- إنضم
- 24 ديسمبر 2016
- المشاركات
- 5,056
- نقاط التفاعل
- 15,517
- النقاط
- 2,256
- العمر
- 39
- محل الإقامة
- فرنسا الجزائر وطني
مملكة الضباع
.....
يا سادة يا كرام يحكى أنه في يوم من الايام وفي زمن من الازمان
مملكة يحكمها بنو الضباع في غابة واسعة الأرجاء كثيفة الاشجار وكثيرة الاحراش ،كان فيها كل أنواع الحيوان من أسود وفهود ،الى طاووس وقرود ،وصولا الى الفيلة والذئاب ... كل في ولاء الى الضبع سجد ومنه خاف وارتعد ...
في ذلك الوقت كان الضبع مستبدا يحكم بالقوة والخداع ولأنه عرف كل حيوان وتركيبته ونقطة ضعفه فقد ضغط عليه بها وبها هدد ووعد...
القرود تحب النط واللعب ،حاصر الاشجار الواسعة مانعا عنها التجول بها فرضخت له وأبدت له الولاء ورجعت له راكعة ليمنحها لهوها ولعبها وعنه لا يبعدها .
والاسود بحكم حبها للحوم والغزلان الطرية حبس عنها كل آكلة عشب عنده وجوع كل آكل لحم مثلها وقطع عنه وعده ،حتى رضخت من الجوع وأبدت له الولاء والخضوع وله الوعود قد قطعت.
فعل هذا مع كل الحيوانات بعد تخطيط مسبق ونظَرٍ مدقق وكان له معاونون مثل الثعالب الخبيثة ،الثعابين الرقطاء التي كانت بالسم مليئة والخنازير المقيتة وبعض القرود التي فضلت أن تخدمه في جمود .
ويحكى أن الضبع اذا اصطاد يصطاد للمتعة وما فيها، يمسك فريسته من الخلف ولا يقتلها، بل حية يأكلها، تحس كل قضمة منه حتى ينهيها ، يعذبها قبل أن تموت نهائيا لذلك كان بقسوته يخوف كل المملكة ،فهو بالنسبة لهم عديم الرحمة ،كان لا يمشي متفردا ابدا بل دائما في جماعة ....
وقد خصص لكل قطيع من الحيوانات من نفس الفصيلة أرضا حسب ما تقتضيه الحاجة ،فالغزلان تملك المروج الخضراء لتسمن وتتكاثر من أجل وجبات الضباع والحيوانات اللاحمة ،وللذئاب ناحية من الغابة يمرحون فيها ووضع لهم بنو الضباع كل أنواع الالعاب المناسبة وتعهدو لهم بالأكل والشرب.... المهم يبقون في ناحيتهم ولا يخرجو إلا للعواء واللعب ،وكان معشر الاسود والفهود الاكثر بذخا ودلالا من طرف الضباع لم تعرف هذه الاخيرة يوما لماذا هي مدللة ما عدا القلة القليلة منها من كانت تعرف الغرض من دلالها ، لكنها استمتعت بكونها تأكل كل يوم لحم الغزال المفضل عندها ،وكانت الطيور تعيش في جماعات تبحث دائما عن الحَبّ في الارض ولا ترفع رأسها من الارض وحتى مستوى الطيران كان محددا لها ،أما الاحْمرة تستعمل في نقل المؤونة لكل ناحية من المملكة ،والخيول فقد سخرها الضباع لأنفسم وخصصو لها مكانا في مملكة الضباع الواسعة الإرجاء لان الضباع كانت تعرف جيدا أن الخيل دائما تحن الى الحرية فقربهم اليه وأوهمهم أنهم أحرار بقربهم من الحاكم ...
انطلت حيلة الضباع على كل الحيوانات ،فالحيوانات لم تفكر يوما ولم يكن لها فرصة لتفكر ،فكانت الضباع من تفكر وتقرر وتخترع الالعاب وتخط الخطط للمملكة وعلى الحيوانات التنفيذ وفقط ..
ويحكى أنه في هذه المملكة الواسعة كان يعيش حيوان في أعالي الجبال راضيا بقطع من جذور النبات للأكل وبعض الفاكهة الربيعية وبعض الجوز المخزن من اوقات الصيفية ،كان هذا الحيوان يحب العيش في الجحور المظلمة في قطيع كبير في راحة تامة .
كان الجرذ حيوان يعيش في مجموعات لم يحتك يوما بهذه المملكة التي يحكمها الضبع ،كان مستقلا في قراراته ويتبع أنفه واحساسه أينما قاده وكان إذا قدم على محصول أهلكه وأكله وميزه الحذر الشديد ،لذلك لم يقترب منه بنو الضباع ولم يحاولو السيطرة عليه لسماعهم أنه وباء أين ما حل ...
وحدث انه بين هذه الجرذان كانت تعيش عائلة بسيطة تنعم بالراحة والأمان ،تتكون من أب وام واثنين من الابناء ،وواحد منهما كان ناقما على عيشه بين الجحور وفي الجبال ،فيما الغابة مليئة بالاحراش والفاكهة اللذيذة ،وكان قد سمع اساطيرا من كبارهم أنه توجد مملكة مليئة بالخيرات ولكنها محكومة من طرف حيوان لا يرحم رغم كل هذا كان الجرذ الشاب يتوق دائما إلى زيارة هذه المملكة والتحقق أنها موجودة فعلا ،فكان كلما فتح الموضوع مع والديه نهراه وأقفلا الموضوع...
مرت الاشهر ومر الخريف والشتاء وذابت الثلوج عن الجبال مكونة في فرحة الكثير من الجداول فما يهم حبات الماء إن كانت قطرة مطر أم ثلجا أم جدولا المهم أنها تزور تلك السهول الواسعة التي امتلأت حشائش فتية وازهار ندية وغابات كثيفة بأشجارها التي جددت أوراقها في خجل خلف الازهار البيضاء والزهرية ،كانت صورة لطبيعة متكاملة رائعة توحي بالحياة كما يتطلب النظام العادي للطبيعة .
رغم كل هذا الربيع المزهر لم تكن حيوانات المملكة في وضع مبهر كانت عندهم كل الطبيعة الحيوانية في اختلال ،والأسد الذي كان في يوم سيدا للغابات أصبح يأكل ويشرب ولا يستطيع إلقاء الكلمات ولا حتى يستطيع ان يحكم بنو جلدته مثل ماض فات ،والقرود وكل شقاوتها صارت حزينة تتنطط يوما وتلقي نفسها على الاغصان في تكاسل ولم تعد لها رغبة في المرح ،وكل حيوان صار يحس بشيء من الروتين والملل ولا يفهم ما هو ولم يعتد يوما على التفكير أصلا ..
في أعالي الجبال كان الجرذ الشاب رمادي اللون بعيناه الحادتان بأنفه الزهري الذي يوصله الى أي مكان يريده ،والى الاكل الذي يشتهيه... لكن كان ممنوع عليه النزول الى السفوح ليرضي فضوله ، كان دائما يقف على حافة صخرة في أعلى الجبل وهو يتأمل ذلك الاتساع والاخضرار وتلك الغابة التي تبدو مظلمة من كثرة الاشجار ،فيهزه شوق عارم وفضول لا يرحم بين جنباته ،ويعود الى البيت داخل تلك الجحور الحقيرة التي ما إن تمطر حتى يضطرو الى هجرانها ،ويتأمل حالهم المزري.
وفي ليلة من الليالي الربيعية الباردة في الاعالي ،قرر وهو في قمة غضبه أن ينزل وجهز صرته من المؤونة ووضعها على ظهره ،وتسلل خارج البيت متوجها الى أقرب أصدقائه اليه والذي كان يشبهه في تفكيره ،وأخبره عن رغبته ،وما هي نيته ،فوافقه على الفور وقرر معه أن يفر.
صديقه الجرذ أكبر منه سنا وأكثر منه علما لكنه يتيم وطالما أراد البحث عن العلم في مكان أوسع لكن قومه من الجرذان نصحوه ،وعن الرحيل منعوه ،لم تكن له الشجاعة للهرب ،حتى أتاه صديقه وشجعه ليرحل ويغرب .
تسلل الجُرَذان خارج القبيلة وتركوهم نيام ،ولم ينتبه أحد إليهما وكل شيء سار تمام ،واستمرا في النزول والركض وهما لا يعلمان أين وجهتهما ولا الى أين منتهاهما المهم أن يبتعدا قدر المستطاع عن قبيلتهما ،ولما بزغ الفجر كانا قد وصلا الى كهف عميق ليس ببعيد عن السفح فقررا أن يستريحا قليلا قبل النزول أكثر ودخلا فعلا وفيه أكلا واستراحا ،وبينما هما يتهيئان للنزول سمعا همهمة وقمقمة وجلجلة آتية من سفح الجبل فاختبئا خلف حجر كبير وسادهما صمت طويل ،فإذا بضبعان ضخمان مخيفان يتقدما حمارا يحمل سمكا طازجا وعسلا سائغا ونادى " يا معشر الدببة أين أنتم ؟ والاكل قد أتاكم ..." فخرج من ظلمة الكهف دببة بنية كبيرة متباطئة في المشي ،تحك رقابها بأظافرها وتشخر شخرات نعاس وأخذت ما قدمه لها الضباع وعادت لتغيب في حلكة الكهف ،كان الجرذان يراقبان في ذهول من هول المنظر الغريب فكيف لحيوان صغير أن يقوم على خدمة حيوان ضخم مثل هذا إنها الجنة التي طالما حلم بها الجرذ الرمادي الشاب .
أما صديقه المثقف فقد كان يشم رائحة أخرى ويعلم أمورا ولم يشأ أن يطلع عليه صديقه إلا في الوقت المناسب .
ترك الجُرَذان الكهف خلفهما وتبعا في سر الضبعان والحمار في رغبة منهما لمعرفة المزيد ،وبينما هما كذلك إذ وصلا الى مكان واسع به حشائش عالية واختبئا بينها يراقبا ما يحصل ،وإذا بالضبعان يلتقيان بأسد له لبدة سحرية يتغزل بها بأظافره الحادة وهو يضحك ويقهقه ويخبرهما أن كل شيء تمام ولا وجود لنية تمرد ما دام هنا وأنه يريد منهما أن يجزلا له العطاء فقدم الضبع الاول وسحب غزالة قاضية وأعطاها له كهدية وقالا له أنه العين الساهرة على تنويم الجميع هنا .
الجرذ الشاب :" ما الذي يحدث هنا يا صديقي أتستطيع أن تخبرني ؟"
الجرذ المثقف :" ههه ستفهم بالتدريج فقط راقب بصمت وذكاؤك لن يخونك يا صديقي فلست أذكى منك "
قررا هذه المرة أن يتبعا الاسد ذو اللبدة الذهبية الى حيث كان قد اجتمع بثلاثة من بني فصيلته واخذو يأكلون الغزالة ويتمتمون فوقها قال الاول " أععععع لا يجب أن نسمح لأي أسد بالزئير أبدا ،ولا أي فهد بالركض خلف الاسوار لكي يبقى النظام سائدا ونبقى مدللين عند الضباع"
وقال الثاني : "ياع هيا نكمل الاكل ونقوم بالجولة التفتيشية المعتادة ..."
وساد صمت لم يسمع فيه الجرذان سوى صوت تكسير العظام ونهش اللحم مما جعلهما يرتعدان ويهلعان من هذه المخلوقات ويختفيا بسرعة بين الاحراش .
واصلا سيرهما وسط الحشائش حتى لقيا سلحفاة طاعنة في السن تبدو مسترخية على حافة جدول كبير رقراق يتلألأ وكأنه ياقوت ،فحياها الصديقان في هدوء ووجل ولما سمعت صوتيهما حركت رأسها في تثاقل وهي تحاول أن تتبين مصدر الصوت ، عندئذ اقترب منها الجرذ الشاب وراح يدور حولها في استغراب وهو يقول " كأنها حجر كأنها حجر " عندما تبينت السلحفاة أنهما جُرَذان أخفت رأسها في خوف وطلبت منهما الرحيل فورا ،لكن الجرذ المثقف يعرف أن هذه هي مصدر كل المعلومات هنا فأخذ يدور حولها ويرجوها أن تكلمهما وبعد محاولات كثيرة منه لم يفهمها الجرذ الشاب نطقت داخل قوقعتها " أنتما جُرَذان وأنا أعرف الجرذان فهي مؤذية وتسبب الهلاك أين ما حلت وتسبب المرض هذا ما أعرفه عنكم وآخر مرة رأيت فيها مثلكما كانت الدنيا مليئة بالوباء... "
الجرذ المثقف يحوم حولها وذيله الطويل يتبعه :" لكن الجِرذان لا تهاجم إلا من هاجمها ،ولا تعتدي إلا إذا أحست بالخطر وأنا وصديقي جديدان هنا وأردنا أن نسأل عن حال هذه المملكة الغريبة "
الجرذ الشاب :" نعم نعم لم نعد نفهم شيئا أرجوكي "
تُخرج السلحفاة رأسها ببطء وتنظر إليهما عن كثب وتنظر الى الجدول الذي أمامها وكأنها تسترجع ذكريات قديمة ثم تتنهد :" في هذه المملكة كانت تحكم الاسود يا ولديّ ، وكانت كل الحيوانات في سعادة بحكمهم العادل ،الخيول كانت جامحة لا تبقى في مكان وتركض دون توقف ،والقردة كانت تملأ الدنيا فرحا وهناءا ،كانت الذئاب سيدة ومالكة ولها رهبة وهيبة ،وكانت الفهود أين ما حلت ارتعدت بنات آوى والضباع والطيور كانت تحلق دون رقابة ولكن كل شيء تغير للاسف ،والعدل كان ...العدل كان ..."
وبينما هي تتمتم إذ سمع الجميع أصواتا وسط الحشائش فأخفت السلحفاة رأسها واختفى الجرذان خلف صخرة قريبة من الجدول يراقبان ،فإذا بضبع عملاق يتقدم نحوها ويضربها بأنفه الى داخل الجدول ويوجه اليها الكلام :" قلنا لك يا حكيمة الغابة الموقرة أمسكي لسانك وإياكي أن تحكي زمن الاسود حتى بينك وبين نفسك ،موتي غرقا لكي تموت حكايات الزمن الغابر معك ،تبا لك من عجوز خرفاء لا تعرف مصلحتها أنظري الى لسانك أين أوصلك ..فالتموتي خنقا " من كلامه تبين أن الضبع لم يرى الجرذان ولم يسمعهما وتركها تتخبط وغادر على أمل منه أن تقضي وينتهي ...
ركض الجرذان الى الماء بسرعة وبعد عناء كبير تمكنا من جعلها تخرج بصعوبة لأنها قد كبرت في السن ولم تعد تطيق السباحة ولا التنفس داخل الماء ...
شكرتهما كثيرا بعد أن ارتاحت وتأكدت أنهما ليسا مؤذيين ولأنها استأنست لهما طلبت منهما أن يتبعاها في هدوء وسرية وأخذتهما الى مكان يمكنهما رؤية كل المملكة تقريبا من خلاله ،ووقف الثلاثة ينظرون الى منظر غروب الشمس على تلك المروج الواسعة التي تحفها الغابات من ثلاث جهات وجهة منها تؤدي الى الجبال التي نزل منها الجُرَذان كان كل شيء واضح للجُرَذان ومعالم المملكة تبدو من ذلك المكان أقل تعقيدا وبدا لهما أنها مقسمة تقسيما دقيقا ...
يتبع
.....
يا سادة يا كرام يحكى أنه في يوم من الايام وفي زمن من الازمان
مملكة يحكمها بنو الضباع في غابة واسعة الأرجاء كثيفة الاشجار وكثيرة الاحراش ،كان فيها كل أنواع الحيوان من أسود وفهود ،الى طاووس وقرود ،وصولا الى الفيلة والذئاب ... كل في ولاء الى الضبع سجد ومنه خاف وارتعد ...
في ذلك الوقت كان الضبع مستبدا يحكم بالقوة والخداع ولأنه عرف كل حيوان وتركيبته ونقطة ضعفه فقد ضغط عليه بها وبها هدد ووعد...
القرود تحب النط واللعب ،حاصر الاشجار الواسعة مانعا عنها التجول بها فرضخت له وأبدت له الولاء ورجعت له راكعة ليمنحها لهوها ولعبها وعنه لا يبعدها .
والاسود بحكم حبها للحوم والغزلان الطرية حبس عنها كل آكلة عشب عنده وجوع كل آكل لحم مثلها وقطع عنه وعده ،حتى رضخت من الجوع وأبدت له الولاء والخضوع وله الوعود قد قطعت.
فعل هذا مع كل الحيوانات بعد تخطيط مسبق ونظَرٍ مدقق وكان له معاونون مثل الثعالب الخبيثة ،الثعابين الرقطاء التي كانت بالسم مليئة والخنازير المقيتة وبعض القرود التي فضلت أن تخدمه في جمود .
ويحكى أن الضبع اذا اصطاد يصطاد للمتعة وما فيها، يمسك فريسته من الخلف ولا يقتلها، بل حية يأكلها، تحس كل قضمة منه حتى ينهيها ، يعذبها قبل أن تموت نهائيا لذلك كان بقسوته يخوف كل المملكة ،فهو بالنسبة لهم عديم الرحمة ،كان لا يمشي متفردا ابدا بل دائما في جماعة ....
وقد خصص لكل قطيع من الحيوانات من نفس الفصيلة أرضا حسب ما تقتضيه الحاجة ،فالغزلان تملك المروج الخضراء لتسمن وتتكاثر من أجل وجبات الضباع والحيوانات اللاحمة ،وللذئاب ناحية من الغابة يمرحون فيها ووضع لهم بنو الضباع كل أنواع الالعاب المناسبة وتعهدو لهم بالأكل والشرب.... المهم يبقون في ناحيتهم ولا يخرجو إلا للعواء واللعب ،وكان معشر الاسود والفهود الاكثر بذخا ودلالا من طرف الضباع لم تعرف هذه الاخيرة يوما لماذا هي مدللة ما عدا القلة القليلة منها من كانت تعرف الغرض من دلالها ، لكنها استمتعت بكونها تأكل كل يوم لحم الغزال المفضل عندها ،وكانت الطيور تعيش في جماعات تبحث دائما عن الحَبّ في الارض ولا ترفع رأسها من الارض وحتى مستوى الطيران كان محددا لها ،أما الاحْمرة تستعمل في نقل المؤونة لكل ناحية من المملكة ،والخيول فقد سخرها الضباع لأنفسم وخصصو لها مكانا في مملكة الضباع الواسعة الإرجاء لان الضباع كانت تعرف جيدا أن الخيل دائما تحن الى الحرية فقربهم اليه وأوهمهم أنهم أحرار بقربهم من الحاكم ...
انطلت حيلة الضباع على كل الحيوانات ،فالحيوانات لم تفكر يوما ولم يكن لها فرصة لتفكر ،فكانت الضباع من تفكر وتقرر وتخترع الالعاب وتخط الخطط للمملكة وعلى الحيوانات التنفيذ وفقط ..
ويحكى أنه في هذه المملكة الواسعة كان يعيش حيوان في أعالي الجبال راضيا بقطع من جذور النبات للأكل وبعض الفاكهة الربيعية وبعض الجوز المخزن من اوقات الصيفية ،كان هذا الحيوان يحب العيش في الجحور المظلمة في قطيع كبير في راحة تامة .
كان الجرذ حيوان يعيش في مجموعات لم يحتك يوما بهذه المملكة التي يحكمها الضبع ،كان مستقلا في قراراته ويتبع أنفه واحساسه أينما قاده وكان إذا قدم على محصول أهلكه وأكله وميزه الحذر الشديد ،لذلك لم يقترب منه بنو الضباع ولم يحاولو السيطرة عليه لسماعهم أنه وباء أين ما حل ...
وحدث انه بين هذه الجرذان كانت تعيش عائلة بسيطة تنعم بالراحة والأمان ،تتكون من أب وام واثنين من الابناء ،وواحد منهما كان ناقما على عيشه بين الجحور وفي الجبال ،فيما الغابة مليئة بالاحراش والفاكهة اللذيذة ،وكان قد سمع اساطيرا من كبارهم أنه توجد مملكة مليئة بالخيرات ولكنها محكومة من طرف حيوان لا يرحم رغم كل هذا كان الجرذ الشاب يتوق دائما إلى زيارة هذه المملكة والتحقق أنها موجودة فعلا ،فكان كلما فتح الموضوع مع والديه نهراه وأقفلا الموضوع...
مرت الاشهر ومر الخريف والشتاء وذابت الثلوج عن الجبال مكونة في فرحة الكثير من الجداول فما يهم حبات الماء إن كانت قطرة مطر أم ثلجا أم جدولا المهم أنها تزور تلك السهول الواسعة التي امتلأت حشائش فتية وازهار ندية وغابات كثيفة بأشجارها التي جددت أوراقها في خجل خلف الازهار البيضاء والزهرية ،كانت صورة لطبيعة متكاملة رائعة توحي بالحياة كما يتطلب النظام العادي للطبيعة .
رغم كل هذا الربيع المزهر لم تكن حيوانات المملكة في وضع مبهر كانت عندهم كل الطبيعة الحيوانية في اختلال ،والأسد الذي كان في يوم سيدا للغابات أصبح يأكل ويشرب ولا يستطيع إلقاء الكلمات ولا حتى يستطيع ان يحكم بنو جلدته مثل ماض فات ،والقرود وكل شقاوتها صارت حزينة تتنطط يوما وتلقي نفسها على الاغصان في تكاسل ولم تعد لها رغبة في المرح ،وكل حيوان صار يحس بشيء من الروتين والملل ولا يفهم ما هو ولم يعتد يوما على التفكير أصلا ..
في أعالي الجبال كان الجرذ الشاب رمادي اللون بعيناه الحادتان بأنفه الزهري الذي يوصله الى أي مكان يريده ،والى الاكل الذي يشتهيه... لكن كان ممنوع عليه النزول الى السفوح ليرضي فضوله ، كان دائما يقف على حافة صخرة في أعلى الجبل وهو يتأمل ذلك الاتساع والاخضرار وتلك الغابة التي تبدو مظلمة من كثرة الاشجار ،فيهزه شوق عارم وفضول لا يرحم بين جنباته ،ويعود الى البيت داخل تلك الجحور الحقيرة التي ما إن تمطر حتى يضطرو الى هجرانها ،ويتأمل حالهم المزري.
وفي ليلة من الليالي الربيعية الباردة في الاعالي ،قرر وهو في قمة غضبه أن ينزل وجهز صرته من المؤونة ووضعها على ظهره ،وتسلل خارج البيت متوجها الى أقرب أصدقائه اليه والذي كان يشبهه في تفكيره ،وأخبره عن رغبته ،وما هي نيته ،فوافقه على الفور وقرر معه أن يفر.
