تكملة قصة خطوة
للتذكير فقط القصة من نسج خيالي والشخصيات خيالية ولا وجود لها ....
※※※※※※※※※※※※※※※
كانت الساعة تشیر إلى الخامسة صباحا عندما سمعت هیلین صوتا غریبا جدا عنها ،إنه الأذان أذان الفجر في أحد أریاف قطاع غزة ،لم تصدق ما سمعت أذناها فقفزت من مكانها لتجد الشیخ العجوز یستغفر ویردد التكبیر هلعت لأنها تأكدت أنها لم تكن تحلم وأن كل الذي حصل لها كان حقیقة ویجب علیها أن تعرف أكثر عن هذا المكان وتحاول الوصول إلى طریقة للعودة، بكت في صمت على مخدتها وتحت الغطاء البسيط لكي لا ينتبه اليها احد ، الجميع نهض ليصلي كانت تراقبهم في خوف شديد وهم يتوضؤون الواحد تلو الآخر ،صلى الجمیع بما فیهم غانم الصغیر ،كان أحمد یحاول جذب أطراف الحدیث معها لانه رأى دموعها التي ملأت المخدة بينما هو یتجهز للذهاب إلى المدرسة.
لقد كانت المدرسة القريبة الوحیدة في الأرجاء والتي تبعد كثیرا عن بیتهم ،كل یوم يذهب رفقة أخيه في رحلة نحو الموت أو المجهول ویودعا الجمیع وداعا كأنهما غیر عائدين مجددا، لكن رغم ذلك كل یوم ینهضا مثل بطلین في ساحة معركة ویصلیان الفجر ویجهزان نفسیهما ويأخذان معهما قلیلا من الرغیف لكلیهما لیسدا به جوعهما طوال الطریق،كانا سعیدین بمحفظتیهما البالیتین وبكراستیهما الوحیدین وأقلامهما الملونة البسيطة ،كانت بالنسبة لهما زاد المعرفة والمدرسة كانت عبارة عن بنڤالات حديدية والتي تكون دائما باردة شتاء وساخنة صيفا ...
كل هذا كان من جراء الحصار الإقتصادي والسياسي على القطاع ،كان الخاسر الوحيد هم أهل غزة فلم تعد تصل اليهم المؤونة ،ولا الأدوية ،والكهرباء اذا اشتغلت يوما غابت أسبوع ،كانت حالة مزرية ،لذلك كانت عايدة تحافظ على القطيع الصغير الذي هو مصدر عيشهم الوحيد مُحَافظة الأم على اولادها ،لكي تعيل كل العائلة ،وجَدّها يعتني بشجرات الزيتون من أجل قليل من الزيت وقليل من الزيتون المصبر الذي يبيعونه ليشترو به مستلزمات بيتهم .....
أحمد وهو یرتدي ملابسه :" من أي بلد انت یا هیلین ولیش جیتي هان ؟"
هیلین تتذكر فجأة وطنها وتمسح دموعها :" أنا من المانیا وبالضبط ألمانیا الشرقیة ،ولا أعرف لما أنا هنا حقا قد لا تصدقوني لكنني لا أعرف !!!"
أحمد :" تِتْكلمي الفصحى بطلاقة ما شاء االله عليك وین تعلمت ؟"
هیلین : " هذه والدتي تدرس في الجامعة تاریخ الشعوب وتتكلم لغات عدیدة من بینها العربیة ،وأصرت على تعلیمي العربیة لأنها فينظرها لغة حضارة كما تقول هي .."
أحمد :" ما تتكلمي عبري یا هیلین ،؟"
هیلین :" عبري ؟ ما هذه اللغة ؟ لا أعرفها ..،، "
أحمد :" هاذي لغة الصهاینة الیهود اللي اغتصبوا ارضنا وقتلو شعبنا ویزعمون أنها أرضهم ووطنهم ،فلسطین للفلسطینیین وهوما
شعب ما عندو أرض ... "
هیلین :" أمي لم تذكر لي مثل هذا الشعب ،أطلعتني على الحضارة الإسلامیة قلیلا فقط ،كانت دراساتها كلها على الحضارة الرومانیة فقط تقریبا لأن رسالة الدكتوراه الخاصة بها تدور حولها "
أحمد في استغراب :" یا حبیبي حتى الألمان ما بیعرفو شعب الیهود ،وهوما بِیِعْمِلوا علینا شعب شوفي یا عایدة "
عایدة :" ڤلتلك اسكت لیش بتكثر حكي بعد ما وثقت فیها ولا عرفت لیش هي هان خلینا نبدا یوم یا فتاح یا علیم یا رزاق یا كریم"
هیلین :" أنا صادقة یا عایدة وأأكد لك أنني لست جاسوسة ،بل أن عمري سبع سنوات وأنا تقریبا أعیش في المستشفى لأنه عندي
لوكیمیا والأطباء قالو أنني سأموت بعد أشهر قلیلة ،وكنت ألعب في حدیقة المستشفى عندما وجدت نفسي هنا ،وعندما رأيت التاريخ البارحة في التلفاز استغربت كثيرا لأنني كنت في عام 2017 ووجدت أن التاريخ يعود الى 2007 أي أنني عدت عشر سنوات الى الوراء اليس غريبا فعلا ... "
أحمد :" واللّه بعد اللي سمعت راح أصیر مخبول بدُورِي ،كلام ما یقبل بیه عڤل بشري رجعتِ بالزمن وزدتِ في العمر غريبة في الأفلام وما صارت "
عایدة :" انا ما أصدڤ حكي مثل هذا ...خلینا من كثر الحكي هسا ویالا ع مدرستك أنت وأخوك رح أوصلكم ورا التلة وتكملون الطريڤ لحالكم "
یخرج الجمیع الى اعمالهم ومدارسهم بعد أن بان الصبح وظهرت معالم الدنیا في الخارج لتظهر لهیلین تلك الطبیعة الغریبة عنها وتؤكد لها فعلا أنها في قطاع غزة في العام الثاني من الحصار .
حمل الشیخ كیسا من القماش وهو یرتدي تلك العباءة البسیطة وفوقها معطف وعلى رأسه العُقال الذي یشد بأحكام ذلك الخمار
المخطط بالابیض والاسود الذي یحمیه من أشعة الشمس،وذهب الى شجرات الزیتون المقابلة للبیت وأخذ ینفض ویسقط حباتها على غطاء كبير من القش طرحه تحت الشجرة لكي يحافظ على حبات الزيتون ....
مرّ يومان وهيلين تتبع عايدة من مكان الرعي الى البيت الى النوم كانت تحرص عايدة على جعلها تحت مراقبتها فلم تبدو لها مجنونة ولم تثبت انها عاقلة ،وأخذت تتحدث اليها مطولا ,كانت هيلين تحكي قصصا عن ألمانيا وعن طريقة عيشهم وعن مرضها العضال الذي لا شفاء منه سوى الموت، استغربت عايدة من قوة هذه المرأة التي تعلم أنها ميتة لا محالة ولكنها ليست خائفة من الموت وتأكدت أنها ليست يهودية فاليهودي يخاف الموت ويفر منه ذعرا ..
بدأت تستأنس بها لأنها لا تملك أختا، وهيلين بدورها أحبت عايدة لأنها قوية مثل أمها التي ربتها وحيدة بعد ان رماهما والدها وتزوج بأخرى ،حاربت معها كل مراحل مرضها فقد كانت تعمل وتدرس في نفس الوقت لتؤمن لها العلاج المناسب والراحة التامة كانت أوجه الشبه بين عايدة ووالدتها كبير لأن عايدة كانت تحارب من أجل لقمة عيش العائلة بكل قوة ولا تظهر التعب في أي حال من الأحوال ولم يظهر ضعفها .
وفي اليوم الثالث نهضت البنتان وتجهزتا وخرجتا لرعي القطيع الصغير وكان يوم عطلة بالنسبة للصغيرين فقررا ان يرافقاهما لأنهما يحبان التجوال مع اختهما ، وبينما الاربعة جالسون والقطيع يرعى أمامهم ،إذ سمعو صوت إطلاق نار غير بعيد هلعت هيلين لأن عايدة حكت لها كل شيء عن الاحتلال وعن الحصار وعن اليهود الظالمين .،انتفض الجميع وعرفت عايدة أن شيئا ما حصل غير بعيد فطلبت من أخويها اخذ القطيع الى البيت ويسبقاها وهي ستتحقق من مصدر إطلاق النار عن بعد وتلحق بهما ،
نفذ أخواها ما قالته ،وهيلين تتبعها طلبت منها الرجوع مع أخويها لكنها رفضت وأصرت على الذهاب معها في محاولة لإرضاء فضولها ،اختبأت عايدة وهيلين خلف تلة قريبة من مصدر الصوت وانبطحتا أرضا خلف الحشائش التي نبتت بعشوائية هنا وهناك ،واذا بجندي صهيوني يقف بجانب السلك ويهدد رجلا بطلقات نارية أطلقها على إحدى خرافه فأرداه قتيلا والرجل من حسرته على خروفه راح يقترب شيئا فشيئا منه ويصب غضبه عليه بشتمه والبصق في وجهه لم يكن له حيلة ولا سلاح لمواجهته لذلك كان غاضبا ويحمل في يده حجرا كبيرا اتسعت عينا هيلين في ذهول من المنظر الذي أكّد لها كل حكايات عايدة عندها نطقت عايدة في صوت خافت :" الوحوش ،ما تواجه حدا ع ڤدك في السلاح... جُبَنا ...جندي مصدّي ما تنفع معكم غير الطّبنجة فالراس وبما انك لحالك تْشَاهَدْ على روحك يا ظالم " وتخرج سلاحا صغيرا من تحت حزامها العريض على خصرها كانت دائما تحمله للضرورة لانها فتاة وهي دائما في خطر من الصباح وحتى المساء ، عندما رأته هيلين وضعت يدها على فمها في ذهول " ما الذي تنوين فعله يا عايدة توقفي فهو يملك سلاحا كبيرا ولن تستطيعي قتله انك امرأة "
ضحكت عايدة عندما سمعت هيلين :" ههه احنا مو بنات عاديين نحنا بنات الحرب يا هيلين ولازم ندافع ع أرضنا وع حالنا وع اخوتنا المسلمين ،وانا شايفة ظلم أَسكتْ عليه لا واللّه لا واللّه ذكّرني بقصة ابُوي المسكين اللي راح ظلم خليني اساعدو وارجعلك انت اڤعدي هان ما تتحركي شو ما صار فهمتي ،هو جندي واحد في العادة يجو مجتمعين بس ها المرة هو لحالو رح اخلّص عليه وراجعتلك "..
نظرت هيلين الى عايدة نظرة مختلفة وكأنها تحس ان شيئا ما سيحصل ،وما هي الا دقائق حتى تلبدت سماء غزة وصارت رمادية وانبأت حالها بأمطار قريبة ،نظرت عايدة الى السماء في استغراب ففي العادة لا تمطر في هذا الوقت ،ونظرت الى هيلين الخائفة وقالت :" لا تخافي فالله معنا الله معنا يا هيلين أشهد أنه لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله ..." واختفت خلف التلة مظهرة نفسها للجندي وللرجل الفلسطيني واضعة يدها التي تحمل السلاح خلف ظهرها ، وما إن اقتربت حتى وجدت مجموعة من الجنود غير بعيدين عن صديقهم لم تصل اليهم عينيها عندما كانت خلف التلة ،بدأت دقات قلبها تتسارع لأنها لم تتوقع هذا وكل الذي حسبته تبخر ....
الرجل في استغراب :" واش جابك يا بنيّة ،هذا مو مكانك روحي روحي ڤبل لا يُرُدو بالهم مِنك وانت صبية وعارفة الصهاينة روحي !!!"
عايدة ترتجف في الحديث :" جيت اساعدك يا خوي شفتو يتمرجل عليك ما عجبني حالو لا تخاف معي طبنجة "
الرجل في ذعر :" خبيها خبيها وروحي يا بنت الحلال ،انت مالك ڤدهم... "
في هذه الاثناء ينتبه الجنود من عايدة ويقترب الأربعة من الأسلاك وهم يتغزلون بها وهي تشعر بالخوف والغثيان في آن واحد ،رأت هيلين الجنود الاربعة وعرفت أن عايدة حسبت كل شيء خطأ وأنها وضعت نفسها في موقف خطير .
