إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد :
فهذا موضوع نحتاج إلى مذاكرته والوقوف على طرف من جوانبه: وذلك من باب الحيطة، لأن معرفة آثار الشيء وعواقبه وأضراره يعطي العبد شيئا من الحصانة منه والحذر من الوقوع فيه، وقد قيل قديما: ( كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟! )
الذي لا يعرف الفتن، ولا يعرف آثارها وعواقبها وعوائدها: ربما دخل في شيء منها وتلطخ بها وأضرت بحياته، ثم بعد ذلك يلحقه من الندم ما يلحقه.
ومعرفة آثار الفتن نافع للعبد نفعا كبيرا، ومفيد له فائدة عظيمة، لأنه من باب النظر في العواقب ومآلات الأمور، وهذا يعد من حصافة العبد أي أنه قبل أن يقدم على أمر من الأمور: ينظر في عواقبه وآثاره.
ولهذا جاء في سيرة الإمام أحمد رحمه الله أن نفرا من علماء بغداد جاؤوا إليه رحمه الله في بيته، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك - فقال لهم أبو عبد الله : فما تريدون ؟ قالوا: أن نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمارته ولا سلطانه! فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم: ( عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ) (1).
فهذه دعوة منه رحمه الله للنظر في آثار الفتن وعواقبها، وأيِّ شيء سيعود على أهلها منها.
وأخذ يحدثهم في ذلك، ثم إنهم خرجوا من عنده ولم يتلقوا كلامه بالقبول، بل لازالوا على رأيهم مصرين، ودعوا إلى مسلكهم ابن أخي الإمام أحمد رحمه الله، دعوه إلى المسلك نفسه : فنهاه والده، وقال: احذر أن تصاحبهم: فإن الإمام احمد لم ينههم إلا عن شر، فاعتذر ثم كانت نهاية قصتهم أن خرجوا على السلطان، فكانت العاقبة التي حذرهم منها الإمام أحمد رحمه الله: قًتِل من قًتِل، وسُجن من سُجن، دون أن يقدِّموا شيئاً في باب الإصلاح.
فالشاهد أن النظر في عواقب الأمور ومآلات الأشياء وعدم التعجل والتسرع من أنفع ما يكون للعبد.
ولهذا جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( إنها ستكون أمور متشابهات: فعلكم بالتُّؤَدَة، فإنك أن تكون تابعا في الخير خيرً من أن تكون رأساً في الشر ) (2).
فأوصى بالتؤدة وهي الأناة وعدم التعجل.
وروى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه ( الأدب المفرد ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( لا تكونوا عُجُلاً مَذَايِيعَ بُذُرًا: فإن من ورائكم بلاءً مبرِّحاً أو مُكْلِحاً، وأمور مُتَماحِلَةً رُدُحاً ) (3)، أي ثقيلة وشديدة.
فأوصى بأمور ثلاثة: قال :
( لا تكونوا عجلا مذاييع بذرا ): فنهى عن العجلة، وهي التسرع بل ينبغي على الانسان أن يتأنى ويتروى وينظر في العواقب والآثار، ثم بعد ذلك يقدم بعد رويَّة وأناة.
قال: ( لا تكونوا عجلا مذاييع ) : أيضا هذا أمر يُحَذَّر منه غاية التحذير، عندما تلتهب الفتن وتشتد لا ينبغي للإنسان أن يكون ساعيا في اشتدادها واشتعالها بكلامه ومقاله: بأن يكون مذياعًا للفتنة مذياعا للشر ومذكيًا لناه.
وذكر الأمر الثالث : قال : ( بذرا ) أي بذرة الفتن والسُّعاة في نشرها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة وأخبر أن الفتن توجد وستكون، وحذرهم من السعي فيها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال - عليه الصلاة والسلام: ( ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي ) (4)، أي ان المرء كلما كان بعيدا عن تحريك الفتنة وإشعالها وإيقادها وإضرامها كان خيرا له وأصلح، يبتعد عنها، ويسأل الله - تبارك وتعالى - أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها، لا أن يكون أداةً في اشتعالها وانتشارها.
وقد جاء ( صحيح مسلم ) (5) من حديث زيد بن ثابت، عن نبينا - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : ( تعوذوا بالله من الفتن من ظهر منها وما بطن )، فقالوا الصحابة رضي الله عنهم : ( نعوذ بالله من الفتن ما ظهر وما بطن ).
فالفتن يُتعوذ منها ويطلب من الله - تبارك وتعالى - أن يعيذ المسلمين منها، وأن يحميَهم من غوائلها وآثارها وأخطارها وأضرارها.
ويكثُر في الدعوات المأثورة : التعوذ بالله من سوء الفتن، والتعوذ بالله من مضلات الفتن.
وهذا أمر ينبغي أن يكون المسلم على عناية به، وأن يحافظ عليه: لأن الحافظ هو الله - تبارك وتعالى -، والمعيذ هو الله، فيلجأُ العبد إلى الله - تبارك وتعالى - لجوءاً صادقاً، يسأل ربَّه - جل وعلا - أن يعيذه، وأن يقيه وأن يحميه والمسلمين من الفتن، هذا الذي يجب على كلِّ مسلم.
وباب فقه آثار الفتن يفيد الإنسان: لأن النظر في العواقب - عواقب الفتن - ومعرفةَ مآلاتها قبل تَقَحُّمهَا ودخولها يفيد الإنسان حصانةً منها وحذراً من الوقوع فيها، وكما قيل : ( السعيد من اتعظ بغيره )، فينظر ويتأمل وتروى ويتفقه في الآثار ويسأل أهلَ العلم، وأهل الذكر قبل أن يقتحَّم فتنةً، ربما كان فيها رأسا، وربما كان فيها فاتحاً لباب شرٍّ عليه وعلى غيره.
وقد جاء في الحديث (سنن ابن ماجة) و (السنة) لابن أبي عاصم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من الناس ناسا مفاتح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتح للشر مغاليق للشر فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه) (6).
يجب على المسلم أن يربأ أن يكون مفتاحا للشر ورأسا فيه وداعية من دعاته، يورِّط نفسه ويورط غيره ويقحِّمهم في وَرْطات لا يَحمد لا هو لا هم عواقبَها، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فالشاهد أن باب فقهِ عواقب الفتن وآثارها وما ينجم عنها من أضرار وأخطار: يفيد المسلم فائدةً كبيرةً.
وآثار الفتن كثيرة وعديدة، ويطول عدُّها والكلامُ عليها. لكنني أشير في هذه الرسالة إلى جملة من آثار وشيء من الأخبار، راجيا من الله - تبارك وتعالى - أن يكون في ذلك خير ونفع لنا أجمعين .
_______________
1. رواه أبو بكر الخلاَّل في (السُّنَّة) رقم (90).
2. أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنَّف)) (38343)، والبيهقي في ((الشُّعب)) (9886).
3. ((الأدب المفرد)) (327)، قال الألباني: صحيح.
4. البخاري (3406)، ومسلم (2886).
5. برقم (2867).
6. ((سنن ابن ماجة)) (237)، وابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) (297)، والطَّيالسي في ((مسنده)) (2082)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (69 ) ، وحسنه الألباني في ((الصحيحة)) (1332).
من آثار الفتن أنها سببٌ لانصراف العبد عن العبادة التي خُلق لأجلها والطَّاعة التي أُوجد لتحقيقها، وينصرف عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، وتُصبح حياته وأيَّامه وأوقاته مشغولةً بالقيل والقال والأمور التي تُثار والفتن التي تتأجَّج، وقلبه يكون مشوَّشا مضطربًا مشغولاً، فلا يهدأ ولا يطمئنُّ ولا يتحقق منه ذكرٌ لله- تبارك وتعالى- على وجه الطُّمأنينة فيكون مضطرب القلب، مشوَّش البال، منشغل الخاطر: ولهذا جاء في الحديث الصَّحيح عن نبيِّنا- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( عبادة في الهرج كهجرة إلي ) (1). الهرج: ما يكون في الناس من اضطراب، وعندما تموج الأمور وتضطرب وينشب بين الناس الفتن والقتل ونحو ذلك، من يكون في مثل هذا الوقت مشتغلا بعبادة الله- تبارك وتعالى- فهو كالمهاجر إلى النبي –عليه الصلاة والسلام-. وهذا يبين أن من كان في الهرج مشتغلا بالعبادة: فإنه موفَقٌ سالمٌ من أوضار الفتنة. وأيضا في الوقت نفسه يدل على أن الذي ينبغي على الإنسان في الفتن هو الإقبال على العبادة، وتجنب الفتن: ليفوز بالسعادة والراحة والطمأنينة ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن ) (2)، وكررها- عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات. فالسعادة في تجنب الفتن، والاشتغال بالعبادة، والذِّكر، والطَّاعة لله- سبحانه وتعالى-، والتقرب إليه- جل وعلا- بما شرع، بأنواع العبادات، وأنواع الأذكار، وأنواع القربات. وقد جاء في (الصحيح) من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا يقول : ( سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟! ماذا أنزل الله من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات - يعني : أزواجه - يصلين ) (3). فأرشد – عليه الصلاة والسلام- عند نزول الفتن إلى الصلاة، إلى عبادة الله- تبارك وتعالى-، إلى التقرب إليه، قال : ( من يوقظ صواحب الحجرات يصلين، رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة ). وأيضا : يدل على هذا المعنى: قوله -عليه الصلاة السلام-: ( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ) (4)، فأرشد إلى الأَعمال الصالحة، يعني يقبل الإنسان على طاعة الله، على الصلاة، على الذكر، على الدعاء، على تلاوة القرآن. وعندما تموج الفتن: يشغل الناس عن الأعمال، وعن العبادات إلا القليل ممن يكتب لهم –تبارك وتعالى- توفيقا وتسديدا وتأييدا. لما وقعت الفتنة في زمن التابعين: قال الحسن البصري رحمه الله –وهو ممن اعتزل الفتن-، قال : ( يا أيها الناس! إنه –والله! – ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة : فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع ) (5) : فإن الله يقول : (( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )) 76:المؤمنون، أي أن الواجب على الإنسان هو الاستكانة إلى الله، والتضرع إليه، وملازمة ذكره ، وأن يصلح حاله بنفسه وبيته، وأن يستقيم على طاعة ربه على الوجه الذي يرضي الله –تبارك وتعالى-. وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى أنه قال : ( تكون فتنةٌ لا يُنجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق ) (6). ويعرف كلٌ واحد منَّا كيف يكون دعاء الغريق، الذي أدركه الغرق كيف يكون دعاؤه؟! يقول : ( تكون فتنة لا يُنجي منها إلا دعاء الغريق )، أنت تُقبل على الله –تبارك وتعالى- اقبالاً صادقًا بأن ينَّجِّيَك ويجيرَك ويسلِّمَك ويحفظك.
_____________ 1. أخرجه الطبراني في ((الكبير)) (20/213) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) (3974). 2. أخرجه أبو داود (4263) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه وصححه الألباني في (الصحيحة) (975). 3. (صحيح البخاري) (7069،6218،5844،3599،1126،115). 4. أخرجه مسلم (118 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. 5. أخرجه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) (7/164)، وابن عساكر في (تاريخ دمشق) (12/178 ). 6. أخرجه ابن أبي شيبة (7/531). وجاء نحوه عن حذيفة رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (6/22)، والحاكم (1/687) وصححه.
*****
إن شاء الله
الأثر الثاني
صرف الناس عن العلم والعلماء
من آثار الفتن وعواقبها: أنَّها تصرف الناس عن مجالس العلم ومُجالسة العلماء، وتعلُّم الأحكام، ومعرفة الدِّين وتكوين القلوب مشغولة، وفيها نارُ الفتنة متأجِّجَة، فلا يطمئنُّ لطلب علم، ولا يُقبل على مجالس العلماء، بل يكون منصرفاً عن ذلك كلِّه. بل أَزيدَ من ذلك وأعظم أنها تُفضي –أي الفتنة- بكثيرٍ من النَّاس إلى انتقاص العلماء واحتقارهم، وعدم معرفة أقدارهم، والوقيعة فيهم، وفي أعراضهم، والنَّيل منهم. قد جاء في الحديث عن نبيِّنا –عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه قال: ( لَيْسَ مِن أُمتِّي من لم يَرحمْ ضَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالمِنَا حَقَّهُ ) (1) ففي الفتنة يقع كثيرٌ من الناس في انتقاص العلماء واحتقارهم ولمزِهم وهَمزِهِم والطَّعن فيهم والتَّقليل من شأنهم ورميهم بالأوصاف العظيمة، يتجرَّأ على مقام العلماء جرأةً سَافِرَة، جرأةً سيِّئةً، وذلك كلُّه من آثار الفتن، والعياذ بالله. وممَّا جاء في هذا المعنى من الأخبار التي تُروى في التَّاريخ: أنَّه لَّما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعت، وقد دخل في هذه الفتنة عددٌ من القرَّاء وكثيرٌ من الناس، لَّما كانت هذه الفتنة: انطلق نفرٌ من النَّاس، فدخلوا على الحَسَن البَصْري، وهو إمام من أجلَّة أهل العلم، وفقيهٌ من كبار فقهاء الإسلام، دخلوا على الحسن البصري فقالوا، ما تقول في هذا الطَّاغية –أي الحجَّاج– الَّذي سفك الدَّم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصَّلاة وفعل وفعل..؟! وذكروا له من أفعال الحَجَّاج، فقال الحسن البصري رحمه الله: ( أرى أَلاَّ تُقاتلوه: فإنَّها إن تَكُنْ عقوبةً من الله –أي تسلط الحجاج-: فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكنْ بلاء: فاصبروا حتَّى يحكم الله، وهو خير الحاكمين )، فخروجا من عنده، وهم يقولون: نطيع هذا العِلْجَ؟!(2). فلما تأجَّجت الفتنة في نفوسهم: عندما يقول العالم قولاً لا يوافِق أهواءهم ولا يمشي مع ميُلاتهم وتوجُّهاتهم رأساً: يطعنون به. والطُّعون ممَّن أُشربوا الفتنة في أهل العلم لا حدَّ لها في قديم الزَّمان وحديثِه، ربَّما رموه بمُداهنةٍ، وربَّما رموه بعَمَالَةٍ، ربما رموه بأوصافٍ وألقابٍ لا حدَّ لها. فالفتنُ تُجَرِّئُ الناس على مقام العلماء، وانتقاص العلماء، وتحقيرِ العلماء، والوقيعة في أهل العلم، وهذا من أخطر ما يكون على الإنسان، حمانا الله جميعاً من ذلك. ثمَّ إن هؤلاء النَّفر الذين قالوا للحَسَن هذه المقالة ولم يستجيبوا لنصحه: خرجوا مع ابن الأشعت فَقُتِلُوا جميعاً، فلم يحصِّلوا خيراً، ولم يستفيدوا –أيضًا- من نصائح أهل العلم: لأنَّ أهل العلم أصبح ليس لهم مقامٌ عندهم، وليس لكلامهم أيُّ اعتبار أو أيُّ شأنٍ.
______________ 1. أخرجه أحمد (22755)، والحاكم (1/211) من حديث عبادة ابن الصَّامت رضي الله عنه، وقال الألباني في (صحيح الجامع) (1/211): حسن. 2. (الطبقات الكبرى) لابن سعد (7/164-163)، و(الكنى والأسماء) للدولابي (3/1035)، و (تاريخ دمشق) (12/178 ).
*****
الأثر الثالث
تصدُّر السُّفهاء
ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتَّب عليها تصدُّر السُّفهاء، ومن لا علمَ عندهم، ومن لا فقه لهم في دين الله، يتصدَّرون بالحماسة فقط، بدون فقهٍ في دين الله، وبدون درايةٍ، وبدون أناةٍ ولا تؤَدَةٍ، فيتصدَّرون ويُلقون الأحكامَ جزافًا، ويقرِّرون الأقوال، ويُرجفون، ويتدخَّلون في أمر الفُتْيَا وغيرها، وهم لا يُعرفون بعلمٍ ولا يُعرفو بحلمٍ، ولا يُعرفون برويَّةٍ: لكنهم يدفهم في ذلك حماسةٌ تجرُّهم إليها الفتن.
ولهذا يقول شيخ الاسلان ابن تيمة رحمه الله في كتابه (المنهاج) (1) : ( والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العُقلاء فيها عن دفع السُّفهاء ).
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى : (( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً )) [الأنفال: 25].
وإذا وقعت الفتنة: لم يسلَم من التَّلَوُّث بها إلاَّ من عصمَه الله، نسأل الله عز وجل أن يسلِّمنا أجمعين.
الأثر الرابع الانتهاء إلى العواقب المُرْديَة والمآلات السَّيئَة
من آثار الفتن وعواقبها: أن من يدخل الفتنة ويتوَّرط فيها: يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيئَة، ولا ينال منها خيرًا، وفي الوقت نفسه لا يحصِّل خيرًا، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تتبَّع جملةً من الفتن الَّتي ثارتْ في أزمنة قبله ورصدها رحمه الله، وذكر في كتابه ((منهاج السُّنَّة)) خلاصةً جميلةً نافعةً مفيدةً لمآلات تلك الفتن فقال رحمه الله: (( قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولًّد من الخير ))، وذكر أمثلةَ كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن: فقال رحمه الله: ( فلا أقاموا دينا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا )(1). أي : من تصدَّروا تلك الفتن، وسعوا فيها، ما أقاموا دينًا، ولم يُبقوا دُينا: لأنَّ الفتنة إذا ثارت يقع القتلُ، ويكثر الهَرْجُ، ويموج الناس، وتحصُل الفتن، والعواقب السيئة، ولا يحصِّلُ مُثِير الفتنة أيَّ خيرٍ. ومَرَّ قريبًا معنا قصَّةُ النَّفر الذين لم يَعْبَؤوا بنصيحة الإمام أحمد، وكذلك قصة النفر الذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري، وكانت النتيجة عند هؤلاء وعند هؤلاء أنَّهم ما أقاموا دينًا، وكانت مآلاتهم: إما إلى حبس أو إلى قتل أو هروب أو غير ذلك من المآلات والنِّهايات، وهذا متكرِّرٌ في التَّاريخ. وفي المجلد الثامن من (سير أعلام النبلاء) – في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي- كان أمير الأندلس-: يقول الذّهبي في قصةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها، ولكن يمكن أن تُراجع في ( سير أعلام النبلاء) (2)، بدأها الذهبي رحمه الله بقوله: ( كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته –أي دولة الحَكَم- حتَّى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّن بزيِّ العلماء – يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم المتزيِّين بزيِّ أهل العلم- قال : فلما أراد الله فناءهم: عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله فلا قوَّة إلاَّ بالله )، ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ومنهم مَنْ فَرَّ، ومنهم من سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن التي تُشعل وتُؤجَّج، والسَّعيد – كما يُقال- مَنِ اتَّعظ بغيره. بل إن عددا كبيرا ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن. وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التاريخ والتراجم، أخبارٌ لأولئك الذين شاركوا في الفتن كانت نهايتهم النَّدم على ذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: ( وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ) (3). ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله، ذكر القرَّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعت: فقال : ( لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إِلَا قد رُغِبَ له عن مصرعهِ، ولا نجا منهم أحدٌ إلا حَمِدَ الله إلي سلَّمه ) (4) وندم على ما كان منه. ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب قصة زُبيد ابن الحارث اليامي، وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعت، ولكنَّه سَلِمَ منها، وسَلِمَ من القتل، قال محمَّد بن طلحة: ( رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ! )، و (الجماجم) التي يشير إلها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ثم قال زبيد: ( وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي –أو قال: يميني- قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك ) (5). ثم جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه، فتأمل جوابه الطَّريف اللطيف الذي هو جواب مجرِّب، جاء في بعض الرِّوايات أن منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زبيد، فذكر أهل البيت يُقتلون، ويريد زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زبيد رحمه الله: ( ما أنا بخارج إلاَّ مع نبيٍّ، وما أنا بواجِده ) (6)، أي : لن أجد نبيًّا أخرج معه، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن.
___________ 1. منهاج السنة (4/527-528 ). 2. (8/253-260). 3. منهاج السنة (4/316). 4. أخرجه خليفة بن خياط ف ((تاريخه)) (ص76). 5. تاريخ خليفة (ص76). 6. أخرجه يعقوب بن سفيان في ((تاريخه)) (3/107)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/473).
من آثار الفتن وعواقبها : أنَّ مَنْ يدخل الفتنة ويتورَّط فيها يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيِّئة ، وفي الوقت نفسه لا يحصِّل خيرًا ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تتبَّع جملةً من الفتن الَّتي ثارتْ في أزمنةٍ قبله ورصدها رحمه الله ، وذكر في كتابه «منهاج السُّنَّة» خلاصةً جميلةً نافعةً مفيدةً لمآلات تلك الفتن فقال رحمه الله : «قلَّ من خرج على إمامٍ ذي سلطان إلَّا كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولَّد من الخير» وذكر أمثلةً كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن فقال رحمه الله تعالى: «فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقَوْا دُنْيا» .
«فلا أقاموا دينًا » ؛ أي : من تصدَّروا في تلك الفتن، وسعوْا فيها ما أقاموا دينًا ،
« ولا أَبْقَوْا دُنْيا» ؛ لأنَّ الفتنة إذا ثارت يقع القتلُ ، ويكثر الهَرْجُ ، ويموج النَّاس ، وتحصُل الفتن والعواقب السَّيِّئة ، ولا يحصِّل مُثِيرو الفتنة أيَّ خَيْرٍ ، وَمَرَّ قريبًا معنا قصَّةُ النَّفر الَّذين لم يَعْبَؤوا بنصيحة الإمام أحمد ، وكذلك قصَّة النَّفر الَّذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري رحمه الله ، وكانت النَّتيجة عند هؤلاء وعند هؤلاء أنَّهم ما أقاموا دينًا ، وكانت مآلاتهم إمَّا إلى حبسٍ أو إلى قتلٍ أو ضروب أو غير ذلك من المآلات والنِّهايات ؛ وهذا متكرِّرٌ في التَّاريخ.
وفي المجلَّد الثَّامن من «سِيَرِ أعلام النُّبلاء» في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي كان أمير الأندلس ؛ يقول الذَّهبي في قصَّةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها ، ولكن يمكن أن تُراجع في «سير أعلام النُّبلاء» بدأها الذَّهبي رحمه الله بقوله: «كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته - أي دولة الحَكَم - حتَّى قيل : إنَّه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّين بزِيِّ العلماء - يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم والمتزيِّين بزيِّ أهل العلم - فلمَّا أراد الله فناءهم ؛ عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات وائتمروا ليخلعوه ، ثمَّ جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله، فلا قوَّة إلَّا بالله» ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله ، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ، ومنهم مَنْ فرَّ، ومنهم مَنْ سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن الَّتي تُشعَل وتُؤجَّج ، والسَّعيد - كما يُقال - مَنِ اتَّعظ بغيره ، بل إنَّ عددًا كبيرًا ممَّنْ شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن ، وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التَّاريخِ والتَّراجمِ ، أَخْبَارٌ لأولئك الَّذين شاركوا في الفتن كانت نهاياتهم النَّدم على ذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى : «وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال » .
ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله ، وقد ذكر القرَّاء الَّذين خَرَجُوا مع ابن الأشعث فقال: «لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إلَّا قد رُغِبَ له عن مصرعِه ، ولا نجا منهم أحدٌ إلَّا حَمِدَ الله الَّذي سلَّمه » أي: أنه ندم على ما كان منه.
ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب : قصَّة زُبيد ابن الحارث اليامي - وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام ، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعث ولكنَّه سَلِمَ منها وسَلِمَ من القتل - قال محمَّد بن طلحة: «رآني زُبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ!» ، والجماجم التي يشير إليها: جماجم المسلمين رؤوس المسلمين تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ، ثمَّ قال زبيد: «وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي ـ أو قال: يميني ـ قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك» ، ثمَّ جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنَّه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه ، فاسمعوا جوابه الطَّريف اللَّطيف الَّذي هو جواب مجرِّب ؛ جاء في بعض الرِّوايات أنَّ منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زُبَيد فذكر أنَّ أهل البيت يُقتَلون ، ويريد من زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زُبيد رحمه الله : «ما أنا بخارج إلَّا مع نبيٍّ ، وما أنا بواجِده» أي: لن أجد نبيًّا أخرج معه ، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن .
ª أيضًا من آثارها: أنَّ مَن يدخل فيها وهو من أهل العلم ربَّما أنَّها تؤدِّي به إلى نقوص قدره وسقوط شأنه ، ومن سَلِم من تلك الفتن تكون سلامته منها رفعةً له وسببًا لانتفاع النَّاس بعلمه ومضيِّ الخير وجريانه على يديه بتوفيقٍ من الله تبارك وتعالى ، ولهذا قال عبدُ الله بن عون : «كان مسلم ابن يسار عند النَّاس أرفع من الحسن - أي البصري - فلمَّا وقعت الفتنة خفَّ مسلمٌ فيها وأبْطَأَ عنها الحسن - أي: تأخَّر واعتزل الفتن - ، فأمَّا مسلمٌ فإنَّه اتَّضَعَ ـ أي عند النَّاس ـ، وأمَّا الحسن فإنَّه ارتفع» ؛ مسلم بن يسار الَّذي قال عنه عبد الله بن عون ما سمعنا ؛ وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعث؛ لكنَّه لما انتهت كان يحمَد الله ويقول في حمده لله تبارك وتعالى : «يا أبا قِلابة! إنِّي أحمدُ الله إليك أنِّي لَمْ أَرْمِ فيها بسهم، ولم أطعَن فيها برمح، ولم أضرب فيها بسيف» معنى كلامه: أنا مشيتُ معهم؛ لكنَّني ما رميتُ بسهم ولا ضربتُ بسيف ، فكان يقول هذا الكلام يحمد الله، وكان عنده أبو قلابة رحمه الله ، فقال له أبو قلابة : يا أبا عبد الله! «فكيف بمن رآك واقفا في الصَّفِّ؟ » أنت عالم معروف بين النّاس ومكانتك معروفة؛ فكيف بمن رآك بين الصَّفَّين ، فقال: «هذا مسلم بن يسار، والله! ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحقِّ؟!» وُقُوفُكَ بين الصَّفَّيْن وحضورك بنفسك وقيامك مع هؤلاء وجودك نفسه هذا ممَّا يزيد الفتنة ، فيقول له أبو قلابة ماذا تقول فيمن شاهدك ورآك في هذا المقام وقال إن مسلم بن يسار لم يحضر هنا إلا لأن الأمر حق فدخل وقاتل حتى قُتل أو قاتل حتى قَتَل ! فما أنت صانع بهؤلاء ؟ فبكى مسلم بن يسار لما نبَّهه على هذا الأمر ؛ يقول أبو قلابة: « فبكى وبكى حتَّى تمنَّيتُ أنِّي لم أكُن قلتُ له شيئًا» يعني: تأثَّر للحال الَّتي آل إليها أمر مسلم عندما ذكَّره بخطورة وقوفِه حتَّى بدون مشاركة ، فكيف بمن شارك؟!
ª من آثار الفتن وعواقبها : أنَّ الأمور تشتبه فيها على النَّاس وتختلط ، ولا يَمِيزُ كثيرٌ من النَّاس بين حقٍّ وباطل، ويُقتل الرَّجل ولا يدري فيما قُتل! ويقتلُه قاتله ولا يدري فيما قتله!! لكنَّها فتنة مضطرمة، ويموج النَّاس ، وتتغيَّر النُّفوس ، وتعظمُ الأخطار ، وتُحدِقُ الشُّرور بالنَّاس ، وتصبحُ الأمور مُشْتَبِهَة ، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : «إنَّ الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت» ؛ الفتنة إذا أقبلت على النَّاس شبَّهت : تُصبح أمرُها مشتَبِهًا على النَّاس غير متَّضحٍ ، وإذا أدبرت عرف النَّاسُ حالها وتبيَّن لهم أمرُها.
ويقول مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير : «إنَّ الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي النَّاس ، ولكن لتُقارعَ المؤمنَ على دينه» ؛ ولنعتبر في هذا الباب بفتنة المسيح الدَّجَّال الَّتي هي أعظم الفتن ، والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام ذكر لأمَّته فيها حقائق جليَّة وأمور واضحة، تكشفُ عوار الدَّجَّال وتبيِّن حقيقتَه، ومع ذلك يتبعُه خلقٌ لا يحصيهم إلَّا الله !! .
يقول عليه الصَّلاة والسَّلام : «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ - أي: يبتعد عنه ولا يقترب من مكانه - فَوَاللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» ، «فيتَّبعه» أي: يتَّبع الدَّجَّال ممَّا يَبعث به من الشُّبهات : أي ممَّا يُثيره الدَّجَّالُ من الشُّبهات الَّتي تخطفُ القلوبَ وتأسِرُ النُّفوسَ .
وجاء في الحديث في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً ؛ فَقُتِل فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» ؛ وقوله: «عمِّيَّة»؛ أي: الأمر الأعمى لا يَسْتَبِين حاله ولا يتَّضح أمره ، وهذا حال الفتن وشأنها أنَّها يصبح النَّاس يموجون فيها ولا يتَّضِح لهم فيها أمرٌ ولا تَستبينُ لهم فيها جادَّةٌ .
ومن لطيف ما يُذكر في هذا المقام : قصَّةَ الصَّحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وأرضاه ؛ يقول ابن سيرين: «قيل لسعد بن أبي وقَّاص: ألا تقاتل؟! - يقصدون في الفتنة الَّتي كانت والقتال الَّذي كان بين معاوية وبين عليِّ بن أبي طالب ، وكان سعد ممَّن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل؟! فإنَّك من أهل الشُّورى، وأنت أحقُّ بهذا الأمر من غيرك؟! فقال: «لا أقاتل حتَّى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر». يعني تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربتُ مسلمًا نَبَا عنه لا يقتله، وإن ضربت كافرًا قتله. ثمَّ قال: «فقد جاهدت وأنا أعْرِف الجهاد». أمَّا مثل هذا القتال الَّذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين ويقتل بعضهم بعضًا لا أدخل في ذلك إلَّا أن تأتوني بسيف هذه صفته ، ثمَّ ضرب مثلًا عجيبًا قال فيه رضي الله عنه : «مثلُنا ومثلُكم كمثل قوم كانوا على محجَّةٍ بيضاء ، فبينما هم كذلك يسيرون هاجت ريح عَجاجةٌ فضلُّوا الطَّريق - اشتبه الطَّريق بسبب العجاج والرِّيح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطَّريق ذات اليمين ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: الطَّريق ذات الشِّمال ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: كنَّا في الطَّريق حيث هاجت الرِّيح فنُنِيخُ ؛ فأناخوا فأصبحوا ، فذهب الرِّيح وتبيَّن الطَّريق فهؤلاء هم الجماعة ، قالوا: نَلزم ما فارَقَنَا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نلقاه، ولا ندخل في شيءٍ من الفتن» .
وكان منهجُ سعد بن أبي وقَّاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصَّحابة أنَّ الحلَّ في الأمر الَّذي كان بين معاوية وبين عليٍّ ليس السَّيف، وإنَّما الحلُّ السَّعي في الصُّلح والتَّروِّي في الأمور ونحو ذلك، وعليٌّ رضي الله عنه كان له اجتهاده، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، ولا يُعدم مَنْ كان مجتهدًا متحرِّيًا الحقَّ والصَّواب من أجر الاجتهاد والإصابة، أو أجر الاجتهاد والخطأ وذنبه مغفور ، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ، لكنَّ جماعةً من الصَّحابة رأوا أنَّ الحلَّ في مثل ذلك ليس بالسَّيف والقتال، وإنَّما بالسَّعي في الصُّلح والبُعد عن القتال وجمع الكلمة إلى غير ذلك من الأمور .
ª أيضًا في الفتن وممَّا يترتَّب عليها : أنَّ الفتن تكون سببًا ووسيلة لاستدراج النَّاشئة وصغار الأسنان والتَّغرير بهم من خلال خطوطٍ وقنواتٍ ومسارات إلى أن يصلوا إلى عواقب وخيمة ونهاياتٍ مؤلمة .
وهنا ينبغي على الشَّابِّ أن لا يَغْتَرَّ بالدِّعايات الَّتي تُرفع والشِّعارات الَّتي تُثار والعبارات ونحو ذلك ، بل إذا دُعي إلى شيء يرجع إلى أكابر أهل العلم ، قد قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «البَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» ؛ إذا دعي إلى طريق أو مسار أو مسلَك يرجع إلى الأكابر، أكابر أهل العلم، الرَّاسخين فيه، المعروفين بالتَّحقيق فيه، الَّذين طالت قدمهم في العلم ومدارسته ومذاكرته، وطالت قدمهم في الفتوى والبيان والتَّوجيه والنَّصيحة والتَّعليم ، يرجعُ إليه فيسأل ، لكن في الفتن قد يُستدرَج بعض النَّاشئة ويؤخذون عبر خطوات إلى أن يدخلوا في أمورٍ عظيمة وورطاتٍ ربَّما لا يجدون لأنفسهم منها مخرَجًا .
وتكون البدايات مع الصِّغار من مثيري الفتن في أشياء مألوفة وأمورٍ معروفة ، مثل أن يجتمع جماعة ويتعاهدون على أشياء معروفة ومتقرِّرة ، يقولون مثلًا : نجتمع على الإيمان بالله وملائكته وإقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة ونتعاهد على ذلك، ويضيفون لها بعض الأشياء الَّتي تجعل الشَّابَّ فيما بعد يجد أنَّه التزم بعهد وربَّما دخل في حزبٍ أو سلك في تنظيمٍ أو دخل في بيعةٍ أو نحو ذلك ، ويجد نفسَه في مسارٍ يحتار فيه ، وربَّما يصعب عليه الرُّجوع ، وقد قطع فيه شوطًا وتورَّط في ذلك المسلك والمسار ، بينما إذا كان الشَّابُّ موفَّقًا ومَنَّ الله عليه بالتَّوفيق فإنَّه يسلم من ذلك.
ومثل هذه الأمور كانت توجد من قديمٍ ؛ في زمن التَّابعين يَرْوِي لنا مطرِّف بن عبد الله بن الشّخِّير قصَّةً له لما كان صغيرًا لما كان غلاماً ، يقول: «كنَّا نأتي زيد بن صُوحَان، فكان يقول: يا عباد الله! أكرموا وأجمِلوا فإنَّما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين : الخوف والطَّمع - كان واعظا يعظُ ويذكِّر ويخوِّفهم بالله، ويرغِّبهم في العبادة والطَّاعة - فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابًا فَنَسَّقُوا كلامًا من هذا النَّحو : إنَّ الله ربُّنا ، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم نبيُّنا ، والقرآن إمامنا ، ومن كان معنا كنَّا وكنَّا، ومن خالفنا كانت يَدُنَا عليه وكنَّا وكنَّا - كتبوا كتابًا بهذه المعاني وبهذه المضامين - فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلًا رجلًا ، كلَّما عرضوا على رجل يقولون له : أقررتَ يا فلان؟! يقول: نعم أقررتُ . حتَّى انتهوا إليَّ ؛ فقالوا : أقررتَ يا غلام ؟! - يعني بهذه الأمور - قال: قلت: لا ، ما أقررتُ . قال زيد - أي: ابن صوحان - لا تَعجَلُوا على الغلام، قال: ما تقول يا غلام؟ قلت: إنَّ الله قد أخذ عليَّ عهدًا في كتابه فلن أُحْدِثَ عهدًا سوى العهد الَّذي أخذه اللهُ عليَّ في كتابه ، فرجع القوم عن آخرهم ما أقرَّ منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفسًا» ، أي قرابة الثَّلاثين نفسًا.
فالشَّاهد أنَّ الفتن ربَّما يُستدرج فيها كثير من الشَّباب وصغار السِّنِّ في تنظيمات أو في تحزُّبات أو في بيعات أو في نحو ذلك من الأمور ممَّا يترتَّب عليه ما لا يَحْمدون عاقبتَه.
ª أيضًا من آثار الفتن ومآلاتها المردية : أنَّها تفكِّك المجتمعات ، وتُضعِف الأخوَّة الإيمانيَّة والرَّابطة الدِّينيَّة، وتنشر بين النَّاس الضَّغَائن والأحقاد والعداوات ، ولهذا جاء في الحديث الَّذي في الصَّحيحين - حديث حذيفة بن اليمان - قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله! إنَّا كنَّا في جاهليَّة وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: نَعَمْ، فَقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الشَرِّ من خير؟ قال: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ » ، وجاء في بعض الرِّوايات أنَّه قال: «بَقِيَّةٌ ـ وفي رواية: جمَاعةٌ ـ علَى أَقْذَاءٍ، وهُدْنَة علَى دَخَنٌ»، وفي رواية قال: «لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ».
ª أيضًا من عواقب الفتن ومآلاتها : أنَّها ترخص فيها دماء المسلمين - أي بينهم - وتتجرَّأُ النُّفوس على القتل، ويستحلُّ النَّاسُ دماء بعضهم بعضًا ، وقد جاء عن عبد الله ابن عمر أنَّه قال : «في الفتنة لا ترون القتل شيئًا»، وكان رضي الله عنه عظيم النَّهي عن الدُّخول في إراقة الدِّماء ، واستلاب الأموال ، والتَّعدِّي على الأعراض ، وله في هذا كلمة عظيمة جميلة ينبغي أن تُحفظ ويُحافظ عليها ألا وهي : أنَّ رجلًا كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنِ اكْتُبْ إليَّ بالعلم ، فكتب إليه: «إنَّ العلم كثيرٌ - يا ابنَ أخي - ولكن إنِ استطعت أنْ تَلْقَى الله خفيفَ الظَّهر من دماء المسلمين ، خَمِيصَ البطن من أموالهم ، كافَّ اللِّسان عن أعراضهم ، لازمًا لجماعتهم ، فَافْعَلْ » ؛ وهي وصيَّة من أعظم الوصايا وأجمعها للعلم كلِّه والخير كلِّه.
ª أيضًا من آثار الفتن: أنَّها تؤدِّي إلى اختلال الأمن ، والأمنُ من أعظم النِّعم الَّتي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على أمَّة الإيمان: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش:4] . فالأمن نعمة عظيمة ؛ أمنُ الإنسان على دَمِه ، أمنُه على ماله ، أمْنُه على نفسه ، على عرضه إلى غير ذلك هذه من النِّعم الكبار ، لكن إذا اضطربتِ الأمورُ وشبَّت الفتن واشتعلَت أُريقت دماءٌ ، وأُتلفت أموالٌ ، وأُزهقت أرواح ، ويُتِّم أطفال ، ورُمِّل نساء، إلى غير ذلك من العواقب الَّتي لا تُحمد.
ª أيضًا من آثار الفتن: أنَّها تفتح على النَّاس أبوابًا من الانحراف ؛ سواء من الجوانب العقديَّة أو الجوانب الأخلاقيَّة ، ويتجرَّأ أهل الانحلال والفساد في نشر باطلهم وفسادهم ؛ لأنَّ أصحاب الحقِّ شغلتهم الفتنة ، واشتغلوا بها ، وضيَّعت أوقاتَهم ، وصرفتهم عن باب الإفادة والنَّفع والانتفاع ، فيستغلّ أهل الفساد وأهل الشَّرِّ ذلك ؛ فيبدؤون في بثِّ باطلهم ونشر شرِّهم ودعوتهم للرَّذيلة والفساد أو دعوتهم إلى الانحلال العقدي والمذاهب الفاسدة المنحرفة ، يجدون لأنفسهم فرصةً عند اشتغال النَّاس وأهل الخير بالفتن . وهذا ممَّا يؤكِّد على كلِّ مسلم أن يكون في غاية الحَذَر من الفتن وعوائدها.
ª أيضًا من الآثار: أنَّها تؤدِّي وتفضي إلى تسلُّط الأعداء ؛ عندما يتنازع أهل الحقِّ ويفشو فيهم الهرج والقتل ويموج أمرهم وتضطرب كلمتهم يستغلُّ الأعداء هذه الفرصة ويتسلَّطون على أهل الإيمان ويضغطون عليهم بأنواع من الضُّغوطات ؛ لأنه أصبح فيهم شيء من التفكك وضعف الرابطة وضعف الكلمة والقوة ، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال:46].
فالواجب على أهل الإيمان أن يكونوا في غاية الحذر من الفتن وأخطارها ، وأن يكونوا في حيطة من ذلك ، وأن يقبلوا على الله سبحانه وتعالى إقبالًا صادقًا بأن يُعيذهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يصلح لهم أحوالهم، وأن يجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلنه ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وإن الله تبارك وتعالى لسميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
والله تعالى أعلم ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين .
ضوابط لتجنب الفتن عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ السَّعَيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن)) [1].
وهاهنا يتساءل كثير من الغيورين والناصحين ممن يريدون لأنفسهم الخير والسعادة ولأمتهم أمة الإسلام العلو والرفعة : بمَ تُنال هذه السعادة ؟ وكيف يُظفَرُ بهذا المقصد الجليل ؟ وكيف تُتَقَى الفتُن ؟ وكيف يجنَّبُها المرء المسلم ويسلم من أوضارها وشرورها وأخطارها ؟
ذلك لأنَّ كلَّ مسلم ناصح غيور لا يريد لنفسه ولا لأمته ، لِمَا قام في قلبه من النصيحة لنفسه ولعباد الله المؤمنين متمثلاً في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ )) قُلْنَا لِمَنْ ؟ قَالَ : (( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )) [2]. ومقتضَى النصيحة للنفس والغير أن يحذر العبد من الفتن وأن يسعَى جاهداً في البعد عنها والتخلص منها وعدم الوقوع فيها ، والتعوذ بالله من شرّها ما ظهر منها وما بطن.
وفي هذه الوقفة أُنَّبهُ على نقاط مهمَّة وأسُس عظيمة وضوابطَ قويمة يكون للمسلم بمراعاتها والتزامها التخلُّصُ من الفتن - بإذن الله تبارك وتعالى - وهي ضوابطُ عظيمة مستقاة من كتاب الله العزيز وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
1- وإنَّ أهم ما تُتَقَى به الفتن ويتجنَّب به شرُّها وضررها : تقوى الله جلّ وعلا وملازمة تقواه في السر والعلن والغيب والشهادة، والله تعالى يقول : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] أي : يجعل له مخرجاً من كلِّ فتنة وبلية وشرٍّ في الدنيا والآخرة ، ويقول الله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق:4] ، والعاقبة دائمًا لأهل التقوى.
ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين أتَى نفر من النصحاء إلى طلق بن حبيب رحمه الله وقالوا : قد وقعت الفتنة فكيف نتقيها ؟ فقال رحمه الله : اتقوها بالتقوى ، قالوا : أجمل لنا التقوى ؟ قال: "تقوى الله : عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عقاب الله" .
وبهذا يُعلم أن تقوى الله ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدَّعيها، وإنما تقوى الله عز وجل جدٌّ واجتهاد ونصحٌ للنفس بطاعة الله والتقرب إليه بما يرضيه، ولاسيما فعل الفرائض والواجبات والبعد عن المعاصي والمنكرات، فمن كان هذا شأنه نال – بإذن الله – العاقبة الحميدة والنهاية الرشيدة .
2- ومن الضوابط المهمة لاجتناب الفتن لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما ، فإنَّ الاعتصام بالكتاب والسنة سبيل العزِّ والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وقد قال الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة : "السنة سفينة نوح فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق". ومن أَمَّرَ السنة على نفسه نطق بالحكمة وسلِمَ من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة.
وقد ثبت في حديث العرباض بن سارية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) [3]
فالنجاةُ عند الاختلاف والسلامة من الفتنة إنما تكون بالتمسك بسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والبعدِ عن البدع والأهواء ، وأن يحكِّم المرء السنة على نفسه، فيما يأتي ويذر في حركاته وسكناته وقيامه وقعوده وجميع شؤونه، ومن كان هذا شأنه فإنه يُعصم ويُوقَى - بإذن الله - من كلِّ شر وبلاء وفتنة ، وأما من يرخي لنفسه العِنان و يطلق لهواه الزِّمام فإنَّه يجر على نفسه الشر وعلى غيره من عباد الله .
3- ومن الضوابط العظيمة لاتِّقاء الفتن : الرفقُ والأناة وعدم العجلة والتأمل في عواقب الأمور ، فإنَّ العجلة لا تأتي بخير ، والأناة فيها الخير والبركة ، ومن كان عجولاً في أموره مندفعاً في تصرفاته ، فإنَّه لا يأمن على نفسه من الزلل والوقوع في الانحراف والخطل ، وأما من كان رفيقًا متأنيًا بعيدًا عن العجلة والتهور والاندفاع متأملاً وناظرًا في عواقب الأمور فإنَّه - بإذن الله - يصل إلى العواقب الحميدة التي يسعد بها في الدنيا والآخرة .
وقد جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: "إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤَدَة ، فإنَّك أَن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".
إنَّ من يندفع ويتهور في معالجة الأمور ويبتعد عن سبيل الأناة والتؤدة يفتح على نفسه وعلى غيره من عباد الله باباً من الشر والبلاء يتحمل وزره ويبوء بإثمه ويجني عاقبته الوخيمة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ)) [4].
فالعاقل يكون على حذر ناظراً في عواقب الأمور ، حليمًا رفيقًا متأنيًا، بعيدًا عن الاندفاع والعجلة والتسرع، فإنَّ العجلة والتسرع والاندفاع لا تجرُّ على صاحبها إلا العواقب الوخيمة والأضرار الأليمة والنتائج السيئة .
4- وإنَّ من الضوابط المهمة : لزوم جماعة المسلمين والبعدُ عن التفرق والاختلاف، فإنَّ الفرقة شر والجماعة رحمة، الجماعة يحصل بها لحمة المسلمين وشدة ارتباطهم وقوة هيبتهم ، وتحقق وحدتهم ، ويحصل بها التعاون بينهم على البر والتقوى وعلى ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة . وأما الخلاف فإنَّه يجر عليهم شرورًا كثيرة وأضرارًا عديدة وبلاءً لا يحمدون عاقبته ، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، في غير ما حديث الوصيةُ بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة. قال صلى الله عليه وسلم : ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) [5] ، وقال صلى الله عليه وسلم ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ)) [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ)) [7] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا)) [8] .
5- ومن الضوابط العظيمة التي يلزمُ مراعاتها لاتقاء الفتن واجتناب شرها : الأخذُ عن العلماء الراسخين والأئمة المحققين وترك الأخذ عن الأصاغر من الناشئين في طلب العلم المقلِّين في التحصيل منه ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ)) [9] فالبركة مع الأكابر الذين رسخت أقدامهم في العلم وطالت مدتهم في تحصيله وأصبح لهم مكانة في الأمة بما آتاهم الله من العلم والحكمة والرزانة والأناة والنظر في عواقب الأمور ، فعن هؤلاء أمرنا أن نأخذ ، قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:83] . فمن كان مُعَوِّلاً على هؤلاء أمن الفتنة وحمد العاقبة .
6- ومن الضوابط المهمة لتجنب الفتن : حسنُ الصلة بالله ودعاؤه سبحانه ، فإنَّ الدعاء مفتاح كلِّ خير في الدنيا والآخرة، ولاسيما سؤال الله تبارك وتعالى أن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والتعوذ به سبحانه من مضلات الفتن ، فإن من استعاذ بالله أعاذه ، ومن سأل الله أعطاه ، فإنَّه سبحانه لا يخيب عبداً دعاه ولا يرد عبداً ناداه ، وهو القائل سبحانه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
وإنا لنسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنِّب المسلمين الفتنَ ما ظهر منها وما بطنَ ، وأن يحفظ على المسلمين أمنهم وإيمانهم وأن يقيَهُم الشرور كلّها ، وأن يُحمِّدَهم العواقب ، وأن يرزقهم المآلات الحميدة والنهايات الرشيدة ، إنه سبحانه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
********
________________
[1] رواه أبو داود (4263) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3585) .
[2] رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه .
[3] رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (42) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3851) .
[4] رواه ابن ماجه (237) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن ابن ماجه) (194) .
[5] رواه أحمد (4/278) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع) (3109).
[6] رواه الترمذي (2165) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1758) .
[7] رواه ابن أبي عاصم في (السنة) (81) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه ، وصححه الألباني رحمه الله في (ظلال الجنة) (1/40) .
[8] رواه البخاري (2410) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
[9] رواه ابن حبان (559) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الألباني رحمه الله في (الصحيحة) (1778) .
خطورة الاستشراف للفتن ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي ، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ - أي تهلكه - وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )) . وقوله عليه الصلاة والسلام مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ )) يوضحه زيادة ثبتت في الحديث نفسه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ – الفتنة - فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ )) قال رجل : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ ؟ قال( يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ)) كررها ثلاثاً صلوات الله وسلامه عليه . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في التحذير من الخوض في الفتن والدخول في غِمارها والاستشراف لها أحاديث عديدة يوصي فيها - عليه الصلاة والسلام - أن يكون العباد "أحلاس البيوت" وأن يكون "عبدَ الله المقتولَ وليس القاتل" ، وأن يكون "خير ابني آدم" في أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر فيها أمته من الاستشراف للفتن والبروز لها والخوض في غمارها لأنها هلكة وضرر على العبد في دنياه وأخراه ولا يحمدُ صاحبها العاقبة بل يجني على نفسه وعلى غيره.
والأحاديث الواردة في هذا الباب لا يوفَّق للعمل بها والاعتصام بما دلت عليه إلا من شرح الله صدره للحق والهدى ويسر الله سبيله للزوم هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، أما من أشرب قلبه الفتنة فإنه لا يقيم لهذه الأحاديث وزناً ولا يرفع بها رأساً ولا يرى لها قيمة ، روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح إلى حُميد بن هلال -رحمه الله- أنه روى عن رجل كان من الخوارج ثم تاب وترك طريقتهم ، قال ذلك الرجل : دَخَلُوا – أي الخوارج - قَرْيَةً فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَقَالُوا لَمْ تُرَعْ - أي ليس هناك ما يخيف أو يبعث إلى الخوف والقلق – قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي ، قَالُوا أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالوا : فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُحَدِّثُنَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ ؛ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ : (( فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي ، قَالَ فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ )) ، قَالُوا : أَأَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَالَ دَمُهُ - ابن صحابي ويحدِّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا وزناً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام !! بل لم يكتفوا بذلك فذهبوا إلى بيته - وَبَقَرُوا بطن أُمِّ وَلَدِهِ.
وهكذا عندما يُشرَب القلب بالفتنة ويَستشرف لها تُتلى على الإنسان آيات الله ووحيه وتنزيله وتتلى عليه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُبالي ولا يرفع بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام رأسا ؛ ولهذا جاء في أحاديث ما يدل على أن الفتن إذا برزت وظهرت يلتبس أمرها على كثير من الناس ؛ ولهذا يقال : فتنة عمياء ، ويقال: فتنة صماء ؛ لأن أكثر الناس يعمى عليهم أمرها ولا يستبين لهم شأنها فيخوضون في غمار الفتن ثم لا يحمدون العاقبة ويندمون فيما بعد أشد الندم ؛ ولهذا أيضا كان الأئمة -رحمهم الله من سلف الأمة- يحذرون العباد من الفتن ويدعون الناس إلى التأمل في عواقب الأمور " انظروا في عاقبة أمركم " ، " اصبروا " ، " لا تُريقوا دماءكم ولا دماء المسلمين " إلى غير ذلكم من الوصايا المأثورة والحكم المشهورة والكلمات العظيمة المأثورة عن السلف الصالح رحمهم الله .
ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين أتى نفر من الصلحاء إلى طلق بن حبيب -رحمه الله- وقالوا: قد وقعت الفتنة فبم نتقيها ؟ قال : اتقوها بتقوى الله ، قالوا: أجمِل لنا التقوى ؟ قال : " تقوى الله : العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله ، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله " .
وعندما يلزم عبدُ الله المؤمن سنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ويعتصم بحبل الله المتين وبصراطه المستقيم ويُبعد نفسه عن الأهواء والبدع تتحقق نجاته بإذن الله ، قال مالك رحمه الله : " السنة سفينة نوح فمن ركِبها نجا ومن تركها غرِق " ؛ ولهذا كان متأكداً على كل مسلم ومتعيّنا في حق كل مؤمن أن يؤمِّر السنة على نفسه وأن يحكِّم كتاب الله في شأنه ولاسيما في الأمور الكبار والقضايا الخطيرة التي تمس أمن الأمة وخوفها ، وعندما يُعوِّل الناس وعامة المؤمنين على الأئمة الأكابر والعلماء الراسخين أهل البصيرة في دين الله والدراية بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام يأمنون بإذن الله من العِثار ، قال الله تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا))[النساء :83 ] .
والواجب على عبدِ الله إذا ماجت الفتن وبرزت أن يُقبِل على الله بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن ؛ فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) ، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : ((سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ حَتَّى يُصَلِّينَ)) فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة .
والدعاء لنفس الإنسان خاصة ولقرابته وذويه ولإخوانه المؤمنين عامة بالنجاة من الفتن فيه بإذن الله سلامة الأمة وسلامة المجتمعات ؛ فإن الدعاء مفتاح كل خير والخيرات كلها بيد الله والتوفيق كله بيد الله ، فما أحسن عباد الله أن يَكثُر لجوء العبد إلى الله عز وجل بالدعاء والسؤال والطلب أن يعيذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) .
هذا وعندما يفشو في الناس الجهل وتقِل الدراية بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتضعف المعرفة بهدي السلف الصالح من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعندما تُصاب القلوب بغلبة الأهواء وتُبتلى بالاستشراف للفتن ترى في الناس حُلولاً للمشاكل وعلاجات للأحداث ليست مستمدة من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إذا تأملت في نشأة تلك الحلول وموردها وجدتها مأخوذة من الغرب الكافر ومن أعداء دين الله جل وعلا ولا أصل لها في كتاب الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام ؛ ولذا فإن الواجب على المؤمن قبل أن يُقدِم أن يحكِّم الكتاب والسنة ولا يستعجل ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " إنها ستكون أمورٌ مشتبهات فعليكم بالتؤدة؛ فإنك أن تكون تابعاً في الخير خير من أن تكون رأساً في الشر " ، وثبت في سنن ابن ماجة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال( إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ )).
إن ما يُدعى إليه من بعض أصحاب الفتن في بلادنا الآمنة من مظاهرات واعتصامات وتجمهرات وتكثرات إما بكتابات أو توقيعات أو كلمات تنشر على الملأ فيها تحريضات أو غيرُ ذلك من المسالك الملتويات كل ذلكم أمور مستوردة لا يستطيع واحد من أهل تلك المسالك أن يستدل على أعماله بكتاب ناطق أو سنة ماضية ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " العلم كتاب ناطق أو سنة ماضية أو لا أدري " ، أما هذه الجرأة السافرة على الأحكام والمسارعة في استيراد حلول لا أصل لها ولا أساس في دين الله فهذا كله جناية من فاعله على نفسه وعلى أمته ، وشريعة الله جاءت بالضوابط الواضحة في طريقة التعامل بين المحكوم والحاكم وكيف تُعالج الأخطاء وكيف تُتجنب الفتن وكيف تُصلح الأمور ، فمن سار في إصلاحه على ضوء كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام حقق لنفسه ولغيره الخير ، وأما من سِوى هؤلاء فإنما يهلكون أنفسهم وغيرهم . أصلح الله شأننا أجمعين وهدانا إليه صراطاً مستقيما وأصلح الله لنا شأننا كله .
اللهم يا ربنا ويا سيدنا ويا مولانا ، اللهم يا من بيده أزمة الأمور ومقاليد السماوات والأرض نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا ونسألك بأن لك الحمد وحدك لا شريك لك يا منان يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تعيذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم من أراد أمننا وإيماننا وإسلامنا وسلامنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره واجعل إلهنا تدبيره تدميره ورده خاسئاً يا حي يا قيوم ، اللهم وألف بين قلوبنا أجمعين على الحق والهدى وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأزواجنا وأموالنا وذرياتنا واجعلنا مباركين أينما كنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لا حول لنا ولا قوة إلا بك عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير .
إنَّ الفتن الملمَّة والأحداث المدلهمة إذا حلَّت بالناس ونزلت بهم أظهرت حقائقهم وكشفت معادنهم وميَّزت طيِّبَهم من خبيثهم وحسنهم من سيِّئهم ، ولله الحكمة البالغة في ذلك { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال:37] ، وهذه من حكمة الله في ابتلائه خلقه ، قال الله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد:31] .
والحياة كلها ميدان ابتلاء ودار امتحان والناس فيها ليسوا سواء ؛ فمنهم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، ومنهم من يعبد الله على علم وبصيرة وإيمان راسخ وعقيدة صحيحة ؛ فإن أصابته فتنة صبر فكان خيراً له ، وإن أصابته نعمة شكر فكان خيراً له ، وهذا لا يكون لأحد إلا للمؤمن ، فأمره كله خير ، وأحواله كلها حسنة طيبة ، وعواقبه كلها حميدة { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128] .
إنَّ للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة أثراً قوياً ودوراً بارزاً في التغلب على الأحداث والملمات ، والمصائب والمحن ، والنوازل والفتن ؛ ذلك أنَّ صاحب الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة تعلَّم من دينه أموراً مهمة ودروساً عظيمة تُعينه على الثبات في الأحوال ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومن أهم هذه الأمور ما يلي :
أولاً : أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له ، وأنه وحده المتصرِّف فيه ، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء تبارك وتعالى ، فأزمَّة الأمور كلها بيده ، ومقاليد السماوات والأرض كلها له ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير .
ثانياً : أن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان وحفظ أهل الدين ، ووعد بذلك ووعده الحق ، وأخبر بذلك في كتابه وكلامه صدق وحق ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:7-8] ، وقال سبحانه : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [آل عمران:126] ، وقال تعالى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40] ، وقال تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم:6] .
ثالثاً : أنَّ الله وعد في كتابه بخذلان الكافرين وإبادتهم وقصم ظهورهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين كما قال تعالى : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [التوبة:98] . وشواهد ذلك في التاريخ كثيرة لا تحصى وعديدة لا تُستقصى ، فهو سبحانه يملي للظالم ولا يهمل ، وإذا أخذه أخذه بغتة { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102]
رابعاً : أن المؤمن يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها وتستتم رزقها ، فلن يموت أحد قبل منيَّته ولا بعدها { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس:49] ، فالآجال محدَّدة والأعمار مؤقَّتة ، ولكل أجل كتاب ولكل نفس ميعاد ، ولا يحول بين المرء وبين أمر الله شيء ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78] ، فلا القصور المنيعة تحمي ، ولا السراديب الخفية تقي ، ولا البروج المشيدة تمنع .
خامساً : أنَّ المؤمن لشدة ثباته وقوة يقينه لا تزعزعه الأراجيف ولا تخوِّفه الدعايات ، بل إنه إذا خوِّف بالذين من دون الله زاد إيماناً وثقة بالله وتوكلاً واعتماداً عليه ، كمثل الصحابة رضي الله عنهم { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران:173-174] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }))[1] ومعنى حسبنا الله : أي كافينا .
سادساً : أنَّ صاحب الإيمان الصحيح لا يعتمد في أموره كلها إلا على الله وحده ولا يفوض أموره إلا له ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ، قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3] ، وقال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة:23] ، وقال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان:58] ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ )) [2] .وضرب في السيرة العطرة أروع الأمثلة وأبلغها في الثقة بالله وشدة الاعتماد عليه ، ومن ذلك – على سبيل المثال – ما ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أَنَّهُ غَزَا مَعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : (( إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ اللَّهُ )) - ثَلَاثًا - وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ [3]. فتأمل هذا الثبات العظيم والثقة الكاملة بالله تعالى ، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
سابعاً : أنَّ المؤمن يعلم أنَّ التوكل الحقيقي لا يتم إلا بأمرين اثنين لابد منهما :
الأول : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما قال ابن القيم رحمه الله - بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشوش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله . وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره ، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه .
والثاني : إثبات الأسباب والقيام بها ، وقد كان سيد المتوكلين وإمامهم وحامل لوائهم محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بفعل الأسباب وما أخلَّ بشيء منها ؛ فقد ظاهر بين درعين يوم أحد ، واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدلُّه على الهجرة ، وكان يدَّخر القوت لأهله ، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد معه ، وجميع أصحابه كانوا كذلك ، فهم أولوا التوكل حقاً .
فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ، ومن اعتمد على الأسباب لم يكن من أهل التوكل ، والأمر كما قال بعض أهل العلم : " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع ، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألَّف من موجب التوحيد والعقل والشرع " .
ثامناً : ثمَّ إنَّ المؤمن في الأمور الملمات والأحوال المدلهمات يجد من قلبه إقبالاً شديداً على الله وانكساراً بين يديه وخضوعاً له ، فتراه مقبلاً على الله بالدعاء والسؤال والرجاء أن يجنِّب المسلمين الفتن ويخلِّصهم من المحن ، والله تبارك وتعالى قريب من عباده يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ويغيث ملهوفهم ويجبر كسيرهم ويكشف مصيبتهم { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل:62] ، لا أحد غيره تعالى ، فمن سأله بصدق وإخلاص وعزيمة ورجاء أجاب دعاءه وحقَّق رجاه فهو القريب المجيب سبحانه . ولربما انكشف ما يحلّ بالمسلمين من بلاء وما ينزل بهم من محن بدعوة صالحة من رجل صالح في لحظة انكسار وساعة إجابة ، فالدعاء أمره عظيم وشأنه جليل .
والله المسؤول وحده أن يجنِّبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فلا إله إلا الله وحده ، نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده . وصلى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
********
________________
[1] رواه البخاري (4563) .
[2] رواه البخاري (7383) ، ومسلم (2717) واللفظ له .
الرجوع إلى العلماء في النوازل لا يخفى على كل مسلم مكانة أهل العلم وأئمة الدين ورفعة شأنهم وعلو منزلتهم وسمو قدرهم ، فهم في الخير قادة وأئمة تقتصُّ آثارهم ويقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، فهم مصابيح الدجى ومنارات خير وأئمة هدى ، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ودرجات المتقين الأبرار ، قد سمت بالعلم منزلتهم وعلت مكانتهم وعظم شأنهم وقدرهم ، كما قال تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر : 9] ، وقال تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة : 11] .
ومن فضلهم أن الملائكة تضع أجنحتها خُضعاناً لقولهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتانُ في الماء ، وهم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم ، والوارث قائم مقام المورث فله حكمه فيما قام مقامه فيه .
ففي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَرِثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ )) [1] فالعلماء ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم ، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته والنهي عن المعاصي والذود عن دين الله ، وهم في مقام الرسل بين الله وبين خلقه بالنصح والبيان والدلالة والإرشاد وإقامة الحجة وإزالة المعذرة وإبانة السبيل 0
قال محمد بن المنكدر : " إن العالم بين الله وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل عليهم " . وقال سفيان بن عيينة : "أعظم الناس منزلةً من كان بين الله وبين خلقه : الأنبياء والعلماء " . وقال سهل بن عبد الله : " من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء ، يجيء الرجل فيقول : يا فلان ما تقول في رجل حلف على امرأته كذا وكذا ؟ فيقول : طلقت امرأته ، ويجيء آخر فيقول : ما تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا ؟ فيقول : يحنثُ بهذا القول ، وليس هذا إلا لنبي أو عالم فاعرفوا لهم ذلك " . وقال ميمون بن مهران : " إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد " .
وإذا كان أهل العلم بهذه المنزلة العلية والدرجة الرفيعة ، فإنَّ الواجب على من سواهم أن يحفظ لهم قدرهم ويعرف لهم مكانتهم وينزلهم منازلهم . عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)) [2].
وإن من حق العلماء ألا يفتات عليهم فيما هم أهله والجديرون به ، ألا وهو بيان دين الله وتقرير الأحكام ونحو ذلك بالتقدم عليهم أو التقليل من شأنهم أو التعسف في تغليطهم أو صرف الناس عنهم ، أو غير ذلك مما هو سبيل الجاهلين ممن لا يعرفون قدر العلماء ومكانتهم .
ومن المعلوم لدى كل الناس أن التعويل في كل فنٍّ لا يكون إلا على أهل الاختصاص فيه ، فلا يرجع في الطبِّ إلى المهندسين ولا في الهندسة إلى الأطباء ، ولا يرجع في كل فن إلا إلى أهل الاختصاص فيه ، فكيف الشأن بعلم الشريعة ومعرفة الأحكام والفقه في النوازل ، كيف يرجع فيها إلى من ليس معروفاً بالتضلُّع في هذا العلم والرسوخ فيه ، ولا يرجع إلى العلماء الجهابذة والأئمة الراسخين أهل الفقه والدراية والفهم والاستنباط .
يقول الله عز وجل : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] والمراد بأولي الأمر في الآية : أي العلماء الراسخون الذين يحسنون استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنة ، لأن النصوص الصريحة لا تفي ببيان جميع المسائل الحادثة والأحكام النازلة ، ولا يحسن استنباط ذلك واستخراجه من النصوص إلا العلماء الراسخون .
قال أبو العالية في معنى {أُولِي الْأَمْرِ } في الآية : هم أهل العلم ، ألا ترى أنه يقول { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . وعن قتادة { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : لَعَلِمه الذين يفحصون عنه ويهمهم ذلك . وعن ابن جريج : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أولي الفقه في الدين والعقل 0
قال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري : " ونقل عن ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى :{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44] قال : أنزل سبحانه وتعالى كثيراً من الأمور مجملاً ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته ، وما لم يقع في وقته وَكَلَ تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء : 83] " .
وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في معنى الآية : " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة ؛ عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها . فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك ، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه ، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية ؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ . وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها ، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه ؛ هل هو مصلحة فيُقْدِم عليه الإنسان ، أم لا فيحجم عنه " انتهى كلامه رحمه الله .
وبما تقدم يعلم أن أمر البت في النوازل والحوادث المستجدة وإيضاح حكم الشرع فيها ،ليس لأحد أن يخوض فيه إلا العلماء أهل البصيرة في الدين 0
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهدًا عالماً مجتهدًا ، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولايات والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين . فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدَّعي ذلك لنفسه ، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدى طوره ) ا.ه .
وإنا لنسأل الله جل وعلا أن يبارك لنا في علمائنا وأن ينفعنا بعلومهم ، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء وأوفره إنه سميع مجيب .
********
________________
[1] رواه أحمد (5/196) ، وأبو داود (3641) ، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) ، والدارمي (342) ، وحسنه لغيره الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب ) (70) .
[2] رواه أحمد (5/323) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب) (101)
الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن للشيخ صالح أل الشيخ.
الحمد لله، الحمد لله الذي قال: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون).
والحمد لله الذي قال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام) [الزمر: 36].
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةَ مَن خالطت كلمة التوحيد قلبه وفؤاده، فعلم منها ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، هو البشير النذير، بشَّر وأنذَر، وقال وعلَّم، فَطُوبى لمَن أخذ بسنَّته واقتفى أثره واهتدى بهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد:
فيا أيها الإخوان! تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن، تعوَّذوا بالله جلَّ وعلا من الفتن التي تحرق الدين، وتحرق العقل، وتحرق البدن، وتحرق كل خير، تعوَّذوا بالله منها؛ فإنه لا خير في فتة أبداً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ بالله كثيراً من الفتن، وكان عليه الصلاة والسلام يحذَّر من الفتن.
ولهذا؛ لما ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتابَ الفتن؛ ابتدأه بقوله: باب: قول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ..)، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن.
وذلك أن الفتن إذا أتت؛ فإنها لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ولا تبقى –إذا أتت –لقائل مقالاً، وإنما يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها، وأن نباعد أنفسنا حقّاً بعداً شديداً عن كل ما يقرب إلى الفتنة أو يدني منها؛ فإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتن؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال: تظهر-الفتن".
وذلك لأن الفتن إذا ظهرت؛ فإنه سيكون معها من الفساد ما يكون مدنياً لقيام الساعة.
ومن رحمة نبي الله صلى الله عليه وسلم بنا: أن حذَّرنا من الفتن كلها.
والله جلَّ وعلا قد حذَّرنا بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: "هذه الآية؛ وأن كان المخاطب بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من الفتن".
وقال الآلوسي أيضا في "تفسيره" عند هذه الآية: "فسرت الفتن في قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ فسرت بأشياء: منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على البدع إذا ظهرت. ومنها: أشياء غير ذلك".
قال: "ولكلّ معنى بحسب ما يقتضيه الحال".
يعني: أنه إذا كان الزمان زمان تفرُّق واختلاف؛ فليحذِّر بعضنا بعضاً بقوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًُ.)؛ يعني: اتقوا تفرّقاً واختلافاً لا يصيب مآله ولا تصيب نتيجته الذين ظلموا منكم خاصة، وإنما يصيب الجميع، ولا يخص ذلك الأثر-للتفرق والاختلاف مثلاً-الظالم وحده.
ولهذا؛ فإننا في هذا المقام أحببنا أن نذكّر بهذا الأمر؛ لأننا نرى صحوةً إسلامية راشدةً بإذن الله في هذه البلاد، التي هي القائمة بشأن التوحيد، والقائمة بدعوة التوحيد في هذا الزمان، الذي لا نرى فيه قائماً بدعوة التوحيد إلا ما شاء الله جلّ وعلا.
فكان لزاماً أن نذكر هؤلاء، وأن نذكر أنفسنا جميعاً، بلزوم الاعتناء بالعلم النافع، بلزوم الاعتناء بعقيدة السلف الصالح، بلزوم الاعتناء بعقيدة أهل السنة والجماعة
فإن هذه الصحوة المباركة، الصحوة التي نرجو منها أن تنشر دين الله، وأن تحبب الشريعة والاستقامة للناس، نرجو منها أن تكون ثابتة على العلم النافع، لأن شبابنا اليوم يحرصون كثيراً على العلم النافع، يحرصون كثيراً على كلام أهل السنة والجماعة.
ولهذا؛ أجد لزاماً علىّ أن أنقل لهم، وأذكرهم، وأبين لهم ما أعلمه من كلام أئمتنا، ومن كلام أهل السنة والجماعة، الذي بنوه على مقال المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وعلى كلام المولى سبحانه.
فإن الفتن إذا لم يرعَ حالها، ولم ينظر إلى نتائجها؛ فإنه سيكون الحال حال سوء في المستقبل، إن لم يكن عند أهل العلم من البصر النافذ والرؤية الحقا ما يجعلهم يتعاملون مع ما يستجد من الأحوال، أو يظهر من الفتن؛ على وفق ما أراد الله جلّ وعلا وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالضوابط والقواعد لا بدَّ أن تُرعى؛ فإن الضوابط بها يعصم المرء نفسه من الوقوع في الغلط، فالضوابط الشرعية والقواعد المرعية إذا أخذنا بها ولازمناها وأقتفونا أثرها؛ فإن عند ذلك سيحصل لنا من الخيرات ما لن نندم عليه بإذن الله.
فالضابط في كل أمر لابد من معرفته، حتى يتسنى لك – أيها المسلم – أن تعصم نفسك من أن تنساق أو تسوق نفسك إلى ما لم تعلم عاقبته الحميدة، أو مالم تعلم ما يؤول إليه ذلك الأمر من مصلحة أو مفسدة.
فبهذا؛ نعلم أنه لابدَّ من رعاية الضوابط ورعاية القواعد التي بينها أهل ألسنة والجماعة.
فما تعريف الضابط والقاعدة؟
الضابط في المسألة: هو ما به نعرف ما تحكم به مسائل الباب الواحد وترجع إليه مسائل الباب الواحد.
وأما القاعدة: فهي أمر كليّ ترجع إليه المسائل في أبواب مختلفة.
ولهذا؛ كان لزاماً علينا أن نأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي كان عليها أهل السنة والجماعة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيراً؛ فعليكم بستَّني وسنًّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ" نعم.
وقد رأى الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، رأوا اختلاف، وما نجوا إلا بما تمسكوا به من القواعد الواضحة التي كان عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان عليها الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم.
الفوائد الناجمة عن الأخذ بهذه الضوابط والقواعد:
- أول تلك الفوائد: أن رعاية الضوابط ورعاية القواعد تعصم تصور المسلم من أن يقع تصوُّره فيما لا يقره الشرع، تعصم ذلك التصور، وتضبط عقل المسلم في تصوُّراته.
ومعلوم أن المسلم إذا تصور مسألة ما دون ضابط ودون قاعدة ترجع إليها؛ فإنه سيذهب عقله إلى أنحاءِ شتى في تصرفاته في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه أو في أمته.
فعند ذلك نعلم أهمية رعاية تلك الضوابط وتلك القواعد، لأنها تضبط العقل –عقل المسلم- في تصوراته التي ينشأ عنها تصرفه في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه.
- ثانياً: ثم أن لرعاية تلك الضوابط وتلك القواعد فائدة أخرى، ألا وهي: أنها تعصم المسلم من الخطاء؛ لأنه إذا سار وراءِ رأَيه فيما يجد أو في الفتن إذا ظهرت، وحلَّلها بعقله، نظر فيها بنفسه؛ دون رعاية لضوابط وقواعد أهل السنة والجماعة؛ فإنه لا يأمن أن يقع في الخطأ، الخطأ إذا وقع فيه؛ فإن عاقبته ليست حميدة؛ لأنه يتدرج ويتفرع، وربما زاد وزاد.
فللضابط وللقاعدة إذا التزمنا بها فائدة، وذلك أنها تعصم من الخطأ.
لماذا؟
لأن تلك الضوابط وتلك القواعد؛ مَن الذي قعَّدها؟ ومن الذي ضبطنا بها؟ هم أهل السنة والجماعة؛ وَفق ما جاء في الأدلة.
ومَن سار خلف الدليل وسار خلف أهل السنة والجماعة؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
- ثالثا: ومن الفوائد للقفو خلف تلك الضوابط والقواعد: أنها تسلم المسلم من الإثم؛ لأنه إذا سار وفق رأيه، أو سرت وفق رأيك وما تظنه صواباً؛ دون رعاية لتلك الضوابط والقواعد؛ فإنك لا تأمن الإثم؛ لأنك لا تعلم ما سيكون عليه مستقبل الحال في مقالك أو فعلك إذا سرت وراء رأيك أو سرت وفق ما رأيته صواباً.
وأما إذا أخذت بما دل عليه الدليل من الضوابط والأصول العامة؛ فإنك ستنجو بإذن الله من الإثم، والله جلّ وعلا سيعذرك؛ لأنك سرت وفق الدليل، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
ولهذا؛ أيها الإِخوان، يتبَّين لنا – بتلك الفوائد الثلاثة – ضرورة الأخذ بتلك الضوابط والقواعد التي سيأتي بيانها.
وهذه الضوابط والقواعد التي سنبينها مأخذها ودليلها أحد شيئين:
الأول: التنصيص على تلك القاعدة أو ذلك الضابط في الأدلة الشرعية – إما في القرآن أو في السنة -، وأخذ أهل السنة و الجماعة بما دلت عليه تلك الأدلة التي في القرآن أو في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الشيء الثاني: أن يكون مأخذها من السنة العملية المرعية، التي عمل بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم والأئمة – أئمة أهل السنة والجماعة- كان لهم سيرة عملية في الفتن إذا ظهرت، وفي الأحوال إذا تغيرت؛ رعوها، وأخذوا فيها بالأدلة، وطبَّقوها، ورعوها عمليّاً.
لهذا؛ لن يزيغ بصرنا، ولن تزيغ عقولنا؛ إذا أخذنا بما عملوا به، وبما أخذوا به من الأدلة، وبما ساروا فيه بالسيرة العملية.
وهذا من رحمة الله جلَّ وعلا بنا: أنه لم يتركنا دون قدوة نقتدي بها؛ فالعلماء – علماء أهل السنة والجماعة – هم الذين يُرْجَع إليهم في فهمهم وفي رأيهم وفي كلامهم؛ لأنهم علموا من الشرع، وعلموا من قواعده الكلية، ومن ضوابطه المرعية: ما يعصمهم من الخطأ، وما يعصم من الانفلات.
فلهذا؛ يتبَّين لك وجوب الأخذ بهذه الضوابط والقواعد التي سأذكرها لك الآن، ويتبَّين لك أيضاً فائدة الأخذ بها، ولزوم الأخذ بها، والمصلحة المترتبة عليها في نفسك وفي مجتمعك إذا أخذت بها وإذا رعيتها.
ومن سار خلف مهتدٍ، ووفق ما دلَّت عليه الأدلة؛ فطوبى له في سيره، وطوبى له في هداه؛ فإنه لن يندم بعد ذلك أبداً.
الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن
- الأول من تلك الضوابط والقواعد:
فأول تلك الضوابط والقواعد: أنه إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوال؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم، ولا تعجل.
هذه قاعدة مهمة: علك الرفق، وعليك التأنِّي، وعليك بالحلم.
ثلاثة أمور:
- أما الأمر الأول – وهو الرفق -؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح: "ما كان الرفق في شئ؛ إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه".
قال أهل العلم: قوله: "ما كان في شيء إلا زانه": هذه الكلمة: "شيء" نكرة أتت في سياق النفي، والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء؛ يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله.
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيح؛ قال؛ "باب الرفق في الأمر كله".
في كل أمر عليك بالرفق، وعليك بالتؤدة، ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً، ولم يكن الرفق في شيء إلا زانه؛ في الأفكار، وفي المواقف، فيما يجد وفيما تريد أن تحكم عليه وفيما تريد أن تتخذه عليك بالرفق، ولا تعجل، ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفق؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه".
فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله.
- أما الأمر الثاني؛ فعليك بالتأني؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
والتأنّي خصلة محمودة، ولهذا قال جلّ وعلا: (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا..).
قال أهل العلم: هذا فيه ذمُّ للإنسان، حيث كان عجولاً؛ لأن هذه الخصلة؛ من كانت فيه؛ كان مذموماً بها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل.
- وأما الأمر الثالث؛ فهو الحلم، والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه.
ثبت في صحيح مسلم من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه: أن المستورد القرشي – وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه -؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". قال عمرو بن العاص له – للمستورد القرشي -: أبصر ما تقول ! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن كان كذلك؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة. الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة... وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة.
قال أهل العلم: هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرة؛ لا ! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم، ويذهب أصحابهم.
هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على "صحيح مسلم".
وهذا التنبيه لطيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس؛ لماذا؟!
قال عمرو بن العاص: لأن فيهم خصالاً أربعاً
الأولى وهي التي تهمنا من تلك الخصال: أنهم أحلم الناس عند فتنة؛ يعني: إذا ظهرت تغير الحال، وظهرت الفتن؛ فإنهم يحلمون، ولا يعجلون، ولا يغضبون؛ ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتن؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت؛ فإنها ستأتي عليهم؛ فلأ جل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.
ولهذا؛ فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم، وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا.
الحلم المحمود في الأمر كله؛ فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه، فيدل على تعقله وعلى بصره.
هذا الضابط هو الأول، وهذه القاعدة الأولى التي رعاها أهل السنة والجماعة عند ظهور الفتن، وعند تقلب الأحوال.
وهذه الضوابط والقواعد بعضها ضابط وبعضها قاعدة، دمجتها لأجل اشتراك البعض مع البعض الآخر في المعنى.
- الثاني من تلك الضوابط والقواعد:
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال، فلا تحكم على شيء من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره؛ رعاية للقاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره".
وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام، ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا: قال الله جل وعلا: (ولا تقف ما ليس لك به علم.)؛ يعني: أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينه منه؛ فإياك أن تتكلم فيه، وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً، أو أن تكون فيه متبعاً، أو تكون فيه حكماً.
"الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره"
وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية، وفي أحوالكم المختلفة، العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة، ولا يصلح تصرفٌ ما؛ إلا بأن يرعى تلك القاعدة؛ لأنه إن لم يرع تلك القاعدة؛ فإنه سيخطئ ولاشك، والشرع قرَّرها أيما تقرير، وبين تلك القاعدة أيما بيان.
أضرب أمثلة لكي تتضح تلك القاعدة:
- فمثلاً: لو سألت واحداً منكم، وقلت له: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟
قد يأتي قائل ويقول: الربح مطلوب، الربح لا شيء فيه في الشرع؛ فلا بأس في بيع المرابحة.
فيكون حكمه على هذه المسألة غلط صرف؛ لأنه لم يتصور المراد بقول القائل: ما حكم الإسلام في بيع المرابحة؟ وظن أن معنى المرابحة: هو الربح في البيع، ولأجل تصوره الذي غلط فيه أخطأ في الحكم الشرعي.
والحكم في الشرع لا بدَّ أن يُبنى على تصور صحيح، والمرابحة نوع من أنواع البيع الذي لا يجوز، تستعمله بعض البنوك الإسلامية تحايلاً على الربا، وصورته أنه مبنيُّ على توكيل للغير، وبعد التوكيل يكون هناك إلزام بالوفاء بالوعد؛ فالوعد الذي وعده الموكل لوكيله هو ملزم بالوفاء فيه، وهذا لا يجوز في الشرع، فكان بيع المرابحة غير جائز.
- مثالاً أخر يبين لك قاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره": لو سألت واحداً منكم: ما حكمناً على جماعة "شهود يهوه"؟ ماذا سيقول أحدكم؟
إن كان مطلعاً؛ فسيقول: هذه جماعة كيت وكيت، وحكم الإسلام فيها كذا وكذا.
وقد يكون قائل يقول: لا أعلم ما هذه الجماعة جماعة شهود يهوه؟ ولم أسمع بها قبل؛ فهنا لا تستطيع أن تحكم عليها، ولا تبين حكما شرعياً فيها؛ لأنك لم تتصور هذه الجماعة؛ ماهي؟ وما مبادئها؟ وهل هي إسلامية أو نصرانية أو يهودية؟ فلن تحكم عليها إلا بعد تصورها.
إذا تبين لك ذلك؛ فإن الحاكم أو المفتي أو المتكلم في المسائل الشرعية لا يجوز له أن يتكلم – رعاية لحق نفسه، ورعاية لخلاص نفسه من الإثم، ثم رعاية لحق المسلمين جميعاً، وتبرياً من القول على الله بلا علم -؛ إلا إذا حصل له أمران:
- الأمر الأول: أن يتصور القضية المطروحة تماماً؛ بحيث لا تلتبس عليه في قضية أخرى، ولا تشترك في تصوره وفهمه بمسألة أخرى، لأنه أحياناً تشترك بعض المسائل، وتقترب صورة مسألة من صورة مسألة أخرى، فينتقل ذهنك إلى مسألة مشابهة؛ فعند ذلك تقع في ذلك الخطأ.
- الأمر الثاني: أن تعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها، لا في المسألة التي تشبهها.
وإذا ثبت ذلك؛ فها هنا سؤال مهمُّ: يقول أحدكم: كيف يحدث لي هذا التصور؟! كيف أتصور هذه المسألة؟! وممَّن أتصورها؟! فإن المسائل مشتبه ومتشابهة، وبعضها يشكل وبعضها قد لا أجد مَن يبيِّنه لي ويصوِّره لي التصور الصحيح.
فنقول: التصور الذي ينبني عليه الحكم الشرعي هو ما كان:
أولاً: من المستفتي: فإن المستفتي هو الواقع في المسألة؛ فإذا سأل وإذا شرح مسألة؛ حصل التصور؛ فالمفتي يبيُّن له ذلك الحكم وفق استفتائه.
ثانياً يكون التصور بنقل العدول الثقاة المسلمين، الذين لا يشوب نقلهم شائبة تجعلهم يخطئون في النقل ومن ثم نخطئ في الحكم على الشيء، لا بد من نقل عدلٍ ثقة في المسألة.
فعند ظهور الفتن، واختلاف الأحوال؛ لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاً؛ ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما، أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما، أو في تقريرٍ ما،
هذا لا يجوز شرعاً أن يبني عليه حكماً شرعيّاً، وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة.
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل ممَّن يأتي بها؛ إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه، إذا كان في الإسناد فاسق؛ فإنه قد انخرمت مروءته، وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط، من يأتي بشيء ويخلطه مع شيء أخر؛ فإنه لا يقبل، ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي.
ولهذا؛ فإنه لا بدَّ من رعاية هذه المسألة.
تلخَّص من هذا: أن هذه القاعدة: "الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره": أساسها التصور، ولا يمكن أن يكون صحيحاً في الشرع إلا إذ كان من مسلم عدلٍ ثقة، أو كان من المستفتي نفسه، ولو كان فاسقاً.
- الثالث من تلك الضوابط والقواعد:
أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمر كله.
يقول الله جلَّ وعلا: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) [الأنعام: 152].
ويقول جلَّ وعلا: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
وقد بُيِّنَتْ هذه المسألة بياناً شافياً كافياً؛ من أنه لابدَّ من العدل في الأقوال، ولا بدَّ من العدل في الأحكام، وأن من لم يعدل في قوله، أو يعدل في حكمه؛ فإنه لم يتبع الشرع اتباعاً يرجو معه النجاة.
ما معنى العدل؟ وما معنى الإنصاف في هذه القاعدة؟
معناه: أنك تأتي بالأمور الحسنة أو بالأمور السيئة، تأتي بهذا الجانب الذي تحبه، وذلك الجانب الذي لا تحبه، ثم توازن وتعرض لهما عرضاً واحداً، وبعد ذلك تحكم؛ لأنه – جزماً – يحصل من عرض الجانبين معاً ما يعصم المرء من أن ينسب للشرع أو ينسب إلى الله جلَّ وعلى أو إلى سنة من سننه الكونية ما ليس موافقاً لما أمر الله جلَّ وعلا به.
فلا بدَّ من عرض الحسن والقبيح؛ عرضهما على الذهن، حتى تصل إلى نتيجة شرعية، وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً إن شاء الله تعالى.
وهذه مسالة مهمة، وقاعدة لا بدَّ من رعايتها؛ لأنه مَن لم يرع هذه القاعدة؛ دخل الهوى إلى قلبه من مصراعيه، ولم يأمن أن يفتح باب الهوى على غيره، ومن ثم يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومَن سنَّ سنَّة سيئة؛ فعليه وزرها و وزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة"، وتكون المصيبة أعظم إذا كان الفعل ممَّن ينتسب إلى العلم والهدى؛ لأنه يقتدي بفعله الجاهل، ويقتدي بفعله نصف المتعلم.
فإذا؛ لابدَّ من أن نرعى هذه القاعدة في أمرنا كله، ومَن سلم من الهوى؛ فإن الله جل وعلا سينجيه في الآخرة والأولى.
- الرابع من تلك الضوابط والقواعد:
ما دلَّ عليه قول الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة".
وثبت أيضا في الحديث الذي رواه عبدالله بن أحمد في "زوائد مسند أبيه": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الفرقة بجميع أنواعها – في الأفكار، أو في الأقوال، أو في الأعمال – عذاب يعذِّب الله جلَّ وعلا به مَن خالف أمره وذهب إلى غير هداه.
لهذا؛ مَن لزم الجماعة – جماعة أهل السنة والجماعة – واقتدى بأئمتهم وعلمائهم؛ فإنه قد لزم الجماعة، ومَن تفرَّق عنهم؛ فإنه لا يأمن على نفسه أن يكون ممَّن ذهب إلى الفرقة وعذب بعذاب من عذاب الله في الحياة الدنيا.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يسلمنا وإخواننا جميعاً من ذلك كله.
ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
الجماعة بجميع أنواعها، وبجميع صفاتها، إذا كانت على الهدى والحق، فهي رحمة، يرحم الله جلَّ وعلا بها عباده.
والفرقة عذاب؛ لا خير في التفرق، لا خير فيه أبداً.
لهذا؛ بعد أن قال الله جلَّ وعلا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)؛ قال في الآية بعدها: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، ثم قال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].
نعم؛ الذين تفرَّقوا – في أقوالهم وأعمالهم – من بعد ما جاءتهم البينات، وجاءهم البينات والهدى؛ أولئك لا يؤمن عليهم الزيغ، وأولئك لا يؤمن عليهم الاختلاف، ولا يؤمن عليهم سلوك غير سبيل الهدى.
لهذا؛ كان لزاماً أن نلتزم بجماعة أهل السنة والجماعة، أن نلتزم بأقوالهم، وأن لا نخرج عن قواعدهم، ولا عن ضوابطهم، ولا عمَّا قرَّره علمائهم؛ لأنهم يعلمون من أصول أهل السنة والجماعة، ومن الأدلة الشرعية، ما لا يعلمه كثير من الناس، وما لا يعلمه كثير من الذين ينتسبون إلى العلم؛ لأنهم لهم علماً راسخاً، ونظراً صائباً ، وقدماً راسخةً في العلم.
أنظر إلى ما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ! أتدري ماذا فعل حين كان في الحج مع عثمان بن عفان رضي الله عنه؟
كان عثمان يتمًّ الصلاة؛ يصلي في منىً أربع ركعات، والسنة أن يصلي المصلي في منى ركعتين؛ قصراً لكل رباعية.
عثمان رأى أن يصلي أربع ركعات لتأويل شرعي تأوَّله، مع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين لا غير لكل صلاة رباعية. قيل له: يا عبد الله بن مسعود ! تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان بن عفان أربع ركعات ! لماذا؟! قال: يا هذا ! الخلاف شر ! الخلاف شر ! الخلاف شر......رواه أبو داود بإسناد قوي.
وهذا لأجل فهمهم للقاعدة الصحيحة، للقاعدة التي مَن أخذ بخلافها؛ فإنه لا يأمن على نفسه الفتنة، ولا على غيره.
أن الرايات التي ترفع في الفتنة – سواء رايات الدول أو رايات الدعاة – لا بدَّ للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح، ميزان أهل السنة والجماعة، الذي مَن وزن به؛ فإن وزنه سيكون قسطاً غير مجحف في ميزانه؛ كما قال جلَّ وعلا في ميزانه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا) [الأنبياء: 47].
فلذلك أهل السنة والجماعة لهم موازين قسط يزنون بها الأمور، ويزنون بها الأفكار، ويزنون بها الأحوال، ويزنون بها الرايات المختلفة عند اختلاف الأحوال ، وتلك الموازين تنقسم عندهم – كما بيَّن ذلك أئمة دعوتنا، وكما بيَّن ذلك أئمة أهل السنة والجماعة – تنقسم تلك الموازين إلى قسمين: فسمعهما:
- القسم الأول: موازين يوزن بها الإسلام من عدمه؛ يعني: يوزن بها صحة دعوى الإسلام من عدم صحة تلك الدعوى.
الرايات التي ترفع وتنسب إلى الإسلام كثيرة؛ فلا بدَّ أن تزن تلك الراية، فإن كانت مسلمة؛ ترتَّب على ذلك أحكام شرعيَّة لا بدَّ لك من رعايتها؛ استجابة لما أمر الله به وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- القسم الثاني: موازين نعرف بها كمال الإسلام من عدمه، والاستقامة الحقا على الإسلام من عدم الاستقامة.
فإذاً:
القسم الأول: ينتج من الكفر والإيمان: هل الراية مسلمة مؤمنة؟ أو هي غير ذلك؟
والقسم الثاني: ينتج منه أن تلك الراية هل هي مستقيمة على الهدى كما يحب الله ويرضى؟ أم عندها نقص في ذلك؟
ثم إذا تبين ذلك؛ فإنه تترتب الأحكام الشرعية على ذلك الميزان.
- أما القسم الأول الذي يوزن به الإيمان من الكفر؛ فثلاثة موازين:
الأول: أن تنظر: هل هناك إحقاقٌ لعبادة الله وحده لا شريك له أم لا؟ لأن أصل دين الأنبياء والمرسلين هو أنهم بُعثوا لأن يعبد الله وحده لا شريك له، التوحيد أساس الأمر، وأول الأمر، وآخر الأمر، فمَن رفع راية التوحيد، وأقرَّ عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يقرَّ عبادة غير الله جلَّ وعلا فالميزان هذا ينتج أنه مسلم، وأن تلك الراية مسلمة، مع توفر الميزانين التاليين الذين ستسمعهما بإذن الله.
فالميزان الأول إذا: أن نرى هل الراية التي ترفع الإسلام يطبق أهلها التوحيد أم لا؟ هل هناك عبادة لغير الله جلَّ وعلا أم أنه لا يعبد تحت تلك الراية إلا الله وحده لا شريك له، فتتوجه القلوب إلى الله جلَّ وعلا وحده؟
قال بعض المفسرين: (وأمروا بالمعروف )؛ يعني: بالتوحيد، ونهوا عن المنكر؛ يعني: عن الشرك؛ لأن أعلى المعروف هو التوحيد، وأبشع المنكر هو الشرك.
فهذا هو الميزان الأول.
الميزان الثاني: أن تنظر إلى تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذه الشهادة من مقتضاها أن يحكم بالشريعة التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال سبحانه وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65].
فإذا رأيت الراية المرفوعة يحكم أهلها بشرعة الله، وتفصل الشريعة في أقضي الناس – إذا اختلف الناس في أمورهم، فمَن الذي يحكم بينهم؟ يحكم بينهم القاضي الشرعي فيما يختلفون فيه -؛ فعند ذلك تعلم أن الراية مسلمة لأنه قد حَكَّمَ أهلُها شرع الله جلَّ وعلا، وأقاموا المحاكم الشرعية التي تحكم بما أنزل الله، ولا يلزم أحد أن يحكم بغير ما أنزل الله، أو أن يرضى بحكم غير حكم الله جلَّ وعلا ورسوله.
الميزان الثالث: أن تنظر: هل هناك استحلال للمحرمات؟ أم أن هناك إذا فعلت المحرَّمات بغضاً لها وكراهية لها و إنكارً لها؟
فإن المحرَّم المُجْمًع على تحريمه إذا ظهر له حالان:
إما أن يكون مستحَلاٌّ: فهذا كفر والعياذ بالله.
وأما إذا كان لا يستباح، ولكن يوجد، ويقر رافعو الراية بأن ذلك منكر، وأنه محرم؛ فتعلم بهذا أن الراية شرعية، وأن الراية مسلمة.
هذه ثلاث موازين، بيَّنها أئمتنا رحمهم الله تعالى.
هذا هو القسم الأول من الموازين.
- أما القسم الثاني؛ فهي موازين يُعرف بها كمال الإسلام من عدمه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ بالإسلام كله، كما جاء من عند الله جلَّ وعلا، فهو المقتدى الذي يُقتدى به، وأخذ به الخلفاء الراشدون عليهم رضوان الله، ولم يزل الأمر ينقص شيئاً بعد شيء في تحقيق كمال الإسلام إلى وقتنا هذا، "ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرُّ منه، حتى تلقوا ربَّكم"؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الميزان هذا تنظر فيه؛ كيف هو في تحقيق الأمور الشرعية؟ كيف هو في الأمر بالصلوات كيف هو في النهي عن المنكرات؟ كيف هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلَّق بالفرائض؟ وفيما يتعلَّق بالنهي عن المحرمات؟ إذا كان ذلك كاملاً؛ دلَّ على الكمال، وإن كان ذلك ناقصاً؛ دلَّ على النقص بحسب ذلك
وهذه الموازين مهمة لا بدَّ أن تكون في قلبك وعقلك، لا تفارقه أبداً، حتى لا تضل وقت حدوث الضلال، ولا تلتبس عليك الأمور وقت حدوث الالتباس.
إذا تبَّين لك ذلك، وتميَّزت لك الراية المسلمة من غيرها؛ وجب عليك شرعاً أن توالى الراية المسلمة في الحق والهدى، توالى الراية المسلمة؛ لأن الله جلَّ وعلا أمر بموالاة المؤمنين، وحثَّ على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق:
ومن أول ذلك: أن يكون ولاؤك لتلك الراية صحيحاً، أن يكون ولاؤك للراية التي ترفع الإسلام صحيحاً ليس فيه زيغ، وليس فيه التباس، وليس فيه تردُد لأنه إما إسلام، وإما كفر فإذا ثبت الإسلام؛ ترتَّبت الأحكام الشرعية على ذلك، ولا يحل لمسلم أن يجعل المعصية مبيحة لأن لا يلتزم بما أمره الله جلَّ وعلا أن يلتزم به رسوله صلى الله عليه وسلم من الولاء للمؤمنين والولاء للذين يقاتلون في سبيل الله.
الأمر الثاني: أن تنصح لتلك الراية نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من قلبك، وأهل السنة والجماعة فارقوا أهل البدعة الذين يحبوُّن الفرقة، في أنهم ينصحون مَن ولاَّه الله جلَّ وعلا عليهم، ويكثرون الدعاء، ولو رأوا ما يكرهون؛ فإنهم يكثرون الدعاء، وينصحون نصحاً يعلمه الله جلَّ وعلا من أنفسهم، أنهم ما أرادوا بذلك جزاءً ولا شكورا؛ إلا من عند الله جلَّ وعلا لا من عند غيره، وهذا إذا ثبت في القلب؛ كنا حقا من أهل السنة والجماعة.
طالعوا كتب عقائد أهل السنة والجماعة؛ تروا أن فيها أبواباً مختصَّة بحقوق الإمام على الرعيَّة، وبحق الرعية على الإمام؛ لأن ذلك به تحصل الجماعة، ويحصل به الالتفاف حول السنة والجماعة.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على النصح لأئمة المسلمين ولعاميتهم في حديث: الدين النصيحة، وإذا ثبت أن النصح واجب، وأنه لا بدَّ للمسلم أن ينصح؛ فكيف تكون تلك النصيحة؟ وكيف يكون ذلك البيان؟ على ما جاء في السنة لا من عند أنفسنا.
ثبت في الحديث الصحيح أن عياض بن غنم قال لهشام ابن حكيم رضي الله عنهما وأرضاهما: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه )، رواه ابن أبي عاصم في السنة وغيره وصححه الألباني.
اسمعوا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنتم ولا شكَّ حريصون على السنة؛ كما أن أهل السنة والجماعة حريصون عليها.
إذا ترتب على الموازين السابقة الراية المسلمة من غيرها؛ ترتبت الحقوق الشرعية على تلك الراية، وعلى بيان أن تلك الراية مسلمة، وليست براية غير مسلمة.
من ذلك هذا الأمر المهم الذي أهميته تبرز عند تغير الأحوال وحدوث الفتن.
قال صلى الله عليه وسلم: مَن أراد أن ينصح لذي سلطان؛ فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، ثم ليخلُ به، فإن قبل منه؛ فذاك، وإلاَّ؛ فإنه أدى الذي عليه.
فهذا يجعلنا في طمأنينة، ويجعلنا في اتباع لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن أخذنا بذلك؛ فنحن ناجون بإذن الله، وإن لم نأخذ به؛ فسيصيبنا من القصور ومن المخلفة عن طريق أهل السنة والجماعة بقدر ما خالفنا من ذلك.
وتلك الموازين، إذا التبس على المسلم أو على طالب العلم: كيف يزن بها؟ فالمرجع العلماء؛ فإنهم هم الذين يزنون بالموازين الصحيحة، وهم الذين يقيِّمون بالتقييم الصحيح، وهم الذين يحكمون بالحكم الشرعي الصحيح.
ولهذا؛ فإن الحكم بالإسلام من عدمه، الحكم بالإيمان أو الكفر، مرجعه إلى علماء أهل السنة والجماعة، لا إلى غيرهم من المتعلمين الذين ربما علموا بعضاً وجهلوا بعضاً آخر، أو ربما عمَّموا أشياء لا يجوز تعميمها.
فالحَكَم في ذلك لمن لم يستطع أن يزن بالميزان الصحيح من أهل العلم هم العلماء، وبقولهم يجب أن نأخذ، وبما صاروا إليه، والى ما صاروا إليه، يجب أن نأخذ في تقييم الإيمان والكفر، والوزن بتلك الموازين التي ذكرناها لكم.
مما يترتَّب على تلك الموازين كما قرر أهل السنة والجماعة: أن الجهاد ماض مع كل إمام أو سلطان؛ برَّ أو فاجر، كل إمام أو سلطان، سواء كان برّاً أو كان فاجراً؛ فإن الجهاد ماض معه، لا يجوز لأحد أن يتخلف عن راية الجهاد لأجل أن السلطان عنده مخالفات شرعية؛ في أي وقت، وفي أي زمان.
وهذا الضابط لا بدَّ لك منه في كل وقت؛ فربما يحدث في المستقبل في سنوات تستقبلها من عمرك ما لا نعلمه، فيكون عندك ما تضبط به أمرك، ويكون عندك ما تزن به أحوالك، وما تزن به أفكارك.
ومن ذلك – أي: من تلك الحقوق – الدعاء لمَنْ ولاَّه الله جلَّ وعلا الأمر.
يقول البربهاري رحمه الله ناصر السنة إمام من أئمة السنة والجماعة في كتابه السنة، وهو مطبوع موجود؛ يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان؛ فعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يدعو على السلطان؛ فعلم أنه صاحب بدعة.
والفضيل بن عياض كان يدعو كثيراً للسلطان في وقته، ونحن نعلم ما كان من سلاطين بني العباس في وقتهم من أمور، كان يدعو لهم كثيراً؛ قيل له: تدعو لهم أكثر من دعائهم لنفسك؟! قال: نعم؛ لأنني إن صلحت فصلاحي لنفسي ولمَن حولي، وأما صلاح السلطان؛ فهو لعامة المسلمين.
ولهذا؛ مَن أراد صلاحاً عاماً في المسلمين؛ فليعلم الله من قلبه أنه يدعو مخلصاً في أن يصلح الله جلَّ وعلا مَن ولاَّه الله على المسلمين، مَن ولاَّه الله أمر المسلمين، وأن يوفِّقه إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإننا لا نرجو ولا نطمع في أكثر من أن يكون الهدى والعمل بالكتاب والسنة، والقلوب بيد الله جلَّ وعلا، هو الذي يقلبها.
أن للقول والعمل في الفتن ضوابط؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره، وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء، ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء.
فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما؛ فبثثته، وأما الآخر؛ فلو بثثته؛ لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه.
قال أهل العلم: قول أبي هريرة: لقطع هذا الحلقوم؛ يعني: أنه كتم الأحاديث التي في الفتن، والأحاديث التي في بني أمية، ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، تعلمون ما حصل فيه، وتعلمون تاريخه، فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ليست في الأحكام الشرعية، وإنما في أمر آخر، لماذا كتمها؟! لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس، ولم يقل: إن قول الحديث حقِّ، وأنه لا يجوز أن نكتم العلم؛ لماذا؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه: ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة.
الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم، فيفهمون أشياء يبنون عليها اعتقادات، أو يبنون عليها تصرفات، أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة.
لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً.
أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين؛ قال لأنس وأنكر عليه: لم تحدث الحجاج بهذا الحديث؟! قال له لأن الحجاج عاث في الدماء، وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه، فكان واجباً أن يُكتم هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده، أو أن هذا الحديث دليل معه، فيفهمه على غير فهمه.
فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه، وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين.
وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن، لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها.
والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان، وأمر أن تشطَب من مسنده؛ لأنه قال: لا خير في الفتنة، ولا خير في الخروج.
وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات.
المقصود من هذا: أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال، ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.
لا بدَّ من ضبط الأقوال؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك؟ وما الذي سيحدثه رأيك؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟
والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن، فسكتوا عن أشياء كثيرة؛ طلباً للسلامة في دينهم، وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين.
وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام ببعض الأمر في الفتنة؛ قال لابنه: يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة ! لا، لا والله.
فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون سعد أو أن يكون أبنه رأساً في الفتنة، ولو بمقال أو بفعال، ولو رآها حسنة صائبة؛ فإنه لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة.
والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح، حتى يَسْلَموا، وحتى لا يقعوا بالخطأ.
ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها؛ فليس كل فعل يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد أن يُفهم منه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة: لولا حدثان قومك بالكفر؛ لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين.
النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة، ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم، ومن جعله لها بابين: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب، وأن يفهموا أنه يريد الفخر، أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم -، أو نحو ذلك؛ فترك هذا الفعل.
ولهذا؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث؛ ماذا قال؟ قال: باب: من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه.
وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي.
