إن كثيراً من الأولياء والورثة إذا نزل قضاء الله بميتهم احتاروا وترددوا، وبعضهم لا يعلم ماذا يفعل في مثل هذه الأحوال، ويتسبب الجهل، والذهول بالمصيبة التي وقعت بأخطاء كثيرة، فلا بد للميت من حق يقام به نحوه، يقوم به الحي، إنهم أولياؤه وورثته، ينبغي عليهم أن يعلموا ماذا يفعلون بميتهم إذا نزل به أمر الله، ما هي حقوق الميت على ورثته وأوليائه؟ وكل منا سيقف ذلك الموقف ما شاء الله.
عباد الله:
إذا نزل قضاء الله، فإنه لا بد من صيانة الميت، وجاءت الشريعة بإغماض عينيه، وتغطية جميع جسده، ثم المبادرة إلى تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وهذه من الحقوق التي لا بد منها، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراع بالجنازة، وأولى الناس بغسل الميت وصيه الذي أوصى له الميت، فقد يوصي ألا يغسله إلا فلان فيقوم عليه، ثم أولياؤه لأنهم أشد شفقة وأعلم بالميت، ثم الأقرب فالأقرب، وإذا جعلوا ذلك إلى من يعمل في مغسلة الأموات فلا حرج.
ثم يجب تكفينه، وقيمة الكفن من ماله هذا هو الأصل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الذي مات محرماً: (كفنوه في ثوبيه)، ويقدم تكفينه على الدين، والوصية، والإرث، فهذا أول حق مالي للميت ما يتعلق بتجهيزه من أجرة غاسل، وثمن كفن، وأجرة حفار، ونحو ذلك، وإن تبرع بها من تبرع من المسلمين فلهم الأجر والثواب من الله تعالى.
وكذلك فإن أي وصية فيها حرام، أو بدعة فيما يتعلق بهذا الأمر فيجب على الأولياء والورثة إيقافها، وعدم تنفيذها، كما لو أوصى بأن يدفن في مسجد، أو داخل بيت، أو أن يبنى عليه قبة، أو ضريح ونحو ذلك، فكله حرام لا يجوز تنفيذه.
فإن أوصى بكفن معين معتاد فعلى الورثة تنفيذ الوصية، كما صنع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين أوصى أن يكفن في جبة صوف كان لقي المشركين فيها يوم بدر فكفن فيها.
والصلاة على الميت فرض على الكفاية، يتقدم أقرباؤه للصلاة عليه، فإن أراد ابنه أن يؤم الناس فله ذلك إذا كان يحسن صلاة الجنازة، فأولياؤه أشفق عليه، وأجدر بالإخلاص في الدعاء له.
ثم يحمل، ويدفن، ويتولى إدخاله في قبره الوصي الذي أوصى له بذلك، ثم أقاربه، وإن تخلو عن هذا لمن شاء من المسلمين أن يدليه في قبره فله الأجر والثواب.
ويكره لأهل الميت أن يصنعوا الطعام للناس، وهذه كراهة تحريمية، فجمع الناس على العزاء، وصنع الطعام نياحة وإثم، لما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "كنا نعد صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة"رواه أبو داود وهو حديث صحيح، فلا يجوز إذاً جمع الناس في العزاء على الطعام، فعامة الناس لا يجمعون على الطعام في العزاء وليست هذه مناسبة طعام أصلاً، ومن البدع التي دخلت على الناس عامتهم وخاصتهم هذه القضية، وإنما الطعام يصنع لأهل الميت، ولا بأس أن يطعم معهم من نزل عليهم ضيفاً من أقربائهم الذين جاءوا من الأماكن المختلفة يشاطرونهم المصيبة، فلا بأس أن يطعموا معهم؛ لأن هذا طعام ضيف وليس بطعام عزاء، أما جمع عامة الناس على طعام العزاء فهو من النياحة وهو بدعة محرمة، ولما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر مقتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قام فقال: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)حديث صحيح.
