مذكّرات خروف

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

eshahed

:: عضو مُشارك ::
إنضم
6 ديسمبر 2006
المشاركات
292
نقاط التفاعل
0
النقاط
6
في يوم ربيعي مشمس.. عرس أو مهرجان ألوان و أنغام، الأرض تجلّت في أحلى زينة و أبهى حلّة فأنت تراها كما لم تكن من قبل معشوشبة و مبقّعة بمروج الزّهور و النّباتات ، النسّمات العليلة العبقة بأريج البرّية و شذاها تسرح و تلعب في السّماء القريبة مع العصافير و البلابل وهي تقوم باستعراضاتها الجوّية الاحتفاليّة.. ترافقها في شدوها و غناءها و أعراسها ابتهاجا بحلول الموسم ( الرّبيع ) ثمّ تسافر عبر الجبال و الوهاد و السّهول المترامية الأطراف و المحصّلة سيمفونيّة كونيّة معجزة للبشر.. و كأنّ اللّه سبحانه يباهي العباد ويبهر الخلق بلوحة أبدعتها ريشته و أرادتها حكمته..!
في هذا اليوم حيث الشّمس تنشر أشّعتها الذّهبيّة الحانية على الأرض التّواقة إلى الضّوء و الدّفء و حيث الكائنات الصّغير و المغلوبة على أمرها فتسعدها و تبهج حياتها..في هذا اليوم ( لست أدري أيّ يوم من الشّهر أو من السّنة فكلّ ما علمته أنّه فصل الرّبيع ) ولدت في زريبة سيدي عمّار ( كما عرفت بعد ذلك ) وسط الرّوث المتعفّن و بين القطيع،شمشمتني أمّي و لعقتني بحنوّ و إشفاق، لم يلزم لوقوفي على قوائمي الأربع إلاّ بضع دقائق..طبعا مع بعض التّمايل و التّرنّح و التّهادي و التّأرجح في البداية و طبعا لن أخجل من ذكر سقطتين أو ثلاثة..إلى الآن لست أعلم كيف اهتديت إلى ضرع أمّي و الّتي كانت حينها مكتنزة بحليب مقشّد كثيف..ما ألذّه، طعمه السّائغ و لونه المصفرّ.. لم أنساه إلى حدّ هذه السّاعة..!!
لكي أتمكّن من بلوغ الحلمات و الحليب السّاخن الطّازج تحت بطن أمّي فقد ثنيت قائمتي الأماميتين و دفعت رأسي بحماس و اندفاع متشهّيا و طفقت أنهل باشتهاء و تلهّف و تلذّذ و أستمرّيت أمصّ و أطلب المزيد إلى أن دفعتني أمّي برفق، لكنّي عدت و عدت حتّى اكتفيت و شبعت ( لم ألحظ أو لم أبالي بالأرض تحتي و هي مغطّاة بطبقة سميكة رطبة من التّراب و الرّوث و لا ببقيّة القطيع الّذي كان يملأ الزّريبة و كلّهم منشغلون بالتّحديق في اللاّشيئ أو بشئ يلوكونه و لا يتوقّفون عن مضغه طوال الوقت ) و استويت واقفا، نظرت حولي دون أن أفهم أو أدرك ما هناك، الألوان و الحركة و الأصوات كلّها بلا معنى و بلا إسم بالنّسبة لي، بيد أنّي عن طريق تلك القدرة الغريبة الّتي أودعنيها اللّه عرفت أمّي و فرّقتها عمّا سواها،و في ساعات النّهار الأولى لم أكن أميّز سواها تقودني إليها بالّدرجة الأولى رائحتها في ذاكرتي قبل حتّى أن أولد و اعتمادي عليها و على وجودها ، رحت أتبعها كظلّها أينما تحرّكت و حلّت، لا أرتاح و لا أشعر بالأمان إلاّ و أنا بقربها..فجأة بدأت أتبيّن ما حولي، أدركت بالغريزة الخالصة أن أولئك يشبهونني لأنّهم مثلي و من بني جنسي و تربطني بهم مصلحة البقاء و المصير المشترك..، لم أدري و أنا غارق في تفكيري إلاّ و الذّعر يغمر الزّريبة و من بداخلها، كلّ يهرب في اتّجاه و حصل اصطدام و سقوط على الأرض و قفزت جزعا مرتبكا حائرا أنا و أمثالي من الصّغار نثغو و نصيح في إثر أمّهاتنا لا نتركهنّ و لا نبتعد عنهنّ..لم يفكّر و لم يخطر على بال أحدنا أن ينطّ أو يقفز خارج السّياج الّذي يحيط بنا من كلّ جانب...سرعان ما عرفت و استوعبت..سيدي عمّار يقتحم علينا الزّريبة و يشرع بابها بغتة ليسوقنا خارجها حيث الضّياء و العشب و النّباتات البرّية و الفضاء الواسع..و الانطلاق..في يد سيدي عمّار عصا يلوّح و يهشّ بها علينا كلّما انحرفنا عن مسار أو حدود بدا لي أنّها غير موجودة إلاّ في ذهنه، أحيانا يتلقّف حجرا و يرمي من شذّ عن القطيع أو ابتعد..اهتديت إلى أنّ أفضل وسيلة للشّعور بالأمن و تجاهل حيرتي و ارتباكي و عدم فهمي لما يجري و هي البقاء بقرب أمّي أضعها نصب عينيّ، أتتبّع خطاها و أهتدي برائحتها و روحها و نحن نرعى أرضا طافحة بالخير، نملأ بطوننا من برسيم غضّ شهيّ و نباتات فوّاحة، ما أسرع ما استسغتها و أعجبني طعمها..على كلّ فقد أمضينا النّهار كلّه في الّرعي و الأكل تحت أعين سيدي عمّار و قبل الغروب أعاد سوقنا أمامه صوب الزّريبة مجدّدا و لم يغادرنا إلاّ عندما أغلق الباب دوننا و ما إن غرق قرص الشّمس وراء الآفاق حتّى استلقى معظمنا يجترّ ما أكله و يستمتع بمضغه و تذويبه...على مدى عدّة أيّام ( لا أعرف العدّ ) كان هذا دأبنا، في الصّباح نساق باتّجاه التّلال و الحقول و في المساء نعاد إلى زريبتنا،لا أحد اشتكى أو تذمّر أو أعلن عن عدم ارتياحه، الشّيء الجدير بالذّكر أنّ امرأتان تداولتا كلّ ليلة على حلب أمّهاتنا بعد حرماننا نحن الصّغار بتكميم أفواهنا و عزلنا عنهنّ و الحقيقة أنّه لم يكن في أذهاننا شيء نفعله حيال ذلك..كلّما مرّ الوقت يزداد اعتمادنا شيئا فشيئا على العشب و ما تنبته الأرض و بالنّتيجة رحنا نكبر و أحجامنا تزيد إلى أن صرنا نضاهي أمّهاتنا حجما و قوّة و لم نشعر إلاّ و الحرارة ترتفع و الشّمس تلهب أديم الأرض..زالت الخظرة و أينعت الثّمار و المحاصيل و تيبّست سنابل القمح و الشّعير و برزت وحوش حديديّة ( لست أدري من أين قدمت ) راحت تزمجر و تقطع الحقول جيئة و ذهابا دون كلل أو ملل و هي تبتلع في طريقها أمواج السّنابل فتأخذ الحبّ و لا تترك لنا إلاّ التّبن و القشور و ما لم تصله بأسنانها الوحشيّة الدّوارة من سقط السّنابل ..!!
نسيت أمّي و لم أعد بحاجة إليها و الأعجب أنّي لم أعد أميّزها و لا أفرّقها عن باقي القطيع و أوّل ما لفت انتباهي واحد من القطيع بدا لي مزهوّا معجبا بنفسه ضجرا متململا لا أراه إلاّ و رغم أنّه كان أشبه ما يكون بنا إلاّ أنّه اختلف عنّا في شيئين أوّلهما وبره الأسود المنسدل على جسمه و ثانيهما عدم انقطاعه عن الزّمجرة استحوذني إحساس فوّار بالغضب و الانفعال و التّململ من أجل الإناث سيّما و القطيع يضمّ ذكرا آخر كان في مثلي قوّتي و يحمل الإحساس نفسه،أيقنت أنّ القطيع لا يمكن أن يحتمل أكثر من واحد و كان التّشنّج و استعراض القوّة و ضرب الأرض بالقوائم و النّفث في التّراب و التّهديد بهزّ رأسي الأقرن وسيلتي في التّعبير عن تلك الأحاسيس و كم مرّة كدت أتورّط معه في معركة لولا سيّدنا و عصاه إذ أنّه كان على ما يبدو على دراية بما يضمره الواحد منّا تجاه الآخر من مشاعر سيّئة و غير حميدة..و في يوم كان هناك قطيع آخر يرعى فوق تلّة قريبة وفيما كنت أتحيّن الفرصة للتّخلّص من غريمي و إذا بهذا الأخير ينطلق و هو يرغي و يزبد كالوحش المسعور و بعد أن قطع عدّة أمتار توقّف و راح ينفث بمنخريه و يلوّح برأسه و ينبش في التّراب بقوائمه الأماميّة و الخلفيّة و هو يستعدّ لملاقاة كبش آخر كان قد انطلق بدوره من القطيع الآخر، ما لبثا أن تقابلا و هما يزفران و يضربان الأرض و يثيران الغبار من حولهما استعدادا للمعركة، بدأ التّناطح و ارتطام الرّأسين حتّى خيّل لي أنّ طبقات الجوّ العليا اهتزّت لقوّته و لصوته المدوّي، كأنّ أحقادهما السّوداء حددّت مسبقا الغاية الدّمويّة من المعركة و أنّ على أحدهما أن يدفع حياته ثمنا ليخلو المكان و الفضاء للآخر، إذ بعد شطحات و نطحات و كرّ و فرّ تمايل أحدهما إثر نطحة فاصلة و مباشرة و كأنّ دافعها غلّ دفين أو حقد قديم و انقلب يتخبّط و يشخر في دماءه..حصل كلّ ذلك في لمح البصر و انتهى المشهد بوصول سيدي عمّار إلى المقتول و في يده قطعة حديد تلمع من وهج الشّمس ورأيته يميل على المسكين و يجرّ ذلك الشّيء بعنف و فظاعة على رقبته و...و كانت صدمة استفقت بعدها على أنّ القدر خلّصني من غريمي ..يتبع..
 
رد: مذكّرات خروف

كلماتك ومواضيعك رائعه

امتعتنا بعذب الكلمات

وصدق الاحساس

تقبل تحياتى المعطره بكل الود والاحترام
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top