( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ۚ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) [محمد : 21]
أي : وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي : في الحالة الراهنة
( فإذا عزم الأمر ) أي : جد الحال ، وحضر القتال.
( فلو صدقوا الله ) أي : أخلصوا له النية ، ( لكان خيرا لهم )
( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد : 22]
وقوله : ( فهل عسيتم إن توليتم ) أي : عن الجهاد ونكلتم عنه.
( أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) أي : تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء ، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام.
( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) [محمد : 23]
ولهذا قال : ( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، بل قد أمر [ الله ] تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال .
وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق عديدة ، ووجوه كثيرة .
قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان ، حدثني معاوية بن أبي مزرد ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ، فقال : مه !
فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
فقال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟
قالت : بلى.
قال : فذاك .
قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) .
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين ، عن معاوية بن أبي مزرد به .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرءوا إن شئتم : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . ) ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن أبيه ، عن أبي بكرة قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا - مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم " .
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث إسماعيل - هو ابن علية - به .
وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" من سره النساء في الأجل ، والزيادة في الرزق ، فليصل رحمه ".
تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيح .
وقال أحمد أيضا :
حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال :
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون ، أفأكافئهم ؟
قال : " لا إذن تتركون جميعا ، ولكن جد بالفضل وصلهم ; فإنه لن يزال معك ظهير من الله - عز وجل - ما كنت على ذلك " .
تفرد به من هذا الوجه ، وله شاهد من وجه آخر .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا يعلى ، حدثنا فطر ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ".
رواه البخاري .
وقال أحمد :
حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا قتادة ، عن أبي ثمامة الثقفي ، عن عبد الله بن عمرو قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل ، تتكلم بلسان طلق ذلق ، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها " .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ، والرحم شجنة من الرحمن ، من وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته " .
وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار به .
وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية.
وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ أن أباه حدثه :
أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض ، فقال له عبد الرحمن : وصلتك رحم ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" قال الله عز وجل : أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي ، فمن يصلها أصله ، ومن يقطعها أقطعه فأبته - أو قال : من يبتها أبته " .
تفرد به من هذا الوجه .
ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، عن الرداد - أو أبي الرداد - عن عبد الرحمن بن عوف به .
ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة ، عن أبيه .
والأحاديث في هذا كثيرة .
وقال الطبراني :
حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عبد الله بن علاثة ، عن الحجاج بن الفرافصة ، عن أبي عمر البصري ، عن سلمان قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " .
وبه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إذا ظهر القول ، وخزن العمل ، وائتلفت الألسنة ، وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " .
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24]
يقول تعالى آمرا بتدبر القرآن وتفهمه ، وناهيا عن الإعراض عنه ، فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) أي : بل على قلوب أقفالها ، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه .
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه قال :
تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ، فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها .
فما زال الشاب في نفس عمر - رضي الله عنه - حتى ولي ، فاستعان به .
( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ) [محمد : 25]
ثم قال تعالى : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم ) أي : فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر.
( من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم ) أي : زين لهم ذلك وحسنه.
( وأملى لهم ) أي : غرهم وخدعهم
( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) [محمد : 26]
( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ) أي : مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل ، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون ; ولهذا قال الله عز وجل :
( والله يعلم إسرارهم ) أي : [ يعلم ] ما يسرون وما يخفون ، الله مطلع عليه وعالم به ، كقوله :
( والله يكتب ما يبيتون ) [ النساء : 81 ] .
( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [محمد : 27]
ثم قال : ( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) أي : كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم ، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال :
( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) الآية [ الأنفال : 50 ].
وقال : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم ) أي : بالضرب ( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) [ الأنعام : 93 ].
ولهذا قال هاهنا :
( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ).
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) [محمد : 29]
يقول تعالى : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ) أي : اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ؟
بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر ، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة " براءة " ، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم ; ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة .
والأضغان : جمع ضغن ، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره .
( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد : 30]
وقوله : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ) يقول تعالى : ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا ، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة ، ورد السرائر إلى عالمها.
( ولتعرفنهم في لحن القول ) أي : فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم ، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه ، وهو المراد من لحن القول ، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه :
ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
وفي الحديث : " ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " .
وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل ، وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول " شرح البخاري " ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين .
قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن عياض بن عياض ، عن أبيه ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - قال :
خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
" إن منكم منافقين ، فمن سميت فليقم " .
ثم قال : " قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان " .
حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال : " إن فيكم - أو : منكم - فاتقوا الله " .
قال : فمر عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه ، فقال : ما لك ؟
فحدثه بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : بعدا لك سائر اليوم .
( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد : 31]
"ولنبلونكم" أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي.
"حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا إلا لنعلم أي لنرى.
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) [محمد : 32]
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله ، وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى : أنه لن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ، بل يحبطه ويمحقه بالكلية ، كما أن الحسنات يذهبن السيئات .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد : 33]
وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال :
كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظنون أنه لا يضر مع " لا إله إلا الله " ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل .
ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك : أخبرني بكير بن معروف ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال :
كنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) ، فقلنا :
ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟
فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزلت : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصبها .
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ; ولهذا قال :
( ولا تبطلوا أعمالكم ) أي : بالردة ; ولهذا قال بعدها :
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [محمد : 34]
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ) ، كقوله:
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية .
( فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد : 35]
ثم قال لعباده المؤمنين : ( فلا تهنوا ) أي : لا تضعفوا عن الأعداء.
( وتدعوا إلى السلم ) أي : المهادنة والمسالمة ، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعددكم ; ولهذا قال :
( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) أي : في حال علوكم على عدوكم ، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صده كفار قريش عن مكة ، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين ، فأجابهم إلى ذلك .
وقوله : ( والله معكم ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء.
( ولن يتركم أعمالكم ) أي : ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها ، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا .
( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) [محمد : 36]
يقول تعالى تحقيرا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها : ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) أي : حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل ; ولهذا قال :
( وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ) أي : هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا ، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ، ويرجع ثوابه إليكم .
( إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) [محمد : 37]
ثم قال : ( إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ) أي : يحرجكم تبخلوا : ( ويخرج أضغانكم )
قال قتادة : " قد علم الله أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان " .
وصدق قتادة فإن المال محبوب ، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه .
( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد : 38]
وقوله : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ) أي : لا يجيب إلى ذلك
( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ) أي : إنما نقص نفسه من الأجر ، وإنما يعود وبال ذلك عليه.
( والله الغني ) أي : عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائما ; ولهذا قال :
( وأنتم الفقراء ) أي : بالذات إليه .
فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، [ أي ] لا ينفكون عنه .
وقوله : ( وإن تتولوا ) أي : عن طاعته واتباع شرعه.
( يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) أي : ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره .
وقال ابن أبي حاتم ، وابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية :
( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ).
قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟
قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال : " هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس ".
تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة ، والله أعلم .
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان.
ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور.
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص.
فواتح افتتح الله بها القرآن.
وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال:
الم اسم من أسماء القرآن وهكذا.
وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.
وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال:
ابن عباس هي اسم الله الأعظم.
( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الأحقاف : 2]
يخبر تعالى أنه نزل الكتاب على عبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام ، والحكمة في الأقوال والأفعال.
( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف : 3]
ثم قال : ( ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) أي : لا على وجه العبث والباطل.
( وأجل مسمى ) أي : إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص .
قوله : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) أي : لاهون عما يراد بهم. وقد أنزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول ، وهم معرضون عن ذلك كله ، أي : وسيعلمون غب ذلك .
( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف : 4]
ثم قال : ( قل ) أي : لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره : ( أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض ) أي : أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض.
( أم لهم شرك في السموات ) أي : ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض ، وما يملكون من قطمير ، إن الملك والتصرف كله إلا لله ، عز وجل ، فكيف تعبدون معه غيره ، وتشركون به ؟
من أرشدكم إلى هذا ؟
من دعاكم إليه ؟
أهو أمركم به ؟
أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟
ولهذا قال : ( ائتوني بكتاب من قبل هذا ) أي : هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، يأمركم بعبادة هذه الأصنام.
( أو أثارة من علم ) أي : دليل بين على هذا المسلك الذي سلكتموه.
( إن كنتم صادقين ) أي : لا دليل لكم نقليا ولا عقليا على ذلك ; ولهذا قرأ آخرون : " أو أثرة من علم " أي : أو علم صحيح يأثرونه عن أحد ممن قبلهم ، كما قال مجاهد في قوله : ( أو أثارة من علم ) أو أحد يأثر علما .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : أو بينة من الأمر .
وقال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثنا صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ابن عباس قال سفيان :
لا أعلم إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أو أثرة من علم " قال : " الخط " .
وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم . وقال الحسن البصري : ( أو أثارة ) شيء يستخرجه فيثيره .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو بكر بن عياش أيضا : ( أو أثارة من علم ) يعني الخط .
وقال قتادة : ( أو أثارة من علم ) خاصة من علم .
وكل هذه الأقوال متقاربة ، وهي راجعة إلى ما قلناه ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه ، وأحسن مثواه .
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف : 5]
وقوله : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) أي : لا أضل ممن يدعو أصناما ، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول ، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش. لأنها جماد حجارة صم .
( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) [الأحقاف : 6]
وقوله : ( وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) ، كقوله تعالى :
( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 81 ، 82 ] أي : سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم.
وقال الخليل : ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) [ العنكبوت : 25 ] .
( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) [الأحقاف : 7]
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم : أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات ، أي : في حال بيانها ووضوحها وجلائها ، يقولون : ( هذا سحر مبين ) أي : سحر واضح ،
وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ۖ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ۖ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الأحقاف : 8]
( أم يقولون افتراه ) يعنون : محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
قال الله [ تعالى ] ( قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ) أي : لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني - وليس كذلك - لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض ، لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه ، كقوله :
( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ) [ الجن : 22 ، 23 ].
وقال تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) [ الحاقة : 44 - 47 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم ) ، هذا تهديد لهم ، ووعيد أكيد ، وترهيب شديد .
وقوله : ( وهو الغفور الرحيم ) ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة ، أي : ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم ، تاب عليكم وعفا عنكم ، وغفر [ لكم ] ورحم .
وهذه الآية كقوله في سورة الفرقان : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا . قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) [ الفرقان : 5 ، 6 ] .
( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الأحقاف : 9]
وقوله : ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) أي : لست بأول رسول طرق العالم ، بل قد جاءت الرسل من قبلي ، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم ، فإنه قد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ما أنا بأول رسول . ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك .
وقوله : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : نزل بعدها ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) [ الفتح : 2 ] .
وهكذا قال عكرمة ، والحسن ، وقتادة : إنها منسوخة بقوله :
( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ).
قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين : هذا قد بين الله ما هو فاعل بك يا رسول الله ، فما هو فاعل بنا ؟
فأنزل الله : ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ) [ الفتح : 5 ] .
هكذا قال ، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله هذه الآية .
وقال الضحاك : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) : ما أدري بماذا أومر ، وبماذا أنهى بعد هذا ؟
وقال أبو بكر الهذلي ، عن الحسن البصري في قوله : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) قال : أما في الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه في الجنة ، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء [ من ] قبلي ؟
أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي ؟
ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟
وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا : أيؤمنون أم يكفرون ، فيعذبون فيستأصلون بكفرهم ؟
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء - وهي امرأة من نسائهم - أخبرته - وكانت بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون . فاشتكى عثمان عندنا فمرضناه ، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ، لقد أكرمك الله .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ "
فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي !
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ! "
قالت : فقلت : والله لا أزكي أحدا بعده أبدا . وأحزنني ذلك ، فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري ، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ذاك عمله " .
فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له : " ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به " .
وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها : " فأحزنني ذلك " .
وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم ، كالعشرة ، وابن سلام ، والغميصاء ، وبلال ، وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر ، وابن رواحة ، وما أشبه هؤلاء .
وقوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي : إنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي.
( وما أنا إلا نذير مبين ) أي : بين النذارة ، وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل .
( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف : 10]
يقول تعالى : ( قل ) يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن : ( أرأيتم إن كان ) هذا القرآن ( من عند الله وكفرتم به ) أي : ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله علي لأبلغكموه ، وقد كفرتم به وكذبتموه ، ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) أي : وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبلي ، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به .
وقوله : ( فآمن ) أي : هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيته ( واستكبرتم ) أنتم : عن اتباعه .
وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه ، وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام وغيره ؛ فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام .
وهذه كقوله : ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ) [ القصص : 53 ].
وقال : ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) [ الإسراء : 107 ، 108 ] .
قال مسروق ، والشعبي : ليس بعبد الله بن سلام ، هذه الآية مكية ، وإسلام عبد الله بن سلام كان بالمدينة . رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم ، واختاره ابن جرير .
وقال مالك ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض :
" إنه من أهل الجنة " ، إلا لعبد الله بن سلام ، قال : وفيه نزلت : ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )
رواه البخاري ومسلم والنسائي ، من حديث مالك ، به .
وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، ويوسف بن عبد الله بن سلام ، وهلال بن يساف ، والسدي ، والثوري ، ومالك بن أنس ، وابن زيد ; أنهم كلهم قالوا :
إنه عبد الله بن سلام .
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : 11]
وقوله تعالى : ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) أي : قالوا عن المؤمنين بالقرآن : لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه . يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا وأشباههم وأقرانهم من المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية . وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا ، وأخطئوا خطأ بينا ، كما قال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) [ الأنعام : 53 ] أي : يتعجبون : كيف اهتدى هؤلاء دوننا ; ولهذا قالوا : ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة ; لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها . وقوله : ( وإذ لم يهتدوا به ) أي : بالقرآن ( فسيقولون هذا إفك ) أي : كذب ( قديم ) أي : مأثور عن الأقدمين ، فينتقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بطر الحق ، وغمط الناس " .
( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ) [الأحقاف : 12]
ثم قال : ( ومن قبله كتاب موسى ) وهو التوراة.
( إماما ورحمة وهذا كتاب ) يعني القرآن ( مصدق ) أي : لما قبله من الكتب.
( لسانا عربيا ) أي : فصيحا بينا واضحا.
( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) أي : مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين .
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : 13]
وقوله : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) تقدم تفسيرها في سورة " حم ، السجدة " .
وقوله : ( فلا خوف عليهم ) أي : فيما يستقبلون.
( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا.
( أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف : 14]
( أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) أي : الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم .
( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف : 15]
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن ، كقوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ]
وقال : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) [ لقمان : 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وقال هاهنا :
( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ) أي : أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني سماك بن حرب قال :
سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : قالت أم سعد لسعد :
أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ، فلا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله . فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) الآية [ العنكبوت : 8 ] .
ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث شعبة بإسناده ، نحوه وأطول منه .
( حملته أمه كرها ) أي : قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ، من وحام وغشيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة
( ووضعته كرها ) أي : بمشقة أيضا من الطلق وشدته.
( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا )
وقد استدل علي ، رضي الله عنه ، بهذه الآية مع التي في لقمان : ( وفصاله في عامين ) [ لقمان : 14 ].
وقوله : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) [ البقرة : 233 ].
على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح . ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم .
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن بعجة بن عبد الله الجهني قال :
تزوج رجل منا امرأة من جهينة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت :
ما يبكيك ؟ ! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط ، فيقضي الله في ما شاء .
فلما أتي بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه ، فقال له : ما تصنع ؟
قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك ؟
فقال له [ علي ] أما تقرأ القرآن ؟
قال : بلى . قال : أما سمعت الله يقول : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا )
وقال : ( [ يرضعن أولادهن ] حولين كاملين ) ، فلم نجده بقى إلا ستة أشهر.
قال : فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها.
قال : فقال بعجة : فوالله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه .
فلما رآه أبوه قال : ابني إني والله لا أشك فيه.
قال : وأبلاه الله بهذه القرحة قرحة الأكلة ، فما زالت تأكله حتى مات .
رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله : ( فأنا أول العابدين ) [ الزخرف : 81 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال :
إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين ; لأن الله تعالى يقول : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا )
( حتى إذا بلغ أشده ) أي : قوي وشب وارتجل ( وبلغ أربعين سنة ) أي : تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه .
ويقال : إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين .
قال أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟
قال : إذا بلغت الأربعين ، فخذ حذرك .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله القواريري ، حدثنا عزرة بن قيس الأزدي - وكان قد بلغ مائة سنة - حدثنا أبو الحسن السلولي عنه وزادني قال : قال محمد بن عمرو بن عثمان ، عن عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه ، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه الله في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله في أرضه " .
وقد روي هذا من غير هذا الوجه ، وهو في مسند الإمام أحمد .
وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق :
تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله ، عز وجل .
وما أحسن قول الشاعر :
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل : ابطل
( قال رب أوزعني ) أي : ألهمني
( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ) أي : في المستقبل.
( وأصلح لي في ذريتي ) أي : نسلي وعقبي.
( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، عز وجل ، ويعزم عليها .
وقد روى أبو داود في سننه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد :
" اللهم ، ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها قابليها ، وأتممها علينا " .
( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف : 16]
قال الله تعالى : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ) أي : هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، فيغفر لهم الكثير من الزلل ، ويتقبل منهم اليسير من العمل.
( في أصحاب الجنة ) أي : هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله من تاب إليه وأناب ; ولهذا قال : ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون )
قال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطريف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح الأمين ، عليه السلام ، قال :
" يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ، فيقتص بعضها ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله له في الجنة ".
قال : فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا الحديث قال : قلت : فإن ذهبت الحسنة ؟
قال : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، عن المعتمر بن سليمان ، بإسناده مثله - وزاد عن الروح الأمين . قال : قال الرب ، جل جلاله : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته . . . فذكره ، وهو حديث غريب ، وإسناد جيد لا بأس به .
وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن معبد ، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية ، عن يوسف بن سعد ، عن محمد بن حاطب قال : ونزل في داري حيث ظهر علي على أهل البصرة ، فقال لي يوما : لقد شهدت أمير المؤمنين عليا ، وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر ، فذكروا عثمان فنالوا منه ، وكان علي ، رضي الله عنه ، على السرير ، ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم ، فسألوه ، فقال علي :
كان عثمان من الذين قال الله : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون )
قال : والله عثمان وأصحاب عثمان - قالها ثلاثا - قال يوسف :
فقلت لمحمد بن حاطب : آلله لسمعت هذا من علي ؟
قال : آلله لسمعت هذا من علي ، رضي الله عنه .
( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : 17]
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : ( والذي قال لوالديه أف لكما ) - وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ; لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .
وروى العوفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم .
وقال ابن جريج ، عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر . وهذا أيضا قاله ابن جريج .
وقال آخرون : عبد الرحمن بن أبي بكر .
وقاله السدي . وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه : ( أف لكما ) عقهما .
وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان ، فقال : إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر.
فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية ؟ ! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده .
فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أف لكما ؟
فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباك ؟
قال : وسمعتهما عائشة فقالت : يا مروان ، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبت ، ما فيه نزلت ، ولكن نزلت في فلان بن فلان .
ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ، فجعل يكلمها حتى انصرف .
وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر ، فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه . فدخل بيت عائشة ، رضي الله عنها ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل فيه : ( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ).
فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري .
طريق أخرى : قال النسائي :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سنة أبي بكر وعمر .
فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنة هرقل وقيصر .
فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : ( والذي قال لوالديه أف لكما ) الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ! والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان فضض من لعنة الله .
وقوله : ( أتعدانني أن أخرج ) أي : [ أن ] أبعث ( وقد خلت القرون من قبلي ) أن قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر.
( وهما يستغيثان الله ) أي : يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما : ( ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ).
قال الله [ تعالى ] ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ) أي : دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .