صنائع المعروف
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، صاحب الشريعة الغراء، والملة السَّمحاء، والحنيفية البيضاء، صاحب صفوة الأولياء، وإمام الصَّالحين وقدوة المفلحين؛ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، حثَّ أمته على صنع المعروف، وعرفهم سبله وكيفيَّته، وعرفهم فضله ومزيته، فقال مقولة تكتب بماء الذهب؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صنائع المعروف تَقِي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب))؛ أخرجه الطبراني، وقال الهيثمي: إسنادُه حسن.
في هذا الحديث تتجلى فصاحته - صلى الله عليه سلم - حيث بيَّن لأمته فضل
صنع المعروف، الذي تنوعت أغراضه، فالناظر في حياته - صلى الله عليه وسلم - يَجد ما حوت هذه المسيرة العطرة من شتَّى أنواع صنع المعروف، وقد كان دأب الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - فقد كانوا أعلامًا في صنع المعروف وإسدائه، فهذا إبراهيم خليل الرحمن قد بلغ الدرجات العُلا من صناعته للمعروف، وهذا موسى - عليه السلام - قد نال أجر صناعة المعروف بسقي المرأتين كما حكى لنا القرآن ذلك؛ يقول المولى - تبارك وتعالى -: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24].
أمَّا نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - القدوة الأولى والمدرسة العليا، فقد كان
صنعُ المعروف شيمةً لا تغادره، فقد كانت أحاديثه شاهدًا على حثِّ أصحابه على صنع المعروف، فمن أحاديثه في ذلك:
• ما رواه أهل السنن، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رجلًا جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الناس إلى الله - عزَّ وجلَّ - أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سُرور تدخله على مُسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأَنْ أمشي مع أخ لي في حاجةٍ أحبُّ إلِيَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجد شهرًا - في مسجد المدينة - ومن كف غضبه ستر الله عَوْرته، ومن كَظَم غضبه، ولو شاء أن يُمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رخاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتَّى تتهيأ له، ثبَّت الله قدمه يوم تزول الأقدام)).
• وكذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي جريٍّ الهجيميِّ، قال: أتيت رسول اللَّه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - فقلت: يا رسول اللَّه، إنَّا قوم من أهل البادية، فعلِّمنا شيئًا ينفعنا اللَّه - تبارك وتعالى - به قال: ((لا تحقرنَّ من
المعروف شيئًا، ولو أن تُفْرِغَ من دَلْوِكَ في إناء المستسقي، ولو أن تكلِّم أخاك ووجهك إليه منبسط)).
فما أحوجنا في هذه الأيام إلي هذه الأخلاق الرَّاقية، وهذه الصنائع البديعة، التي أرشد إليها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من استنصحه!
ولله در الشاعر حيث قال:
وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ ♦♦♦ فَحُلْوٌ وَأَمَّا لَوْنُهُ فَجَمِيلُ
وقد كان سلفنا الصالح - رحمهم الله - يسعون إلى صناعة المعروف، ويحرصون عليه، ويلتمسونه، مبتغين الأجر والاقتداء بسنة نبيِّنا العدنان، فهذا عمر لما وُلِّي الخلافة، خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتامًا عندها يبكون، يَتَضَاغُون من الجوع، فلم يلبث أن غدا إلى بيت مالِ المسلمين، فحمل وِقْرَ طعام على ظهره، وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتَّى أكلوا وضحكوا.
وهذا عبدالله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفُقهاء، وكان من أراد الحجَّ من أهل مرو - المدينة التي يعيش فيها - إنَّما يَحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المدين دينه، ويشترط على الدائن ألا يخبر مدينه باسمه.
ومن ثمرات صنع المعروف:
أنَّه يدفع البلاء وسوءَ القضاء، كما مر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنائع المعروف تقي مصارعَ السوء))، كما أنَّ أصحاب المعروف من أوَّل الداخلين إلي جنات ربِّ العالمين؛ فقد روي عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ أهل المعروف في الدُّنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أوَّل أهل الجنة دخولًا أهل المعروف))؛ أخرجه الطبراني.
وأخيرًا أخي في الله، أنصحك بنصائح أسأل الله أن ينفعنا وإياك بها:
• اقصد بعملك وصنعك المعروف للآخرين وجه الله - تعالى - واتَّبع فيه هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لا يصلح العمل إلا بهذين الشرطين.
• لا تتأخر في الاستجابة لمن طلب منك المساعدة، وقدِّم المعروف ولا تتأخر؛ بل سارع فيه بنفس طيبة راضية، فإن ذلك من التقوى.
• إذا وفقك الله لصنع المعروف، فأحسن فيه، واجعله من أحسن ما يكون:
وَاحْرِصْ عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا ♦♦♦ فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْجَى كُلّ مُنْتَظِرِ
• كافئ من صنع لك معروفًا ولو بكلمة طيبة، فإنَّ ذلك يساعدك بعد الله على صنع المعروف.
ونَختم بهذه النادرة من نوادر المعروف، وهي أنَّ عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يُصلي نفلًا، وكان مولاه نافع جالسًا بقربه ينتظر منه أيَّ أمر يَحتاج إليه ليؤدِّيه، ولا يخفى أن نافعًا كان من كبار العلماء، وأنه من رواة موطأ الإمام مالك - رحمه الله – وقد أحبه عبد الله بن عمر حبًّا شديدًا؛ لما وجد من صفات عالية، وفي أثناء قراءة عبد الله بن عمر في صلاته وصل إلى قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، فأشار عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بيده، فلم يفهم نافع لِمَ يشير؟ مع شديد حرصه على تنفيذ ذلك، فبَقِيَ ينتظر تسليمه؛ ليسأله: إلى ماذا يشير؟ فقال عبد الله - رضي الله عنه -: تأمَّلت فيما أملك، فما وجدت أعزَّ لي منك، فأحببت أن أشيرَ إليك بالعِتْق وأنا في الصلاة؛ خوفًا أن تغلبني نفسي، فأعدل عن ذلك بعد الصلاة، فلذلك أشرت، فبادر نافع - رحمه الله - وقال: إذًا الصُّحبة، فقال ابن عمر: لك ذلك.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
رابط الموضوع:
صنائع المعروف