- إنضم
- 23 أكتوبر 2016
- المشاركات
- 1,505
- نقاط التفاعل
- 1,028
- النقاط
- 71
- محل الإقامة
- الجزائر العاصمة
- الجنس
- أنثى
رد: مقالات تاريخية-متجدد
السلام عليكم
الحملة الصليبية السادسة
مقدمات الحملة الصليبية السادسة
كانت الحملة الصليبية الخامسة ضد دمياط آخر محاولات البابوية لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط ولحسابها منفردة. ومن ناحية أخرى فإن الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي اتخذت طابعا مخالفا لحملات القرن الثاني عشر الميلادي. فالحملة الصليبية الثانية جاءت رد فعل على سقوط الرها سنة 539هـ / ١١٤٤م في يد عماد الدين زنكي، كما أن الحملة الصليبية الثالثة كانت استجابة للكارثة التي حاقت بالصليبيين في فلسطين بعد معركة حطين وسقوط بيت المقدس سنة 583هـ / ١١٨٧م.
أما حملات القرن الثالث عشر الميلادي فكانت نتيجة الضعف الدائم الذي ألم بالمستوطنات الصليبية، ولم تبرأ منه منذ عمليات صلاح الدين الأيوبي على الرغم من أن فرنج الشرق لم يواجهوا أي خطر حقيقي طوال فترة الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين. وعلى الرغم من أن شواطئ فلسطين شهدت في هذا القرن موجات متصلة من الفرسان والمغامرين وشذاذ الآفاق والباحثين عن الفرص تحت راية الصليب، وعلى الرغم من أن بعض هذه الموجات كانت عاتية تضم فيالق من الفرسان والمحاربين وبعضها كان أقرب إلى الرذاذ الخفيف إلا أن هذا المدد المتواصل لم يستطع أن يقدم شيئا للكيان الصليبي الذي كان يمضي إلى نهايته المحتومة.
ولأن فشل حملة دمياط كان ضربة موجعة لهيبة البابوية، فقد أخذ البلاط البابوي يضغط بشدة من أجل شن حملة صليبية جديدة. ولن ندخل في تفاصيل التقلبات السياسية في أوروبا آنذاك. ولكن ما يهمنا أن الصليبيين في فلسطين لم يحاولوا الإفادة من سياسة المهادنة التي اتبعها السلطان الكامل الأيوبي أو أن يستجيبوا لها، وكذلك كان حال البابوية.
الإمبراطور الألماني فردريك الثاني II Frederick
كان موقف الإمبراطور الألماني فردريك II Frederick (١٢١٥م - ١٢٥٠م) مختلفا; فقد أبدى استعدادا واضحا للإفادة من هذه الروح السلمية البادية في موقف السلطان الكامل الأيوبي. ويرجع السبب في ذلك إلى فردريك الثاني نفسه إذ لم يكن صليبيا مثل غيره من ملوك أوروبا اللذين قادوا الحملات الصليبية. لقد كان هذا الإمبراطور الذي عرف باسم أعجوبة الدنيا صقليا تربى في ظل مظاهر الحضارة العربية التي فرضت نفسها في كل مكان من جزيرة صقلية التي نشأ في أحضانها.
ولم يكن الإسلام بالنسبة له مجرد كتاب مغلق كما أن المسلمين لم يكونوا مجرد قوم من الكفار يستحقون الموت. فقد كان ذلك الإمبراطور يكن للمسلمين ودينهم وحضارتهم تقديرا كبيرا. وكان واسع العلم غزير المعرفة يجيد من لغات الدنيا آنذاك ست لغات هي العربية واليونانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية.
وكان فردريك الثاني قد تولى عرش الإمبراطورية الرومانية سنة 612هـ/ ١٢١٥م، وأخذ شارة الصليب في تلك السنة لكي يضمن تأييد البابا إنوسنت الثالث له في عرش الإمبراطورية، بيد أنه كان عازفًا عن القيام بحملة صليبية؛ لأنه كان يطمح إلى بسط نفوذه على كل إيطاليا بما فيها أملاك البابوية ومدن الشمال التجارية الغنية؛ ولذلك أخذ يماطل في الوفاء بنذره الصليبي بأن يقود حملةً كبيرةً إلى الأراضي المقدسة، ولكن زواجه من يولاندا ابنة الملك الصليبي الراحل يوحنا بريين ملك عكا، جعل منه ملكًا على بيت المقدس ومسئولاً عن الصليبيين في الشرق.
وفي عام 624هـ / 1227م أراد فريدرك أن يلبي رغبة البابا، فأبحر من ميناء برنديزي (جنوب إيطاليا) على رأس حملة ضخمة ولكن الحمى أصابته، كذلك انتابت صفوف الجيش نوبة مرض مدة قصيرة من الزمن أثناء انتظارهم لعبور البحر، فعاد فردريك لكي يسترد صحته، وأثناء ذلك مات هو نوريوس الثالث، وتولى جريجوري التاسع، فاعتقد أن فرديك يتمارض ويتعمد المراوغة فأصدر قرار حرمان من الكنيسة ضده. لقد فتح قرار الحرمان باب النزاع بين الطرفين الإمبراطور والبابا ولكن الإمبراطور أدرك أن مصلحته تقتضي القيام بحملة على بلاد الشام حتى يفوت على البابا إظهاره في صورة مسيحي عاق.
ويبدو أن ظروف الشرق هيأت الجو للإمبراطور للقيام بحملته، كذلك، فإن شخصية الإمبراطور وافقت عقلية الملك الكامل وشخصيته، إذ توثقت العلاقات بينهما في عصر اشتد فيه العداء بين ملوك الصليبيين والمسلمين، وازدادت الحركة الصليبية عنفاً، إلا أن شخصية الملكين وما كان يحيط بهما من ظروف كان لها أثر كبير في توثيق هذه العلاقة الودية.
قدوم الحملة الصليبية السادسة
أقلع الإمبراطور بحملته الصليبية في صيف 625هـ /1228م على رأس جيش صليبي صغير قوامه ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، استجابة للدعوة التي تلقاها من الملك الكامل بمنحه القدس، ولم ينس أنه خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، وأنه اعتمد وعود الكامل له بإعطاء بيت المقدس لذلك لم يحضر جيشاً قويا.
عرج فردريك الثاني على قبرص في طريقه إلى الشام، واستقبل استقبالاً طيباً، وأصبحت الجزيرة تابعة له وفقاً لقانون الإقطاع الحرماني، ثم أبحر في قبرص قاصداً عكا، فوصلها بعد أربعة أيام، ولعله من الغريب أن البابا أخذ يعمل على ألا ينجح الإمبراطور فردريك الثاني في احتلال بيت المقدس، حتى لا يكسبه ذلك شرفاً ونصراً بعد ما حرم، بل أن البابا حرض الملك الكامل على عدم تسليم المدينة المقدسة للإمبراطور. كما استغل الإمبراطور وفاة الملك المعظم سنة 624هـ / 1226م فقام سنة 625هـ / 1227م بالاستيلاء على صيدا التي كانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج.
المفاوضات بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك: كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء .. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي -في زمن حصار دمياط- الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له".
وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة في المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول: "تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق". ومن هنا أراد الكامل أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك.
وأدرك الإمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر، ولم يبق للإمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، غير أن السلطان الكامل بادله بالرفض.
وإزاء تنكر الكامل لوعوده، ساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: "أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء". واستمر الإمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطافات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير في الكامل.
وأثناء ذلك شرع فردريك الثاني في عمارة صيدا وقام بتحصين يافا، وكان ذلك بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: "إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته". وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم: (الصليبيين، وابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية). وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس.
صلح يافا .. هدنة العشر سنوات
أخيراً عقد الملك الكامل في ربيع الأول 626هـ/ فبراير 1229م اتفاقية مع الإمبراطور فردريك الثاني، عرفت بصلح يافا، وكتبت صيغة الاتفاقية باللغتين العربية والفرنسية، ووقع عليها الطرفان وحلفا على التزامها ووقع الإمبراطور عليها بعد أسبوع، فيما وقع على بنودها الملك الكامل في الوقت نفسه، على أساس أن يتسلم الإمبراطور مدينة القدس، وبيت لحم، وشريطًا من الأرض يصل بين عكا والقدس، ويبقى في حوزة المسلمين المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفي المقابل يتعهد فردريك بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوربا.
وسرعان ما وضعت هذه الاتفاقية موضع التنفيذ، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، وأعلن فردريك الثاني في جنوده: "أشكروا الله واحمدوه، إذ أتم عليكم نعمته، وإن إتمامها كان معجزة من الله وليس نتيجة الشجاعة أو الحروب، وما أتمه الله لم تستطع قوة من البشر على الأرض إتمامه لا بكثرة العدد، ولا بالقوة ولا بأية وسيلة أخرى".
وبعد أن تُوِّج فردريك الثاني ملكًا على مملكة بيت المقدس الصليبية عاد في رجب 626هـ/ يونيو ١٢٢٩م إلى أوربا بمكاسب لم تستطع أية حملة أخرى قبله أن تحققها منذ الحملة الأولى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، مع أنه كان يقود أضعف الحملات.
ويبدو جليًّا لنا أن هذه النتائج لم يكن لها أن تتحقق لولا تنازل الملك الكامل الذي فرَّط في أراضي المسلمين لصديقه الملك الصليبي بدون مقابل؛ وذلك حتى يُحسِّن فردريك وضعه في أوربا. ولا شك أن هذه الأحداث تعكس طبيعة متهاونة للملك الكامل في حقوق المسلمين، تُكرِّس الصورة التي ظهرت خلال الحملة الخامسة عندما انسحب تاركًا العادلية ودمياط للصليبيين.
موقف العالم الإسلامي من تفريط الكامل
أما العالم العربي الإسلامي فقد رأى -بحق- أن الهدنة التي عقدها الكامل الأيوبي كارثة حقيقية. وكان رد الفعل الشعبي عنيفا ضد السلطان الذي بعث سفراءه إلى كل مكان لتبرير فعلته. وقد علق ابن الأثير على ذلك بقوله: "واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين".
وقال ابن الأهدل: "وللكامل هفوة جرت منه -عفا الله عنه- وذلك أنه سلمَّ مرة بيت المقدس إلى الفرنج اختياراً نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله".
السلطان الصالح نجم الدين أيوب
وفي سنة ٦٣٥ ه/ ١٢٣٩م مات السلطان الكامل، وبعد عدة تقلبات في الأحوال اعتلى عرش السلطنة في القاهرة ابنه السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنة ٦٣٨ه/ ١٢٤٠م. وفي غمرة الحرب الأهلية والمنازعات التي اندلعت بين الأيوبيين في بلاد الشام ومصر والجزيرة، والتي انتهت باعتلاء الصالح أيوب عرش مصر، انتهت الهدنة ذات السنوات العشر.
معركة غزة
وكان البابا جريجوري التاسع Gregory IX يستعد لهذا الموقف منذ صيف سنة 637هـ / 1239م، ولم تلق جهوده استجابة كبيرة سوى في فرنسا حيث تجمع عدد من نبلائها تحت زعامة تيبالد الشامباني ملك نافار Theobald de Champagne، وبعد رحلة عاصفة في الموسط وصلت هذه الحملة إلى عكا في أول سبتمبر. وفي غضون أسابيع قليلة تجمع جيش قوامه حوالي ألف من الفرسان. وفي نوفمبر من السنة نفسها (637هـ / 1239م) التقى هذا الجيش مع الجيش المصري قرب مدينة غزة في معركة قاسية كانت الهزيمة فيها من نصيب الصليبيين الذين تفرقوا بين أسير وقتيل.
استعادة الصالح أيوب بيت المقدس
كان التنازل عن بيت المقدس صدمة مزلزلة للمسلمين، الذين ترحَّموا على صلاح الدين وجنوده المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم من أجل تحريره؛ ليأتي ذلك الملك الخانع الكامل الأيوبي ليتنازل عنه لشرذمة من الصليبيين دون أي مقاومة. ومن ثَمَّ كان من أهم آمال المسلمين إعادة تحرير الأقصى.
وقد قيَّض الله للأمة السلطان المجاهد نجم الدين أيوب، الذي عمل على تحرير المقدسات؛ واستطاع بفضل الله أن يحرِّر المسجد الأقصى بمعاونة جنوده الخوارزميين في 3 من صفر 642هـ / 11 من يوليو 1244م؛ ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وقبل أن يحتلها الصهاينة عام 1948م.
وقد كان الملك الصالح نجم الدين حاكمًا صالحًا، ومجاهدًا في سبيل الله، يحب العلم، ويقدّر العلماء، وهو مَن استضاف سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله بعد أن ضيَّق عليه الخائن الصالح إسماعيل سلطان دمشق، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز، ولا يخالفه؛ لذا لمَّا أعلمه بوجود حانات للخمور أسرع بإغلاقها. وبالجملة كان نجم الدين أيوب أفضل حاكم أيوبي بعد صلاح الدين.
وفي سنة ٦٤٧هـ / ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم حملة جديدة تحت راية الصليب ضد مصر بقيادة لويس التاسع Louis IX ملك فرنسا بهدف احتلال مصر، وتلك كانت الحملة الصليبية السابعة.
المراجع:
- قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة (149)، مايو 1990م.
- علي الصلابي: الأيوبيون بعد صلاح الدين، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى.
السلام عليكم
الحملة الصليبية السادسة
مقدمات الحملة الصليبية السادسة
كانت الحملة الصليبية الخامسة ضد دمياط آخر محاولات البابوية لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط ولحسابها منفردة. ومن ناحية أخرى فإن الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي اتخذت طابعا مخالفا لحملات القرن الثاني عشر الميلادي. فالحملة الصليبية الثانية جاءت رد فعل على سقوط الرها سنة 539هـ / ١١٤٤م في يد عماد الدين زنكي، كما أن الحملة الصليبية الثالثة كانت استجابة للكارثة التي حاقت بالصليبيين في فلسطين بعد معركة حطين وسقوط بيت المقدس سنة 583هـ / ١١٨٧م.
أما حملات القرن الثالث عشر الميلادي فكانت نتيجة الضعف الدائم الذي ألم بالمستوطنات الصليبية، ولم تبرأ منه منذ عمليات صلاح الدين الأيوبي على الرغم من أن فرنج الشرق لم يواجهوا أي خطر حقيقي طوال فترة الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين. وعلى الرغم من أن شواطئ فلسطين شهدت في هذا القرن موجات متصلة من الفرسان والمغامرين وشذاذ الآفاق والباحثين عن الفرص تحت راية الصليب، وعلى الرغم من أن بعض هذه الموجات كانت عاتية تضم فيالق من الفرسان والمحاربين وبعضها كان أقرب إلى الرذاذ الخفيف إلا أن هذا المدد المتواصل لم يستطع أن يقدم شيئا للكيان الصليبي الذي كان يمضي إلى نهايته المحتومة.
ولأن فشل حملة دمياط كان ضربة موجعة لهيبة البابوية، فقد أخذ البلاط البابوي يضغط بشدة من أجل شن حملة صليبية جديدة. ولن ندخل في تفاصيل التقلبات السياسية في أوروبا آنذاك. ولكن ما يهمنا أن الصليبيين في فلسطين لم يحاولوا الإفادة من سياسة المهادنة التي اتبعها السلطان الكامل الأيوبي أو أن يستجيبوا لها، وكذلك كان حال البابوية.
الإمبراطور الألماني فردريك الثاني II Frederick
كان موقف الإمبراطور الألماني فردريك II Frederick (١٢١٥م - ١٢٥٠م) مختلفا; فقد أبدى استعدادا واضحا للإفادة من هذه الروح السلمية البادية في موقف السلطان الكامل الأيوبي. ويرجع السبب في ذلك إلى فردريك الثاني نفسه إذ لم يكن صليبيا مثل غيره من ملوك أوروبا اللذين قادوا الحملات الصليبية. لقد كان هذا الإمبراطور الذي عرف باسم أعجوبة الدنيا صقليا تربى في ظل مظاهر الحضارة العربية التي فرضت نفسها في كل مكان من جزيرة صقلية التي نشأ في أحضانها.
ولم يكن الإسلام بالنسبة له مجرد كتاب مغلق كما أن المسلمين لم يكونوا مجرد قوم من الكفار يستحقون الموت. فقد كان ذلك الإمبراطور يكن للمسلمين ودينهم وحضارتهم تقديرا كبيرا. وكان واسع العلم غزير المعرفة يجيد من لغات الدنيا آنذاك ست لغات هي العربية واليونانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية.
وكان فردريك الثاني قد تولى عرش الإمبراطورية الرومانية سنة 612هـ/ ١٢١٥م، وأخذ شارة الصليب في تلك السنة لكي يضمن تأييد البابا إنوسنت الثالث له في عرش الإمبراطورية، بيد أنه كان عازفًا عن القيام بحملة صليبية؛ لأنه كان يطمح إلى بسط نفوذه على كل إيطاليا بما فيها أملاك البابوية ومدن الشمال التجارية الغنية؛ ولذلك أخذ يماطل في الوفاء بنذره الصليبي بأن يقود حملةً كبيرةً إلى الأراضي المقدسة، ولكن زواجه من يولاندا ابنة الملك الصليبي الراحل يوحنا بريين ملك عكا، جعل منه ملكًا على بيت المقدس ومسئولاً عن الصليبيين في الشرق.
وفي عام 624هـ / 1227م أراد فريدرك أن يلبي رغبة البابا، فأبحر من ميناء برنديزي (جنوب إيطاليا) على رأس حملة ضخمة ولكن الحمى أصابته، كذلك انتابت صفوف الجيش نوبة مرض مدة قصيرة من الزمن أثناء انتظارهم لعبور البحر، فعاد فردريك لكي يسترد صحته، وأثناء ذلك مات هو نوريوس الثالث، وتولى جريجوري التاسع، فاعتقد أن فرديك يتمارض ويتعمد المراوغة فأصدر قرار حرمان من الكنيسة ضده. لقد فتح قرار الحرمان باب النزاع بين الطرفين الإمبراطور والبابا ولكن الإمبراطور أدرك أن مصلحته تقتضي القيام بحملة على بلاد الشام حتى يفوت على البابا إظهاره في صورة مسيحي عاق.
ويبدو أن ظروف الشرق هيأت الجو للإمبراطور للقيام بحملته، كذلك، فإن شخصية الإمبراطور وافقت عقلية الملك الكامل وشخصيته، إذ توثقت العلاقات بينهما في عصر اشتد فيه العداء بين ملوك الصليبيين والمسلمين، وازدادت الحركة الصليبية عنفاً، إلا أن شخصية الملكين وما كان يحيط بهما من ظروف كان لها أثر كبير في توثيق هذه العلاقة الودية.
قدوم الحملة الصليبية السادسة
أقلع الإمبراطور بحملته الصليبية في صيف 625هـ /1228م على رأس جيش صليبي صغير قوامه ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، استجابة للدعوة التي تلقاها من الملك الكامل بمنحه القدس، ولم ينس أنه خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، وأنه اعتمد وعود الكامل له بإعطاء بيت المقدس لذلك لم يحضر جيشاً قويا.
عرج فردريك الثاني على قبرص في طريقه إلى الشام، واستقبل استقبالاً طيباً، وأصبحت الجزيرة تابعة له وفقاً لقانون الإقطاع الحرماني، ثم أبحر في قبرص قاصداً عكا، فوصلها بعد أربعة أيام، ولعله من الغريب أن البابا أخذ يعمل على ألا ينجح الإمبراطور فردريك الثاني في احتلال بيت المقدس، حتى لا يكسبه ذلك شرفاً ونصراً بعد ما حرم، بل أن البابا حرض الملك الكامل على عدم تسليم المدينة المقدسة للإمبراطور. كما استغل الإمبراطور وفاة الملك المعظم سنة 624هـ / 1226م فقام سنة 625هـ / 1227م بالاستيلاء على صيدا التي كانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج.
المفاوضات بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك: كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء .. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي -في زمن حصار دمياط- الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له".
وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة في المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول: "تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق". ومن هنا أراد الكامل أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك.
وأدرك الإمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر، ولم يبق للإمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، غير أن السلطان الكامل بادله بالرفض.
وإزاء تنكر الكامل لوعوده، ساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: "أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء". واستمر الإمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطافات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير في الكامل.
وأثناء ذلك شرع فردريك الثاني في عمارة صيدا وقام بتحصين يافا، وكان ذلك بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: "إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته". وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم: (الصليبيين، وابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية). وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس.
صلح يافا .. هدنة العشر سنوات
أخيراً عقد الملك الكامل في ربيع الأول 626هـ/ فبراير 1229م اتفاقية مع الإمبراطور فردريك الثاني، عرفت بصلح يافا، وكتبت صيغة الاتفاقية باللغتين العربية والفرنسية، ووقع عليها الطرفان وحلفا على التزامها ووقع الإمبراطور عليها بعد أسبوع، فيما وقع على بنودها الملك الكامل في الوقت نفسه، على أساس أن يتسلم الإمبراطور مدينة القدس، وبيت لحم، وشريطًا من الأرض يصل بين عكا والقدس، ويبقى في حوزة المسلمين المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفي المقابل يتعهد فردريك بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوربا.
وسرعان ما وضعت هذه الاتفاقية موضع التنفيذ، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، وأعلن فردريك الثاني في جنوده: "أشكروا الله واحمدوه، إذ أتم عليكم نعمته، وإن إتمامها كان معجزة من الله وليس نتيجة الشجاعة أو الحروب، وما أتمه الله لم تستطع قوة من البشر على الأرض إتمامه لا بكثرة العدد، ولا بالقوة ولا بأية وسيلة أخرى".
وبعد أن تُوِّج فردريك الثاني ملكًا على مملكة بيت المقدس الصليبية عاد في رجب 626هـ/ يونيو ١٢٢٩م إلى أوربا بمكاسب لم تستطع أية حملة أخرى قبله أن تحققها منذ الحملة الأولى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، مع أنه كان يقود أضعف الحملات.
ويبدو جليًّا لنا أن هذه النتائج لم يكن لها أن تتحقق لولا تنازل الملك الكامل الذي فرَّط في أراضي المسلمين لصديقه الملك الصليبي بدون مقابل؛ وذلك حتى يُحسِّن فردريك وضعه في أوربا. ولا شك أن هذه الأحداث تعكس طبيعة متهاونة للملك الكامل في حقوق المسلمين، تُكرِّس الصورة التي ظهرت خلال الحملة الخامسة عندما انسحب تاركًا العادلية ودمياط للصليبيين.
موقف العالم الإسلامي من تفريط الكامل
أما العالم العربي الإسلامي فقد رأى -بحق- أن الهدنة التي عقدها الكامل الأيوبي كارثة حقيقية. وكان رد الفعل الشعبي عنيفا ضد السلطان الذي بعث سفراءه إلى كل مكان لتبرير فعلته. وقد علق ابن الأثير على ذلك بقوله: "واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين".
وقال ابن الأهدل: "وللكامل هفوة جرت منه -عفا الله عنه- وذلك أنه سلمَّ مرة بيت المقدس إلى الفرنج اختياراً نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله".
السلطان الصالح نجم الدين أيوب
وفي سنة ٦٣٥ ه/ ١٢٣٩م مات السلطان الكامل، وبعد عدة تقلبات في الأحوال اعتلى عرش السلطنة في القاهرة ابنه السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنة ٦٣٨ه/ ١٢٤٠م. وفي غمرة الحرب الأهلية والمنازعات التي اندلعت بين الأيوبيين في بلاد الشام ومصر والجزيرة، والتي انتهت باعتلاء الصالح أيوب عرش مصر، انتهت الهدنة ذات السنوات العشر.
معركة غزة
وكان البابا جريجوري التاسع Gregory IX يستعد لهذا الموقف منذ صيف سنة 637هـ / 1239م، ولم تلق جهوده استجابة كبيرة سوى في فرنسا حيث تجمع عدد من نبلائها تحت زعامة تيبالد الشامباني ملك نافار Theobald de Champagne، وبعد رحلة عاصفة في الموسط وصلت هذه الحملة إلى عكا في أول سبتمبر. وفي غضون أسابيع قليلة تجمع جيش قوامه حوالي ألف من الفرسان. وفي نوفمبر من السنة نفسها (637هـ / 1239م) التقى هذا الجيش مع الجيش المصري قرب مدينة غزة في معركة قاسية كانت الهزيمة فيها من نصيب الصليبيين الذين تفرقوا بين أسير وقتيل.
استعادة الصالح أيوب بيت المقدس
كان التنازل عن بيت المقدس صدمة مزلزلة للمسلمين، الذين ترحَّموا على صلاح الدين وجنوده المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم من أجل تحريره؛ ليأتي ذلك الملك الخانع الكامل الأيوبي ليتنازل عنه لشرذمة من الصليبيين دون أي مقاومة. ومن ثَمَّ كان من أهم آمال المسلمين إعادة تحرير الأقصى.
وقد قيَّض الله للأمة السلطان المجاهد نجم الدين أيوب، الذي عمل على تحرير المقدسات؛ واستطاع بفضل الله أن يحرِّر المسجد الأقصى بمعاونة جنوده الخوارزميين في 3 من صفر 642هـ / 11 من يوليو 1244م؛ ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وقبل أن يحتلها الصهاينة عام 1948م.
وقد كان الملك الصالح نجم الدين حاكمًا صالحًا، ومجاهدًا في سبيل الله، يحب العلم، ويقدّر العلماء، وهو مَن استضاف سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله بعد أن ضيَّق عليه الخائن الصالح إسماعيل سلطان دمشق، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز، ولا يخالفه؛ لذا لمَّا أعلمه بوجود حانات للخمور أسرع بإغلاقها. وبالجملة كان نجم الدين أيوب أفضل حاكم أيوبي بعد صلاح الدين.
وفي سنة ٦٤٧هـ / ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم حملة جديدة تحت راية الصليب ضد مصر بقيادة لويس التاسع Louis IX ملك فرنسا بهدف احتلال مصر، وتلك كانت الحملة الصليبية السابعة.
المراجع:
- قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة (149)، مايو 1990م.
- علي الصلابي: الأيوبيون بعد صلاح الدين، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى.