الأصـل الأول
إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له, وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة, ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقوقهم, وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم.
الشرح:
قوله: "إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له ….".
وكما وضح الله ذلك في كتابه، كما قال المؤلف: "من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة". فقد وضحه رسول الله ( صلى الله عليه و سلم)، فقد جاء -عليه الصلاة السلام- بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة, وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه, حتى إن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه و سلم): ((ما شاء الله وشئت. فقال النبي ( صلى الله عليه و سلم): أجعلتني لله ندًّا, بل ما شاء الله وحده))([1]). فأنكر النبي ( صلى الله عليه و سلم) على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما, وجعل ذلك من اتخاذ الند لله ( عز و جل).
ومن ذلك أيضًا أن النبي ( صلى الله عليه و سلم) حرَّم الحلف بغير الله, وجعل ذلك من الشرك بالله, فقال: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))([2]). وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله ( عز و جل), وحينما قدم عليه وفد، فقالوا: ((يا رسول الله, يا خيرنا وابن خيرنا, وسيدنا وابن سيدنا. قال: يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان, أنا محمد عبد الله ورسوله, ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله ( عز و جل)))([3]). وقد عقد المصنف -رحمه الله- لذلك بابًا في "كتاب التوحيد" فقال: "باب ما جاء في حماية المصطفى ( صلى الله عليه و سلم) حمى التوحيد, وسده طرق الشرك".
وكما بيَّن الله تعالى الإخلاص وأظهره بيَّن ضده وهو الشرك, فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:116]. وقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء:36]. وقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَن اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36]. والآيات في ذلك كثيرة, ويقول النبي ( صلى الله عليه و سلم): ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار))([4]). رواه مسلم من حديث جابر.
والشرك على نوعين:
النوع الأول شرك أكبر مخرج عن الملة وهو: "كل شرك أطلقه الشارع، وهو مناف للتوحيد منافاة مطلقة". مثل أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله: بأن يصلي لغير الله, أو يذبح لغير الله, أو ينذر لغير الله, أو أن يدعو غير الله تعالى مثل: أن يدعو صاحب قبر, أو يدعو غائبًا لإنقاذه من أمر لا يقدر عليه إلا الحاضر, وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم.
النوع الثاني الشرك الأصغر وهو: "كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشارع وصف الشرك, لكنه لا ينافي التوحيد منافاة مطلقة". مثل الحلف بغير الله, فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العظمة ما يماثل عظمة الله مشرك شركًا أصغر.
ومثل الرياء وهو خطير, قال فيه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه؟ فقال: الرياء))([5]). وقد يصل الرياء إلى الشرك الأكبر. وقد مثَّل ابن القيم -رحمه الله- للشرك الأصغر بيسير الرياء, وهذا يدل على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء:116]. يشمل كل شرك ولو كان أصغر, فالواجب الحذر من الشرك مطلقًا؛ فإن عاقبته وخيمة, قال تعالى: (إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )[المائدة:72]. فإذا حرمت الجنة على المشرك لزم أن يكون خالدًا في النار أبدًا, فالمشرك بالله تعالى قد خسر الآخرة لا ريب؛ لأنه في النار خالدًا, وخسر الدنيا؛ لأنه قامت عليه الحجة، وجاءه النذير, ولكنه خسر, لم يستفد من الدنيا شيئًا, قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15]. فخسر نفسه؛ لأنه لم يستفد منها شيئًا، وأوردها النار وبئس الورد المورود، وخسر أهله؛ لأنَّهم إن كانوا مؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بِهم، وإن كانوا في النار فكذلك؛ لأنه كلما دخلت أُمَّة لعنت أختها.
واعلم أن الشرك خفي جدًّا، وقد خافه خليل الرحمن وإمام الحنفاء, كما حكى الله عنه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]. وتأمل قوله: (وَاجْنُبْنِي). ولم يقل: "وامنعني". لأن معنى "اجنبني": أي: اجعلني في جانب عبادة, والأصنام في جانب, وهذا أبلغ من "امنعني"؛ لأنه إذا كان في جانب وهي في جانب كان أبعد.
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) كلهم يخاف النفاق على نفسه"([6]).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لحذيفة بن اليمان: ((أنشدك بالله هل سماني لك رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) مع من سمى من المنافقين)). مع أن الرسول ( صلى الله عليه و سلم) بشره بالجنة, ولكنه خاف أن يكون ذلك لما ظهر لرسول الله ( صلى الله عليه و سلم) من أفعاله في حياته, فلا يأمن النفاق إلا منافق, ولا يخاف النفاق إلا مؤمن, فعلى العبد أن يحرص على الإخلاص, وأن يجاهد نفسه عليه.
قال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتُها على الإخلاص".
فالشرك أمره صعب جدًّا, ليس بالهين, ولكن الله ييسر الإخلاص على العبد, وذلك بأن يجعل الله نصب عينيه , فيقصد بعمله وجه الله.