ذكوان بن كيسان الملقب بطاووس
-------------------------------------
سجل التاريخ من مواقف بطويلة لكثير ممن ضحوا بأنفسهم وبذلوها رخيصة في سبيل الله ومن أجل إظهار الحق أيا كان دون خوف أو وجل ومهما ترتب على ذلك من أثار. وهذا طرف من تلك المواقف البطولية ذكوان بن كيسان الملقب بطاووس وقول الحق معنا في هذا الموقف رجل عرفته بلاد اليمن بل عرفته بلاد الدنيا بأسرها لما امتاز به من ميزة عظيمة هي الجهر بكلمة الحق مهما كان ثمن كلمة الحق غاليا.
كان الخلفاء فيما مضى من الزمان يقربون العلماء والصالحين وأهل الفضل من مجالسهم ويحرصون على أن يذكروهم بالمسئولية الملقاة على عواتق الحكام والخلفاء،
فهذا خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، بعث إلى العالم الجهبذ والناصح المشفق ذكوان بن كيسان الذي كان يلقب بطاووس ولا يعرف في زمانه إلا بهذا اللقب، فقد غلب اللقب على الاسم. بعث إليه عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى مقاليد الأمة، فطلب من طاووس أن يكتب له وصية يستعين بها في حكمه، وتكون له معلما يسير على ضوءها فقال: أوصني يا أبا عبد الرحمن. فانتهز العالم الفقيه هذه الفرصة التي قد لا تتاح له مرة أخرى، ولما أوجب الله على العلماء توجيه الحكام وعامة الناس بتقديم النصيحة، فكتب إليه رسالة لا تتعدى كلماتها السطر الواحد، فهي قليلة الكلمات عظيمة النفع والثمرات قال فيها: إذا أردت أن يكون عملك خيرا كله فاستعمل أهل الخير، والسلام.
فلو نظرنا إلى هذه النصيحة القليلة الأسطر لوجدناها عظيمة جدا وعليها صلاح بقية دواوين الحكم والبلاد، لذا نجد أن عمر بن عبد العزيز لما قرأها قال: كفى بها موعظة كفى بها موعظة.
ويمضي بنا الزمان سريعا فيقدر الله لطاووس بن كيسان أن يدرك خلافة هشام بن عبد الملك فيكون معه هذا الموقف الذي يتبين من خلاله قوته في قول الحق، وأنه لا يخشى في الله لومة لائم فما هذه الدنيا إلا سويعات ثم تنقضي، وخير للمرء أن تنقضي به الدنيا وقد أرضى خالقه، ولو كان ذلك على حساب رقبته وماله، فهذا الذي عمله عالمنا عالم زمانه، طاووس بن كيسان مع الخليفة هشام بن عبد الملك، حيث كان الخليفة هشام بن عبد الملك في البيت الحرام في موسم الحج وكان جالسا بين الخاصة من أصحابه من أهل الحجاز فقال لهم: ابحثوا لنا عن عالم يرشدنا إلى معرفة المزيد من أحكام الحج وسائر العبادات فبحثوا فوجدوا طاووس بن كيسان جالسا في إحدى زوايا الحرم يمضي الوقت في العبادة، فطلبوا منه أن يذهب معهم إلى الخليفة فلبى الطلب،
فلما دخل عليه خلع نعليه بطرف بساطه، وسلم عليه من دون أن يدعوه بأمير المؤمنين كما كانت العامة تسلم عليه، بل خاطبه باسمه هشام دون أن يكنيه بكنيته التي تعارف الناس عليها وأصبح لا يدعى إلا بها. ثم جلس على بساطه قبل أن يسمح له بذلك، فكونت هذه التصرفات غضبا عميقا داخل نفس الخليفة حتى بدا الغيظ في ملامح وجهه وعلى عينيه، ذلك أنه يرى أن هذا العالم خرج على النظام والمراسيم التي رسمت ديوان الخليفة، والتي يستحيل تخطيها من قبل أي فرد من أفراد الشعب، فأمسك الخليفة غيظه وكظمه وأخذ يوجه إلى العالم الجهبذ طاووس شيئا من العتاب الرقيق في نظره،
فقال له: ما حملك يا طاووس على ما صنعت؟ فقال: وما الذي صنعته؟ فقال الخليفة: خلعت نعليك بحاشية بساطي.. ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين (يعني أنك لم تقل يا أمير المؤمنين)، وسميتني ولم تكنني، ثم جلست من غير إذني، فلما انتهى الخليفة من هذه الأسئلة وفيها ما فيها من شدة الغضب أجاب طاووس بهدوء تام قائلا: أما خلع نعلي بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدي رب العزة والجلال كل يوم خمس مرات وقد فعلها من هو أفضل منا جميعا وكذا خلفاؤه من بعده وسائر الأمة تفعله إذا وقفت بين يدي الله، وأما قولك: إني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كاذبا إذا دعوتك بأمير المؤمنين، وأما قولك: إني ناديتك باسمك ولم أكنك فإن الجواب على ذلك أن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم كما في القرآن الكريم، وكنى أعداءه وقد ورد هذا أيضا في القرآن الكريم، وأما الأخيرة وهي جلوسي قبل أن تأذن لي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عد من أهل النار والعياذ بالله.
عندها لم يجرؤ هشام بن عبد الملك أن يتفوه بكلمة غير هذه الكلمة: عظني يا أبا عبد الرحمن فأخذ طاووس ابن كيسان يعظه ويذكره بعظم مسئوليته أمام الله عز وجل يوم القيامة، ٬أن من لم يعدل في رعيته فإن هناك في الدار الآخرة أصناف العذاب تنتظره. وبعد أن انتهى العالم الناصح طاووس من موعظته قام وانصرف
-------------------------------------
سجل التاريخ من مواقف بطويلة لكثير ممن ضحوا بأنفسهم وبذلوها رخيصة في سبيل الله ومن أجل إظهار الحق أيا كان دون خوف أو وجل ومهما ترتب على ذلك من أثار. وهذا طرف من تلك المواقف البطولية ذكوان بن كيسان الملقب بطاووس وقول الحق معنا في هذا الموقف رجل عرفته بلاد اليمن بل عرفته بلاد الدنيا بأسرها لما امتاز به من ميزة عظيمة هي الجهر بكلمة الحق مهما كان ثمن كلمة الحق غاليا.
كان الخلفاء فيما مضى من الزمان يقربون العلماء والصالحين وأهل الفضل من مجالسهم ويحرصون على أن يذكروهم بالمسئولية الملقاة على عواتق الحكام والخلفاء،
فهذا خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، بعث إلى العالم الجهبذ والناصح المشفق ذكوان بن كيسان الذي كان يلقب بطاووس ولا يعرف في زمانه إلا بهذا اللقب، فقد غلب اللقب على الاسم. بعث إليه عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى مقاليد الأمة، فطلب من طاووس أن يكتب له وصية يستعين بها في حكمه، وتكون له معلما يسير على ضوءها فقال: أوصني يا أبا عبد الرحمن. فانتهز العالم الفقيه هذه الفرصة التي قد لا تتاح له مرة أخرى، ولما أوجب الله على العلماء توجيه الحكام وعامة الناس بتقديم النصيحة، فكتب إليه رسالة لا تتعدى كلماتها السطر الواحد، فهي قليلة الكلمات عظيمة النفع والثمرات قال فيها: إذا أردت أن يكون عملك خيرا كله فاستعمل أهل الخير، والسلام.
فلو نظرنا إلى هذه النصيحة القليلة الأسطر لوجدناها عظيمة جدا وعليها صلاح بقية دواوين الحكم والبلاد، لذا نجد أن عمر بن عبد العزيز لما قرأها قال: كفى بها موعظة كفى بها موعظة.
ويمضي بنا الزمان سريعا فيقدر الله لطاووس بن كيسان أن يدرك خلافة هشام بن عبد الملك فيكون معه هذا الموقف الذي يتبين من خلاله قوته في قول الحق، وأنه لا يخشى في الله لومة لائم فما هذه الدنيا إلا سويعات ثم تنقضي، وخير للمرء أن تنقضي به الدنيا وقد أرضى خالقه، ولو كان ذلك على حساب رقبته وماله، فهذا الذي عمله عالمنا عالم زمانه، طاووس بن كيسان مع الخليفة هشام بن عبد الملك، حيث كان الخليفة هشام بن عبد الملك في البيت الحرام في موسم الحج وكان جالسا بين الخاصة من أصحابه من أهل الحجاز فقال لهم: ابحثوا لنا عن عالم يرشدنا إلى معرفة المزيد من أحكام الحج وسائر العبادات فبحثوا فوجدوا طاووس بن كيسان جالسا في إحدى زوايا الحرم يمضي الوقت في العبادة، فطلبوا منه أن يذهب معهم إلى الخليفة فلبى الطلب،
فلما دخل عليه خلع نعليه بطرف بساطه، وسلم عليه من دون أن يدعوه بأمير المؤمنين كما كانت العامة تسلم عليه، بل خاطبه باسمه هشام دون أن يكنيه بكنيته التي تعارف الناس عليها وأصبح لا يدعى إلا بها. ثم جلس على بساطه قبل أن يسمح له بذلك، فكونت هذه التصرفات غضبا عميقا داخل نفس الخليفة حتى بدا الغيظ في ملامح وجهه وعلى عينيه، ذلك أنه يرى أن هذا العالم خرج على النظام والمراسيم التي رسمت ديوان الخليفة، والتي يستحيل تخطيها من قبل أي فرد من أفراد الشعب، فأمسك الخليفة غيظه وكظمه وأخذ يوجه إلى العالم الجهبذ طاووس شيئا من العتاب الرقيق في نظره،
فقال له: ما حملك يا طاووس على ما صنعت؟ فقال: وما الذي صنعته؟ فقال الخليفة: خلعت نعليك بحاشية بساطي.. ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين (يعني أنك لم تقل يا أمير المؤمنين)، وسميتني ولم تكنني، ثم جلست من غير إذني، فلما انتهى الخليفة من هذه الأسئلة وفيها ما فيها من شدة الغضب أجاب طاووس بهدوء تام قائلا: أما خلع نعلي بحاشية بساطك فأنا أخلعها بين يدي رب العزة والجلال كل يوم خمس مرات وقد فعلها من هو أفضل منا جميعا وكذا خلفاؤه من بعده وسائر الأمة تفعله إذا وقفت بين يدي الله، وأما قولك: إني لم أسلم عليك بإمرة المؤمنين فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيت أن أكون كاذبا إذا دعوتك بأمير المؤمنين، وأما قولك: إني ناديتك باسمك ولم أكنك فإن الجواب على ذلك أن الله عز وجل نادى أنبياءه بأسمائهم كما في القرآن الكريم، وكنى أعداءه وقد ورد هذا أيضا في القرآن الكريم، وأما الأخيرة وهي جلوسي قبل أن تأذن لي، فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام بين يديه فكرهت أن تكون ذلك الرجل الذي عد من أهل النار والعياذ بالله.
عندها لم يجرؤ هشام بن عبد الملك أن يتفوه بكلمة غير هذه الكلمة: عظني يا أبا عبد الرحمن فأخذ طاووس ابن كيسان يعظه ويذكره بعظم مسئوليته أمام الله عز وجل يوم القيامة، ٬أن من لم يعدل في رعيته فإن هناك في الدار الآخرة أصناف العذاب تنتظره. وبعد أن انتهى العالم الناصح طاووس من موعظته قام وانصرف