وعند ذلك نعلم أنه لا بد َّ من الفهم؛ فالسرعة والتعجُّل أمور غير محمودة، فمَن الذي يلزمك بأن تتكلَّم في كل مجلس أو أن تتكلَّم في كل مجتمع بما تراه حقَّاً في الفتن؟
فالحق يبيِّنه علماء السنة والجماعة، فإن كان عندك رأي أو فهم؛ فاعرضه عليهم، فإن قبلوا؛ فذاك، وإلا؛ فقد برئت ذمتك من إطلاع عامة المسلمين على رأيك.
- السابع من تلك الضوابط والقواعد:
أن الله أمر بموالاة المؤمنين وخاصة العلماء:
فالمؤمنون والمؤمنات – كما قال جلَّ وعلا -: (بعضهم أولياء بعض )؛ كل مؤمن لا بدَّ له وفرض عليه: أن يحب المؤمنين، وأن ينصرهم وأن يجتنب السخرية منهم؛ فكيف إذا كان أولئك المؤمنون هم أنصار شرعة الله، وهم الذين يبيَّنون للناس الحلال والحرام، وهم الذين يبيَّنون لناس الباطل؟!
فيحرم أن يذكر العلماء إلا بخير.
والمجالس التي يذكر فيها العلماء بغير خير مجالس سوء.
لماذا؟ لأن العلماء ورثة الأنبياء؛ فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه؛ أخذ بحظٌّ وافر.
فمن أحترم العلماء، وأجلَّ العلماء، وأخذ بمقال العلماء أهل السنة والجماعة – أهل التوحيد -؛ فإنه أخذ بميراث النبوة، ولم يدع ميراث النبوة إلى غيره.
والعلماء الذين يرجع إلى قولهم ويوالَوْن ويحبون: صفتهم: أنهم:
أولاً: هم أئمة أهل السنة والجماعة في وقتهم، وأئمة التوحيد، والذين يرجع إلى قولهم في التوحيد في وقتهم.
ثانياً: ثم هم: أهل الشمولية في معرفة الأحكام الشرعية، فيعلمون الفقه بأبوابه كلها، ويعلمون قواعد الشرع، والأصول المرعية، فلا يكون عندهم التباس، ولا خلاف بين المسألة والأخرى، ولا بين القضايا بعضها مع بعض.
وعند ذلك؛ لا بدَّ وأن نذكر مسألة مهمة، وقع فيها كثيرون، وهي قول القائل:
إن علماءنا في هذا الوقت لا يفهمون الواقع ! ! حتى بلغ من أحدهم أنه قال في مجتمع صغير له مع بعض إخوانه: إنه استفدنا من هذه الأحوال وهذه الحوادث: تميز العلماء إلى أناس يفهمون الواقع ويبنون عليه الأحكام الشرعية، وأنا من العلماء لا يفهمون الواقع ! ! !
ووالله إنها لمقالة سوء، تدل على عدم فهم ما تُبنى عليه الأحكام الشرعية، وما يأخذ به العلماء، وما يرعونه من الفهم، ومالا يرعونه.
فإن الفهم للواقع – عند أهل العلم – ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: فهم لواقع ينبني عليه الحكم الشرعي؛ فهذا لا بدَّ منه، وفهمه مُتعيّن، ومن حكم في مسألة دون أن يفهم واقعها؛ فقد أخطأ.
فإذا كان للواقع أثر في الحكم؛ فلا بدَّ من فهمه.
- القسم الثاني: واقع لا أثر له في الحكم الشرعي؛ فإنه يكون من الواقع: كيت وكيت، وكذا وكذا، وقصصاً طوالاً... ولكن لا أثر لذلك الفهم، ولذلك القصص، ولتلك الأحوال؛ لا أثر لها في الحكم الشرعي أبداً.
فعند ذلك؛ العلماء لا يأخذون بها، وإن فهموها، وليس معنى ذلك أن كل واقع عُلِم تُبنى عليه الأحكام الشرعية.
سأضرب أمثلة للأمر الأول، وأمثلة للأمر الثاني؛ فكونوا منها على بينة وفهم:
- أما أمثلة الأمر الأول – وهو أن فهم الواقع ينبني عليه الحكم الشرعي -:
- فمن ذلك مثلاً: مسألة متى يُحكم على الميت بأنه مات؟ هل هو يموت بقلبه؟ أو هو بموت دماغه؟
هذه مسألة حادثة، لو أتى متكلم فيها، وتكلم دون أن يعلم واقعها، ودون أن يعلم أحوالها؛ لا بدَّ أن يقع في خطأ في الحكم؛ لأن فهم واقع المسألة وتلك القضية؛ له أثر في الحكم الشرعي.
- مثال آخر: مثلاً الحكم على الدول، والحكم على الأوضاع؛ بأن دولاً ما مسلمة أو غير مسلمة؛ كيف يتهيأ لي أن أحكم على دولة بأنها مسلمة أو غير مسلمة دون أن نعرف حقيقة أمرها ودون أن أفهم واقعها؟!
هذا أمر لا بدَّ أن يفهم الواقع فيه، حتى يصدر العالم الحكم الشرعي، فإذا فهم ذلك الواقع؛ أصدر الحكم الشرعي بناءً على فهمه لذلك الواقع.
- ومن ذلك أيضاً مثلاً: الجماعات الإسلامية الكثيرة، التي قامت في وقتنا الحاضر مختلفة، وبعضها يختلف عن بعض؛ هل يتسنَّى للعالم الشرعي أن يحكم عليها، أو أن يقيِّمها؛ دون أن يفهم واقعها، وما هي عليه من المعتقدات؟ ومن الأصول؟ ومن المناهج؟ ومن الأفكار والرأي؟ وكيف سبيل دعوتها؟
لا يمكن له...
لا بدَّ إذن من أن يفهم واقعها؛ لأن فهم الواقع هنا له أثر في الحكم الشرعي، ومَن حكم دون فهم ذلك الواقع؛ فإن حكمه الشرعي لن يوافق صواباً.
- القسم الثاني: أحوال وقضايا فهم الواقع فيها لا أثر له في الحكم الشرعي :
- فمن ذلك مثلاً: ما يتردد بين الخصمين عند القاضي: يأتي خصمان عند قاض، هذا يبدي ما حصل له في المسألة؛ ما حصل بينه وبين خصمه، وحصل كذا وكذا بكلام يطول- يعلمه القضاة -، لكن كل ذلك الكلام الكثير الذي هو من الواقع لا يثبته القاضي في القضية؛ لأنه وإن كان واقعاً؛ فإنه لا أثر له على الحكم، وإنما هو واقع لا ينبني عليه الحكم.
ولذلك يقول المفتي أو يقول القاضي في مثل ذلك: ولو كان كذا، ولو كان كذا؛ يعني: أن ما ذكرته من الواقع لا أثر له شرعاً في الحكم الشرعي.
- مثال آخر: مثلاً نرى في وقتنا الحاضر – وهذا مثال أقرب به إلى الأذهان هذه المسألة – أن كثيراً من الدعاة – كبار السن بعض الشيء – يخالطون صغار السن، ويدعونهم ويرشدونهم ويحببون لهم الهدى والصلاح، إما في المنتديات العامة، أو في المكتبات، أو في نحو ذلك.
ونحن نعلم أنه يحصل من اختلاط الكبار بالصغار مفاسد – بل ومحرمات -، ونعلم ذلك من بعض الأحوال على وجه التفصيل.
وفهمنا لذلك الواقع لا يجعلنا نحكم على دعوة الكبار للصغار بأنها لا تجوز.
وإنما فهم ذلك الواقع السيئ لا أثر له في الحكم على الدعوة بأنها غير مشروعة من الكبير للصغير.
ولكن فهمنا لذلك الواقع فيه عرض لمسألة أخرى، وهي: أن ينصح ويرشد مَن وقع في الخطأ، أو وقع في محرم، أو لبس شيئا غير شرعي، أو لا يرضاه الله: أن ننصحه بالتوبة.
فكان ذلك الواقع فهمه لا أثر في الحكم الشرعي من الجواز وعدمه، وإنما له أثر في النصيحة هناك في من وقع في ذلك الأمر، حتى يقوم بالحق دون إتيان بالمنكر، أو دون غشيان لما لا يحبُّه الله ورسوله.
هذه أمثلة لا أطنب فيها، إنما هي لتقريب الأمر إليكم.
- مثال أيضاً مما ينبغي أن ينبَّه عليه: أن هناك أحكاماً شرعية يعتقد الناس والعامة فيها اعتقاداً غير صحيح، مثال ذلك: النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه بال واقفاً.
فالبول واقفاً عند أمن تطاير الرشاش والبول والنجاسة على البدن أو على الثياب جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
ولكن الجهال والعامة يعتقدون فيمن فعل ذلك الفعل أنه وقع في خطأ، وأنه فعل فعلاً من خوارم المروءة، وأنه كذا وكذا....
هذا الاعتقاد منهم – اعتقاد الجهال – لا يعني أن الحكم غير صحيح، أو لا يؤخذ به، وإنما هذا الأمر – بجواز البول واقفاً – لا شك أنه ثابت وصحيح، لا مراء في ذلك، وخطأ الجاهل في اعتقاده، وخطأ الجاهل في تصوره فيما يتعلَّق بذلك الحكم الشرعي – أو بأي حكم تعلق الجاهل فيه باعتقاد خطأ – علاجه بتوعية الجاهل، ليس علاجه بتغيير ما رآه العالم حكماً شرعيّاً صحيحاً.
- الثامن من تلك الضوابط والقواعد:
وهو ضابط مهم، لا بدَّ من أن يكون لك على بال، هو ضابط التولي للكفار:
فهاهنا عندنا في الشرع، وعند أئمة التوحيد، لفظان لهما معنيان، يلتبس أحدهم بالآخر عند كثيرين:
الأول: التولي.
الثاني: الموالاة.
التولي: مكفر.
الموالاة: غير جائزة.
والثالث: الاستعانة بالكافر واستئجاره: جائزة بشروطها.
فهذه ثلاث مسائل.
- أما التولي؛ فهو الذي نزل فيه قول الله جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51].
وضابط التولي: هو نصرة الكافر على المسلم وقت الحرب المسلم والكافر، قاصداً ظهور الكفار على المسلمين.
فأصل التولي: المحبة التامة، أو النصرة للكافر على المسلم، فمَن أحب الكافر لدينه؛ فهذا قد تولاَّه تولياً، وهذا كفر.
- وأما موالاة الكفار؛ في مودتهم، ومحبتهم لدينهم، وتقديمهم، ورفعهم، وهي فسق وليست كفراً.
قال أهل العلم: ناداهم باسم الإيمان، وقد دخل في النداء من ألقى المودة للكفار، فدلَّ على أن فعله ليس كفراً، بل ضلال عن سواء السبيل.
وذلك لأنه ألقى المودة، وأسر لهم؛ لأجل الدنيا، لا شكّاً في الدين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن صنع ذلك: ما حملك على ما صنعت؟. قال: والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي... الحديث أخرجاه في الصحيحين.
فمن هذا يتبيَّن أن مودة الكافر والميل له لأجل دنياه ليس كفراً إذا كان أصل الإيمان والاطمئنان به حاصلاً لمن كان منه نوع موالاة.
- وأما الاستعانة بالكافر على المسلم أو استئجاره؛ فهذا قال أهل العلم بجوازه في أحوال مختلفة؛ يفتي أهل العلم في كل حال، وفي كل واقعة، بما يرونه يصح أن يُفتى به.
وأما إعطاء الكفار أموالاً صدقة أو للتآلف أو لدفع الشرور فهذا له مقام آخر، وهو نوع آخر غير الأقسام الثلاثة.
- وآخر تلك الضوابط والقواعد:
أن لا تطبق - أيها المسلم – أحاديث الفتن على الواقع الذي تعيش فيه؛ فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن مراجعة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن، ويكثر في مجالسهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا؛ هذا وقتها، هذه هي الفتن ! ونحو ذلك.
والسلف علَّمونا أن أحاديث الفتن لا تنزَّل على واقع حاضر، وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها، مع الحذر من الفتن جميعاً.
فمثلاً: بعضهم فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الفتنة في آخر الزمان تكون من تحت رجل من أهل بيتي؛ بأنه فلان ابن فلان، أو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: حتى يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع؛ بأن المقصود به فلان ابن فلان، أو أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون بينكم وبين الروم صلح آمن... إلى آخر الحديث وما يحصل بعد ذلك؛ أنه في هذا الوقت.
وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع، وبث ذلك في المسلمين، ليس من منهج أهل السنة والجماعة.
وإنما أهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديث الفتن؛ محذِّرين منها، مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو عن القرب منها؛ لأجل أن لا يحصل بالمسلمين فتنة، ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- - - - *
وفي الختام...
أسأل الله جلَّ وعلا أن يرينا الحقَّ حقّاً ويرزقنا اتِّباعه، وأن يمنَّ علينا بائتلاف وقوة في الحق وثبات عليه، وأن يجعلنا من الذين يلتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة وبعقائدهم؛ من أول عقائدهم إلى آخرها، لا نفرق بين شيء مما قالوه أو وضعوه أو استدلوا عليه بالأدلة الشرعية.
اللهم إنا نسألك أن تجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن ترزق المسلمين صلاحاً في أنفسهم وفي ولاتهم، وأن تدلَّهم على الرشاد، وأن تباعد بينهم وبين أهل الزيغ والفساد، يا رب العالمين.
ونسأل الله أن يجعلنا من المرحومين، وأن يختم لنا بالحسنى، وأن يجعل هذا الأمر، وهذه الفتن التي ظهرت عاقبتها حميدة للمسلمين، يا رب العالمين.
و صلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
يبدوا أن الدرس كان جد طويل، و كأنه عقوبة.
ماذا لو قلت أكتبه مئة مرة.
لا بأس، يكفي أن تقرئه مرة واحدة على مهل كما قلت، لنُتم بعدها النقاش.
حبذا لو تعلق على مشاركة تقرئها، لتبين إلى أين وصل مراتون القراءة، حتى تكفينا مشقة متابعتك بالهيليكوبتر و الكميرات.
سأكون معك في السباق ليتبين من ينتهي أولا، شريطة الاستيعاب و الفهم.
يبدوا أن الدرس كان جد طويل، و كأنه عقوبة.
ماذا لو قلت أكتبه مئة مرة.
لا بأس، يكفي أن تقرئه مرة واحدة على مهل كما قلت، لنُتم بعدها النقاش.
حبذا لو تعلق على مشاركة تقرئها، لتبين إلى أين وصل مراتون القراءة، حتى تكفينا مشقة متابعتك بالهيليكوبتر و الكميرات.
سأكون معك في السباق ليتبين من ينتهي أولا، شريطة الاستيعاب و الفهم.
هههههههههههه لا ابدا بالي طويل و أنا مستمتع في التدرج في التعلم
المهم يكون بالك طويل ما تتقلقش من يبس راسي و من ثرثرتي فنحن أهل البادية نكثر الحديث و لما نمل
عكسكم أنتم أهل المدينة كلش بسرعة كالأكل الخفيف ههههههههههه
نحن عندنا الكسكس ساعتين و هو يطيب و بعدها تنتظر حتى يبرد ههههههههههه