صديقه الجرذ أكبر منه سنا وأكثر منه علما لكنه يتيم وطالما أراد البحث عن العلم في مكان أوسع لكن قومه من الجرذان نصحوه ،وعن الرحيل منعوه ،لم تكن له الشجاعة للهرب ،حتى أتاه صديقه وشجعه ليرحل ويغرب .
تسلل الجُرَذان خارج القبيلة وتركوهم نيام ،ولم ينتبه أحد إليهما وكل شيء سار تمام ،واستمرا في النزول والركض وهما لا يعلمان أين وجهتهما ولا الى أين منتهاهما المهم أن يبتعدا قدر المستطاع عن قبيلتهما ،ولما بزغ الفجر كانا قد وصلا الى كهف عميق ليس ببعيد عن السفح فقررا أن يستريحا قليلا قبل النزول أكثر ودخلا فعلا وفيه أكلا واستراحا ،وبينما هما يتهيئان للنزول سمعا همهمة وقمقمة وجلجلة آتية من سفح الجبل فاختبئا خلف حجر كبير وسادهما صمت طويل ،فإذا بضبعان ضخمان مخيفان يتقدما حمارا يحمل سمكا طازجا وعسلا سائغا ونادى " يا معشر الدببة أين أنتم ؟ والاكل قد أتاكم ..." فخرج من ظلمة الكهف دببة بنية كبيرة متباطئة في المشي ،تحك رقابها بأظافرها وتشخر شخرات نعاس وأخذت ما قدمه لها الضباع وعادت لتغيب في حلكة الكهف ،كان الجرذان يراقبان في ذهول من هول المنظر الغريب فكيف لحيوان صغير أن يقوم على خدمة حيوان ضخم مثل هذا إنها الجنة التي طالما حلم بها الجرذ الرمادي الشاب .
أما صديقه المثقف فقد كان يشم رائحة أخرى ويعلم أمورا ولم يشأ أن يطلع عليه صديقه إلا في الوقت المناسب .
ترك الجُرَذان الكهف خلفهما وتبعا في سر الضبعان والحمار في رغبة منهما لمعرفة المزيد ،وبينما هما كذلك إذ وصلا الى مكان واسع به حشائش عالية واختبئا بينها يراقبا ما يحصل ،وإذا بالضبعان يلتقيان بأسد له لبدة سحرية يتغزل بها بأظافره الحادة وهو يضحك ويقهقه ويخبرهما أن كل شيء تمام ولا وجود لنية تمرد ما دام هنا وأنه يريد منهما أن يجزلا له العطاء فقدم الضبع الاول وسحب غزالة قاضية وأعطاها له كهدية وقالا له أنه العين الساهرة على تنويم الجميع هنا .
الجرذ الشاب :" ما الذي يحدث هنا يا صديقي أتستطيع أن تخبرني ؟"
الجرذ المثقف :" ههه ستفهم بالتدريج فقط راقب بصمت وذكاؤك لن يخونك يا صديقي فلست أذكى منك "
قررا هذه المرة أن يتبعا الاسد ذو اللبدة الذهبية الى حيث كان قد اجتمع بثلاثة من بني فصيلته واخذو يأكلون الغزالة ويتمتمون فوقها قال الاول " أععععع لا يجب أن نسمح لأي أسد بالزئير أبدا ،ولا أي فهد بالركض خلف الاسوار لكي يبقى النظام سائدا ونبقى مدللين عند الضباع"
وقال الثاني : "ياع هيا نكمل الاكل ونقوم بالجولة التفتيشية المعتادة ..."
وساد صمت لم يسمع فيه الجرذان سوى صوت تكسير العظام ونهش اللحم مما جعلهما يرتعدان ويهلعان من هذه المخلوقات ويختفيا بسرعة بين الاحراش .
واصلا سيرهما وسط الحشائش حتى لقيا سلحفاة طاعنة في السن تبدو مسترخية على حافة جدول كبير رقراق يتلألأ وكأنه ياقوت ،فحياها الصديقان في هدوء ووجل ولما سمعت صوتيهما حركت رأسها في تثاقل وهي تحاول أن تتبين مصدر الصوت ، عندئذ اقترب منها الجرذ الشاب وراح يدور حولها في استغراب وهو يقول " كأنها حجر كأنها حجر " عندما تبينت السلحفاة أنهما جُرَذان أخفت رأسها في خوف وطلبت منهما الرحيل فورا ،لكن الجرذ المثقف يعرف أن هذه هي مصدر كل المعلومات هنا فأخذ يدور حولها ويرجوها أن تكلمهما وبعد محاولات كثيرة منه لم يفهمها الجرذ الشاب نطقت داخل قوقعتها " أنتما جُرَذان وأنا أعرف الجرذان فهي مؤذية وتسبب الهلاك أين ما حلت وتسبب المرض هذا ما أعرفه عنكم وآخر مرة رأيت فيها مثلكما كانت الدنيا مليئة بالوباء... "
الجرذ المثقف يحوم حولها وذيله الطويل يتبعه :" لكن الجِرذان لا تهاجم إلا من هاجمها ،ولا تعتدي إلا إذا أحست بالخطر وأنا وصديقي جديدان هنا وأردنا أن نسأل عن حال هذه المملكة الغريبة "
الجرذ الشاب :" نعم نعم لم نعد نفهم شيئا أرجوكي "
تُخرج السلحفاة رأسها ببطء وتنظر إليهما عن كثب وتنظر الى الجدول الذي أمامها وكأنها تسترجع ذكريات قديمة ثم تتنهد :" في هذه المملكة كانت تحكم الاسود يا ولديّ ، وكانت كل الحيوانات في سعادة بحكمهم العادل ،الخيول كانت جامحة لا تبقى في مكان وتركض دون توقف ،والقردة كانت تملأ الدنيا فرحا وهناءا ،كانت الذئاب سيدة ومالكة ولها رهبة وهيبة ،وكانت الفهود أين ما حلت ارتعدت بنات آوى والضباع والطيور كانت تحلق دون رقابة ولكن كل شيء تغير للاسف ،والعدل كان ...العدل كان ..."
وبينما هي تتمتم إذ سمع الجميع أصواتا وسط الحشائش فأخفت السلحفاة رأسها واختفى الجرذان خلف صخرة قريبة من الجدول يراقبان ،فإذا بضبع عملاق يتقدم نحوها ويضربها بأنفه الى داخل الجدول ويوجه اليها الكلام :" قلنا لك يا حكيمة الغابة الموقرة أمسكي لسانك وإياكي أن تحكي زمن الاسود حتى بينك وبين نفسك ،موتي غرقا لكي تموت حكايات الزمن الغابر معك ،تبا لك من عجوز خرفاء لا تعرف مصلحتها أنظري الى لسانك أين أوصلك ..فالتموتي خنقا " من كلامه تبين أن الضبع لم يرى الجرذان ولم يسمعهما وتركها تتخبط وغادر على أمل منه أن تقضي وينتهي ...
ركض الجرذان الى الماء بسرعة وبعد عناء كبير تمكنا من جعلها تخرج بصعوبة لأنها قد كبرت في السن ولم تعد تطيق السباحة ولا التنفس داخل الماء ...
شكرتهما كثيرا بعد أن ارتاحت وتأكدت أنهما ليسا مؤذيين ولأنها استأنست لهما طلبت منهما أن يتبعاها في هدوء وسرية وأخذتهما الى مكان يمكنهما رؤية كل المملكة تقريبا من خلاله ،ووقف الثلاثة ينظرون الى منظر غروب الشمس على تلك المروج الواسعة التي تحفها الغابات من ثلاث جهات وجهة منها تؤدي الى الجبال التي نزل منها الجُرَذان كان كل شيء واضح للجُرَذان ومعالم المملكة تبدو من ذلك المكان أقل تعقيدا وبدا لهما أنها مقسمة تقسيما دقيقا ...
يتبع