الحقوق المتعلقة بالميت
إن كثيراً من الأولياء والورثة إذا نزل قضاء الله بميتهم احتاروا وترددوا، وبعضهم لا يعلم ماذا يفعل في مثل هذه الأحوال، ويتسبب الجهل، والذهول بالمصيبة التي وقعت بأخطاء كثيرة، فلا بد للميت من حق يقام به نحوه، يقوم به الحي، إنهم أولياؤه وورثته، ينبغي عليهم أن يعلموا ماذا يفعلون بميتهم إذا نزل به أمر الله، ما هي حقوق الميت على ورثته وأوليائه؟ وكل منا سيقف ذلك الموقف ما شاء الله.
عباد الله:
إذا نزل قضاء الله، فإنه لا بد من صيانة الميت، وجاءت الشريعة بإغماض عينيه، وتغطية جميع جسده، ثم المبادرة إلى تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وهذه من الحقوق التي لا بد منها، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراع بالجنازة، وأولى الناس بغسل الميت وصيه الذي أوصى له الميت، فقد يوصي ألا يغسله إلا فلان فيقوم عليه، ثم أولياؤه لأنهم أشد شفقة وأعلم بالميت، ثم الأقرب فالأقرب، وإذا جعلوا ذلك إلى من يعمل في مغسلة الأموات فلا حرج.
ثم يجب تكفينه، وقيمة الكفن من ماله هذا هو الأصل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الذي مات محرماً: (كفنوه في ثوبيه)، ويقدم تكفينه على الدين، والوصية، والإرث، فهذا أول حق مالي للميت ما يتعلق بتجهيزه من أجرة غاسل، وثمن كفن، وأجرة حفار، ونحو ذلك، وإن تبرع بها من تبرع من المسلمين فلهم الأجر والثواب من الله تعالى.
وكذلك فإن أي وصية فيها حرام، أو بدعة فيما يتعلق بهذا الأمر فيجب على الأولياء والورثة إيقافها، وعدم تنفيذها، كما لو أوصى بأن يدفن في مسجد، أو داخل بيت، أو أن يبنى عليه قبة، أو ضريح ونحو ذلك، فكله حرام لا يجوز تنفيذه.
فإن أوصى بكفن معين معتاد فعلى الورثة تنفيذ الوصية، كما صنع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين أوصى أن يكفن في جبة صوف كان لقي المشركين فيها يوم بدر فكفن فيها.
والصلاة على الميت فرض على الكفاية، يتقدم أقرباؤه للصلاة عليه، فإن أراد ابنه أن يؤم الناس فله ذلك إذا كان يحسن صلاة الجنازة، فأولياؤه أشفق عليه، وأجدر بالإخلاص في الدعاء له.
ثم يحمل، ويدفن، ويتولى إدخاله في قبره الوصي الذي أوصى له بذلك، ثم أقاربه، وإن تخلو عن هذا لمن شاء من المسلمين أن يدليه في قبره فله الأجر والثواب.
ويكره لأهل الميت أن يصنعوا الطعام للناس، وهذه كراهة تحريمية، فجمع الناس على العزاء، وصنع الطعام نياحة وإثم، لما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "كنا نعد صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة"رواه أبو داود وهو حديث صحيح، فلا يجوز إذاً جمع الناس في العزاء على الطعام، فعامة الناس لا يجمعون على الطعام في العزاء وليست هذه مناسبة طعام أصلاً، ومن البدع التي دخلت على الناس عامتهم وخاصتهم هذه القضية، وإنما الطعام يصنع لأهل الميت، ولا بأس أن يطعم معهم من نزل عليهم ضيفاً من أقربائهم الذين جاءوا من الأماكن المختلفة يشاطرونهم المصيبة، فلا بأس أن يطعموا معهم؛ لأن هذا طعام ضيف وليس بطعام عزاء، أما جمع عامة الناس على طعام العزاء فهو من النياحة وهو بدعة محرمة، ولما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبر مقتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قام فقال: (اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)حديث صحيح.
ويجوز للمصاب بالميت أن يحد عليه، وهذا مراعاة لحزن النفس البشرية إلى ثلاثة أيام فقط لا يزيد إلا الزوجة على زوجها فإنها يجب أن تقوم بالحداد عليه من ترك زينة، وحلي، وكحل، وطيب، وملابس جميلة.. إلى آخر أحكام الحداد أربعة أشهر وعشرة أيام، وأما الندب والنياحة فحرام.
ويجب على أوليائه وورثته القيام بحقوق الله وحقوق الآدميين، ومن نعمة الله على الإنسان ورحمته أن هيأ له ما ينتفع به بعد موته، فإذا مات ابن آدم انقطع عمله وكف سعيه إلا ما كان من بر يصله وارثه به، وعلى الأقربين والوارثين أن يوافوا ميتهم بما ينفعه من الصالحات من العبادات، والطاعات، والسعي في نفعه، وذلك بوفاء حقوق الله، وحقوق العباد، والإحسان إلى الميت بالدعاء.
واجبات الورثة تجاه ميتهم
وكما أعطى الله الورثة حقهم من التركة فقد أوجب عليهم واجبات تجاه ميتهم:
فأول ما يجب عليهم إحسان كفنه، وتولي أمره، وعدم تأخير الدفن، وكذلك إذا أوصى أن يسافر به إلى بلد وفي المكان الذي مات فيه مقبرة للمسلمين يدفن في مكانه الذي مات فيه، هذه هي السنة، ولا ينقل إلا لحاجة كأن لا يكون في المكان الذي مات فيه مقبرة للمسلمين.
وأيضاً فإن حقوق الله عز وجل يجب البدء بها من زكاة لم يؤدها الميت، فإنهم يخرجونها من تركته.
وكذلك إذا مات وعليه نذر صيام صاموا عنه، والراجح أيضاً ما تركه من قضاء رمضان وهو يقدر عليه، وقد جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: (نعم دين الله أحق أن يقضى)رواه البخاري ومسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
وكذلك من مات ولم يحج حج عنه أولياؤه، كما قال عليه الصلاة والسلام لرجل أتاه يقول: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟) قال: نعم، قال: (فدين الله أحق)رواه النسائي وهو حديث صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟) قال: نعم، فقال: (اقضوا الله الذي له فإن الله أحق بالوفاء)رواه البخاري، ومن كرم الله وجوده أن جعل حج الورثة عن الميت كحجه عن نفسه، ولا بأس أن يحجوا عنه نافلة، أو يعتمروا نافلة، إذا حجوا عن أنفسهم واعتمروا.
ومن مات وعليه نذر، أو كفارة يمين، أو نحو ذلك من الكفارات فإن من الإحسان إلى الميت أن يقوم ورثته بقضاء ذلك، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن العاص بن وائل، وكان من كفار الجاهلية نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة فلم يف بنذره، فنحر ابنه هشام بن العاص حصته خمسين بدنة، وأما ابنه الآخر وهو عمرو فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك)رواه أحمد وهو حديث صحيح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأب ينتفع بقضاء ولده للنذر عنه إذا كان الأب قد مات على التوحيد، أما من يموت على الكفر والشرك فلا ينتفع بصيام عنه، ولا بقضاء نذر، ولا كفارة، ولا حج، بل لا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة إذا علم أنه مات على الكفر والشرك؛ ولذلك فإن التوحيد أساس الأعمال يا عباد الله.
وعلى الورثة أن ينظروا بعد ذلك هل على مورثهم شيء من حقوق العباد من ديون مثلاً، فيحرم عليهم تأخير ما استحق أداؤه؛ لأن مطل الغني ظلم وحرام، وليعلموا أن ميتهم مرهون بدينه حتى لو مات شهيداً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)رواه مسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: (هل ترك لدينه فضلاً) فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: (صلوا على صاحبكم)رواه البخاري في صحيحه، ومن هنا يتعين المبادرة إلى قضاء ديون المتوفى تفريجاً عنه وتخفيفاً، قال جابر رضي الله عنه: توفي والدي وعليه دين فاستعنت النبي صلى الله عليه وسلم على غرمائه، يعني: على غرماء أبيه من اليهود كي يضعوا عنه شيئاً من دينه، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فلم يفعلوا، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فصنف تمرك أصنافاً ثم أرسل إلي) ففعلت ثم أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فجلس على أعلاه ثم قال: (كل) -بالمكيال- للقوم فكلت لهم حتى أوفيتهم الذي لهم وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء.رواه البخاري.
عباد الله:
العجلة من الشيطان إلا في خمس: التوبة من الذنب إذا أذنب، وإطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب
العجلة من الشيطان إلا في خمس: التوبة من الذنب إذا أذنب، وإطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب
، وقد أوصى الزبير ابنه عبد الله بذلك فكان عبد الله حريصاً، فقال لما وقف الزبير يوم الجمل: دعاني فقمت إلى جنبه -يعني: أباه- فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئاً؟ ثم قال: يا بني بع مالنا فاقض ديني وأوصى بالثلث.. " الحديث وفيه: "وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله بن الزبير: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، فقال الزبير رضي الله عنه: الله، ثم قتل فقال عبد الله: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه " رواه البخاري، تتيسر الأمور، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير ثمانية عشر نفساً والزوجات: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم الحج أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم " .
ولو مات المورث وكان قد أكل مالاً بالباطل، أو ظلم عمالاً، أو غصب شيئاً، أو أخذ مال شريكه بغير حق، فهذا كسب حرام، على الورثة أن يأخذوا فيه بالحزم والورع، وأن يردوا الحقوق إلى أصحابها قبل أن يأخذوا شيئاً من التركة، فإن لم يعرفوا أصحابها وعرفوا عين المال المحرم تصدقوا به على نية صاحبه.
ولو مات المورث وكان في ماله شيء من حق أخواته اللاتي حرمهن من ميراث أبيهن مثلاً، فيجب إعطاؤه على الورثة إعطاؤه للعمات.
وهكذا تقضى كل الحقوق السابقة والمتعلقات وتصفى أسهم مساهمات عقارية أشياء معلقة، وبعض الناس عندهم شيء من العاطفة في أول الأمر عند المصيبة فإذا مضى الوقت تنكروا وصاروا لا يعرفون حقوقاً ولا يعطون لأهلها شيئاً.
ولو قسم هذا الإنسان تركته قبل موته وأعطى الأبناء دون البنات فهو ظالم متعد، لو فضل بعض أولاده على بعض فإذا مات فعلى الأولاد الذين أخذوا أن يسترضوا الأولاد الذين لم يأخذوا.
وأما الميراث فلا يجوز التلاعب به أبداً: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌسورة النساء13-14ذكرها بعد قسمة المواريث بعد الأنصبة.
فلا يحل للورثة أن يمنعوا النساء مثلاً حتى لا يجمعوا بين الظلم وأكل السحت، ومن العجب أن بعض الناس إذا صار مقبلاً على الآخرة مفارقاً للدنيا يجور في وصيته، قال ابن القيم رحمه الله: من أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعاً، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه، قال يحيى بن معاذ رحمه الله: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.