{هِشام}
:: عضو مُتميز ::
أهلا وسهلا ومرحبا بكم في مشاركتي المتواضعة في مسابقة "اكتب قصّة"
أودّ أوّلا أن أشكر القائمين عليها، وأعاتبهم على العقلية تاع 5 ايام هذي. قتلت روحي اليوم p:
~
اخترتُ ميدان القصّة 'دراما ورومنسية' قبل أن أفكّر في موضوعها، ونظرا لضيق الوقت فإنّني بدأت تنفيذ
أوّل فكرة خطرت ببالي (ضيق الوقت خاطرش لعبت من 19 ديسمبر حتى يامس، كنت نزعق بخصوص 5 ايام)
وأوّل فكرة هذي لازمها شخصيّات لا أوافق تصرّفاتها، وأحداث لا أؤيّدها. لكنّها أقلّ سوءًا من الواقع وأخفّ وقعًا
(وولد الحرام لقى جزاءه مع التّالي ههههه)
هذي المقدّمة قاع باش نقول اللي نشعاته حاجة ف القصّة يتفكّر بلي هذي مجرّد قصّة، ولولا أنّني ضيّعت مسابقتين من قبل
لانسحبتُ أو فكّرت في فكرة أخرى أكتبها في يوم واحد.
أمّا للي ما يتنشعوش، وما يكرهوش بلخف، أرجو أن تستمعوا.
شيء أخير:
أهلس أي كتم ضحكه.
انكلّ أي ضحك ضحكًا حسنا.
القهقهة معروفة، أمّا الطّخطخة فهي أن تضحك حتّى تقول "طيخ طيخ" تدير صوت غريب يعني.
وأخيرا، الزّهزقة أن يضيع صوتك من شدّة الضّحك.
والآن
Bring out the popcorn, buckle up
and enjoy the ride
~
{هواتف}
"يُحكى أنّ ملِكًا أحبّ ابنة حطّابٍ من مملكة مجاورة، فركب الحافلة قبل الفجر ليقابلها، وطارت هي بالسّعا..."
انفجرت شمس ضحكًا قبل أن تكمل جملتها، فسابَقتْ يدها ضحكاتِها إلى الهاتف تُبعدُهُ عن فمها، لكنّها ضغطت زرّ الإقفال خطأً.
تمتم الشاب: "ليس مجدّدًا"، وحين همّ أن يعاود الاتّصال، لاحظ على هاتفه عدّة مكالمات فائتة. تفقّدها، وأطلق زفرة حارّة تنمّ عن امتعاض وغيظ. ثمّ تجاهلها واتّصل بشمس.
- ردّت الفتاة وهي تكتم ضحكاتها وتكرّر: أعتذر، أعتذر! تعلم كم أكره أن تسمع قهقهتي وأنا أضحك.
- ردّ عليّ وهو يتنفّس بعمق يدّعي به الانزعاج: حسنا، لا يهم. أكملي القصة.
- أجابت شمس وهي لا تزال تقاوم الرّغبة في الضّحك: قصّة؟ أنهيتُ قصّتي يا خال. وهذا دورك فكفاكَ تماطلا. ولْتَدَعْ عنك نبرة الكآبة هاته. احمد الله أنّك تكلّمني يا هذا. ثمّ انفجرتْ ضحكًا، وأصدرت طخطخةً أوقعتْ على إثرها هاتفها.
- ابتسم عليّ وهو يهزّ رأسه غير مصدّق لما يحدث، وفكّر في نفسه: "كيف بالله لفتاة بهذه البلاهة أن تبلغ الثّانية والعشرين دون أن تقضي بلاهتها عليها!" لكنّ حبل أفكاره انقطع حين لمح انعكاسه على مرآة التّسريحة إلى جانبه، وأدرك أنّ ابتسامته المُشفقة تلك قد تحوّلت إلى ابتسامة ملء فمه.
قامت شمسٌ من مكانها، وراحت تتحسّس طريقها إلى مفتاح النّور على الجدار المقابل لسريرها. وبعد دقائق من التعثّر والصّيحات المكتومة أنارت غرفتها. ثمّ أخذت تبحث عن هاتفها وسط الأغطية كمن أضاع مفتاح الجنّة. وما أن عثرت عليه حتّى وضعته على خدّها وهمّت -كالملهوف- أن تنادي علي، يا علي، يا علي. لكنّها ارتأت أن تأخذ نفسا عميقا، وتستعيد توازنها ثمّ تستلقي على سريرها قبل أن تفعل ذلك.
حاول عليّ مسح تلك الابتسامة العريضة غير أنّها أبت إلاّ أن تتشبّث بوجهه، فتبادر إلى ذهنه "من يا ترى بيننا الأبله الآن؟!". ورفع إذّاك يديه ومرّرهما على شعره الأسود الكثيف، ثمّ وضع يمناه على قلبه الّذي نبض على وتيرة مختلفة، وخاطبه أن: "قد وقعنا يا صاحبي.".
لم يُخرج عليًّا من حالة الإمعان في ذاته تلك إلاّ صوت شمسٍ عبر سمّاعتي الهاتف وهي تنادي: عليّ، يا عليّ، يا عليّ.
فردّ: "شرّفتِنَا يا آنسة."
قلّت حماسةُ شمسٍ وهي تجيب: "آسفة، أعدك أن أحاول التّقليل من بلاهتي هذه، لكنّ كلينا يعلم أنّني سأفشل في ذلك. فارضَ بالنّصيب يا بنيّ، ارضَ بالنّصيب"
قال: "رضيتُ، رضيت. وأبو النجم يمدح البلاهة في البنات فلا تأسَيْ ولا تتأسّفي"
فردّت: " من أبو النجمٍ هذا؟ وأين كانَ يومَ أوقعتُ مجسم الكرة الأرضية في حصّة الجغرافيا؟"
ضحك عليّ فخالط ضحكُهُ كلامه، فصاحت شمس:" أخبرتكَ ألاّ تفعل هذا يا أخرق"
فردّ وهو يبتسم: "حقًّا؟ لماذا؟ لا أذكر!"
" بلى تذكر يا لئيم. تعلم أنّ صوتك يصبح أكثر جذبا إذ تضحك"
ابتسم عليّ برضًا وردّ: "أجل أذكر" ثمّ ضحك واستطرد: "أردتُ فقط أن أسمعها مجدّدًا."
تظاهرت شمسٌ بالاستياء وهي تسأل: "من أبو النجم إذن يا خبيث؟"
أجاب عليّ: "هو شاعرٌ أموي، يقول في إحدى أراجيزه مادحا البلاهة وقلة الدّهاء عند الصّبايا:
وَدِّعْ فَـــوَاهًـــا هُـــنَّ مِــــنْ مُــوَدِّعِ
مِنْ كلِّ بيضاءَ سَقوطِ البُرقُعِ
بلهاءَ، لمْ تَحفظْ ولَمْ تُضـيـِّعِ
مِنْ كلِّ بيضاءَ سَقوطِ البُرقُعِ
بلهاءَ، لمْ تَحفظْ ولَمْ تُضـيـِّعِ
هَمْهَمَتْ شمسٌ ثُمَّ قالت: "سأدّعي أنّني فهمتُ، ولنواصل حديثنا"
كرّر عليٌّ كلام شمسٍ في سخرية واستفزاز: "سأدّعي أنّني ننننن." وأطنب: "عمَّ كُنّا نتحدّثُ أصلا؟"
استدارت شمسٌ على جنبها الأيمن متوسّدةً يديها، فافترش الهاتفُ خدّها الأيسرَ، وقالت في حماس بادٍ: "إنّه دورك في سرد حكاية."
تمطّط عليّ في فراشه، وحكّ رأسه مفكّرا، ثمّ ردّ وهو يتثاءب: " الوقتُ متأخّر جدًّا يا شمس، ونحن لم نتّفق على موعد لقاء الغد ولا برنامجه. فلنؤجّل السّرد إلى ليلة أخرى."
صمتَتْ شمس لبرهة، ثمّ راحت تتأفّف في دِلِّ ودلع. فباغتهَا عليٌّ بقوله: "أم أنّكِ تراجعتِ عن فكرة اللّقاء؟" فبادرت إلى خلعِ رداء الدّلع والاستياء، وتقمّصتْ دور الجدّ والحزم: "أتراجع عن الفكرة؟ أنا أنتظر موعدنا هذا منذ شهور يا علي، اقترحْ إذن، ماذا تريدُ أن نفعل؟ وإلى أين نذهب؟"
تنحنح عليّ وردّ: "المدينة مدينتكِ وما أنا إلاّ ضيف، فقرّري عنّا وأنا موافق."
أخذت شمس تهمهم مجدّدًا، ثمّ سألت عليًّا: "هل ستأتي بسيّارتك أم تستقلّ الحافلة؟"
فقال: "لا أريد أن أضيّع الوقت في البحث عن مكان لركن السيّارة." ثمّ أكمل ممازحا: "ولا أن أتيح لكِ سبيلا لحجزي إلى ما بعد الرّابعة عصرا."
لم يبدُ من نبرة شمسٍ أنّها أحبّت نكتة عليّ، إذ ردّتْ: "هي الحافلةُ إذن، ولنتقابل في محطّة الحافلات." ثمّ أعقبتْ بحزمٍ أكبر: "على الثّامنة صباحًا، مكافأةً على ظرافتك يا بُهلول زمانك."
"الثّامنة" ردّ عليّ باستنكار، واستطرد: "هذا يعني أنّ عليّ الإقلاع على الرّابعة قبل الفجر! لا مشكلة" ثمّ أطلق ضحكةً شرّيرة كرتونية، وتثاءبَ مجدّدًا.
ضحكتْ شمسٌ وتثاءبت هي الأخرى، ولم تشأْ أن تسأل عن سبب ضحكة علي، فاكتفتْ بالقول: "أمّا عمّا نقضي به وقتنا، فلنتركْ ذلك للغد. ولتذهب إلى النّوم! ينتظركَ سُرًى مُضنٍ طويل."
أبدى عليٌّ استغرابه: "سُرًى هاه! وتدّعين أنّكِ لم تفهمي أبيات أبي نجم يا محتالة."
ضحكتْ شمس برقّة وراحت تتغنّج: "هذا غيضٌ من فيض يا أنت. هذا غيضٌ من فيض."
فضحكَ عليّ، ثمّ همس: "شكرًا يا شمس!"
همست هي تقليدًا ومداعبة: "علامَ يا علي؟"
فردّ: "على الضّحك، والكلام الحلو. على الاهتمام، على الرّفق، على اللّقاء. شكرًا على أنّكِ أنتِ أنتِ، وشكرًا على أنّكِ هنا. لم ينتبني شعور كهذا منذ أمد يا شمس، فشكرًا."
صراحةُ عليّ وتغيّر لغة خطابه أخذت شمسًا على حين غرّةٍ، فارتبكتْ للحظاتٍ، قبل أن تبتسم وتردّ: "لم أفعل شيئًا يا علي، ووالله إنّي لأحمدُ الله أن عرفتُك. ولا تتخيّلُ حماستي وشوقي للقاء الغد. شكرًا لك وعليك."
لم ينتبه عليّ للابتسامة العريضة الّتي تسلّلت إلى وجهه إلا حين نطق: "تُصبحين على خير يا شمس. أراك غدًا."
فردّت هي الأخرى ومشاعر الإلف والسّعادة تتقاطر من صوتها: "بل أصبح على لقيا عليّ، أحلامًا سعيدة يا أنت." ثمّ حملت الهاتف من فوق خدّها وهمّت بقطع المكالمة، غير أنّها سمعت عليّا ينادي أن يا شمس. فردّت: نعم يا علي.
فأعادها: يا شمس.
فردّت: نعم يا عليّ!
فأعادها ثالثةً بهمسٍ ونفَسٍ حارٍّ: يا شمس!
فردّت: أعلم يا عليّ. يا عليّ، يا عليّ. أعلم يا عليّ.
قطع عليّ المكالمة، وخلع السمّاعتين من أذنيه، ثمّ قام إلى الدّولاب يفتّش بين ملابسه عمّا يرتديه للغد.
شغّلتُ شمس مصباح هاتفها، قبل أن تقوم لتطفئ نور الغرفة، وتعود إلى فراشها.
عاد عليٌّ إلى سريره، وراحا يتفكّران في لقاء الغد. ثمّ خلدا إلى النّوم.
~
فرك عليّ عينيه، ووضع يده على جبهته يحميهما من الضّوء السّاطع المسلّط تلقاء وجهه. ثمّ فتح فمه ملء شدقيه انصياعًا لأمر الطّبيب الواقف إلى جانبه. لكنّه أحس بشيء يقع ويلامس شفته السّفلى، ثمّ يتدحرج على قميصه ويستقرّ فوق بطنه. أمعن النّظر فيه وراح يتحسّس أسنانه بلسانه، فإذا هي نابه قد وقعت. حاول النّهوض من طاولة العلاج، غير أنّ الطّبيب صاح فيه أن اثبت مكانك، وسارع يشغّل حفّارة الأسنان الّتي أصدرت صوتًا مألوفا. فتح عليٌّ عينيه فإذا الصّوتُ منبّه هاتفه يعلنُ دخول السّاعة الثّالثة فجرا.
~
قام عليٌّ من فراشه، وفتح نور الغرفة. حمل من على سريره الملابس الّتي اختارها قبل الخلود إلى النّوم. ثمّ مضى مسرعًا على السّلالم متجاوزًا الطّابق الأوّل إلى السّفلي. استحمّ على عجلٍ، وحلقَ شاربه وشُعيرات لحيته ثمّ ارتدى ملابسه وعاد إلى غرفته.
جلس أمام المرآة يمشط شعرهُ وكلّه أُهبة وشوق. لكنّ صداعًا ألمّ برأسه نبّهه إلى أنّه لم ينم إلاّ ثلاث ساعاتٍ، فتذكّر ضحكته المتوعّدة وحمل هاتفه ينوي الاتّصال بشمس ليوقظها مداعَبة وانتقاما. لكنّه سرعان ما فقد حسّ الملاطفة ذاك بفعل وخز في مؤخّر رأسه جرّاء رؤيته المكالمات الفائتة على شاشة الهاتف.
~
أتمّ الفتى تجهيز نفسه، ثمّ نزل السّلالم على عجلٍ وحذر، واختار الخروج من باب المرأب لئلّا يوقظ من أهل البيت النّيام أحدا. ولم يلبث أن لاحظ أنّ سيّارته غير موجودة في المرأب، لكنّه طمأن نفسه: "لعلّ عادلا أخذها في حاجة". ومضى يحثّ الخطى تحت جُنحِ الظّلام حتّى إذا صار إلى موقف الحافلات، أخرج هاتفه من جيب معطفه وظلّ يراوح في الاتّصال بشمسٍ بين الإقدام والإحجام.
مرّت ربعُ ساعةٍ وعليّ على حالته، وحيدًا منتظرًا مطيّهُ، متردّدًا في الاتّصال. لكنّه سئم البردَ والتّحديق في الشّوارع والسيّارات.
~
~
قام عليٌّ من فراشه، وفتح نور الغرفة. حمل من على سريره الملابس الّتي اختارها قبل الخلود إلى النّوم. ثمّ مضى مسرعًا على السّلالم متجاوزًا الطّابق الأوّل إلى السّفلي. استحمّ على عجلٍ، وحلقَ شاربه وشُعيرات لحيته ثمّ ارتدى ملابسه وعاد إلى غرفته.
جلس أمام المرآة يمشط شعرهُ وكلّه أُهبة وشوق. لكنّ صداعًا ألمّ برأسه نبّهه إلى أنّه لم ينم إلاّ ثلاث ساعاتٍ، فتذكّر ضحكته المتوعّدة وحمل هاتفه ينوي الاتّصال بشمس ليوقظها مداعَبة وانتقاما. لكنّه سرعان ما فقد حسّ الملاطفة ذاك بفعل وخز في مؤخّر رأسه جرّاء رؤيته المكالمات الفائتة على شاشة الهاتف.
~
أتمّ الفتى تجهيز نفسه، ثمّ نزل السّلالم على عجلٍ وحذر، واختار الخروج من باب المرأب لئلّا يوقظ من أهل البيت النّيام أحدا. ولم يلبث أن لاحظ أنّ سيّارته غير موجودة في المرأب، لكنّه طمأن نفسه: "لعلّ عادلا أخذها في حاجة". ومضى يحثّ الخطى تحت جُنحِ الظّلام حتّى إذا صار إلى موقف الحافلات، أخرج هاتفه من جيب معطفه وظلّ يراوح في الاتّصال بشمسٍ بين الإقدام والإحجام.
مرّت ربعُ ساعةٍ وعليّ على حالته، وحيدًا منتظرًا مطيّهُ، متردّدًا في الاتّصال. لكنّه سئم البردَ والتّحديق في الشّوارع والسيّارات.
~
استفاقت شمس من نومها إذ رنّ هاتفها. وتفقّدته فإذا المتّصل عليّ، والسّاعة لم تبلغ الرّابعة بعد.
ردّت بصوتٍ مبحوحٍ لا يكادُ يَبين: "صباح الخير يا علي، خيرًا، هل من شيء؟"أهلسَ عليّ وهو يردّ: "صباحَ النّور. كلّ شيءٍ على ما يرام، أردتُ فقط أن ترشُفي ممّا تسقينني."
عبست شمس، وردّت وصوتها لا يزال ضعيفا: "أين أنت الآن إذن يا أحمق؟"
اصطكّت أسنان عليّ وهو يجيب: "أنا الآن وحدي أنتظرُ الحافلةَ، والقرسُ كاد يُذهب عقلي".
نحنحت شمس لتستعيد صوتها، ثمّ ردّت: "أحسبهُ فعل يا علي، من يتّصل الرّابعة فجرا بربّك؟!"
فضحك وأجاب: "أنا أفعل! بل وكنتُ أنوي الاتّصال حين قمتُ من النّوم، غير أنّي ..." ثمّ صمت، فانتاب شمسًا القلق واستفسرت: "غير أنّك ماذا؟"
تردّد عليّ، لكنّه إذ أحسّ قلقها وصدق اهتمامها، تجاهل تردّده وأخبرها: "أمّي كانت تتّصل البارحة حين كنّا نتحدّث، وعلاقتي بها على غير ما يرام مؤخّرًا"
لم تفهم شمس علاقة هذا بإحجامه عن الاتصال حين أفاق، فاستفسرت. ثمّ أطنبت:" وهي أمّك يا علي، {على غير ما يرام} ليس خيارًا في علاقتك بأمّك".
شرح عليّ تغيّر حاله إذ لمح المكالمات الفائتة وعزوفه عن الاتّصال بها حين استفاق، ثمّ وعد: "سأعيد النّظر في موقفي من أمّي".
لكنّ هذا الوعد لم يكن بالكافي في نظر شمس، فقالت بحزم:" ماذا لو قلتُ لكَ أنّه لا لقاءات ولا اتصالات ما لم تُصلح علاقتك بأمّك!"
فسارع عليّ بالردّ ممازحًا: "سأقول أنّ السّاعة الآن قاربت الرّابعة، قد تكون أمي مستيقظة. سأتّصل لأرى ما تريد"
انكلّت شمس رضًا وسرورًا، وردّت: "كلّا يا أنت. دعها تَنَمْ، وعِدْني أن تتّصل بها صباحًا."
لم تفارق الابتسامة عليًّا - والحافلة تقترب - مع أنّه كان يُعاتَبُ ويُلام. فهو لم يعهدْ أن يهتمّ أحدٌ لشأنه وتصرفاته، فردّ كأصدق ما يكون: "أعدك يا شمس. أعدك". ثمّ استطرد: "وصلت الحافلة. أراكِ بعد أربع ساعات بإذن الله، ولستُ آسفًا على إيقاظك." ختم جملته بضحكة هادئة بادلته شمس بمثلها، وردّت بدفء: "لا عليك يا علي، أراكَ قريبا".
~
رنّ منبّه السّابعة مُأرجِحًا شمسًا بين عالم الأحلام واليقظة. ولو كان اليوم غير اليوم، لانصاعت لداعي الواقع.
تحسّست الفتاة هاتفها على غير وعي، فأخرستْهُ إلى وضعه الصّامت، مفضّلة العودة إلى دفء أحلام اللّقاء.
~
أفاق عليّ على وقع صوتِ قابض الحافلة ينادي أنّ المحطّة القادمة آخر محطّة. فمسح وجهه بيديه، وتفقّد هاتفه فإذا السّاعة قد تجاوزت السّابعة والنّصف. تبادر إلى ذهنه أن يتّصل بشمس، لكنّه تراجع عن ذلك. وراح يحملق في المنظر من نافذة مقعده غير آبه له وهو يتغيّر من شجر وحجر، إلى مبانٍ من الطّوب، ثمّ وديانٍ، إلى مصانع فعماراتٍ. حتّى تبدّى له غير بعيدٍ محطّة الحافلات الموعودة، فسرى في جسمه دفءٌ ورهبة، سرعانَ ما غلبتهما رعشة من هبّة البرد الّنّافذ عبر باب الحافلة الّذي فُتِحَ إذ توقّفت داخل المحطّة.
~
اكتظّ رفقاء درب عليّ على الباب، كلّهم يريد الخروج أولا. فيما استرخى هو على مقعده معاتبًا نفسه:
"أيّ أخرق يرتدي معطفا ربيعيا في عزّ الشتاء؟!"
~
ابتسمت شمسٌ وهي تتمطّط على سريرها كأبطإ ما يكون، غير أنّ فكرةً تبادرت إلى ذهنها على حين غرّة كالشّرارة في كومة تبن. فصاحت وهي تقفز من مكانها: "اللّعنة، عليّ ينتظر". راحت تلفّ كالمجنون في غرفتها وتدور، ثمّ هدّأت من روعها وخاطبت نفسها وهي تتأمّل الوقت على الهاتف: "الموعد بعد ربع ساعة، سنتجهّز في خمس دقائق، ونستقلّ أسرع تاكسي في المدينة" ضحكت وهي تردّد كأنّما تجادل نفسها: "نتجهّز في خمس دقائق! خمس دقائق. أجل طبعًا، خطّة عظيمة يا أنا" ثمّ صاحت في نفسها: "تبّا، فلتركّزي" وألقت الهاتف على السّرير إذ انتابها الهلع مجدّدًا، وختمت: "يمكنكِ فعل هذا". وراحت تخلع ملابس النّوم على عجل وتلقيها على فراشها.
~
يمّم عليّ الخطى وسط جموع النّاس نحو حمّام المحطّة. ثمّ خرج والبرد يلسع وجهه المبلّل، لكنّ قرقرة بطنه كانت همّه الأكبر.
تساءل في نفسه: "هل أُفطِرُ أم أنتظر شمسًا لنُفطر سويّةً" ثمّ انتشل هاتفه من جيبه وهو يفكّر "فلتقرّر هي" واتّصل بها.
~
أتمّت شمس تسريح شعرها، ثمّ لفّت الخمار عليه، وفكّرت أن تتأمّل نفسها في المرآة، لكنّ هاتفا داخليا صاح بها أن "انقلعي".
قبّلت رأس والدتها وهي تركضُ خارجةً من باب العمارة وتصيح: "تاكسي، تاكسي". توقّف سائق التّاكسي متعجّبًا غرابة أطوارها، وسأل: "إلى أين تريدين؟" فردّت: "محطّة الحافلات من فضلك يا عمّ!" فأشار برأسه أن نعم، ففتحت الباب الخلفي وولجت إلى السيّارة، ثمّ أكّدت: "محطّة الحافلات، وأنا متأخّرة جدّا يا عمّ فلتُسرع رجاءً" فردّ: "لا عليك، الله لا يضيّع عبده يا بنيّتي ومن كلّ سيارات التّاكسي في المدينة قدّر لكِ سيارتي لحكمةٍ يعلمها هو. أذكرُ مرّةً أنّني أوصلتُ فتاةً في مثل عمرك إلى ..." وراح يسرد قصصًا من حياته، وشمس تومئ بالإيجاب و"نعم" و "آها". وكلّ خليّة في دماغها تشتغل بضعف طاقتها تفكيرًا في عليّ المنتظر في المحطّة. إلى أن هدأت وخطر لها أخيرًا بعد دقائق أن تتّصل به تطمئنه. فتحت حقيبة يدها وراحت تفتّش عن هاتفها، مُبعدَةً عن ذهنها ذكرى الهاتف وسط أغطية السّرير وملابس نومها تدفنه تحتها أعمق وأعمق. لكنّها إذ لم تعثر عليه في الحقيبة تمتمت "حمقاء حمقاء حمقاااء". قطع السّائق سرد بطولاته حين انتبه إلى شمس، فسأل: "خيرا؟ ما الأمر؟" فأجابت: "نسيتُ هاتفي. كم السّاعة عندكَ يا عمّ؟' تفقّد السّاعة على لوح سيارته وأجاب: "الثّامنة والثّلث يا بنيّتي" فتمتمت: "تبّا، لا وقت للعودة" ثمّ خاطبته: "أسرِع أرجوك".
~
رنّ منبّه السّابعة مُأرجِحًا شمسًا بين عالم الأحلام واليقظة. ولو كان اليوم غير اليوم، لانصاعت لداعي الواقع.
تحسّست الفتاة هاتفها على غير وعي، فأخرستْهُ إلى وضعه الصّامت، مفضّلة العودة إلى دفء أحلام اللّقاء.
~
أفاق عليّ على وقع صوتِ قابض الحافلة ينادي أنّ المحطّة القادمة آخر محطّة. فمسح وجهه بيديه، وتفقّد هاتفه فإذا السّاعة قد تجاوزت السّابعة والنّصف. تبادر إلى ذهنه أن يتّصل بشمس، لكنّه تراجع عن ذلك. وراح يحملق في المنظر من نافذة مقعده غير آبه له وهو يتغيّر من شجر وحجر، إلى مبانٍ من الطّوب، ثمّ وديانٍ، إلى مصانع فعماراتٍ. حتّى تبدّى له غير بعيدٍ محطّة الحافلات الموعودة، فسرى في جسمه دفءٌ ورهبة، سرعانَ ما غلبتهما رعشة من هبّة البرد الّنّافذ عبر باب الحافلة الّذي فُتِحَ إذ توقّفت داخل المحطّة.
~
اكتظّ رفقاء درب عليّ على الباب، كلّهم يريد الخروج أولا. فيما استرخى هو على مقعده معاتبًا نفسه:
"أيّ أخرق يرتدي معطفا ربيعيا في عزّ الشتاء؟!"
~
ابتسمت شمسٌ وهي تتمطّط على سريرها كأبطإ ما يكون، غير أنّ فكرةً تبادرت إلى ذهنها على حين غرّة كالشّرارة في كومة تبن. فصاحت وهي تقفز من مكانها: "اللّعنة، عليّ ينتظر". راحت تلفّ كالمجنون في غرفتها وتدور، ثمّ هدّأت من روعها وخاطبت نفسها وهي تتأمّل الوقت على الهاتف: "الموعد بعد ربع ساعة، سنتجهّز في خمس دقائق، ونستقلّ أسرع تاكسي في المدينة" ضحكت وهي تردّد كأنّما تجادل نفسها: "نتجهّز في خمس دقائق! خمس دقائق. أجل طبعًا، خطّة عظيمة يا أنا" ثمّ صاحت في نفسها: "تبّا، فلتركّزي" وألقت الهاتف على السّرير إذ انتابها الهلع مجدّدًا، وختمت: "يمكنكِ فعل هذا". وراحت تخلع ملابس النّوم على عجل وتلقيها على فراشها.
~
يمّم عليّ الخطى وسط جموع النّاس نحو حمّام المحطّة. ثمّ خرج والبرد يلسع وجهه المبلّل، لكنّ قرقرة بطنه كانت همّه الأكبر.
تساءل في نفسه: "هل أُفطِرُ أم أنتظر شمسًا لنُفطر سويّةً" ثمّ انتشل هاتفه من جيبه وهو يفكّر "فلتقرّر هي" واتّصل بها.
~
أتمّت شمس تسريح شعرها، ثمّ لفّت الخمار عليه، وفكّرت أن تتأمّل نفسها في المرآة، لكنّ هاتفا داخليا صاح بها أن "انقلعي".
قبّلت رأس والدتها وهي تركضُ خارجةً من باب العمارة وتصيح: "تاكسي، تاكسي". توقّف سائق التّاكسي متعجّبًا غرابة أطوارها، وسأل: "إلى أين تريدين؟" فردّت: "محطّة الحافلات من فضلك يا عمّ!" فأشار برأسه أن نعم، ففتحت الباب الخلفي وولجت إلى السيّارة، ثمّ أكّدت: "محطّة الحافلات، وأنا متأخّرة جدّا يا عمّ فلتُسرع رجاءً" فردّ: "لا عليك، الله لا يضيّع عبده يا بنيّتي ومن كلّ سيارات التّاكسي في المدينة قدّر لكِ سيارتي لحكمةٍ يعلمها هو. أذكرُ مرّةً أنّني أوصلتُ فتاةً في مثل عمرك إلى ..." وراح يسرد قصصًا من حياته، وشمس تومئ بالإيجاب و"نعم" و "آها". وكلّ خليّة في دماغها تشتغل بضعف طاقتها تفكيرًا في عليّ المنتظر في المحطّة. إلى أن هدأت وخطر لها أخيرًا بعد دقائق أن تتّصل به تطمئنه. فتحت حقيبة يدها وراحت تفتّش عن هاتفها، مُبعدَةً عن ذهنها ذكرى الهاتف وسط أغطية السّرير وملابس نومها تدفنه تحتها أعمق وأعمق. لكنّها إذ لم تعثر عليه في الحقيبة تمتمت "حمقاء حمقاء حمقاااء". قطع السّائق سرد بطولاته حين انتبه إلى شمس، فسأل: "خيرا؟ ما الأمر؟" فأجابت: "نسيتُ هاتفي. كم السّاعة عندكَ يا عمّ؟' تفقّد السّاعة على لوح سيارته وأجاب: "الثّامنة والثّلث يا بنيّتي" فتمتمت: "تبّا، لا وقت للعودة" ثمّ خاطبته: "أسرِع أرجوك".
~
جلسَ عليّ إلى طاولة مقهى داخلي بالمحطّة وعلى محيّاهُ حيرةٌ باديةٌ وبؤس. لكنّه قرّر معاودة الاتّصال بأيّة حال، فإمّا أن تردّ شمس أو أن يعود إلى قريته بقلبٍ كسير ونفسٍ مستحقِرةٍ مستحقَرة. استمع إلى الهاتف يرنّ ولا ردّ. ثمّ جاءه الشّريط المسجّل الّذي سمعهُ هذا الصّباح أكثر من عشر مرّات: "لا يتمّ الردّ على ...". فقطع الاتّصال، وراح عقله يتقافز بين توقّع الأسوء: الخديعة والسّخرية. "من يا علي بهذا السّخف غيرك؟ أتسافر للقيا فتاة عرفتها من الانترنت. أستحقّ ما يجري لي" وبين التماس الأعذار لشمس "لعلّها استغرقت في نومها، أو علّها محبوسة في زحام المدينة".
"لماذا لم تتّصل إذن؟ بل لماذا لم تردّ على الهاتف يا ذكي؟"
أخذ نفسًا عميقًا، وارتشف قهوته الباردة ثمّ فكّر: "لكنّ هذه شمس. شمسٌ الّتي لم تُظهر خلال أربعة شهور إلا الودّ والاهتمام. شمسٌ الطيّبة، شمسٌ الظّريفة، شمسٌ البلهاء"، فرسا على قرار انتظارها لغاية السّاعة التّاسعة. حمل رجليه متثاقلا يأمل أن تحملاه إلى بوّابة المحطّة لينتظرها هناك.
~
شكرتْ شمس سائق التّاكسي وهي تناوله الأجرة مع أنّه أنزلها على بعد شارعين من المحطّة لسببٍ لم تعره انتباها. وصاحت مبتعدة: "احتفظ بالباقي يا عمّ". ركضت تقصد بوّابة المحطّة، وكلّ الوجوه حولها مموّهة، كلّ الوجوه في نظرها سواء إلاّ وجه عليّ.
تذكّرت أوّل رسالة منه: "علي، لستُ أوسم من أحد على هذا الموقع، لكنّني أذكى وأظرف." "لماذا لم تتّصل إذن؟ بل لماذا لم تردّ على الهاتف يا ذكي؟"
أخذ نفسًا عميقًا، وارتشف قهوته الباردة ثمّ فكّر: "لكنّ هذه شمس. شمسٌ الّتي لم تُظهر خلال أربعة شهور إلا الودّ والاهتمام. شمسٌ الطيّبة، شمسٌ الظّريفة، شمسٌ البلهاء"، فرسا على قرار انتظارها لغاية السّاعة التّاسعة. حمل رجليه متثاقلا يأمل أن تحملاه إلى بوّابة المحطّة لينتظرها هناك.
~
شكرتْ شمس سائق التّاكسي وهي تناوله الأجرة مع أنّه أنزلها على بعد شارعين من المحطّة لسببٍ لم تعره انتباها. وصاحت مبتعدة: "احتفظ بالباقي يا عمّ". ركضت تقصد بوّابة المحطّة، وكلّ الوجوه حولها مموّهة، كلّ الوجوه في نظرها سواء إلاّ وجه عليّ.
وأوّل مرّة جعلها تضحك:
"دخل أحدهم متجرًا فسأل: لبن؟ فردّ البائع: كلاّ، آسف. فمضى الزّبون إلى متجر ثانٍ وسأل: ماذا عنك؟"
ضحكتْ يومَها شمس حدّ الزّهزقة وهي تحاول أن تخبره أنّ تلك أغبى نكتةٍ سمعتها في حياتها.
وأوّل مرّة علّق على اسمها:
"شمس، هل ينطبق اسمك عليك؟ أم أنّها من نكات التّناقض؟"
"أنا إذا دخلتُ غرفةً أنرتُها، إن كان هذا ما تقصد". ردّت وهي تضحك."
"هل تعلمين أنّ من أسماء الشّمس الغزالة؟"
"لم أكن أعلم هذا، لكن بالنّظر إلى نفسي، يمكنني أن أصدّقه."
"شمس، هل ينطبق اسمك عليك؟ أم أنّها من نكات التّناقض؟"
"أنا إذا دخلتُ غرفةً أنرتُها، إن كان هذا ما تقصد". ردّت وهي تضحك."
"هل تعلمين أنّ من أسماء الشّمس الغزالة؟"
"لم أكن أعلم هذا، لكن بالنّظر إلى نفسي، يمكنني أن أصدّقه."
وتذكّرت أوّل مرة جعلها تبكي.
ولم تنتبه في ركضها إلاّ وعيناها مغرورقتان بالدّمع وعليّ على باب المحطّة. توقّفت عن الرّكض لكنّها كانت قد جذبت بركضها ما يكفي من الانتباه ليرفع عليّ عينيه ويراها عن بعد. فتاةٌ كمثل الحمل وداعةً وظرافةً. وكالغزالة اسمًا وجمالا. لكنّه لم يلقِ لجمالها ولا وداعتها بالا. فرحةٌ سرتْ به لم يحسّ بها من قبل طوال سنواته الخمس والعشرين، فهو منذ دقائق كان يخسر ضدّ عقله كلّ محاولة لتفسير غيابها، وها هي الآن قادمةٌ نحوه. "شمس هنا".
~
مسحت شمس دموعها ومشت الهوينى نحو عليّ، وهي لا تدري ما تصنع! قلبها يصيح أن عانقيه، وعقلها يؤنّب أن اعتذري، ومزاجها المعكّر من كلّ ما حصل معها منذ استيقظت لم يكن ليمنعها من الابتسام. تقدّم منها عليّ وهمس: "أكرهك!" ثمّ سار إلى جانبها يلِجان المحطّة وأردف: "لا تكاد الأرض تسعني فرحًا لرؤياك، لكنّني أكرهك يا شمس، أكرهك! ولولا الشّيطان واليهود وعزاءات القرية لقلتُ أنّني لا أكرهك أكثر من أيّ شيء. أكرهك!"
لم تدرِ بما تردّ، فبقيت مبتسمة ببلاهة وصمت. أخذ عليّ نفسًا عميقًا وهما لا يزالان يسيران داخل المحطّة وسأل: "ماذا حدث؟ لقد اتّصلتُ كثيرًا" فردّت أخيرًا بصوتٍ خجول دقيق: "مرحبا يا علي" وشهقت ولا تزال الابتسامة تعلو محيّاها، ثمّ أتمّت: "أعتذر منك والله. كان صباحًا غبيًّا، استيقظتُ متأخّرة، ونسيتُ هاتفي في البيت."
ردّ عليّ وقد خفّ عنه الحزن والغضب: "لا عليك، تُسعدني رؤيتك" ثمّ تلفّت حوله وتساءل ضاحكًا: "إلى أين نحن ذاهبان؟ هل سنقضي يومنا في هذه المحطة؟"
ضحكت شمسٌ بخجلٍ وردّت: " لم أنتبه أنّنا كنّا نسيرُ أساسًا" وأطنبت: "سأعوّضك عن تأخري، اتبعني وحسب".
~
خرج الشّابّان من مدينة الملاهي والسّرور بادٍ على كليهما وهما يلتهمان حلوى غزل البنات.
علّق عليّ: "هذه الحلوى تزيد جوعي بدل أن تسدّه، والسّاعة الآن الواحدة ظهرًا. أين نتناول الغداء؟"
فكّرت شمس قليلا، ثمّ أشارت إلى شارعٍ جانبي: "هناك مطعم صغيرٌ لكنّ طعامه يذهب بالألباب". وسحبت عليّا من معطفه تجرّه نحو المطعم.
فكّرت شمس قليلا، ثمّ أشارت إلى شارعٍ جانبي: "هناك مطعم صغيرٌ لكنّ طعامه يذهب بالألباب". وسحبت عليّا من معطفه تجرّه نحو المطعم.
اهتزّ هاتف عليّ والنّادل يقودهما إلى طاولتهما، فألقى نظرة على اسم المتّصل. تجاهل الاتّصال وهو يُدير عينيه في أرجاء المطعم يحاول استيعاب جمال المكان، قبل أن يقف مشدوهًا من أناقة الطّاولة الّتي بدت من خشب البلّوط، واستوى عليها غطاء حريري زهري اللّون، وقد طرّزت عليه أزهار مشكّلة. وتوسّط الطّاولة شمعدان تنبثق منه أربعة محامل تنزل إلى مستوى الطّاولة وتحيط بالشّمعدان من كلّ جانب. وعلى كلّ محمِلٍ شمعة مضاءة تنشر عطرها المنعش الّذي اختلط برائحة الأزهار المختلفة الموضوعة داخل فتحة الشّمعدان المُفرغة. فعلّق عليّ وهو لا يزالُ يحدّق بالطّاولة: أشمعدانٌ هذا أم مزهرية؟ ثمّ انتبه إلى شمسٍ وهي تحدّق فيه متفهّمة اندهاشه، بل ومستمتعة به. فأردف: "لا أدري والله -ولا تغضبي- أيّكما أجمل، أنتِ أم هذه الطّاولة" فأهلست وهي تقول: "وأنا لا أدري أيّكما أقلّ ملاءمة لرفيقته: أنتَ لي، أم هذه الكراسي القبيحة للطّاولة".
تظاهر عليٌّ بالانزعاج: "أعلم أنّ من اللّباقة أن أسحب كرسيّك، لكنّي والله لن أفعل جزاء تعليقك هذا"
فردّت: "أيّ لباقة يا رجل! يداي تخونانني كثيرًا، لكنّهما تقويان على سحب كرسي."
~
تظاهر عليٌّ بالانزعاج: "أعلم أنّ من اللّباقة أن أسحب كرسيّك، لكنّي والله لن أفعل جزاء تعليقك هذا"
فردّت: "أيّ لباقة يا رجل! يداي تخونانني كثيرًا، لكنّهما تقويان على سحب كرسي."
~
اهتزّ هاتف عليّ مجدّدًا وقد جلسا، فتجاهل المكالمة، وراح يقلّب لائحة الطّعام.
سألته شمس: "من المتّصل؟"
فردّ: "أخي عادل، سيسأل عن مكاني، ولن أُحسن الإجابة، وسيكون موقفًا مُحرجًا، فتجاهلي الموضوع."
"لن تُحسن الإجابة؟" سألت شمس بنبرة مستغربة، فعليُّ عادةً لا يُعدم الحيلة ولا سرعة البديهة.
"أجل، فـ 'سافرتُ لأقابل فتاةً' ليس جوابًا اعتياديًّا"
أومأت شمس برأسها: "آها، معك حقّ" ثمّ تذكّرت: "صحيح، هل اتّصلت بأمّك كما وعدتَ؟"
رفع عليٌّ حاجبه محدّقًا بشمس، وردّ: "أجل، كما وصلتِ أنتِ الثّامنة كما وعدتِ" ثمّ حمل هاتفه وقال: "كلّا، فأنتِ لم تُبقِ لي عقلا يتذكّر هذا الصّباح. سأتّصل الآن."
اتّصل عليّ بأمّه ثلاث مرّات دونما فائدة. فعلتْ نظرةُ قلقٍ على محيّاه وهو يشرح لشمس: "لا أحد يردّ، هذا غريب! والأغرب أنّها دائما ما تتّصل بي حين أسافر دون إبلاغها، كيفما كانت علاقتنا يومها"
ردّت شمس: "لعلّه خير!" وارتأت أن تغيّر الموضوع علّها تُزيل نظرة القلق تلك من على وجه عليّ، فابتسمت وسألت: "ماذا قصدت هذا الصّباح بأنّك تكره عادات العزاء؟ فهمنا أنْ تكره الشّيطان، واليهود. ولكن عادات العزاء؟!"
فابتسم هو الآخر وردّ: "أخبرتك أنّ البيت يقابل مسجد الحي. وكلّما توفّي أحدهم أقاموا العزاء في المسجد. فيقف أهل الميت في صفّ يستقبلون التّعازي، وهذا كلّه عادي ومقبول. لكنّهم يقيمون الولائم أسبوعًا كاملا ويعزمون الخلائق كأنّما هو فرح، فإذا وصل الضّيوف قطعوا الطّريق، واكتظّ الشّارع بسياراتهم. أسبوعًا كاملا يا شمس، أسبوعًا كاملا."سألته شمس: "من المتّصل؟"
فردّ: "أخي عادل، سيسأل عن مكاني، ولن أُحسن الإجابة، وسيكون موقفًا مُحرجًا، فتجاهلي الموضوع."
"لن تُحسن الإجابة؟" سألت شمس بنبرة مستغربة، فعليُّ عادةً لا يُعدم الحيلة ولا سرعة البديهة.
"أجل، فـ 'سافرتُ لأقابل فتاةً' ليس جوابًا اعتياديًّا"
أومأت شمس برأسها: "آها، معك حقّ" ثمّ تذكّرت: "صحيح، هل اتّصلت بأمّك كما وعدتَ؟"
رفع عليٌّ حاجبه محدّقًا بشمس، وردّ: "أجل، كما وصلتِ أنتِ الثّامنة كما وعدتِ" ثمّ حمل هاتفه وقال: "كلّا، فأنتِ لم تُبقِ لي عقلا يتذكّر هذا الصّباح. سأتّصل الآن."
اتّصل عليّ بأمّه ثلاث مرّات دونما فائدة. فعلتْ نظرةُ قلقٍ على محيّاه وهو يشرح لشمس: "لا أحد يردّ، هذا غريب! والأغرب أنّها دائما ما تتّصل بي حين أسافر دون إبلاغها، كيفما كانت علاقتنا يومها"
ردّت شمس: "لعلّه خير!" وارتأت أن تغيّر الموضوع علّها تُزيل نظرة القلق تلك من على وجه عليّ، فابتسمت وسألت: "ماذا قصدت هذا الصّباح بأنّك تكره عادات العزاء؟ فهمنا أنْ تكره الشّيطان، واليهود. ولكن عادات العزاء؟!"
~
قطع النّادل استمتاع شمسٍ بتغيّظ عليّ، فأملياه طلبيهما. ثمّ سألت هي في محاولة منها لاستئناف ذاك الكره الشّغوف للعزاءات: "حسنا، فهمتُ أنّهم يقيمون عزاءً لأسبوع ويقطعون الطّريق. لكن ما يضيرك أنت في هذا؟"رفع حاجبه مجدّدًا وهو يحدّق فيها شزرًا: "لا يمكنني إخراج سيّارتي فالخلق يجلسون أمام باب المرأب يا امرأة!" ثمّ أكمل: "لماذا نتحدّث عن العزاء في جوّ رومنسي كهذا؟"
اهتزّ هاتفه مجدّدًا. كان هذا الاتّصال السّادس من عادل، غير أنّ عليًّا ارتأى أن يطفئ هاتفه وراح يحدّق في عيني شمسٍ. طأطأت الفتاةُ رأسها في خجلٍ، وشابكت أصابع يديها، فقال: "خمسة، كنتُ أتوقّع عشرين على الأقلّ يوم أخبرتِني أنّك تكرهين شاماتك". فأهلستْ وهي تقول: "متى حسبتها يا غبي؟"
"لا أظنّ أنّني أعرف أين نحن، ولا طريق المحطّة، بل ولا حتّى أّيّ دربٍ سلكنا إلى هذا المطعم. كنتُ أحدّق بوجهك منذ جئتِني يا شمس."
"ما أحلى - ورفعت يديها ترسم بهما مزدوجتين في الهواء - "كلامك الرّومنسي" يا عليّ"
حمل عليّ حقيبتها من فوق الطّاولة وتظاهر بإلقائها عليها، فدفنت وجهها بين يديها وهي تضحك: "أمزح! أمزح!"
"أرِني - ورسم هو الآخر مزدوجتين في الهواء - "الكلام الرّومنسي على أصوله" إذن يا آنسة"
وصل النّادل بالطّعام، فشكراه، واستأنفت شمس:
" لن أدّعي أنّ لساني معسول ولا أنّ كلامي أكثر شاعرية، لكنّني أؤكّد لك يا عليّ أنّ هذا أسعد يومٍ في سنتي هذه كلّها"
- هو أسعدُ يومٍ في حياتي كلّها يا شمس، وإنّي لأرجو ألاّ ينتهي أبدًا.
شرعتْ شمس في تناول طعامها أملا في تجاوز الإحراج الّذي أحسّت به، وتبعها عليّ.
"ما أحلى - ورفعت يديها ترسم بهما مزدوجتين في الهواء - "كلامك الرّومنسي" يا عليّ"
حمل عليّ حقيبتها من فوق الطّاولة وتظاهر بإلقائها عليها، فدفنت وجهها بين يديها وهي تضحك: "أمزح! أمزح!"
"أرِني - ورسم هو الآخر مزدوجتين في الهواء - "الكلام الرّومنسي على أصوله" إذن يا آنسة"
وصل النّادل بالطّعام، فشكراه، واستأنفت شمس:
" لن أدّعي أنّ لساني معسول ولا أنّ كلامي أكثر شاعرية، لكنّني أؤكّد لك يا عليّ أنّ هذا أسعد يومٍ في سنتي هذه كلّها"
- هو أسعدُ يومٍ في حياتي كلّها يا شمس، وإنّي لأرجو ألاّ ينتهي أبدًا.
شرعتْ شمس في تناول طعامها أملا في تجاوز الإحراج الّذي أحسّت به، وتبعها عليّ.
~
قضى الفتى وشمسُه ساعةً على تلك الطّاولة يضحكان ويأكلان ويتحدّثان. كانت تلك السّاعة أطول من ساعات السّير واللّعب، بل أطول من شهور المهاتفة كلّها. شيءٌ ما يتغيّر حين تواجهُ من تودّ على طاولة. وجها يقابل وجهًا، عينًا تلاحظُ عينًا، وقلبًا يدقّ على وتيرة قلب. دخلا المطعم شابًّا وفتاةً في مدينةٍ، لكنّهما خرجَا منهُ ولدين يقطعان شارع الحبّ، عابرين نزلا فندق الهيام. خرجا منهُ أسيرَينِ في سجنٍ كلاهما يعرفُ مفتاح بابه، لكنّ كليهما غضٌّ طريٌّ يخشى أن ينطقها أولا.
~
خرجا إلى مدينةٍ غطّى الشّتاءُ سماءها سحائب من ترقّب ووعد مطر. فراحا يسبُران شوارعها فرحًا وحياة. يقطعان أسرابًا من بشرٍ كلّهم يهرول يخشى تبلّله القطرات العطشى للقيا الأرض. إلاّهما، وحيدين تغشاهما رغبةٌ في أن تتكرّم عليهما تلك الغيوم فتبلّلهما، علّهما إذا رغبا الشّيء ذاته اتّحدا. سارَا إلى الطريق العام يحدّقان بالأرض تارة وبالسّماء أخرى، يخشيان أن تلتقي العينان العينين فينفضحا. موعد الفراق قد اقترب ولا يجدُ أيّ منهما ما يقول، فغرّانِ بريئان انتُشلا توًّا من نهر الحبّ لا يملكان أن يُنطِقا لسانيهما بغير ما في القلب، وفي القلب أملُ عناق، وخيال لمسة. لذا فالصّمتُ -أقنعَ كلّ منهما نفسه- أسلم.
~
توقّفت سيارة التّاكسي أمامهما، فأنزلت شمس يدها، ونطقت والدّمعُ حبيس المَعين: "أراكَ مرّة أخرى."
لم يردّ عليّ، فلا سرعة البديهة هَهُنا ولا الذّكاء ولا المنطق يكفي، هذه - لو ردّ- ستكون آخر كلمات تسمعها منهُ بعينيها لا بأذنيها، إلى أن يجتمعا -إذا اجتمعا- من جديد.
~
استقلّ هو سيّارة تاكسي أخرى إلى محطّة الحافلات، وهناك امتطى حافلة تُبعده عن شمسه إلى قريته. أرخى رأسه على مسند الكرسي أمامه، والأفكار تتلاعب برأسه، فحاول أن يغطّ في النّوم علّ عالم الأحلام يكون أهدأ وأبسط من هذا الواقع.
~
وصلت شمس إلى بيتها وقلبها محتارٌ بين التّحليق فرحةً بالفتى ولقائه، والتوقّف حزنًا على الفتى وفراقه. لكنّها وقد دخلت غرفتها ووجدت هاتفها حيث تركته، ارتأت أن تتّصل به لتطمئنّ عليه، لكنّ هاتفه كان لا يزال مقفلا، فخلدت هي الأخرى إلى النّوم.
~
أيقظَ القابضُ عليًّا من نومه: "اقتربنا من محطّتك" فابتسم في وجهه متشكّرًا، ثمّ شغّل هاتفه علّه يستمعُ إلى شيءٍ. لكنّه إذ بدت له اتّصالات عادل الفائتة تذكّر أن يتّصل بأمّه فإذا هاتفها مقفل. فجرّب عادلاً ولا فائدة. اتّصل به أكثر من مرّة، ولم يردّ.
أحسّ عليّ بقلقٍ كبير، فالعودة إلى قريته بعد يومٍ مثيرٍ كيومه كفيلةٌ بإطفاء الشّمس. فكيف وقد زاد عليها تعثّر محاولاته في الاتصال بأخيه وأمّه. نزل من الحافلة وراح يجرّ خطاه تجاه بيته وذلك القلق يسيطر على تفكيره طوال الطّريق. غير أنّه انقلب بِشرًا وسعادةً حين قرأ اسم "شمس" وهي تتّصل به فردّ :
- أوه حمدًا لله على اتّصالك.
- بل حمدًا لله على ردّك، فأنا أريد أن أخبرك شيئًا.
أجاب عليٌّ وقد اقترب من شارع بيته:
- وأنا كذلك أريد أن أخبرك شيئا.
- أنا أحبّك يا علي.
- بل حمدًا لله على ردّك، فأنا أريد أن أخبرك شيئًا.
أجاب عليٌّ وقد اقترب من شارع بيته:
- وأنا كذلك أريد أن أخبرك شيئا.
- أنا أحبّك يا علي.
رفع عليّ رأسه مُبتسمًا ومغمضًا عينيه سعادةً بما سمع، وقطرات المطر الّتي بدأت تتساقط تغسلُ عنهُ أحزانه وقلقه. ثمّ حين فتح عينيه تراءى له الطّريق مزدحما بالسيّارات المركونة، والشّارع أمام البيت مقفول. ووسط صف المستقبلين للتّعازي بدا عادلٌ وهو يصيح: "وا أمّاه."
~
خرّ عليٌّ على ركبتيه، ووقعَ الهاتف من يده فتهشّم كما تهشّم قلبُ علي.
--------------------------------------------------------------
~
خرّ عليٌّ على ركبتيه، ووقعَ الهاتف من يده فتهشّم كما تهشّم قلبُ علي.
--------------------------------------------------------------
- انتهى -
آخر تعديل: