم ممثلي فريق الصراع ، أو النزاع ، بين الدين والعلم ! حيث بدء حياته ، أولاً ، دارساً للدين استعداداً لأن يكون " رَجُلَ كهنوت " ، فأمِلَ أن يجد في المسيحية ما يسد " عاطفته الدينية " ، إلا أن الحاصل أنه انتهى إلى أن " التقاليد المسيحية لا تقوم على أساس " ! و ... : " لا يمكن أن تُكتسب الحقائق عن طريق العقيدة المسيحية ، بل عن المعامل والمكتبات " .
رغم ذلك عارض الرجل فكرة ستراوس عن المسيح ؛ فبينما هذا الأخير يرى أن المسيح " ليس سوى أسطورة نشأت بصفة تلقائية ، أو اخترعتها الجمعيات المسيحية الأولى " يذهب رينان إلى الاعتقاد بأن المسيح " حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها " . ثم يصف المسيحَ بأنه : " أحد هؤلاء الرجال الذين غيّروا معالم التاريخ الإنساني ، فهو يشبه القديس بولس الذي حرر المسيحيين من الطقوس الدينية لدى اليهود . ومن أمثال أنبياء إسرائيل الذين جاءوا بديانة العدل المحض ، فكانوا حَمَلة مشاعل الحياة الروحية " .
كتبَ الرجل " مستقبل العلم " لينتهي إلى أن العلم " هو الذي سيحل محل الدين ؛ فهو ، وحده ، القادر على أن يقدم للإنسانية ما تحتاج إليه مما لا تستطيع الحياةَ بدونه . وسوف يحدد العلم للإنسانية مُثُلَها ، وقيمَها ، العليا ، والقوانين التي تسير على هديٍ من الطبيعة " .
بعد بحث في المسيحية باعتبارها " فرعاً من فروع البحث التي يعالجها العلماء " انتهى الرجل إلى أنها ديانة " تقوم على الوهم ، لأنها تسلّم بوجود عناية إلهية تتدخل في الكون ، ولأنها تؤمن بوجود المعجزات التي هي أمورٌ مستحيلة " .
تصارعَ في ضمير الرجل اتجاها العلم والعقيدة ، فكان أن أعلن أن الحياة الروحية " أسمى أنواع الحياة " لذا نعى الرجل أن يهبط المرء بمستواه العقلي والروحي .
طالب الرجل ، رغم عدم قبوله العقائد المسيحية ، بدين جديد يقوم على العقل ويسايره ويستعين به .
فكّرَ الرجلُ ، غير مرة ، أن يدخل الإسلام ، لكن الذي صده : " محاربة أهله ( = أهل الإسلام ) للعلم والتفكير الحر1 ( !!! !!! !!! ) ؛ وقد بنى الرجل فكرته هذه عبر " مسلك علماء المسلمين المتأخرين " ، فكان أن جاء قوله :
... : " العرب ليسوا أمة علم ولا فن ولا حضارة ولا فلسفة " .
ثم يصفهم بأنهم : " عالةٌ على غيرهم " .
وحضارتهم : " جاءتهم عن طريق غيرهم من الأمم كالفرس والإغريق " .
وفلسفتهم : " جاءتهم عن طريق نصارى الشام والصابئة الحرانيين " .
أما دليل الرجل فهو : " كل فلاسفة المسلمين كانوا غير عرب إلا الكندي " .
والإسلام : " دين يناهض العقل ، ولا يشجع على البحث النظري " ، لأن عقائد الإسلام : " تحتوي على أمور غيبية " ، وأيضاً : " لأن أتباعه يؤمنون بالمعجزات والقضاء والقدر " .
ويدلل الرجل على صدق دعواه ... : " مما يدل على عداء الإسلام للعلم2 ما حدث لابن رشد الذي أُحرقتْ كتبه ، ونُفي ، واتهمه العامة بالكفر " .
يقول الرجل ... : " إن العقل العربي لا يصلح للدراسة والبحث ؛ لأن العقلية السامية مجدبة كالصحراء التي نبتت فيها ، وهي لا تقوى على التحليل والتعمق ، على غير الحال بالنسبة للعقلية الآرية " .
لكن ، هل رأيُ الرجلِ ، سواء فيما له تعلقٌ / صلةٌ بمناقضة الإسلام للعلم ، أو فيما له تعلق / صلة بالعقلية العربية صحيحٌ ؟ :
- هل ، على التحقيق ، يناهض الإسلامُ العلمَ ؟ ،
- وهل ، على التحقيق ، نحن العربَ ذوو " عقلية سطحية " ليست تقوى لا على العلم ولا على البحث الفلسفي ؟ .
أولاً : لو درس الرجل تاريخ العرب / المسلمين الطويل لوجد أن ما يزعمه من " مناهضة المسلمين ( لاحظْ : المسلمين لا الإسلام ) للعلم " كان في العصور المتأخرة ! ما يعني أن هناك عصوراً متقدمة آخى فيها العرب / المسلمون بين الدين والعلم بما لا يدع مجالاً للشك في إعلاء قيمة العلم في أسس الإسلام .
هذه واحدة ، وأخرى ... أن هكذا مناهضة ليست " الدين " ، بل هي " المتدينون " بهذا الدين ، أي المنسوبون إليه خاصة من غير العرب لا هو نفسه من حيث هو دين إلهي3 .
وثالثة ، أن رينان لا يرضى عن التصوف الذي يصفه بالإسلامي ، حتى قال فيه : " جنون المتصوفين الشرقيين " ، لكنه لم يشر ، لا من قريب ولا من بعيد ، إلى أن مَن أدخل هكذا نظريات صوفية غريبة على " روح العقيدة " في الإسلام ، كان من غير العرب كـ ابن سينا والفارابي ... وكل منهما ليس عربياً !!! .
ثانياً : الشاهد التاريخي " يكذّب " ادعاء رينان أن " العقلية السامية مجدبة كالصحراء التي لا نبتَ فيها " وأن هذه العقلية : " لا تقوى على التحليل والتعمّق " !!! فكيف لعقلية بهكذا صفات منسوبة إليها من " مفكّر " بحجم رينان تحصّل ثقافات الفرس واليونان ؟ إضافةً إلى أن أن هذه العقلية ، نفسها ، هي من " حملتْ " ، فـ حافظت على ، الثقافة اليونانية أن تنهار كما انهارت ، سابقاً ، في الدولة الرومانية القديمة .
وتناقض جد غريب يقع فيه مفكر بحجم رينان : كيف يصف الرجل عقلية العربي بالإجداب لكونهم " ساميين " ، ثم يقول إنهم أخذوا " الفلسفة " و " الثقافة " من " عرب حران " و " نصارى الشام " ... ألم يكن " عرب حران " و " نصارى الشام " عرباً ساميين أيضاً ؟؟؟ !!! .
ثم ، أليس فلاسفة المغرب العربي الكبار : ابن باجة ، وابن طفيل ، وابن رشد عرباً أقحاح / خُلّص ؟ ... وهؤلاء ، خاصة ابن رشد ، لا ينكر رينان ، ولا غيره ، أثرَه في الفكر الأوروبي الوسيط والحديث حتى عصر النهضة الأوروبية .
- أوجست كونت / كومت .
--- 1- حقيقةً ، نحن مندهشون غايةَ الدهش ألّا يعرف مفكرٌ بحجم هذا الرجل التفرقةَ بين " الذات " و " الموضوع " ، حيث بقوم فارق بين : الإسلام والمسلم ، وبين الإسلام وتاريخ المسلمين ، وبين التشريع الإسلامي والفقه الإسلامي .
2- نلاحظ ، مرة أخرى ، عدم تمييز الرجل بين الموضوع والذات ، فيتكلم عن " إسلام " لا عن " مسلمين " .
3- ننشير ، على سبيل المثال لا الحصر ، إلى مكان ، ومقام أحد " العرب " عندنا والغربِ أيضاً وذلك ببيان بعض ما كتب هو ، أو ما كُتب عنه ، ذلك لندلل على " تهافت " رأي رينان في العرب والمسلمين عامة ... عن الكندي أتحدث : للكندي كتابات في كل نواحي المعرفة ، ما دفع المؤرخين إلى تقسيم كتبه ، بحسب موضوعاتها إلى : فلسفية ومنطقية وحسابية وموسيقية ونفسية وسياسية ، فالرجل له مائتان وثمان وثلاثون مؤلفاً في مختلف فروع العلم . ونراجع في ذلك : ابن نباتة في سرح العيون " في أقسام علوم الفلسفة ومراتبها بحسب موضوعها " ، الشهر زوري في نزهة الأرواح " حكاية لرأي أفلاطون في مكان الأنفُس بعد فراق الأبدان وفي ترقّيها " ، ابن رشد في الكليات في الطب ، وما كتبه أوتو لوت Otto Loth ، بطريق ليبتزج في " أبحاث شرقية " بشأن رسالة الكندي " في ملك العرب وكميته " ، وما كتبه ألبينو ناجي Albino Nagy في تاريخ فلسفة العصور الوسطى ، وما قاله كاردانوس لما أحصى " الرجال الإثنى عشر المبرّزين في التفكير الناقد " فيذكر منهم الكندي ... ويقول عنه : " أليس الكندي ، وهو عربي ، مثالاً للمؤلفين وقد ذكره ابن رشد . ورسالته في " حساب الكميات الست " تشهد بأنه لا يوجد أحسن منه " ؟ . وقيل بحق الرجل : " كان مهندساً خائضاً غمرات العلم " ، و : " جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات " ، و : " ألّف بعض كتبه في التوحيد وفي إثبات النبوات " ، و : " لم يكن في الإسلام فيلسوف غيره احتذى في تآليفه حذو أرسطو " .لاحظ ، مرة أخرى ، عدم تمييز الرجل بين الموضوع والذات ، فيتكلم عن " إسلام " لا عن " مسلمين " .
يُتْبع ...
(26) :
هو أحد من لم يتأثر لا بـ لامارك ولا بـ داروون لإيجاد نظرية في علم الاجتماع مادية ، بل لتبرير وجود مثل هكذا نظرية ، سواء عنده أو عند أتباعه كـ إميل دور كايم وغيره .
في إشكالية " الأنواع " ما بين : أهي " ثابتة " ، وهذا قول كوفييه ، أم هي " تتطور " ، وهذا قول لامارك وداروون . أخذ الرجل بفكرة ثبات الأنواع التي قال بها كوفييه ... للآتي :
- لم يقم بين يدي الرجل دليل يصدّق نظرية / فكرة لامارك حيث " الوسط الخارجي " ليس ذا تأثير مطلق في الكائنات الحية ، فمهما قيل بشأن هذا " الوسط " ، كذلك مهما قيل إن " تركيب " الكائن الحي قابل لأن يتطور ... فإن المسألة لن تتجاوز " النطاق الضيق " بحال من الأحوال .
- لم يقم بين يدي الرجل دليل يرجّح أحد القولين : قول لامارك أو قول داررون ، ما دفع الرجل لأن يرى الصواب في الأخذ بنظرية " ثبات الأنواع " تأسيساً على أنها " أكثر اتساقاً مع الروح العلمية من الوجهة الشكلية " ما يعني أن الصواب ، برأي كونت ، أن الفصائل متنوعة وذات خصائص مستقلة .
لكن المفارقة أن كونت في الوقت الذي رفض فيه نظريتي لامارك وداروون في " التطور " الذي يتسلسل بالكائنات حتى يصل إلى الإنسان ، فإنه يقبلها على صعيد الاجتماع والنفسيات والعقليات والأخلاقيات ( !!! !!! !!! ).
الرجل لا يسلّم بوجود عالَم للإنسان يتفوق على عالَم الحيوان ، ما يعني أنه يرفض النظرية الفلسفية الكلاسيكية التي تقول بوجود فارق بين الإنسان والحيوان اجتماعياً ! .
يرى كونت أننا لو اتبعنا " المنهج التاريخي " في الدراسات الاجتماعية ، فإن الأمر سينتهي بنا إلى التسليم بأن ليس لدى الإنسان ظواهرُ دينية أو نفسية وأخلاقية أو عقدية ليس لها " شبيه " لدى " الحيوان الأعجم " ... حتى لو وجدت مثل هذه الظواهر ، فهي في " الدرجة " وليست في " النوع " ما يعني أن الدراسات التاريخية للظواهر الاجتماعية تبيّن أن الإنسان " يحتل قمة السلّم الحيواني " ... ذلك للآتي :
- مُلاحَظ وجود تشابه كبير بين الوظائف الحيوية / الجوهرية لدى كلٍّ من الإنسان والحيوان ، حتى الناحية العقلية ... هناك شيء من العقل عند الحيوان يدلل على كون الاختلاف ، هنا ، اختلاف " درجة " لا اختلاف " نوع " ، حتى ليمكن القول إنه ما من وظيفة لدى الإنسان إلا ولها نظير / شبيه لدى الحيوان : فللحيوان غرائزه التي تشبه غرائز الإنسان . بل حتى الذكاء يشارك الحيوانُ الإنسانَ وأحياناً يتعادلان . كذلك الشعور / الوجدان وظيفةٌ موجودةٌ بشكل واضح لدى الحيوان الذي يحب أولاده وقد يؤثرهم على نفسه . كذلك هناك ، يرى كونت ، نوع من التدين لدى الحيوان ، وأشار الرجل إلى " عبادة ما هو حي " !!! !!! !!! .
- مُلاحَظ وجود " تطور " لكنه ليس يؤدي إلى " تغير " / " تحول " من نوع إلى نوع آخر ، ما يعني مخالفة الرجل لطروحات داروون وتبنّي القول إن كل خاصية تظهر في ، أو مع ، الإنسان إنما هي كانت ، في السابق ، موجودةً فيه ... لكن في حال " كُمُون " ( = وجود بالقوة ) ، ثم انتقلت من هذا الوجود ، الذي هو بالقوة ، إلى الوجود بالفعل بأن تحددت معالمها / قسماتها كصفة ممارَسة في ، أو من ، الإنسان .
لعل هذا الطرح نجد فكرته الأولى عند إبراهيم بن سيّار النظام ، المعتزلي الشهير صاحب فكرة / نظرية الكُمُون .
وبالنظر إلى الإنسان ، يخلُص كونت إلى أن الوظائف العقلية هي التي سبقت غيرَها ظهوراً ، ذلك بالنظر إلى " المنفعة " التي تعود على الإنسان من " العقلي " أكثر من " الأخلاقي " و " الاجتماعي " ، فالعقلي هو ما أهّل الإنسان لأن " يتكيّف " / " يتأقلم " مع البيئة ... ثم راحت الوظائف الخُلُقية والاجتماعية تظهر تترى كمميز أساس ، وليس وحيداً ، للإنسان .
بل حتى الوظائف الخُلقية والاجتماعية ليس سوى " ازدهار لبعض الخواص الطبيعية التي تميز الإنسان كنوع ، وقد أظهرت هذه الوظائفَ الطبيعة عبر أحقاب طويلة " ! ما يعني أنه لكي " يتقدم " الإنسان خُلُقياً ومجتمعياً فإن عليه " التوافق مع القوانين الطبيعية " .
وما دام الأمر على هذا النحو ، فلماذا ، إذاً : تطوَّر الإنسان ، وحده ، دوناً عن بقية " خلْق الله " بما يشكل " عالَماً مستقلاً عن بقية عوالم الطبيعة " ؟ !!! ... هنا يقدم لنا كونت " مجموعة معقدة متشابكة من الظروف الداخلية والخارجية التي لازمت تطور الإنسان " !!! .
وأيضاً : لماذا ، إذاً : وُجدِت هذه " الظروف " لدى الإنسان وحده ؟ ، ولماذا توقف تطور غير الإنسان من فصائل حية ؟ ... هنا يبين لنا كونت الأمر : " إن أهم العوامل التي ساعدت في تطور الإنسان مستمدةٌ من الحياة الاجتماعية " ! ثم يشرح الرجل هذه العلة : " إن هذا الحياة ، وإن كانت امتداداً للحياة العضوية ، فإنها تؤثر في حياة الإنسان فتجعله كأنه منفصل عن بقية فصائل الحيوان ، فيصير هناك نوع من التأثير المتبادَل بين السبب والنتيجة " .
إذا ، فنحن نفهم أن السبب يؤدي إلى النتيجة ، إلا أنه حالَ توجَد هذه النتيجة يكون لها رد فعل في السبب المخرج لها وجوداً ، ونفهم أنه كلما زاد تأثير الحياة الاجتماعية في الإنسان ، تطورت حياته بشكل أسرع ... لكن لا يجب أن يفهم من هكذا تطور أيُّ نوع من أنواع " التحول " .
وللرجل ، كفرع على نظريته تلك ، نظرية يدّعي أنه من خلالها يفسّر " الحياة الدينية " ، حيث نقدَ مرحلتي الفلسفة واللاهوت ، ليقول إن الإنسانية بعد تجاوزها هاتين المرحلتين انتهت إلى المرحلة العلمية / الوضعية . ويبقى أن نلاحظ أن كونت يؤسس لقبول الدين كـ منزع إنساني ... ولو جاء تأسيسه هذا " من باب خفي " ، فالإنسان عنده : " هو الموجود الأكبر " فكان أن اتجه الرجل إلى " التدين المتصوف " فسعى لـ تأسيس " دين " أطلق عليه مسمى " الديانة الإنسانية " من حيث إنه بالإمكان أن تكون " الإنسانية " مجالاً / موضوعاً لدراسة علم الاجتماع بنفس القدر التي تكون فيه مجالاً / موضوعاً لمشاعر الحب ولطقوس العبادات ... فالإنسانية : " هي المثال الأعلى الذي تَكِنُّ له القلوب المحبة " . و : " الإنسانية هي أجدر شيء بتضحية الإنسان وإخلاصه " . و : " يجب أن تتجه القلوب إليها بالعبادة " ( !!! !!! !!! ) .
ومن " أركان " هكذا ديانة الإيمان بـ الخلود ، ذلك الأمر الذي تناوله كونت تناولاً مادياً ؛ فليس كل إنسان جديراً أن بأن ينتسب لـ الإنسانية ( !!! !!! !!! ) من حيث إنه هناك من " الإنسان " من ليس مخلصاً للإنسانية ، وهؤلاء هم ، وبلغة كونت نفسه ، " طفليات " لا يقوى جسم المجتمع على هضمهم فيمثلون عبئاً على المجتمع . وهؤلاء تغلب عليهم " الحيوانية " ، وهم ، وبلغة كونت نفسه ، " منتجو الأقذار " ويكون الموت نهايةً لهم ، تماماً كما يكون الموت نهايةً لأجسامهم العضوية . بينما الآخرون ممن غلب عليهم " العقل والخُلق " فهم الخالدون من حيث هم " عاشوا للآخرين " / " عاشوا للإنسانية " ، وبما أنهم لم يريدوا الحياةَ لأنفسهم / ذواتهم ، فإن الحياة تُمنح لهم بعد موتهم ! ما يعني " أنه لا يدخل إنسان الإنسانية إلا بعد الموت " حيث الموت : " يطّهر النفوس " .
وبما أن لكل عبادة طقوساً ، فإن طقوس عبادة الإنسانية هي " تكريم ذكرى الأفراد الذين ساهموا في بناء الإنسانية بأفضل ما في أنفسهم " . وهذا هو السبب في سعي الإنسان لأن يكون خالداً . وهذه الرغبة تعبر ، في قوتها ، عن إرادة الإنسان أن ينتصر بعد الموت ! ما يعني أن الرغبة في الخلود كانت قويةً حتى قبل ظهور الدين .
ويدافع كونت عن الفلسفة الوضعية ، وهو أحد مؤسسيها ، بأنها ليست تسعى لأن تهدم فكرة الخلود ، بل هي تحول معناها بأن يكون الخلود " معنوياً " بأن يبقى الخالدُ في نفوس الآخرين مبادئ وقيماً خُلُقية .
هذا عن " الخلود " ، فماذا ، بنظر كونت ، عن " البعث " ؟ ... : " إن فكرة الشاعر ، أو العالِم ، أو الأخلاقي ، تحِل في نفوس عديدة وفي عصور مختلفة ، وهذا هو البعث الذي يتكرر على مَر العصور ، إذ يُبعث الأموات دائماً في نفوس الأحياء . وليست الحياة الراهنة إلا محنة وتجربة ، أما الحياة الحقيقية فهي الاندماج في الإنسانية " .
إذاً ، استبدل الرجل ، وهو مسيحي ، فكرة " الاتحاد " بالإنسانية بفكرة الاتحاد بالله التي رفعها بعض رجال المسيحية !!! .
هذه واحدة ، وأخرى ، نرى أن الرجل لم يصدر عن " إبداع " حقيقي !!! ؛ فكلامه السابق نجده في فلسفة الفارابي حال كلّمنا عن " النفس الكلية " والتي فيها سوف تتحد كل الأنفُس بعد موتها !!! ولا فارقاً بين الاثنين إلا أن الفارابي جعل " الاتحاد " يتم في " العقل الفعال " الذي هو يدير عالم " ما تحت فلك القمر " ، بينما كونت جعله في " الإنسانية " التي جاء لها بمصطلح جديد هو : " العقل الجمعي " .
أراد كونت أن يجعل الحياة الدينية نوعاً من جودة الحياة العضوية ، لكنه عاد مرة أخرى ليتكلم في " الدين " وإن جاء كلامه مضطرباً مشوشاً ، إذ حاول الممازجة بين ديانته الأساس ، المسيحية ، وبين ديانته الوافدة ، الوضعية الاجتماعية .
---
كلمتنا لوجه الله والتاريخ :
يُتْبع ...
(27) :
• عن داروون :
هو " مهم " لأنه أفرز ، بشكل أو بآخر ، اتجاهات موغلة في التفسيرات المادية :
- على صعيد علم النفس ، أفرز النظرية السلوكية " الحيوانية " عند سيجموند فرويد .
- على صعيد التاريخ والسياسة ، أفرز التفسير المادي للتاريخ عند كارل ماركس .
- على صعيد الاجتماع ، أفرز نظرية " القطيع " عند أوجست كونت .
كتب داروون يبرهن على صدق نظريته / فرضيته التي ترى : الإنسان كان قرداً ، ثم أخذت صورته تتطور بالتدريج ، ويدخل عليها التهذيب والتنقيح لتصبح على صورتها المرئية أيامنا هذه .
وهذا التطور لم يتم في زمن قصير ، بل إن عمره أحقاب عديدة ، إضافةً إلى تأثير العوامل الطبيعية الخارجية ، فكان الحاصل هذه النتائج المعاشة .
يرى الرجل أن القرد ارتقى إلى مرتبة أوران أوتانج1 Orang – Outang ، ومنها أصبح تفسير الوصول إلى مرتبة " الإنسان " يسيراً : فالزنوج هم أولُ أفراد البشر ، ثم انتقل بعضهم إلى أفق أعلى ممن بقي في أفق الزنوج فكان " الإنسان القوقازي " الذي هو ، بزعم هؤلاء ، أرقى الأجناس البشرية ، وهم ، الأوروبيون ، منتسبون إلى هذا الإنسان ( !!! !!! !!! ) .
لقد فات الأوروبيين أن عقول الناس ليست بعلاقة طردية بألوانهم !!! .
فسّر داروون التطور بقوة مجهولة تدفع الكائن الحي لأن ينتقل من مرتبة إلى أخرى أعلى وجودياً . لكن لم يعرّفْنا داروون ما هذه الـ قوة المجهولة ، ولم يقل لنا لماذا تسير هذه القوة في اتجاهاتٍ مختلفة ، حيث لا توجهها عناية ، ولا إرادة ، إلهية ، بل الأمر : مصادفة جاءت عن مصادفة وتؤدي إلى مصادفة !!! ولو جارينا الرجل في هكذا طرح ، فما المانع الذي لم يجعل البرغوث فيلاً ؟ !!! ، أو أن يصير الفيل برغوثاً ؟ !!! .
قد " يستظرف " البعض المثالَ !!! لكن دلالته جد رفيعة : إن تركيب الخلية الحية واحدٌ في كل الأحياء ، وما دام القانون الفاعل هنا هو " المصادفة " فلا مانع ، إذاً ، من أن " تتطور " هذه الكائنات الحية بأي اتجاه اتفق !!! .
والملاحَظ أن داروون يصر على قصر " التطور " بين الإنسان والقردة ( !!! !!! !!! ) ، وبذا يعطينا الحق أن نسأله : وماذا عن " تطور " النبات ؟ أليس هناك " فصائل " نباتية ، كما أن هناك " فصائل " حيوانية ؟ ولا مفاضلة !!! ... فالنبات " كائن حي " ، يخضع لقوانين " التطور والفناء " ، فلمَ لمْ يتكلم داروون في " اختلاف الأشجار التي يراها الناس في غابات الهند مثلاً ؟ ، أو النباتات التي توالدت في تربتها منذ أزمان سحيقة لا يكاد التاريخ يحصرها ؟ . ثم لماذا لم يتكلم الرجل في سبب اختلاف هذه الفصائل رغم وجودها في بقعة واحدة ، وهي تسقى من ماء واحد " ؟ .
وبإمكاننا ، نحن رافضي فكرة داروون ، أن نسأل نفس الأسئلة ، وهي أسئلةٌ مشروعةٌ ، بالنسبة لجميع الفصائل الحيوانية والنباتية الموجودة على سطح الأرض ، خاصة هذه التي لم تنتقل من بقعة إلى أخرى ، حتى لا يقال إن الانتقال هو السبب في تغير ظروف الخارج فأدى ذلك إلى ظهور الفوارق التدريجية في تركيبها ، بحيث إذا طال عليها الزمن ، تغيرت تغيراً شاملاً ، فانتقلت إلى " نوع " آخر .
• المادة الحية والمفكرون المحدثون :
بحال أدرك " أنصار " داروون استحالة تفسير الكائنات الحية والتغيرات التي تتم عليها بناءً على " خواص المادة " التي هي بلا " شعور " وبلا " إرادة " فكان أن خرجوا علينا بمصطلح جديد هو أشد إبهاماً من سابقه : قال القوم إن النظام الدقيق المشاهَد في الكون وموجوداته راجع إلى أن " المادة الأولى " بها قدر ما من القوة والشعور !!! وأسموا هذا المصطلح الجديد بـ مذهب المادة الحية ، والذي بإمكان " أي قارئ " أن يطالع تاريخ الفكر الإغريقي القديم ليجد أن هذا الطرح ليس جديداً سوى في الاسم .
سبقهم إلى ذلك الطبيعيون في إيلية ، وأشهرهم ديمقريطس قبل الميلاد بخمسة قرون كاملة ( !!! !!! !!! ) ما يدل على هؤلاء الجدد يضربون ضرباً أعمى ، بينما كان ديمقريطس متسقاً مع نفسه إذ لم يتكلم في " قوة " ، ولا في " إدراك " ، ولا في " عقل " يلازم المادة التي قال عنها " الذرات " !!! ما يدل على أن هؤلاء الجدد أرادوا " مسك العصا من المنتصف " فكان أن وقعوا في تناقض لما قالوا بالقوة غير المادية ، بينما هم ينكرون كل ما هو غير مادي !!! .
حتى بفرضية صحة ما يقوله هؤلاء ، يبقى سؤال : من ، أو ما ، الذي جمع هذه المادة / الذرات لتنشأ عنها ما نراه من كائنات كل واحد له خصائص ، ومزود بـ فطرة تحافظ له على وجوده ، ويحيط به " بيئة " تناسبه ويناسبها بشكل لا يتخلف ؟ .
لو قال القوم إن في الذرات عقلاً يؤهلها لأن تعرف لكل موجود ما يناسبه ، لكانوا مقرين أن توصف هذه الأشياء المادية بصفات الحكمة والعناية الإلهية التي هم ، بالأساس ، منكرون لها جملةً وتفصيلاً .
--- 1- معناها ، بلغة الملايو ، رجل الغابة الذي هو قرد يشبه الإنسان حيث لا ذيلَ له ولا شفاهاً مدلّاةً . يعيش هذا المخلوق في جزيرتي بونيو وسومطرة . وقد تم استئناسه وتدريبه على بعض الأعمال المنزلية . انتهى .