شعرتُ أنّها لا تناسب قسم المحاولات القصصية وربما تميل للبوح بشكل أكبر
فقررت وضعها هنا ^^
ما رأيُكم !
يقول أحدهم كبرتُ ولم يُعانقنِي أبي،
نعم أنَا الذي كبرتُ وأصبحتُ رجلًا بالغا قويّ المبادئ يترفّع عن تفاهات هذا العالم وعن كل تلك المشاعر البائسة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، أنا الذي تفوّقت في مجال عملي وحقّقت جملة من الألقاب الملفتة في عالم الأعمال والتجارة وأنا الذي تزوّجتُ وأنجبتُ أبناءً وبنات وخلّفت الأحفاد والحفيدات فكنتُ وسأبقى السلطة العليا داخل بيتي، أنا الذي وضعتُ خطوة واسعةً نحو المستقبل وطويتُ الكثير من الذكريات خلفي ودهستُ المؤلم منها بطرفِ حذائي فأسير كالملك بين الناس حيث يشار إليّ بأصابع الإعجاب، أنا الذي حقّقت ووصلت ونجحت ولكن رغم ذلك وإلى الآن ما زلت أقولها وحروفها تلتهب كالجمر داخل حلقي؛ كبرتُ ولم يعانقنِي أبِي.
أردتُ أن أكون أبًا ناجحا يسقي طموحات أطفاله لتزهر فوفّرت لهم كلّ ما تشتهيه أنفسهم؛ سيارات ومنازل فاخرة ودعم ماديّ لمشاريعهم الكبيرة فقط لأراهم يحلّقون في سماء النّجاح، ولكنّني فشلتُ في أمرٍ واحد فقط وهو أنّني لم أعانق أحدًا منهم ولو لمرّة واحدة تماما كما لم يفعل أبي معي من قبل، كنت أتمنى ضمّهم إلى صدري ولو لثانية واحدة وتقبيل جباههم الصغيرة وملاعبتهم وحملهم فوق كتفيّ لنتشارك لعبة الحصان فأقفز بهم هنا وهناك وتتعالى ضحكاتهم؛ ولا أدري أهذا لحبّي الشديد لهم أم لإشباع رغبة الطفل الصغير بداخلي وتحقيق عما عجز الزمن عن تحقيقه له، ولكنّ الخط الأحمر الذي وضعه والدي بيني وبينه ليفصل بين مشاعرنا وتواصل أرواحنا ما زلت محتفظا به إلى الآن أتوارثه عنه وأطبقه مع أبنائي.
فما زلتُ أتذكّر ذلك اليوم الذي رأيتُ فيه صديقي ينتظر والده عند باب البيت فقط ليظفر منه بعناقٍ حنون فور عودته من العمل، أردتُ تجريب هذا السيناريو المغري فأقف كذلك عند الباب متحمّلا برد الشتاء القارص منتظرًا دفء ذراعيه وهما تطوّقانني عند عودته ولكنّني كوفئت بدل ذلك بصفعة حارّةٍ جعلت من بصمات والدي كالوسام المخلّد على وجهي وعلى روحي إلى الأبد، يبدو أنه من العيب التسكع خارجا في ذلك البرد على قوله ولكن الأكثر عيبا هو أن تقتل براءة طفل وتكفّن قلبه وترميه في قبر التشوّه مدى الحياة.
واليوم وأنا واقف على السجّادة أؤدي فريضة الصّلاة، جلستُ أخيرا للتشهد ثم سلّمت يمينا وشمالا ورفعت يديّ عاليا للدعاء لأتفاجأ بأصغر أحفادي ابنة ابنتي ذات الثلاث سنوات تقفز نحو عنقي -بما أنني بجلوسي أكون بنفس طولها تقريبا- وتحتضنني بكل ما أوتيت من قوّة، يبدو أنها اعتادت على فعل ذلك مع والدها ولكن هل سينفع هذا مع جدّها؟ كانت والدتها خلف الباب تراقب الموقف مصدومة وترتجف خوفا من فعلة ابنتها فهي تعلم أنّ الاقتراب منّي خطير كمن يلامس شرارة كهربائية أو كمن يلاعب النار وفي يده البنزين، لم أدرك ما حدث حقًّا تجمّدت الدّماء في عروقي للحظات وتسارعت دقّاتُ قلبي كأنّها تفكّر في التوقّف عن العمل، ولم أنتبه لنفسي حتى شعرتُ بالدّموع تتساقط على وجنتيّ كحبّاتِ مطرٍ بعد موسم جفاف فأغرقت وجهي وتبلّلت لحيتي البيضاء، أنا الرجل القويّ الشامخ أبكي؟ لا بل كنتُ أشهق وأبكي والدي الذي تركَ ندبة عميقة مستعصية الشّفاء على قلبي، أبكي نفسي التي لم تُسقى حبّا يوما فتحوّلت لأرض جرداء تقتل كلّ نبتة حبّ تزهر فوقها، أبكي طفولتي التي أضحت رمادا تذروه رياح الذكريات البائسة، لم أدري ما عليّ فعله حينها فلم يعلمّني أحد كيف أعانق الآخرين ولكنّ هذه الصغيرة علمّتني وكسرت كلّ الحواجز ومحت كلّ الخطوط الحمراء بني وبينها وعالجت تشوّها قديما بداخلي، لأجدني مستسلما أضمّها إليّ وأعانقها لأنّني كبرتُ وفعلتُ ما لم يفعلهُ أبي.
بقلمي~لؤلؤة قسنطينة~