_________________ الجزء السابع __________
وداعا يا انسة ..احتفظي بقلبي و قبعتي ..تذكريني دائما و أوفي بوعودك لي يا انسة ...
.
تثاقلت خطواتي و أنا أبتعد عن تلك الصبية سيئة الحظ شيئا فشيئا ..تمزق قلبي و خطوات الوداع تتزايد شيئا فشيئا ..صوت خافت داخل قلبي كان ينادي ..ارجع لها أرجوك ..ان الحياة لن يكون لها معنى اذا استمريت في خطواتك هاته ..لا تكن عنيدا .
.
.تحدى
.
..تحدى يا هذا كما تحدت تلك الصبية مرارة و قساوة حياة ظلمت قلبا طاهرا و نقيا كقلبها
.
و أنا أواصل سيري و ابتعادي عن نواحها ..حتى كدت أختفي عن أنظارها و أترك لها سراب رجل غريب دخل حياتها و ملك قلبها حبا و عطفا و حنانا ثم تركها بحجة القدر و الفقر
.
و أنا أكاد أختفي ..فكان اخر من ترجاني لأعود تلك الرياح القاهرة و العاصفة و حبات الثلج الباردة تلك ..انها مظاهر الطبيعة اتحدت و غضبت على هذا الوداع غضبا جعلها تعاقبني وحدي فأسقطتني أرضا و لوثت ملابسي و أخذت العاصفة قبعتي
.
طارت مني قبعتي و حملتها الرياح الى تلك الصبية قائلة لها ..يا انسة ..نأسف على قسوتنا عليك ..نأسف كثيرا ..لكننا لم نشأ هذا الوداع ..فكان ما يمكن أن نفعله لك أن نجلب لك قبعة سيدك الذي لا لوم عليه ..انها مشيئة القدر يا انسة ..
.
و أخيرا انتهى الوداع ..انتهى المساء ..و انتهت العاصفة ..و انتهى كل شيء .و بدأت معاناتي في غرفتي المظلمة تلك ..و عاد ذلك الصوت الخافت ليكلمني و ينعتني بالجبان ..جبان أنت يا أيها السيد ..
.
أما عيوني..فخانتني كما خانني القدر ..و لم تنغمض لأنام نوما يريحني من حياتي المريرة هاته ..و مازالت بين عيوني صورة الصبية مستلقية على ركبتيها تترجاني أن لا أذهب و أتركها ..
.
مازال صوت صراخك و عويلك يا انسة يدور في أذناي نادبا حظه التعيس ...
.
رفقا بي أيها الليل ..و رفقا بي يا انسة ..هذه حقيبتي ..غدا صباحا سأودع أمي و أهاجر وحدي الى المجهول بحثا عن مستقبلي الضائع ..و مادامت قبعتي لديك ..فانني سأعود يوما بحثا عن اناقتي التي تركتها لكي مع قبعتي يا وردتي البيضاء
.
جاء الصباح ..تناولت معطفي في حيرة من أمري ..ارتديت حذائي و خرجت حاملا حقيبتي تاركا أمي مريضة لا تعلم بأن ابنها هاجر في هذا الصباح العاصف الغاضب كعادته ..
.
الى أين أذهب ..أنا شاب فقير لا شهادة لي ..ماذا يمكنني أن أعمل ..لا شيء أتقنه يا الهي ..كن معي ..
.
مشيت طويلا حتى وصلت الى شاطئ بحر يكاد يفيض على تلك المدينة التي شهدت معاناتي ..لكن أرجوك لا تفعلها ..فهنا ترقد أمي مريضة و صبيتي تعاني ماساتها بسلام ..دعهما و شأنهما يا أيها البحر ..لا تكن اخر همهما ..و لا تغضب على قلوب بريئة لا ذنب لها
.
و خذني الى ضفتك الاخرى يا بحر بسلام ..خذني و عندما يحين وقت العودة أعدني لأمي و صبيتي و سأكون لك شاكرا كأول من يرفق بي و يرحمني في هاته الحياة
.
و أنا أهم بركوب سفينة خفيقة عن قبطانها ..شعرت أن صبيتي تستأنس بالعواصف و تستذكر معها ليلتنا الأولى ..شعرت بأن صبيتي تشاهد نفسها في المراة و تبتسم بمجرد أن ترى نفسها مرتدية قبعة سيدها الايطالية
.
شعرت بقلبها يكلمني ..يا سيدي..لقد علمتني أن أبتسم وسط العاصفة ..و هذا يكفيني أن أتمسك بالحياة يا سيدي..لقد علمتني الحب و مواقف الرجال النبلاء ..انني أراك تركب السفينة و أنا أبتسم لك ابتسامة حنان و رغبة في تقبيل رأسك ..
.
اني أراك و أستشعر خطواتك الخافتتة تلك التي تراقب لحظة انطلاق السفية لتركبها خفية بحثا عن مستقبلك ..
.
لن أبكي بعد الان يا سيدي و لن أصرخ ..بل سأبتسم دائما مستذكرة جنونك بجانبي و برائة عيونك السوداء التي كلفت نفسها دموعا لا ذنب لها فيها
.
اذهب ..و سأنتظرك ..و عندما تعود ..ستجدني مرتدية قبعتك الأنيقة ..و فاتحة أحضاني لأقبلك يا ...يا .... يا ....
.
يالا حسرتي ..كيف لا أعرف اسمك يا سيدي..لكن لا يهم ..فأنا الوردة البيضاء ..و أنت أملي ..
.
و أخيرا هدأت الصبية ..و سكتت ..لكنها لم توفي بوعدها ..لقد سقطت دمعة أخرة من عيونها الذابلة السوداء...ليس في وسعها الى الدموع الهادئة تلك حاملة قبعتي متذكرة ذكرياتنا الجميلة و الرائعة
.
أما أنا ..فقد صعدت السفينة ..و قد بدأ كل شيء الان ..أنا الفقير قادم يا أرض أوروبا فاستقبلني و احميني ....
___________________ الجزء الثامن _______________
.
كنت رائعا ..و لم تكوني رائعة يا انسة ..كنت شابا وحيدا يعيش مستأنسا ظلام غرفته الموحشة ..أنيقا بقبعته الايطالية السوداء رغم فقره و ثيابه القديمة الرثة ..كنت رائعا الى حين ..الى حين تلك الليلة الغريبة
.
و لم تكونين رائعة يا انسة ..كنت مسكينة وحيدة تصارع كل شيء.. ....تصارع الوحدة و الألم ..الفقر و العاصفة الحقيرة .
.يا لا حقارتها تلك العواصف الهياجة يا انسة التي تصب جام غضبها على صبية جميلة مثلك يا انسة ..
.
أحقا خلق الله هذا الجمال بتلك العيون الذابلة و المتعبة من الدموع ..أحقا يمكن أن يكتمل جمالك في حزنك يا أيتها الصبية الرائعة ..كنت فقط رائعة بجمالك تسرين نظرتي لك في تلك الليلة الغريبة ..ليلة شهادة أخيك البطل يا صبيتي..
.
و ها أنا الان بين أحضان الغربة لا أعلم ان كنت سأعود لأحضانك يا وردتي ..هل سأعود ..متى سأعود ..طبعا سأعود ..حتما سأعود ..و أكيد سأعود ..سأعود عندما أستطيع امتلاك شيئا سيسعدك لبقية حياتك و ينسيك مرارة الماضي ..سأعود بقليل من المال لألبسك فستانا أبيضا و أجعلك أميرة يا انسة
.
.
أما الان فدعيني أصارع وحيدا ..دعيني و لا تثقليني بهمساتك التي أستطيع سماعها من وراء البحار ..خبئي الحب و الحنين الى حين ..
.
في غربتي..وسط حقارة الناس الذين أنا وسطهم ..لم يكن قلبي حزينا ولا عيوني تدمع اشتياقا لوطني ..كانت غربتي استمرارا لمأساتي ..لم تختلف و لم تتغير الأحاسيس بين وطني و بين غربتي
.
اندفعت للعمل ..سعيت كثيرا لأكسب رزقا حلالا في وسط قوم لا يميز بين الحلال و الحرام ..تعبت كثيرا و تعذبت من أجل أن أنام ليلة امنة و طعام يسد رمقي ..
.
احتقرني الغرباء ..و لم يحسنوا معاملة هذا الشاب المسكين ..بل زادوا في معاناته ..مرت الشهور و تلتها السنوات ..
.
و تعاقبت الفصول عليا ..فلا ابتسامة الربيع ابتمست لي ..و لا حصاد الصيف كان من نصيبي ..فكان من نصيبي سواد و غضب الشتاء ..و تساقط أحلامي و أمنياتي كتساقط أوراق الأشجار في فصل الخريف ..
.
.
مرت السنوات دون أن أرى صبيتي ..و دون أن أقبل رأس أمي ..مرت 8 سنوات و أنا لا أعلم ان كانت أمي مازالت تصارع أم أنها استسلمت ..و هل صبيتي مازالت تذكرني ..
.
انقطعت همساتك يا انسة فماذا يحدث عندك ؟ يا اللهم اجعله خيرا ..
.
انخدعت بالغربة حتى ظننتها أنها وطني ..كدت أستحليها و أنسى ماذا ينتظرني ..كدت و لكنني لن أكاد أبدا لك يا غربة ..فما أنا الا غريب سيعود يوما ما من حيث أتى
.
8 سنوات مرت ..وقت عصيب ..أيام سوداء ..حياة مريرة تمر بذلك الشاب الذي مازال يفتقد أناقته بمعطفه الأسود و قبعته الايطالية عندما يمشي بجانب النهر الهائج في طريقه الى تلك الصبية لينقذها من مأساتنها و معاناتها
.
8 سنوات مرت ..في أخر يوم ..نظرت الى جيوبي فوجدتها تكاد تمتلأ بالمال ..فقلت في نفسي ..هذا يكفي ..هذا يكفي و كفاني من أعمال حقيرة كلفني بها الغرباء الظالمون ..هذا يكفي ..فقد بلغ السيل الزبى ..و تكاد كرامتي تذبح على سكاكين الحقيرون الذي لم يرحموني
.
هذا اخر يوم ..سأعود و أنا مقتنع بما حصلته من مال سيكفي لعلاج أمي و لشراء فستانا أبيض لتلك الصبية و أجعلها تعيش حياة السعادة و الهناء ..
.
وقفت في ذلك اليوم الاخير على شاطئ بحر الظالمون ..نظرت بعيدا على طول امتداد البحر متسائلا ..يا صبيتي صوت خافت يحدثني و كأن مكروه لقلبي قد حصل عندك ؟
.
.
سأركب السفينة ..و أعود اليك ..فأرجو أن هاته الثماني سنوات لم تنل من جمالك و سحر ابتسامتك ..
.
أما أنت أيها البحر ..فان كنت تريد أن تغرقني فأخبرني ..و اني أعدك اذا وعدتني بأن تسمح لي أن أقابل صبيتي و أرتشف قبلة من شفيتها و دمعة من عينيها الذابلتين تلك ..اني أعدك أن أفعل هذا مع صبيتي و أعود لك و أغرقني و أنا راضي يا أيتها الأمواج الهائجة.
.
هجرتك في فصل السواد و الماسي ..و اني عائد في فصل الشؤم هذا لألون حياتك يا صغيرتي ..
.
و أنا راجي كل الرجاء أن تلك الثماني سنوات ..لم تغير فيك شيء ..و انما غيرت فيك من حب الى عشق ..و من ابتسامة الى ضحكة تدوي مع زفير العواصف ..
.
لقد ركبت السفينة و البحر قد هدأ لأجلي قائلا ..عد بسلام يا أيها العاشق السيء الحظ ..عد فانك تستحق الحياة يا أيها السيء الحظ ...
.
عد و أنني أعدك أن أغرقك اذا لم تكتفي من الغربة بعد ..اياك أن تعود يا أيها الفاقد لاناقته ..عد الى حيث تركت اناقتك و ارتديها بين أحضان تلك الصبية الغائبة عن قلبك ..
.
و لا تنسى أن تلتفت وراءك عندما تطأ أقدامك الميناء و تحمد الله بعد هذه الغربة
.
.
و أخيرا .قد وطأت أقدامي الميناء يا بحر ..فشكرا لك يا أيتها الأمواج الرحيمة ..و هاك سيجارتي أطفئيها لتطفئي معها كل أمل قد يستيقظ في يوما ما راغبا مني أن أغترب من جديد ..
.
أطفأي أمال الغربة يا أمواج ..و ارحمي شبابا مثلي قهرتهم الحياة في هذا البلد ..ارحميهم لمرة فقط ..
.
لقد وصلت ...و لقد عدت يا صبيتي ..
____________________ الجزء التاسع ____________
و بعد 8 سنوات عدت الى الغربة الحلوة .عدت الى غربتي وسط أبناء وطني ..عدت و قلبي يخفق ...
.
ركضت حاملا حقيبتي الى أمي ..ركضت ركضا ومنزلي لا يبعد على الميناء الا بضعة أمتار ..دخلت على أمي فوجدتها تحمل صورتي و هي تبكي و تبكي ...وجدتها تكاد تموت يأسا على فقدان ابنها الفقير التعيس..
.
لا تبكي يا أمي ..فرحمك أنجب رجلا لا يخلف وعوده ..رحمك أنجب رجلا لا يستسلم لمرارة الحياة و لا يتخلى عن أمه الجميلة ..
.
احتضنيني يا أمي و دعيني أقبل رأسك فان الغربة قد أنهكتني ..سأداويك يا أمي ..ستشفين ان شاء الله ..فنني من أجلك هاجرت ..ابسمي يا أمي ..
.
و انتظريني سأعود بعد أنأسلم على انسة ستملأ منزلنا هذا بهجة و سرورا و ستكون ابنتك الجديدة ..
.
نعم يا ابني ..اني كلما أرى وجهك أرى أن الله يرسل لي الفرح و السرور ...اذهب يا بني .و اجلب لي تلك الصبية لأحتضنكما معا و أبارك لكما ..هيا ..أحضرها و هي مرتدية القبعة لأرى من تستحق أناقة ابني ..
.
اركض نحوها و لا تبالي بمرارة تلك السنوات ..اركض اليها فما الحب يا أيها السيد الى لتلك الصبية الأولى في حياتك ..أركض لها و اطلب منها أن تناولك قبعتك و قبلها لتتوقف العاصفة و حبات الثلج اليضاء احتراما و تقديرا لكما أيها العاشقين الغريبان ...
.
.
أنت تعرف طريقها ..لكن لا تعد الى مدرستها ..فهي الأن شابة في منتصف عقدها الثاني تنتظر فقط فستانك الأبيض ..لتنسى مرارة الثماني سنوات تلك تلك ..
.
تذكر تلك الليلة الأولى الغريبة ..و امشي في نفس ذلك الدرب متحديا عاصفة بلدك القاسية ..ودع حنين قلبك يقودك الى صبيتك ي ..
.
و ركضت نحوها متسائلا ..كيف سأقابلها بعد كل هاته السنوات ..ماهي حجتي أمام عيونك الذابلة المتلألأ ة يا انسة ..هل أقول انها الغربة قد أبعدتني عن ارواء أوراق وردتي البيضاء ..تلك يا انسة ...هل أقف أمامك باكيا طالبا صفحك و عفوك يا انسة ..
.
اني أحس بذنب قاسي لا يفارق قلبي العاشق لك يا انسة ..و كم سأكون رائعا و أولد من جديد لو تقبلينني و تمسحين دموع الفرح تلك ..
.
اااااه يا انسة ..لا أعتقد أن عقلي سيبقى مكانه لو تراك عيوني مرتدية تلك القبعة السوداء الأنيقة ..لا شيء سينسيني غربتي يا انسة الا تلك القبعة و هي فوق رأسك مائلة و شعرك الحرير تتلاعب به العواصف التي غارت من أناقتك يا صبيتي ..
.
اني قادم يا صبية ..و سأسير بمحاذاة النهر الذي يأبى السكوت و الخمود ..اني قادم لأقطع عنك المعاناة و المأساة ..لقد عاد أملك و الغربة و الاشتياق قد أنهكته كل الانهاك
.
سرت بجانب النهر ..قطعت تلك الشوارع التي تعودت قطعها لأجلك يا صبيتي ..انني أسير و أحسب خطواتي ..كانت تفصلني عنك خمسمائة خطوة عندما أصل الى ذلك المحل الذي اشتريت منه ملابسك و أبيت أن تبدلي قبعتي الايطالية
.
لم يبقى الكثير .ثلاثمائة خطوة .. مائتا خطوة ..مئة ..و الدموع أعلنت استعدادها لتكمل روعة لقائنا ..
.
خمسون خطوة ..و أنا أمشي و شعري قد نالت منه العاصفة ..أما ملابسي فلم يهمني أن تبللها الأمطار و لا أن يلونها الثلج ببياضه ..لا يهمني ..فأنا من تحدى العاصفة و أعطاك ملابسه انتقاما من الطبيعة الغاضبة الغيورة من جمالك يا انسة ..
.
ما كان يفسد اشتياقى .. و يثقل خطواتي ..هو احساسي بانقطاع همساتك يا انسة ..فماذا أنت فاعلة بعد هاته الثماني سنوات ..أني لا أسمع بكائك الحنين و لا أستشعر أن يداي الغليظتان تمسح دموعك ..
.
اني و أنا أقترب ..أخاف من أن لا أجدك يا انسة ..فلو كنت تسمعيني تكلمي لي بقلبك و عديني كما وعدني البحر أن يوصلني بسلام ..
.
عديني أن أجدك واقفة أمام منزلك المهترئ ذلك ..مرتدية القبعة وحاملة بين أناملك شهادة في الطب ..كرري وعودك يا أيتها الصبية ..فأنا على وشك الوصول .. ولا أريد أن يخيب قلبي ..كفاي مأساة ..لا والله يكفيني خيبات.
يا انسة ..تكلمي ..اصرخي ..تحدثي بصوتك الخافت ..يا انسة ..ماذا يحدث عندك ..
أم هو مجرد وسواس مثله مثل العواصف يغير من بهاءك و سواد عيونك و قامتك الشامخة
.انه مجرد وسواس يريد أن يثقل خطواتي و يعيدني الى غربتي المظلمة في غرفتي المظلمة ..حارما أناملي من أن تداعب رموشك المتبللة بالدموع النقية ..
.
فبعد البشر ..أعتقد أن مظاهر الطبيعة أيضا تريد أن تأخذك من سيدك ..لكنني أعلم أن صبيتي صبية صابرة لا يغلبها الا قدر الله و مشيئته ..
.
لم يبقى الا ذلك المنعطف الأخير ..على بعد 10 خطوات ..و يقابلني منزل صبيتي المهترئ ..و ربما سأجد أن شهيدا اخر قد اخذته الشهادة خلال سنوات غربتي..
.
.
يا انسة أنني أثرثر ..ولا أسمعك تثرثرين ..أهو خجلك الذي يأبى أن يهجر وجهك الأبيض الملهم لقلبي العاشق السيء الحظ
يا انسة ..يا صبيتي .. يا وردتي البيضاء ..
.
ارتدي القبعة من فضلك .. وافتحي أحظانك ..فلقد وصل سيدك
___________________ الجزء العاشر ___________
.
وصلت أخيرا مطأطأ الرأس ..طأطأت رأسي و أنا أقترب من ذلك المنعطف الذي على يمينه يوجد بيتك المهترئ الفقير يا انسة ..
.
وضعت يدايا على قلبي و تشجعت لأقف أمام باب منزلك ..مناديا ..ها أنا أوفيت بوعدي ..فاخرجي و أريني شهادة الطب و قبعتي يا انسة .اخرجي
لكن ..._________ يا ربي ما هذا ..
.
لم أجد منزلا مهترئا مثلما تركته قبل ثماني سنوات ..و لم أجد أزقة ضيقة موحشة فقيرة ترهب زائريها ..لم أجد ما كنت أرسمه في مخيلتي ..
.
خفق قلبي بقوة مغشيا عليا من هول ما رأيت ..فقد رأيت قصرا ذهبي اللون شامخا و شامخا و شماخا وسط تلك المنازل الهشة التي لم تتغير بمرور تلك الثماني سنوات ..
.
أغمي عليا ..و بدأت أشعر بالبرد يتسلل الى أعماق قلبي ..شعرت بالخوف
.
غطيت نفسي بمعطفي و نمت بجانب ذلك القصر ..لعله سيأتي من يوقظني من نومي هذا و يخبرني حقيقة ماذا حدث ..و كم أتمنى أن تأتي صبيتي الطبيبة تتحسس قلبي بيديها البيضاء فتعيدني الى الحياة ..
.
نمت واقفا أما باب القصر الذهبي..نمت و البرد العاصف الغاضب سيخرج روحي لا محالة ..بدونك يا صبية ..أستسلم لمظاهر الطبيعة ..
.
نمت ..و قد تذكرت عندما جئت أول مرة الى هاته الأرض التي كانت تحمل منزلا هشا تكاد العاصفة تهدمه و تقتلك يا انسة ..لا يمكن أن أنسى كيف خرجت أنا و قبعتي الايطالية من غرفتي مسرعا اليك لانقاذك من أيادي العاصفة الهائجة .
.
نمت و قد رأيت في منامي صورتك و أنت مستلقية على أرض منزلك ترتعشين من هول العاصفة و ثيابك الرثة الممزقة تكاد لا تستر جسمك الأبيض النحيف ..
.
نمت و قد تذكرت كيف وضعت قبعتي على رأسك فاكتمل جمالك و ابتسمت تلك الابتسامة التي أوقفت العاصفة و أسكتتها لوهلة حتى تنتهين من ابتسامتك ..
.
انني أرى و أنا واقف ..نائم ..أمام هذا القصر الغريب و أنت تبكين و تقبلين رأسي اعترافا بجميلي تجاهك ..انني أرى نحيبك الهادئ الصامت و جثة أخوك الشهيد تخرج من المنزل ..
أنني أتكر كيف عرضت نفسي لقسوة الشتاء مقابل أن أمنحك الدفئ و الحنان ..كما ان صورتك الجميلة بملابس جديدة و أنا حائر كيف أدفع ثمنها ..
.
انني أتذكر اخر مساء جمعنا و أرى في منامي هذا كيف سقطت على ركبتيك تبكين بصوتك البريء عازفة بنواحك نغمة ألم شجية رافقتني و عذبتني طوال سنوات غربتي ..
.
و أنا أمرر الصور الصور تلو الأخرى ..حتى صرخت صبية من ذلك القصر ..خذني يا الهي كما أخذت أمي ..
.
دخلت و كل قواي قد خارت ..فوجدت صبية عمرها 6 سنوات ترتدي قبعتي الايطالية الأنيقة و هي تبكي جالسة بمحاذات المدفأة ..
.
واضعة يديها على خديها ..وما أشبه هاته الصبية بصبيتي الضائعة ..
.
يا صغيرتي ..لست بمجرم أو انسان ..انما أنا فاعل خير ان شاء الله قد سمع نواحك فدخل ليرى ان كان يمكن المساعدة ..و اني أستفسرك عن هاته القبعة الجميلة التي ترتدينها
.
فتكلمت بعد أن ارتمت في أحضاني ..لقد تأخرت يا أبي ..وأنني أتمسك بالحياة فقط لأمنحك قبعتك و رسالة من أمي المدعوة الوردة البيضاء ..
.
خذ الرسالة ..و خذ القبعة ..و دعني أقبل رأسك عوضا عن أمي لأنفذ وصيتها ..فسامحها يا سيدي..أرجوك
.
تناولت الرسالة ..فكانت مكتوبة بالدماء ..
.
______________اني و أنا على شفا الموت أكتب لك بدمي رسالة الوداع يا سيدي ..و أنا أعجز أن أثير استعطافك هاته المرة ..
.
يا سيدي ..لقد زينوا لي حب المال و اللهو و القصور المشيدة فتجردت من وعودي و مشيت في درب الغاوون ..يا سيدي ..لقد تخليت عن دراستي لأعيش في هذا القصر ..
.
تخليت عن كل شيء و حتى شرفي ..لأكون أميرة حمقاء ساذجة ترتدي الذهب و الفضة على مرأى الجميع من أميرات عصرها وزمانها ..
.
يا سيدي ..و ان كنت حقا قد فعلت هذا ..فصدقني أنني لم أنعم أبدا بحياة كتلك الحياة الفقيرة الجميلة الرائعة التي كانت بجانبك ..
.
يا سيدي ..تشجع أمام الله و تعال خذ بحقك مني ..فانني عاهرة لم تحسن أن تكون عند حسن ظن رجل نبيل مثلا كاد يهبني عيناه لأبكي بهما عندما جفت دموعي ..يا سيدي ..لقد أغواني رجل كان يدعي أنه نصفك الاخر ..قال لي سأعوضك صديقي حتى يعود من الغربة ..
.
فصدقته و ارتميت في أحضانه متخيلة أنني بين أحضانك ..انه صديق لك منحك ذات يوم تلك السيارة و اشترى لك ملابس في ذات ليلة
.
قدم نفسه بالمال فإواني و نال من شرفي ..فتزوجته مرغمة ..و راغبة في ثرائه الفاحش ..و ماهي الا سنة حتى أفلس هذا الخبيث السفاح ..فلجأ لبيع كل حليي و ذهبي و فضتي الى أن انتهى به المطاف لأن يريد بيع بعض أعضاء جسمي..انه متوحش ..
.
أفلس السفاح ..فلم يرحمني ..فقتلني بطعنة خنجر أمام مرأى ابنتي البريئة ..و قتل نفسه ..فمات مجنونا مهولا من فضاعة ما حدث
.
و بقيت ابنتي ..كنت سأقتلها لأجنبها العار ..لكنني تركتها لتنتظرك و تسلمك قبعتك ..فانني أريدك أن تكون أنيقا بالقبعة الايطالية لتسعد مع أنيقة أخرى سعيدة الحظ ..
.
يا سيدي ..لك الحق في أن تفعل بابنتي ما تشاء ..لكن قبلها بحنان أرجوك ..فهي كانت تحب أبا خياليا كانت تهذي و تقول أنه في الغربة سيعود ..وصفوها الأطباء بالجنون ..و لا أحد عرف ماكانت تنتظره الا أنا ..ابنتي تعتبرك أبيها
.
قبلها و دعني أذهب الى الجحيم ..و أنني أستحي من أن أقول لك أحبك ..والله أستحي ..وداعا سيدي ..قبعتك لا تليق بي..
.
يا سيدي..لقد غيرني الزمان ..و لم أعد تلك البيضاء صاحبة القبعة التي تهز كيانك ..لم أعد كذلك يا سيدي..غيابك المني فأصبحت ضعيفة ..فأغوتني الحياة المريرة ..
..
__________انتهت الرسالة ..
.
سقطت الرسالة من يدي ..ومعها سقط كل شيء ..و ضاع كل شيء ..
.
يا صغيرة لا تبكي .أنا هنا سأحميك ...ما اسمك ..و هي تبكي قالت لي .لقد أسمتني أمي باسم لينا ..أسمي لينا يا سيدي العظيم ..لينا ..تعالي و قبلي أبيك ..قبليه و احتضنيه يا لينا ..احتظينيني و أرسلي أنفاسك في وجهي لعلها تكون مثل أنفاس أمك ..
.
لينا ..هل تعرفين أن لك جدة ..
.
فابتسمت لينا ..ان أمي كانت تريد أن تكون طبيبة لتداوي جدتي ..لقد أخبرتني ..لكن للأسف ..و بكت لينا بعد أن تذكرت أمسها القاسي..
.
فحملتها الى أمي ..و أرسلتها و في يدها ورقة مكتوب فيها ..يا أمي ..لينا هي صبيتي ..اعتني بها ..و احرصي أن تكون طبيبة ..وداعا أمي ..البحر ينتظرني..
.
و عدت الى البحر أشتكي له ماساتي ..فلما راني غضب و قال لي..ألم أحذرك أنني سأقتلك اذا رأيتك من جديد تمشي على رمالي ..
.
لماذا أتيت ..هل تتحداني و تتحدى جبروتي ..فأرسل البحر أمواجه منفذا وعده ..فمات سيدك يا انسة ..مات بشرف ..مات و ترك لينا بأيدي أمينة ..
.فالقبعة تليق بك أنت فقط يا لينا ..القبعة تليق بالبراءة ..القبعة تليق بك
.
.
______________________ النهاية ______
.
.
لا تنسى أن تقدم شكرا فضلا و ليس أمرا لكاتب القصة
حقااا القصة رائعة يا أخي الكريم و بينما أنا أقرأ انهمرت الدموع دون أن أشعر بذلك
لقد اثرت في القصة ولكن كنت أنتظر نهاية سعيدة حتى تفاجئة بهذه النهاية
أشكرك كثييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير لك و على مجهودك حفظك الله