ويجوز للمصاب بالميت أن يحد عليه، وهذا مراعاة لحزن النفس البشرية إلى ثلاثة أيام فقط لا يزيد إلا الزوجة على زوجها فإنها يجب أن تقوم بالحداد عليه من ترك زينة، وحلي، وكحل، وطيب، وملابس جميلة.. إلى آخر أحكام الحداد أربعة أشهر وعشرة أيام، وأما الندب والنياحة فحرام.
ويجب على أوليائه وورثته القيام بحقوق الله وحقوق الآدميين، ومن نعمة الله على الإنسان ورحمته أن هيأ له ما ينتفع به بعد موته، فإذا مات ابن آدم انقطع عمله وكف سعيه إلا ما كان من بر يصله وارثه به، وعلى الأقربين والوارثين أن يوافوا ميتهم بما ينفعه من الصالحات من العبادات، والطاعات، والسعي في نفعه، وذلك بوفاء حقوق الله، وحقوق العباد، والإحسان إلى الميت بالدعاء.
واجبات الورثة تجاه ميتهم
وكما أعطى الله الورثة حقهم من التركة فقد أوجب عليهم واجبات تجاه ميتهم:
فأول ما يجب عليهم إحسان كفنه، وتولي أمره، وعدم تأخير الدفن، وكذلك إذا أوصى أن يسافر به إلى بلد وفي المكان الذي مات فيه مقبرة للمسلمين يدفن في مكانه الذي مات فيه، هذه هي السنة، ولا ينقل إلا لحاجة كأن لا يكون في المكان الذي مات فيه مقبرة للمسلمين.
وأيضاً فإن حقوق الله عز وجل يجب البدء بها من زكاة لم يؤدها الميت، فإنهم يخرجونها من تركته.
وكذلك إذا مات وعليه نذر صيام صاموا عنه، والراجح أيضاً ما تركه من قضاء رمضان وهو يقدر عليه، وقد جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: (نعم دين الله أحق أن يقضى)رواه البخاري ومسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
وكذلك من مات ولم يحج حج عنه أولياؤه، كما قال عليه الصلاة والسلام لرجل أتاه يقول: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم، قال: (فدين الله أحق)رواه النسائي وهو حديث صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟) قال: نعم، فقال: (اقضوا الله الذي له فإن الله أحق بالوفاء)رواه البخاري، ومن كرم الله وجوده أن جعل حج الورثة عن الميت كحجه عن نفسه، ولا بأس أن يحجوا عنه نافلة، أو يعتمروا نافلة، إذا حجوا عن أنفسهم واعتمروا.
ومن مات وعليه نذر، أو كفارة يمين، أو نحو ذلك من الكفارات فإن من الإحسان إلى الميت أن يقوم ورثته بقضاء ذلك، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن العاص بن وائل، وكان من كفار الجاهلية نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة فلم يف بنذره، فنحر ابنه هشام بن العاص حصته خمسين بدنة، وأما ابنه الآخر وهو عمرو فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك)رواه أحمد وهو حديث صحيح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأب ينتفع بقضاء ولده للنذر عنه إذا كان الأب قد مات على التوحيد، أما من يموت على الكفر والشرك فلا ينتفع بصيام عنه، ولا بقضاء نذر، ولا كفارة، ولا حج، بل لا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة إذا علم أنه مات على الكفر والشرك؛ ولذلك فإن التوحيد أساس الأعمال يا عباد الله.
وعلى الورثة أن ينظروا بعد ذلك هل على مورثهم شيء من حقوق العباد من ديون مثلاً، فيحرم عليهم تأخير ما استحق أداؤه؛ لأن مطل الغني ظلم وحرام، وليعلموا أن ميتهم مرهون بدينه حتى لو مات شهيداً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)رواه مسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: (هل ترك لدينه فضلاً) فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: (صلوا على صاحبكم)رواه البخاري في صحيحه، ومن هنا يتعين المبادرة إلى قضاء ديون المتوفى تفريجاً عنه وتخفيفاً، قال جابر رضي الله عنه: توفي والدي وعليه دين فاستعنت النبي صلى الله عليه وسلم على غرمائه، يعني: على غرماء أبيه من اليهود كي يضعوا عنه شيئاً من دينه، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فلم يفعلوا، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فصنف تمرك أصنافاً ثم أرسل إلي) ففعلت ثم أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فجلس على أعلاه ثم قال: (كل) -بالمكيال- للقوم فكلت لهم حتى أوفيتهم الذي لهم وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء.رواه البخاري.
عباد الله:
العجلة من الشيطان إلا في خمس: التوبة من الذنب إذا أذنب، وإطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب
العجلة من الشيطان إلا في خمس: التوبة من الذنب إذا أذنب، وإطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب
، وقد أوصى الزبير ابنه عبد الله بذلك فكان عبد الله حريصاً، فقال لما وقف الزبير يوم الجمل: دعاني فقمت إلى جنبه -يعني: أباه- فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئاً؟ ثم قال: يا بني بع مالنا فاقض ديني وأوصى بالثلث.. " الحديث وفيه: "وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله بن الزبير: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، فقال الزبير رضي الله عنه: الله، ثم قتل فقال عبد الله: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه " رواه البخاري، تتيسر الأمور، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير ثمانية عشر نفساً والزوجات: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم الحج أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم " .
ولو مات المورث وكان قد أكل مالاً بالباطل، أو ظلم عمالاً، أو غصب شيئاً، أو أخذ مال شريكه بغير حق، فهذا كسب حرام، على الورثة أن يأخذوا فيه بالحزم والورع، وأن يردوا الحقوق إلى أصحابها قبل أن يأخذوا شيئاً من التركة، فإن لم يعرفوا أصحابها وعرفوا عين المال المحرم تصدقوا به على نية صاحبه.
ولو مات المورث وكان في ماله شيء من حق أخواته اللاتي حرمهن من ميراث أبيهن مثلاً، فيجب إعطاؤه على الورثة إعطاؤه للعمات.
وهكذا تقضى كل الحقوق السابقة والمتعلقات وتصفى أسهم مساهمات عقارية أشياء معلقة، وبعض الناس عندهم شيء من العاطفة في أول الأمر عند المصيبة فإذا مضى الوقت تنكروا وصاروا لا يعرفون حقوقاً ولا يعطون لأهلها شيئاً.
ولو قسم هذا الإنسان تركته قبل موته وأعطى الأبناء دون البنات فهو ظالم متعد، لو فضل بعض أولاده على بعض فإذا مات فعلى الأولاد الذين أخذوا أن يسترضوا الأولاد الذين لم يأخذوا.
وأما الميراث فلا يجوز التلاعب به أبداً: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌسورة النساء13-14ذكرها بعد قسمة المواريث بعد الأنصبة.
فلا يحل للورثة أن يمنعوا النساء مثلاً حتى لا يجمعوا بين الظلم وأكل السحت، ومن العجب أن بعض الناس إذا صار مقبلاً على الآخرة مفارقاً للدنيا يجور في وصيته، قال ابن القيم رحمه الله: من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعاً، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه، قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.
كما ينبغي للورثة أن يتحللوا ممن كان مورثهم قد أساء إليه بسب، أو شتم، أو غيبة، ونحو ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)رواه البخاري، حتى المعاصي في العرض، حتى الاعتداء بالقول، حتى الاستهزاء والسخرية؛ ولذلك يتعلق الورثة والأولياء بالمظلوم ليقولوا له: سامح صاحبنا.
عباد الله:
إن ما أوصى به الميت مهم جداً، وقد يوصي ببناته أن يزوجهن أحد الورثة أو الأولياء، وقد يوصي أولاده بعدم النياحة فتزداد تحريماً، ويوصيهم بعدم التفرق بعده فيزداد التفرق بين الأشقاء تحريماً، وتزداد قطيعة الرحم تحريماً.
يجب المبادرة إلى تنفيذ وصية المورث؛ لأن الله قال: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍسورة النساء11فإذا كان في الوصية مصلحة بينة ولم تشتمل على محرم اتقوا الله فيها ونفذوها كما حددها دون تجاوز، وهم مؤتمنون عليها، لا يصرفوا منها شيئاً بغير حق، ولا يضعوا في غير ما أوصى به الميت، ولا يخالفوا ما ذهب إليه في وصيته، ولا يفوتوا غرضه الذي أراده، وللأسف فإن كثيراً من الوصايا تتعرض للإهمال والضياع بعد موت الموصي، فإن لم ينفذوا وصيته، أو أساءوا، فالوزر عليهم، قال الله تعالى: فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة البقرة181ويحرم عليهم كتمان الوصية الشرعية الصادرة عن ميتهم، قال الله تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌسورة البقرة283أظهروها لا تخفوها لأن إخفاءها من أعظم الذنوب؛ لأنه يترتب عليه فوات الحقوق: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) يعني: فاجر، قال الله تعالى في الوصايا: وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَسورة المائدة106.
وعن عيسى بن حازم قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم بمكة إذ لقيه قوم فقالوا: آجرك الله مات أبوك، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله، فقالوا: قد أوصى إليك، فقام فسبقهم إلى البلد فأنفذ وصايا أبيه وقسم نصيبه على الورثة وخرج راجعاً إلى مكة.
وعلى الورثة أن يقوموا بتوزيع التركة لأهلها لضمان الحقوق، وخصوصاً النساء الضعيفات، وما يمكنهم أن يوصلوه لمورثهم من الطاعات فإنه يستحب لهم أن يقوموا به؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يد عو له)، فعمل الميت وثوابه ينقطع إلا في هذه الأشياء لأنها تستمر، ونفعها متصل، وهو السبب فالولد من كسبه، والعلم الذي خلفه من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، والوقف، وفي هذا ترغيب في الأعمال الصالحة، والصدقة الجارية هي أن يتصدق الإنسان بشيء يستمر نفعه من بعده كالوقف على الفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والدعاة، ونحو ذلك، وطباعة الكتب النافعة للمسلمين، وإصلاح الطرق، وإجراء الأنهار، وشق هذه الترع التي يسقي بها الناس، وحفر الآبار، وبناء المساجد، وإنك إذا علمت ولدك سورة الفاتحة يا عبد الله فاستعملها نحواً من عشرين مرة في اليوم، ثم علمها لغيره فكم يكون لك من الأجر بعد موتك؟ وعلمك الذي علمته ينتشر، ولا يشترط أن تكون عالماً، فهذه سورة واحدة لو علمتها فعلمها المعلم لغيره لكان لك مثل أجورهم جميعاً، العلم أعم ما ينتفع به، وأشمل ما ينتفع به، وما أعظم أن يقوم أبناء العالم من بعده بنشر علم أبيهم، وإقامة من ينشره، واستعمال الوسائط المختلفة لذلك من الورقية، والإلكترونية، والمواقع، ونحوها، فالولد غير الصالح لا يهتم بنفسه، وأما الولد الصالح فيهتم بنفسه وبأبيه، (ولد صالح يدعو له) تحريض الأولاد على الدعاء للآباء، الدعاء للميت يا عباد الله أفضل من الصدقة عنه، وأفضل من الصلاة له، والصيام له، ونحو ذلك، وبعض الناس يعملون أعمالاً لا دليل عليها كقراءة القرآن على الميت، والصلاة للميت، ولا يصلين أحد عن أحد.
ومن الأعمال زيارة قبر الميت، والدعاء له، والترحم عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي)رواه مسلم، ولكنه تعالى لم يأذن له بالدعاء لها لأنها ماتت على الشرك.
أيها المسلمون:
لا تختص الجمعة بزيارة القبر، ولا العيد، بل يزورها في أي وقت وحين، في أي وقت يتيسر له ذلك، ولا تخصص بيوم، أو مناسبة لم ترد في الشرع.
وهذه الصلاة التي يجتمع عليها المسلمون يدعى فيها لهذا الميت من قبل إخوانه شأنها عظيم، وكذلك الصدقة عن الميت شأنها عظيم، قال عليه الصلاة والسلام لرجل سأل: إن أمي افتلتت نفسها -يعني ماتت- وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم)رواه البخاري ومسلم.
فأكرم بمن وهب، ووصل، وتصدق، وبذل، سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: (نعم)، قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف بستاني المثمر صدقة عليها.رواه البخاري ومسلم، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: (نعم)رواه مسلم.
أما صلاة النوافل، وإهداؤها فإن ذلك لا دليل عليه؛ ولذلك فإن الإنسان يعمل بما ثبت، ويترك ما لم يثبت، وذبح الذبيحة والتصدق بها يصل؛ لأنه من الصدقة، وإشراكه في الأضحية كذلك ، الميت يصل إليه الخير.
وأيضاً فإن من الطاعات إنشاء الوقف له، أو إدارة أوقافه بعد موته، وهذه طاعة عظيمة، طاعة عظيمة أن تدار أوقاف الميت بعد وفاته ومن الإحسان إليه، والقائم عليها بالحق الذي يديرها بالحق محتسباً يرجى له مثل أجر المنفق، وكذا الاستمرار في رعاية الأيتام الذين كان يرعاهم، والصدقة على الأقارب والمحاويج الذين كان يقوم عليهم، وإجراء الرواتب على العوائل التي كان ينفق عليها في حياته، هذا الخير ينبغي أن يستمر أجر للحي وللميت أيضاً.
رعاية الأيتام وخصوصاً من أولاده أولاد الميت شأنها عظيم، عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت يا جابر؟) قلت: نعم، قال: (أبكراً أم ثيباً؟) قلت: لا بل ثيباً، قال: (فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك) قلت: يا رسول الله إن أبي قتل يوم أحد وترك لي تسع أخوات، ما أثقل التركة أخ واحد عليه حمل تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، وخشيت أن تدخل بيني وبينهن ولا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهن وتؤدبهن، والمقصود بالتأديب التعليم، والموعظة، والتعليم على الأخلاق الحسنة، الأمر بالصلاة، فليس التأديب مجرد الضرب قطعاً، التأديب مفهوم عام عظيم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أصبت) متفق عليه.
وفيه فضيلة لجابر رضي الله عنه في شفقته على أخواته، واستشعار المسئولية، وإيثار مصلحة الأخوات على حظ نفسه، فقد ترك البكر، وقد تزاحمت المصالح فقدم الأهم، وصوب النبي صلى الله عليه وسلم فعل جابر رضي الله عنه، ودعا له، وفي هذا خدمة المرأة لزوجها، وأولاده، وعياله، وإخوانه، وأخواته، وأنه لا حرج على الرجل في قصد ذلك من امرأته، وإن كان لا يجب عليها، فلو امتنعت وقالت: لست مكلفة شرعاً بخدمة أخواتك، فإنه من حقها ولا تجبر، لكن من جميل العشرة، ومن شيمة الصالحات أن تقوم بذلك، والابن يتحرى فيمن يتزوجها أن تعينه على أخواته اليتيمات اللاتي تركهن أبوه من بعده.
كان عبد الرحمن بن مهدي يحج كل سنة فمات أخوه وأوصى إليه فقبل وصيته، وقام على أيتامه، وترك الحج، رجع في طريق الحج قبل أن يحرم.
وليس للوصي أن يزوج اليتيم مطلقاً، وإن أوصى إليه الأب بذلك، وإذا أوصى إليه بالنظر في أمر أولاده الصغار لم يملك تزويج أحدهم، ولو أوصى الميت بولاية النكاح لرجل من بعده فرفضت الفتاة اختيار الوصي فإنها لا تجبر على الزواج ولا تزوج إلا بإذنها، فعن عبد الله بن عمر قال: توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم فأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، يعني: يتولى تزويج البنت، قال عبد الله: فمضيت إلى قدامة بن مظعون أخطب منه ابنة أخيه فزوجنيها، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها فرغبها في المال فمالت إليه ومالت الجارية إلى هوى أمها فأبى عمها حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمها قدامة: يا رسول الله ابنة أخي أوصى بها إليَّ فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها) قال عبد الله: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها فزوجوها المغيرة.رواه أحمد وهو حديث حسن، ولذلك فإن الأشياء توضع في نصابها، فهذا الوصي يقوم بحسن الاختيار ولا يألوا جهداً، لكن للفتاة رأي لا بد أن يحترم.
إن مما ينبغي على الورثة بعد ذهاب ميتهم أن يصلوا أقاربه وأصحابه بعد موته بالزيارة، والإحسان، وأنواع العطاء، وحسن العهد من الإيمان
، عن عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر بأعرابي في طريق مكة فقال له: ألست ابن فلان بن فلان؟ فقال الأعرابي: بلى، فأعطاه حماراً وقال: اركب هذا، وأعطاه عمامة وقال: اشدد بها رأسك، فقال بعض أصحاب عبد الله بن عمر لعبد الله بن عمر: غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك. يعني: هؤلاء الأعراب يقنعون بالقليل، أعطيته كل هذا وحرمت نفسك من الفوائد فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي ) -يعني الأب-، وإن أباه -والد هذا الأعرابي- كان صديقاً لعمر.رواه مسلم.
وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن سعيد وهو صبي: إلى من أوصى بك أبوك؟ يعني قبل موته قال: إن أبي أوصى إليَّ ولم يوص بي، قال: وماذا أوصى إليك؟ قال: ألا يفقد إخوانه بعده منه إلا وجهه، فتستمر الصلة، والعطية، والإعانة، والشفاعة الحسنة، وينبغي للورثة إذا كان مورثهم من أهل الخير والصلاح أن يحذو حذوه، ويقتفوا أثره، وإذا تركوه على شيء قبل أن يموت لا يغيروا بعده، ولا يبدلوا الهدي الحسن.
فاطمة بنت عبد الملك لما تزوجها عمر بن عبد العزيز آثر الآخرة وترك زينة الدنيا، وخيرها بين البقاء معه في عيشته التي اختارها، وبين حياة الترف، فاختارت البقاء معه، وتخلت عن جواهرها، وحليها، وأرسلتها إلى بيت المال، وتحولت من سيدة قصر إلى امرأة تغزل، وتعجن، بلا خدم، ولا حشم، فلما مات زوجها أعاد إليها أخوها الخليفة يزيد بن عبد الملك جواهرها فرفضتها وقالت: والله لا أطيعه حياً، وأعصيه ميتاً.
ولما أراد الوزير ابن الفرات أن يعاقب كاتباً عنده دعاه يوماً فقال له: إن نيتي فيك سيئة، وكلما أردت أن أعاقبك أراك في المنام وأنت تمنعني برغيف في يدك فما قصة الرغيف؟ فقال له: كانت أمي وأنا صغير تعلمني الصدقة، فتضع رغيفاً تحت وسادتي، وفي الصباح تتصدق به عني، فلما ماتت فعلت ذلك من بعدها، فأنا أتصدق كل يوم برغيف، فعجب منه الوزير وقال: والله لا ينالك مني سوء.
وإن مما يجب على الورثة إذا خلف ميتهم شيئاً من المحرمات من أدوات سواء كانت أدوات موسيقية، أو صوراً محرمة، أو أشرطة سيديهات ونحو ذلك، أو أنشأ موقعاً من مواقع الفسق، أو ترك خمراً، أن يتخلصوا من ذلك بأسرع ما يمكن؛ لأن ميتهم في حرج، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)رواه مسلم، ولذلك الرعية عليهم إذا مات هذا الراعي الذي كان قد غشهم بعدم النصح لهم، وترك المحرمات في البيت أن يتخلصوا منها مباشرة بعد موته، إذا أرادوا له الراحة والسلامة من شر ما فعل.
عباد الله:
من الناس من يترك كتباً، وأدوات للشرك، والسحر، وكتباً للبدعة، والكفر، وأشعاراً ومقالات فعند ذلك من الإحسان إليه مع إساءته أن يتلفوا ذلك، ولا يسمحوا بنشره، فأولاد المغنين والمغنيات، وأولاد كتاب القصص الماجنة، وأولاد الشعراء الذين يتبعهم الغاوون عليهم إذا مات ميتهم ألا يسمحوا بنشر شيء من ذلك، خصوصاً وأن قوانين حماية الملكية الفكرية تسمح لهم بمقاضاة من ينشر شيئاً بغير إذنهم، فعليهم أن يستعملوا من أمثال هذه القوانين ما يمنعوا به نشر الشر والباطل والحرام، بخلاف ورثة وأولياء الميت الذي ترك شيئاً نافعاً؛ لأن من المصلحة أن ينشروه، ويعينوا على نشره، أما في الحالة الأولى فإنهم لا يسمحون بذلك لأنهم يعلمون جيداً قول الله تعالى: لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَسورة النحل25.
عباد الله:
(لا طاعة لمخلوق في معصية الله) فإذا أوصى الميت بوصية فيها حرام فلا تنفذ؛ كالوصية لأندية القمار، والمراقص، وتعهد المغنين والمغنيات، وبناء مستشفيات الكلاب، أو تعمير الكنائس وترميمها، وكذلك طباعة كتب السحر، والضلال، والفلسفة، والعلوم المحرمة، ولو أوصى كذلك بآلات لهو، وطرب، ونحو ذلك، أو رعاية أشياء من مناسبات الفن المحرم، فإنها لا تنفق فيه، ولم يأت شرع يسوغ أن يبنى مكاناً يكفر فيه بالله، وقد اتفقت الشرائع على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له ونحو ذلك.
عباد الله:
وإذا نظروا في كسب مورثهم، فوجدوا فيه الربا الصريح، وأسهم المصارف الربوية، فإنهم يتخلصون من ذلك، ويأخذون رأس المال؛ لأنه حلال عليهم، وكل ما نتج من ربا فإنهم ينفقونه في مصارف الخير.
أوصى أحد المخذولين أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد، وهذه وصية جائرة لا يجوز تنفيذها لما فيها من الاعتراض على قضاء الله وقدره، (ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
ومن أوصى بأن تجمع له النائحات بعد موته، أو تضرب له قبة، أو يؤتى بالناس لينوحوا عليه، والشعراء ليرثوه، ويذكروا مفاخره، فإن كل ذلك لا ينفذ؛ لأنه من الباطل المحرم، ومما كان يفعله أهل الجاهلية من النعي المحرم والنياحة.
اللهم إنا نسألك أن تتغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم إنا نسألك أن تسترنا بسترك وأن تعافينا بعافيتك، اللهم ارحمنا أجمعين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، وكفر عنا سيئاتنا وأدخلنا الجنة مع الأبرار، اللهم ارحمنا وآباءنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لهم كما ربونا صغاراً، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يا أرحم الراحمين، اجعلنا من أهل الفردوس الأعلى أدخلنا الجنة بغير حساب، عافنا من النار ومن رق الأوزار، اللهم إنا نسألك أن تعافينا وترفع عنا الغلاء، والوباء، والبلاء، يا سميع الدعاء، من أراد بلدنا بشر فامكر به، ومن أراد مجتمعنا بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم دافع عنا إنك تدافع عن الذين آمنوا، واغفر لنا أجمعين.