اقترب الجنود اكثر والرجل يدفع عايدة للابتعاد من المكان والهرب ،لانهم ان أمسكو بها نكلو بها قبل قتلها وهذه طبيعتهم الوسخة ،لذلك اصر الرجل وضربها ودفعها لكن عِزّة الفلسطينية اخذتها ووقفت في قوة وقالت :" ليش قتلتو الخروف هو في أرض غزة مو أرضكم ما سوى شي غلط انتو وحوش آدمية تفوه عليكم يا مجرمين ..!"
الجندي يشير لصديقه وهما يتغامزان وفجأة نط الجنديان الى الجهة الاخرى واصبحا فوق اراضي غزة ،مما جعل الرجل يعرف مخططهما جيدا ، ركض الى عايدة وجعلها خلفه وقال لها :"اهربي يا بنتي اهربي وانجي بجلدك وعرضك "
عندها ركضت عايدة وركض خلفها احد الجنديين في خبث الذئاب الجائعة للصيد ،فامسكه الرجل من رجله محاولا منعه فأطلق الجندي الثاني عليه النار وأصابه في رجله وسقط محاولا الدفاع عن شرف بنت بلده وأرضه
عندما تأكدت عايدة انها مُدركة لا محالة توقفت عند أسفل التلة التي كانت بها هيلين وصرخت :" هيلين....ياااا هيلين لمّا تعودي للدار خَبْري أبي وأمي وجدي وأخواتي إني متت شريفة متت شريفة يا هيلين متت وانا ادافع عن ارضي..... الله على الظالم الله على الظالم...."وأخذت تردد والدموع تنزل على خدودها وتختلط بقطرات الأمطار التي بدأت في النزول بغزارة و الجنديان يقتربان منها في دهاء وخبث " فدائي فدائي يا أرضي يا أرض الجدود ،فدائي فدااائي ...." بينما هي تردد النشيد الوطني الفلسطيني رمت السلاح للرجل الذي كان يمسك رجله المليئة بالدماء ويصارع الموت ،ففهم قصدها وحمل السلاح وصوبه نحو صدرها ليقتلها قبل ان يمس الجنديان شعرة منها ،وقبل ان يتفطن الجنديان للذي يحصل وقف الرجل وأطلق النار على عايدة التي كانت تردد تارة الشهادتين وتارة النشيد الوطني وسقطت حرة كطير حر سقط من السماء الى الارض ولم تتحرك ولم تظهر ألمها.... فقط سقطت على ركبتيها
في هذه الاثناء كانت هيلين غير مستوعبة للذي يحصل أمامها وسمعت عايدة تصرخ باسمها وتوصيها بكلمات حُفرت في ذاكرتها ،نهضت وركضت نحو عايدة في عدم تفكير لأنها رأت فيها الشعب المظلوم ،رأت فيها غزة المحاصرة رأت فيها الجوع والحاجة ،ورغم كل ذلك آوتها الى البيت وحنت عليها وألبستها من لباسها وفضّلوها على ابنهم الصغير ،رأت كل هذا وركضت .
عندما رأى الجنديان فتاة شقراء غريبة تنزل مهرولة من التلة استغربا وابتعدا الى الوراء تاركين عايدة غارقة في دمائها والأمطار تزداد غزارة وتزيد الوضع سوءا وصلت الى عايدة وحملت رأسها ووضعته على فخذها وهي تبكي :" عايدة ،هل انت بخير ماذا أفعل لك يا اختي الحبيبة أخبريني !"
ابتسمت عايدة لسماع هيلين تقول اختي وقالت كلماتها الاخيرة :" هه أختي ياااه ياما تمنيت يكون عندي خيتي ،هيلين نحنا مظلومين ومقهورين بس الله على الظالم ما تخافي وزي ما وصيتك تخبري اهلي اهربي يا هيلين اهربي ولا توڤفي حتى توصلي للدار " لفضت أنفاسها الاخيرة وهي بين يدي هيلين بنت السبع سنوات بكت هيلين و تركت رأس عايدة على الأرض وركضت صاعدة التلة كما أمرتها عايدة ،كانت تنفذ الامر ولم تفهم لما هي هاربة أصلا ركض الجنديان خلفها وما إن صعدت التلة حتى وجدت ذلك الارنب الابيض الصغير يقف أمام بركة ماء صغيرة ويخطو خطوة باتجاهها ويختفي بنفس الطريقة التي اختفى بها في حديقة المستشفى توقفت والجنديان لم يصعدا التلة بعد ثم دون تفكير خطت خطوة الى البركة وأُبْ لم تعد موجودة
صعد الجنديان التلة ولم يجدا لها أثر فهلعا هلعا كبيرا وعادا ادراجهما خائبين ....
" دكتور !.... دكتور هيلين تحاول ان تفتح عينيها أرجوك تعال معي " نادت والدتها على الطبيب في عجل ،ففي غرفة الانعاش هناك في المستشفى نامت في غيبوبة لمدة اسبوع دون حراك ،كانت والدتها من وجدتها أمام بركة من الماء مغما عليها ،فنقلوها على جناح السرعة الى الانعاش لان حالة اللوكيميا عندها تطورت وصارت حرجة فتحت عينيها لتجد نفسها تتمتم بكلمات لم تفهمها والدتها :" ڤولي لوالديّ وجدي أني مِتُ شريفة متت شريفة...عايدة ...عايدة "
" حبيبتي هيلين هل أنت بخير ،ما الذي تقولينه صغيرتي!! لقد عدت إلينا أخيرا وهذا المهم " ردت امها وهي تمسك يدها وتقبلها
هيلين تنظر حولها لتتأكد انها في غرفة المستشفى وتتحسس جسمها لتتأكد أنها هي هيلين صاحبة السبع سنوات " هل كنت احلم..!؟ لا لم يكن حلما بل كان واقعا ،وأحسست بكل شيء كأنه واقع ،لقد ذهبت الى غزة يا أمي وكان عمري هناك ثمانية عشر سنة ،والتقيت بعايدة هناك وأهلها ...."
تقاطعها أمها في خوف :" حبيبتي لقد كنت في غيبوبة لمدة أسبوع كامل ،ولم تتحركي من فراشك هذا ما الذي تقولينه يبدو أنك حلمت كثيرا وانت نائمة !"
هيلين تجلس وتمسك يد أمها بين راحتيها :" أمي أؤكد لك انني ذهبت الى منطقة في فلسطين محاصرة وكانت عام 2007 والناس هناك تموت جوعا ومرضا من شدة الحصار رأيت كل شيء بأم عيني لم اكن احلم ،احسست بكل شيء كأنه واقع ولم يبدو حلما "..
استغربت والدة هيلين ف هيلين لم تكن يوما تهتم بالسياسة ولا تشاهد التلفاز ولا الاخبار وقضية حصار غزة مرت عليها اكثر من عشر سنوات وهي تحكيها بتفاصيلها الصغيرة ،مما زاد خوفها على ابنتها
تركتها في الغرفة ترتاح وذهبت تحدث الطبيب فقد يكون هذا المرض يؤثر على الدماغ بطريقة ما ،لكن الطبيب أكد لها أنه لا علاقة للمرض الخبيث بدماغها وأنها ستموت سليمة الدماغ تماما ،ارتاحت قليلا وأقنعت نفسها ان ابنتها كانت تحلم ،ثم عادت أدراجها الى الغرفة حيث وجدت هيلين تنزع إبر المصل محاولة النهوض من مكانها
" حبيبتي هل تحتاجين شيئا أخبريني لأحظره اليك لا داعي لتنهضي من مكانك " تحدثت اليها أمها وهي تحاول إعادتها الى السرير ،لكنها أبعدت يد والدتها عنها في نفور " دعيني اريد التجهز ولتحظري لي تذكرة الى فلسطين يجب ان أذهب الى والديّ عايدة وأوصل رسالتها الى أهلها ،لقد اعتمدت علي لمرة واحدة في حياتها "
والدة هيلين تزداد خوفا وتحاول تهدئتها لكن بدون جدوى " هيلين هل انت واثقة مما تقولين ،إنك مريضة وقد تموتين وانت في الطريق الى هناك ،اهدئي لقد كنت تحلمين فقط وأثر ذلك فيك "
هيلين ترد في غضب وفي نبرة فتاة ناضجة جعلت والدتها تتأكد ان شيئا ما قد حصل فعلا لابنتها وهي نائمة " أمي لم أكن أحلم لقد لبست جلابية عايدة وأكلت مدمس بالعدس ورأيت الاسلاك الشائكة وجنود صهاينة يهود ،لست أمزح يا أمي لقد ماتت ماتت عايدة من أجل شرفها وأمنتني أمانة أقولها لأهلها ،هذا آخر طلب أطلبه منك قبل موتي... خذيني الى فلسطين أمي وإلا لن اكلمك ثانية ولن أدعك تقابليني حتى أموت " دهشت والدتها من جديتها المفاجئة فهي كانت دائما تضحك وتلعب دون ان تلقي بالا لأي مسألة .
في الاخير استسلمت لطلب ابنتها الوحيدة والتي تصارع الموت واستشارت طبيبها بعد جهد جهيد سمح لها بالسفر لكن بشرط أن لا تتعرض للتعب في الطريق وكان لهيلين ما أرادت ،وفي هذه السنة 2017 كان الحصار ما زال قائما لكن بشدة أقل مما كان عليه ،فأصبح يسمح لبعض الحالات بالعبور ،حاولت والدة هيلين جاهدة مع السلطات الصهيونية ، حتى سمحو لها بعبور الحدود الى غزة بما أنها المانية وهي من دولة محايدة ،دخلت هيلين غزة وكأنها تعرف ملامح هذه الطبيعة من قبل ،وكلما رأت جندي صهيوني قالت :" تفيه عليك جندي مصدي " فتستغرب أمها من تصرفها .
استقرتا في أحد الفنادق البسيطة في مدينة غزة ،وفي الصباح استأجرت امها سيارة ومرشد يعرف المنطقة جيدا ،ووصفت له هيلين المكان الذي تريد الذهاب اليه فعرفه على الفور وأخذهما ،وما إن اقتربت من المكان حتى أحست بالحنين وبكت بكاءا شديدا كأنها البارحة كانت هنا مع عايدة وبين أهلها ،توقفوا عند احد البيوت وسألوا عن بيت والد عايدة فأخبرهم صاحب البيت أنهم رحلو بعد حكاية ابنتهم مع الجنود اليهود وموتها لم يعد لهم وجه لمقابلة الناس ،وكانت صدمة هيلين عظيمة ،"لا يا عمي عايدة ماتت شريفة وعفيفة لم يلمسها أحد وأنا كنت شاهدة على ذلك" نظر اليها المرشد والرجل في استغراب كيف لفتاة ألمانية جاءت لتوها أن تكون شاهدة على شيء حصل منذ عشر سنوات يعني قبل مولدها بثلاث سنوات ...
ثم طلبت من الدليل أخذهم الى بيت عايدة علّها تجد دليلا كيف تصل الى أهلها ،وبعد نصف ساعة ركنت السيارة أمام بيت صغير بسيط وسط قطعة أرض كبيرة وحولها أشجار زيتون ،عرفتها هيلين على الفور وقالت :" هذا هو البيت هذه هي أشجار الزيتون أنا أتذكرهم جيدا " ثم نزلت مسرعة الى الباب ودقت عليه لكنه كان نصف مفتوح دفعته ببطء ودخلت لتجد تلك الغرفة التي عاشت بها مع تلك العائلة ثلاثة ليال بأيامها ،تقدمت ووجدت الغبار يكسو الارضية و العنكبوت نسجت بيوتها على السقف وعلى الجدران ،" هذا هو البيت الذي استقبلتني فيه عايدة واطعمتني معهم من نفس الطبق ....أمي هنا ...هنا " قالتها و كلماتها تختلط بصوت بكائها وكأنها في مواجهة غريبة مع القدر،ثم دخلت الى تلك الغرفة الصغيرة حيث بدّلت ملابسها واذا بها تجد شابا في السادسة او السابعة عشر من عمره يجلس ويضع رأسه بين ركبتيه ،فنادت عليه :" من انت ،وهل تعرف عايدة وعائلتها ؟" هز رأسه الشاب ونظر الى الفتاة الصغيرة ولم يتكلم ، عندئذ صرخت هيلين :" أنت غانم نعم غانم أخو عايدة الصغير أنا أعرفك جيدا !"
