السيرة النبوية كاملة 19
بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم:
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال - لم يكادوا يرون تطور الموقف، أو يسمعون صوته صلى الله عليه وسلم ، حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات - وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح - فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم؛ وبالغو في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماتهم. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني عبيدة بن الجراح. وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني. فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم . دونكم أخاكم فقد أوجب، وقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة نشدتك باللَّه يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة نشدتك باللَّه يا أبا بكر إلا تركتني، قال فأخذه فجعل ينضضه حتى استله. فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دونكم أخاكم. فقد أوجب، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة. (وهذا أيضاً يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم في الكفاح والنضال).
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، علي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي يلتعة، وسهل بن حنيف وأبو طلحة.
تضاعف ضغط المشركين:
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته وأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد اللَّه حتى استوى قائماً، وقال نافع بن جبير سمعت رجلاً من المهاجرين يقول شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد اللَّه بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: واللَّه ما رأيته، أحلف باللَّه أنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
البطولات النادرة:
وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، قال أنس لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفه له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبي طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص - الذي كسر الرباعية الشريفة - فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه - عتبة هذا - إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: مجه، فقال: واللَّه لا أمجه أبداً. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فقتل شهيداً.
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاقتها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة. يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت فأخذ اللواء بيده اليسرى. وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول اللَّه - لشبهه به - فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح إن محمداً قد قتل.
إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة:
ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف:
ولما قتل مصعب أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك - وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليه أن أصمت - وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون - إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإِسلام.
تقدم عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة - أحد فرسان المشركين - إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لا نجوت إن نجا. وقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وعطف عبد اللَّه بن جابر - فارس آخر من فرسان مكة - على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة - البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبد اللَّه بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من اللَّه، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة - في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني عبيدة بن الجراح. وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني. فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم . دونكم أخاكم فقد أوجب، وقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة نشدتك باللَّه يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة نشدتك باللَّه يا أبا بكر إلا تركتني، قال فأخذه فجعل ينضضه حتى استله. فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دونكم أخاكم. فقد أوجب، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة. (وهذا أيضاً يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم في الكفاح والنضال).
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، علي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي يلتعة، وسهل بن حنيف وأبو طلحة.
تضاعف ضغط المشركين:
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجحشت ركبته وأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد اللَّه حتى استوى قائماً، وقال نافع بن جبير سمعت رجلاً من المهاجرين يقول شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد اللَّه بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: واللَّه ما رأيته، أحلف باللَّه أنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
البطولات النادرة:
وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، قال أنس لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفه له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبي طلحة بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فترس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص - الذي كسر الرباعية الشريفة - فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه. وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه - عتبة هذا - إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حنيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وجنته، فردها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: مجه، فقال: واللَّه لا أمجه أبداً. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فقتل شهيداً.
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاقتها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة. يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت فأخذ اللواء بيده اليسرى. وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول اللَّه - لشبهه به - فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح إن محمداً قد قتل.
إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة:
ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.
الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف:
ولما قتل مصعب أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم، فعرفه كعب بن مالك - وكان أول من عرفه - فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليه أن أصمت - وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون - إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالي ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإِسلام.
تقدم عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة - أحد فرسان المشركين - إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لا نجوت إن نجا. وقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمواجهته. إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصمة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذفف عليه، وأخذ سلاحه، والتحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وعطف عبد اللَّه بن جابر - فارس آخر من فرسان مكة - على الحارث بن الصمة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة - البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبد اللَّه بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من اللَّه، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة - في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
مقتل أبي بن خلف:
قال ابن إسحاق فلما أسند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوتُ إن نجا؟ فقال القوم يا رسول اللَّه أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعوه، فلما دنا منه تناول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها طعنة تدأدأ - تدحرج - منها عن فرسه مراراً. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني واللَّه محمد، قالوا له ذهب واللَّه فؤادك، واللَّه إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فواللَّه لو بصق علي لقتلني، فمات عدو اللَّه بسرف وهم قافلون به إلى مكة وفي رواية أبي الأسود عن عروة أنه كان يخور خوار الثور ويقول والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً.
طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم :
وفي أثناء انسحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدن وظاهر بين الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد اللَّه، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي الجنة.
آخر هجوم قام به المشركون:
ولما تمكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل - يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسعد أجبنهم - يقول ارددهم - فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت هذا سهم مبارك،فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه.
تشويه الشهداء:
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم . ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً - بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم - وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً - خلاخيل - وقلائد.
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة:
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدى استماتتهم في سبيل اللَّه.
1. قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم. وإذا رجل من المسلمين ينتظره، وعليه لأمته. فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة. فلم أزل انتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان - أرى خدم سوقهما - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. وقال عمر كانت أم سليط تزفر لنا القرب يوم أحد.
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو اللَّه في الضحك، فشق ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد، أجاب اللَّه دعوته.
بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب:
ولما استقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حتى ملأ درقته ماء من المهراس - قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب اللَّه على من دمى وجه نبيه.
وقال سهل واللَّه إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.
شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر:
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه - وكان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الإِجابة - ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإِسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو اللَّه إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى اللَّه ما يسوءك. فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسوءني.
ثم قال: أعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا اللَّه أعلى وأجل.
ثم قال: لنا العز ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا اللَّه مولانا، ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال.
فأجابه عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان هلم إلي يا عمر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان أنشدك اللَّه يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر اللهم لا. وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
مواعدة التلاقي في بدر:
قال ابن إسحاق ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينك موعد.
التثبت من موقف المشركين:
ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطو الإِبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإِبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإِبل ووجهوا إلى مكة.
تفقد القتلى والجرحى:
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرق قريش، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت يا سعد، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام. ويقول لك أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قل له يا رسول اللَّه أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند اللَّه إن خلص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.
ووجدوا في الجرحى الأصيرم - عمرو بن ثابت - وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإِسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإِسلام؟ فقال: بل رغبة في الإِسلام، آمنت باللَّه ورسوله، ثم قاتلت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة ولم يصل للَّه صلاة قط.
ووجدوا في الجرحى قزمان - وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين - وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: واللَّه إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قتلت فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر له إنه من أهل النار - وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة اللَّه، وإن قاتلوا تحت لواء الإِسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه يا معشر يهود واللَّه لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد. يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مخيريق خير يهود.
قال ابن إسحاق فلما أسند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوتُ إن نجا؟ فقال القوم يا رسول اللَّه أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعوه، فلما دنا منه تناول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها طعنة تدأدأ - تدحرج - منها عن فرسه مراراً. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني واللَّه محمد، قالوا له ذهب واللَّه فؤادك، واللَّه إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فواللَّه لو بصق علي لقتلني، فمات عدو اللَّه بسرف وهم قافلون به إلى مكة وفي رواية أبي الأسود عن عروة أنه كان يخور خوار الثور ويقول والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً.
طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم :
وفي أثناء انسحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدن وظاهر بين الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد اللَّه، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي الجنة.
آخر هجوم قام به المشركون:
ولما تمكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل - يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسعد أجبنهم - يقول ارددهم - فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت هذا سهم مبارك،فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه.
تشويه الشهداء:
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم . ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً - بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم - وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً - خلاخيل - وقلائد.
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة:
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدى استماتتهم في سبيل اللَّه.
1. قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم. وإذا رجل من المسلمين ينتظره، وعليه لأمته. فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة. فلم أزل انتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان - أرى خدم سوقهما - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. وقال عمر كانت أم سليط تزفر لنا القرب يوم أحد.
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو اللَّه في الضحك، فشق ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد، أجاب اللَّه دعوته.
بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب:
ولما استقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حتى ملأ درقته ماء من المهراس - قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب اللَّه على من دمى وجه نبيه.
وقال سهل واللَّه إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.
شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر:
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه - وكان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الإِجابة - ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإِسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو اللَّه إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى اللَّه ما يسوءك. فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسوءني.
ثم قال: أعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا اللَّه أعلى وأجل.
ثم قال: لنا العز ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا اللَّه مولانا، ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال.
فأجابه عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان هلم إلي يا عمر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان أنشدك اللَّه يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر اللهم لا. وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
مواعدة التلاقي في بدر:
قال ابن إسحاق ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينك موعد.
التثبت من موقف المشركين:
ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطو الإِبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإِبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإِبل ووجهوا إلى مكة.
تفقد القتلى والجرحى:
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرق قريش، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت يا سعد، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام. ويقول لك أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قل له يا رسول اللَّه أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند اللَّه إن خلص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.
ووجدوا في الجرحى الأصيرم - عمرو بن ثابت - وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإِسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإِسلام؟ فقال: بل رغبة في الإِسلام، آمنت باللَّه ورسوله، ثم قاتلت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة ولم يصل للَّه صلاة قط.
ووجدوا في الجرحى قزمان - وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين - وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: واللَّه إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قتلت فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر له إنه من أهل النار - وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة اللَّه، وإن قاتلوا تحت لواء الإِسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه يا معشر يهود واللَّه لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد. يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مخيريق خير يهود.
كلام الخريطة ص -.
خريطة غزوة أحد جبل أحد
جبل أحد معسكر الجيش الإِسلامي أول موقع المعركة معسكر الجيش المكي جبل أحد الوضع الذي جرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيالة خالد تطوق المسلمين طريق خيالة خالد بن الوليد جبل الرماة الطريق الذي شقه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب خيالة خالد تطوق المسلمين
1. الطريق الذي فاء منه
2. من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
3. الطريق الذي فر منه المنهزمون
4. إلى هضاب أحد بعد الانتكاسة
5. الطريق الذي فرمنه المنهزمون
6. إلى المدينة بعد الانتكاسة
جمع الشهداء ودفنهم:
وأشرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الشهداء فقال: أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في اللَّه إلا واللَّه يبعثه يوم القيامة، يدمي جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد اللَّه بن عمروبن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة - عمه وأخيه من الرضاعة - اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابنها ال**ير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي. وذلك في اللَّه فما أرضانا بما كان من ذلك. لأحتسبن ولأصبرن إن شاء اللَّه. فأتته فنظرت إليه فصلت عليه - دعت له - واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد اللَّه بن جحش - وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود ما رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب. وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء - والنشع الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد. قال خباب: (إن) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وقال عبد الرحمن بن عوف قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر.
الرسول صلى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه:
روى الإمام أحمد، لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال:
اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العيلة. والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.
خريطة غزوة أحد جبل أحد
جبل أحد معسكر الجيش الإِسلامي أول موقع المعركة معسكر الجيش المكي جبل أحد الوضع الذي جرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيالة خالد تطوق المسلمين طريق خيالة خالد بن الوليد جبل الرماة الطريق الذي شقه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب خيالة خالد تطوق المسلمين
1. الطريق الذي فاء منه
2. من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
3. الطريق الذي فر منه المنهزمون
4. إلى هضاب أحد بعد الانتكاسة
5. الطريق الذي فرمنه المنهزمون
6. إلى المدينة بعد الانتكاسة
جمع الشهداء ودفنهم:
وأشرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الشهداء فقال: أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في اللَّه إلا واللَّه يبعثه يوم القيامة، يدمي جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. ودفن عبد اللَّه بن عمروبن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة - عمه وأخيه من الرضاعة - اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابنها ال**ير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي. وذلك في اللَّه فما أرضانا بما كان من ذلك. لأحتسبن ولأصبرن إن شاء اللَّه. فأتته فنظرت إليه فصلت عليه - دعت له - واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد اللَّه بن جحش - وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود ما رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب. وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء - والنشع الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد. قال خباب: (إن) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وقال عبد الرحمن بن عوف قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر.
الرسول صلى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه:
روى الإمام أحمد، لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال:
اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العيلة. والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.