بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الواحد القهَّار، العزيز الغفَّار، الذي وفَّق من اجتباه من عبيده فجعلَه من المقرَّبين الأبرار، الذين أخذوا أنفسهم بالجدِّ في طاعته وملازمة ذكره بالعشي والإبكار، وعند تغاير الأحوال وجميع آناء الليل والنهار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
وبعد:
فإن ذكر الله - عز وجل - من أعظم الطاعات، وأفضل القربات، وقد جاء فضله في الكتاب والسنة.
قال الله - تعالى -: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وقال - سبحانه -: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
قال قتادة - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: "لا شيء أكبر من ذكر الله، قال: أكبر الأشياء كلها"[1].
وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41، 42].
أما من السنة: فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمر على جبل يُقال له: جمدان، فقال: ((سِيروا، هذا جُمْدان، سَبَق المفرِّدون))، قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات))[2].
فقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن أهل الذِّكر هم السابقون يوم القيامة.
ومنه أيضًا ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه، مَثَل الحي والميت))[3]، وهذا تصوير بديع يبيِّن فضل ذكر الله.
وكذلك ما رُوِي من حديث عبدالله بن بسر أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن شرائعَ الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبثُ به، قال: ((لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله))[4].
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمس))[5].
وجاء عند الترمذي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُنبئكم بخيرِ أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيكِكم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذَّهب والوَرِق، وخير لكم مِن أن تلقَوْا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟))، قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله))[6].
وقد جاء الحث على الإكثار من بعض العبادات، ومنها الذِّكر؛ فقال - تعالى -: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].
ووصف اللهُ المتفكرين في خلقه وآياته، والمكثرين من ذكره - سبحانه - بأنهم أهلُ العقول السليمة البصيرة؛ حيث قال - سبحانه -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190، 191].
والله لم يجعل للذِّكر حدًّا محدودًا؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، وملازمة الذكر أمرٌ عظيم، لا يفعله إلا مَن وفَّقه الله لذلك، ومن أفضلِ أوقات النهار للذكر طرفا النهار؛ ولهذا أمر الله - تعالى - بذِكْره فيهما في مواضعَ من القرآن؛ كقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25].
وقوله: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
وقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130].
إلى غير ذلك من الآيات.
والذِّكر يفتح على القلب أنواعًا من الطاعات، كما أن دوامَ ذِكر الله - تعالى - يوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سببُ شقاء العبد في معاشه ومعاده؛ قال - تعالى -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، وإذا نسِي العبدُ نفسه، أعرض عمَّا ينفعُها، واشتغل بما يهلِكها؛ فهلكت وأهلكت.
[FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]تفسير ابن جرير (20/ 183).[/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][FONT="][2][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]مسلم (2676)، وابن حبان في صحيحه (858)، والطبراني في الأوسط، وغيرهم، من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.[/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][FONT="][3][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]البخاري (6407)، والبغوي في شرح السنة (1243) وغيرهما، من [/FONT][FONT="]طريق بريد بن عبدالله، عن أبي بردة، عن أبيه[/FONT][FONT="] مرفوعًا.[/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][FONT="][4][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، والبيهقي في الكبرى (6027) وغيرهم، من طريق معاويةَ بن صالح، عن عمرو بن قيس، عن عبدالله بن بسر.[/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][FONT="][5][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]مسلم (2695)، والترمذي (3597)، وابن حبان في صحيحه (834) وغيرهم، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا.[/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][FONT="][6][/FONT][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]أخرجه أحمد (21702)، والترمذي (3377)، وابن ماجه (3790) وغيرهم، من طُرق عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي بحرية، عن أبي الدرداء، واختلف فيه على زياد، وهذا الخبر ثابتٌ عن أبي الدرداء بمجموع طرقه، والله أعلم. [/FONT]
[FONT="]قال ابن عبدالبر في التمهيد (6/ 57): وهذا يُروى مُسندًا من طريق جيد عن أبي الدرداء عن النبيِّ.[/FONT]