استغرب غانم من أين لهذه الفتاة الشقراء الصغيرة ان تعرفه وهو لم يرها من قبل " إيه انا غانم ،بس من وين تعرفين اسمي واسم اختي ؟" نظرت هيلين لوالدتها التي اندهشت كثيرا ووضعت يدها على صدرها من شدة الصدمة فكيف لا وابنتها تثبت لها كل ما قالته وهو لا يدخل رأس بشر ،" هل رأيت يا أمي أنني صادقة ،وأنني كنت هنا فعلا كما أخبرتك ؟"
غانم في استغراب وغضب :" واش هذا الحكي ،منو انت و واش جابك هان ،انت صهيونية ولا صحافية انا ما اعرفك "
هيلين :" انا هيلين الشقراء هل نسيتني ،كنت هنا عندكم واستقبلتوني بحرارة خاصة انت... "
غانم :" تحسبيني مخبول ولا غبي تلعبي علي ،هيلين راحت مع الصهاينة وخلت اختي وحدها وهيلين عمرها اليوم ثلاثين سنة على اكبر تقدير كيف يعقل بشر يصدق واش تڤولي ؟"
هيلين :" لا لم اترك عايدة ،عايدة ماتت شريفة وطلبت مني أن أوصل رسالة الى والديها وأخويها ،ولذلك أنا هنا ،وإن لم تصدقني سأخبرك بكل شيء وعن الجبن الذي أكلتَه من يدي وعن المدمس بالعدس الذي اكلناه معا ،وعن ذلك اليوم الذي ماتت فيه عايدة وسمعنا صوت طلقات النار وذهبتما انت وأحمد بالقطيع وبقينا انا وهي نستطلع الامر ،وهذا مالم يشهد عليه احد سواي ،ممكن لذلك عادت روحي لتعيش معكم لأثبت ما حصل وأروي كل الحادث بالتفصيل ،طوال الوقت كنت استغرب لماذا عدت ولماذا انا بالذات ،فوجدت جوابا على سؤال لماذا عدت ،وهو لأشهد فقط وأوصل الحقيقة لاصحابها الحقيقة التي أخفي عشر سنوات ،يجب ان اخبر كل القرية بذلك ... أنظر الي جيدا الى عيني الى شعري "
غانم :" هل انت ابنة هيلين ؟ وهل هي من ارسلتك ؟"
هيلين :" لما لا تصدق انني هيلين وهاهي بطاقة تعريفي ،فانا مريضة باللوكيميا وايامي معدودة وأريد أن التقي بالجميع لاخبرهم أن من قتل عايدة هو الرجل الفلسطيني وهي من طلبت منه ذلك لكي لا يتمكن منها الجنديان ،وصرخت بأعلى صوتها أنا شريفة وسأموت شريفة يا هيلين "
انتفض غانم فهو يعرف فعلا أن هيلين كانت مريضة مرضا خطيرا ،وأنها الوحيدة التي تعرف هذه القصص :" نحنا عارفين انو اختي شريفة وماتت شريفة مانا بحاجتك ت تحكي وتبرري عنها ..."
يدخل في هذه الاثناء أخوه أحمد وعيناه مليئة بالدموع مما سمع وقد جاء ليعيد أخاه الى مخيم اللاجئين :" كنت عارف عارف أنو عايدة شريفة ،وماتت شريفة وهاي القدر يثبت براءتها ،انت يا هيلين دخلت حياتنا بطريقة غريبة ،ورحلت بطريقة أغرب ،كنت حاسس انك مو عادية بس خايف اڤول يتهموني انا الثاني بالجنون ،انت جيتي وأكدتي لينا كل اللي كنا متأكدين منو لكن الناس ڤالو أنو عايدة نكل بيها الجنود ڤبل ليقتلوها ،رح أروح لأمي وأخبرها نرجع ع بيتنا وأرضنا ،جدي وابوي عطاوك عمرهم ماتو في نفس العام خمس سنوات بعد ما ماتت عايدة أختي ... "
خرجت هيلين تتحدث مع أحمد في الخارج
هيلين :" لقد كانت عايدة رمزا لشرف الفلسطينيات الحرات ،كانت جبلا لا تهزه ريح ،ماتت وهي مبتسمة يا أحمد ،ماتت معتبرة انني اختها التي لم ترزق بها ،لست ادري كيف حدث هذا لكنني متأكدة ان فيه عبرة ما ،وهدف ما وها أنا أتأكد الآن "
أحمد :" لابد من يوم يطلع فيه الفجر على فلسطين وشعبها لابد من يوم "
وبقيت والدتها تحدث غانم : " هل يمكن أن تخبرني كيف كانت تبدو ابنتي وهي في سن الثامنة عشر اخبرني ،فأنا لن تصح لي الفرصة لأراها شابة يافعة ، مرضها يفتك بها فتكا يوما بعد يوم... "
غانم :" هيلين لمّا دخلت أول مرة البيت بقينا كلنا مذهولين من جمالها ،كانت روعة في الجمال الله يصبرك يا خالة الله يصبرك والله قصة تخلي المخ يطير ... "
" هيلين وصلتك رسالة من غانم ،هذه ثالث رسالة في اربعة اشهر ،هه انه صديق وفي " دخلت والدتها وهي تحمل ظرفا بريديا
هيلين :" اتمنى انهم بخير ،اشتقت الى أخبارهم جميعا ،لقد خرج أخوه من المعتقل وهو الان من يعيلهم ويقوم مقام الاب في العائلة أنا سعيدة من أجلهم على الاقل عوضهم الله على غياب عايدة ووالدهم ..."
قرأت هيلين الرسالة ولم تعلم انها آخر رسالة تقرأها في حياتها من غانم ....
وبعد شهرين وصلت رسالة من هيلين الى غانم ففتحها على عجل ليعرف أخبارها وإذا بالمرسل والدتها " غانم الحبيب ...،تحية عطرة من والدة هيلين ،أكتب اليك أنا هذه المرة لأن هيلين غادرتنا منذ اسبوعين بعد صراع مع المرض اي ستصلك رسالتي هذه و قد فات على وفاتها شهر كامل ،رحلت و تركت في قلبي فراغا كبيرا وأنا أتألم كثيرا لفراقها لا يمكن تخيل حجم الألم الذي أشعر به ،لآخر لحظة وهي تفكر فيكم ،كانت آخر كلماتها انقذو غزة أنقذو اهل غزة ،لقد احبّتكم كثيرا و رغم قلبها الصغير إلا أنها استوعبت تماما القضية ورأت الحق بعينيها الصغيرتين ،ورأت الظلم يزداد في بلادكم ،وقد طلبت مني أن أساند القضية في رسالة تخرجي للدكتراه وقد وافقت بعد ما رأيته بأم عيني ،سأكتب رسالة تخرجي عن القضية حتى وان كلفني ذلك إقصائي من الجامعة المهم أن أوصل كلمات عايدة الى العالم ،رحلت ابنتي عن العالم وهي تحمل حبّكم في قلبها رحلت وكلها أمل أن تلتقي بعايدة في العالم الاخر ...ستجد هنا آخر كلمات هيلين مع صورتها احتفظ بها واذا احتجت الى أي شيء راسلني أرجوك.... إقبل تحياتي الخالصة... "
فتح غانم الظرف واخرج ورقة صغيرة مع صورة هيلين بنت السبع سنوات " غانم عش سعيدا وعش حرا فأنتم هم الأحرار بأخلاقكم وهم المسجونون بخوفهم زمرة جنود مصديين ...." سار غانم الى خارج البيت وهو حزين جدا لسماع الخبر ، ونظر الى اتساع ريف غزة وهو يتذكر اخته عايدة وربطة شعرها وعصاها التي لا تفارق يدها وبينما هو كذلك اذ سمع خبرا عاجلا في التلفاز
" ترامب يعلن نقل سفارته الى القدس ويتم بذلك اعترافه رسميا بأن القدس هي عاصمة اليهود...... "
غانم :" الله يرحمك يا عايدة اختي الله يرحمك ،الحمد لله ما سمعتِ الخبر كان رحت فيها من قهرك ،الله اكبر ع العرب الله اكبر ع المسلمين لازملهم خطوة ...خطوة للامام مو للخلف .... "
※※※※※※※النهاية ※※※※※※※※