- إنضم
- 7 أوت 2006
- المشاركات
- 1,510
- نقاط التفاعل
- 178
- نقاط الجوائز
- 159
بقــرة اليتامـى ..
في كل بيت، في كل قرية ومدينة يتذكر الكبار والصغار حكاية الأوائل الذين صنعوا الحياة بأفراحها وأتراحها،، وبين مئات الحكايات التي ترددها الجدات… من ذاكرة لأخرى ومن حكاية لحكاية نستلطف أعذب القصص وأغربها عبر سالف الأزمنة، تتداولها الألسن لتكوّن جلسة من جلسات التسلية والإثارة،، نقضي بها الساعات الطوال من الليل قرب الجدة.
"زينب" التي ما فتئت ذاكرتها المشحونة بصور حوادث مؤلمة ومفرحة يستعيد تذكرها زفير الزمن، يبتهج لها الصبية المجتمعون حولها في صبر وشوق وهي تسرد عليهم هذه الحكاية قائلة:
-آه يا أبنائي سأقص عليكم حكاية "بقرة اليتامى" القصة التي أبكت الأجيال، قصة الإنسان الذي لعبت به الأقدار في سخرية دامعة،،
يردون عليها: -نعم،، نعم يا جدتي هيا بسرعة،،
الجدة:
تغمر السعادة قلب الرجل الساكن الكوخ،، تحت زقزقة العصافير وزرقة السماء، ومع اخضرار الأرض تداعبه بسمات زوجته الحنون وهي ترعى طفليها "ظريف ومرجانة" مع بقرتهما الصفراء، ذاك رزقهما في الدنيا ينتفعان بحليبها… يجلسان بقربها، فتلامس بلسانها وجه "ظريف"، هذه سعادتهما تتضاعف، وقهقهاتهما تتعالى والفرح يحيط عالمهما وهما يترعرعان في حضن أبويهما الكريمين،، وتمر الأيام والليالي والقدر يكن للعائلة الصغيرة الهادئة أموراً أخرى،،
فجأة تخور قوى الأم الرؤوم فتصبح طريحة الفراش،، تمزقها سكاكين الوجع، تزيدها حرقة دموع طفليها وحسرة زوجها،، كانت الفتاة تسهر بجانب والدتها تخفف حرارة جسمها، وأضعه قطعة من القماش مبللة بالماء البارد على جبينها.. وما عسى "ظريف" أن يفعل سوى ذرف دموع حارقة شفقة على أمه التي قد يفقدها إلى الأبد!! وتزداد الحمى ويشتد مرضها،، فتسلم روحها إلى بارئها تاركة وراءها طفلين للوحدة والاغتراب،، لليتم والأحزان،،،،،
** *
الحزن دخل البيت دون استئذان،، شقاء وآلام مرة مرارة العلقم ودموع من فيضها تجري كالوديان… ما أقساك يا زمن الفراق، صحيح أن فراق الأحبة غربة،، وهكذا صار الطفلان كالعصفورين الصغيرين يبحثان عن أمهما في قلب أبيهما،، وأضحى الكوخ حزيناً مكفهراً، الظلام الدّامس يسكنه في رابعة النهار كما سكن أفئدة العائلة الجريحة كأنها طائر مهيض الجناح، الحزن الأسود يخيم على الجميع، حتى البقرة أحست بفقدان صاحبتها فندر الحليب في ضرعها…
** *
مرت السنون والعائلة بائسة تكاد رياح الشقاء تعصف بها.
رغب الأب عن الزواج بامرأة أخرى لأن زوجته الأولى لازالت تحتل قلبه وتفكيره لكن حرصه على ولديه، ورعايتهما وتدبير شؤون البيت جعله يفكر في الأمر مرة ثانية.
وتزوج الشيخ من امرأة ظن الخير في ناصيتها لكنها كانت تخفي تحت جمالها قلباً أسود أقسى من الحجر، قلباً لا يرحم ولا يلين.
أنجب الشيخ من زوجته بنتا سمّاها (عسلوجة) فتضاعف حقد زوجة الأب على الطفلين (ظريف ومرجانة) اللذين كان يقضيان وقتيهما في النهار مهملين جائعين، وعند المبيت يفترشان الثرى أو التبن قرب بقرتهما، يستمدان العطف والحنان من نظراتها كما يستمدان الغذاء من حليبها الدسم فنما جسماهما وتوردت خدودهما صحة وعافية وكان ذلك العطاء الحيواني تعويضاً للحرمان الإنساني.. احتارت زوجة الأب في أمر (ظريف ومرجانة)، رغم حرمانها وإهمالها لهما، يزدادان نمواً وجمالاً، وفي المقابل يعتري (عسلوجة) شحوب وهزال رغم عنايتها الفائقة بها غذاء ولباساً ودلالاً. فسهرت لذلك الليالي تفكر باحثة عن جواب شاف كاف للأسئلة المتهاطلة عليها كسيل الأمطار، لكنها لم تجد حلاً للغز المفارقة التي تراها تزداد يومياً.
وفي أحد الأيام أوصت بنتها (عسلوجة) قائلة:
-رافقيهما إلى المرعى وارصدي حركاتهما لتخبريني من أي مصدر يسترزقان، من أين يأكلان، لم تكن عسلوجة أقل من أمها حقداً وغيرة تجاه أخويها (ظريف ومرجانة) مما جعل نار الحسد تشتعل في قلبها الصغير فيصعد دخان اللهب إلى وجهها ليجعله أسود وهكذا ورثت (عسلوجة) من أمها صفة قبيحة تميت صاحبها ببطء.
استجابت عسلوجة لطلب أمها بلهفة وراحت ترقب الطفلين عن بُعد…!!
كانت دهشتها كبيرة وهي ترى البقرة في منتصف النهار تقترب منهما فيجثوان على ركبتيهما ثم يمسكان بضرعها لينهلا منه الحليب الصافي، يرضعان مثل الصبيين التوأمين كأنهما يمتصان ثدي أمهما،، يا له من مشهد رباني،،، ياله من موقف غريب عجيب،، حادث رائع، يدعو إلى التفكير في أسرار هذه الحياة وسخرية الأقدار ببني الإنسان.
اندهشت البنت (عسلوجة) لما رأت ذلك، لكنها سرعان ما حاولت تقليدهما،، تقدمت نحو البقرة وقبل أن تضع رأسها قرب الضرع صَكَّتْها البقرة بحافرها فأصابت عينها اليمنى، وكان ذلك جزاء التجسس على الأبرياء.. وعادت البنت (عسلوجة) إلى أمها مغمضة العين باكية الأخرى فأخبرت والدتها بما حدث لها وما شاهدت طول النهار.
اغتاظت الزوجة لما رأت وسمعت واشتد غضبها فعاقبت الطفلين (ظريف ومرجانة) عقاباً شديداً وقررت التخلص من البقرة (أم اليتامى).
ها قد شرعت تفكر في حيلة تنصب شراكها لتنفيذ قرارها.
بدأت توحي بذلك إلى زوجها تمهيداً لإبلاغه القرار، وبعد ذلك بأيام طلبت منه ذلك جهاراً نهاراً، قائلة:
-أيها الزوج العزيز، يا شيخي الكريم، نحن لسنا في حاجة إلى البقرة.
ردَّ عليها في دهشة وغضب: -ماذا تقولين أيتها الحمقاء؟ أجننت؟ أنسيت حليبها ولبنها وسمنها؟!
قالت وهي تلح في جرأة وقحة:
-بعها واشتر لنا حماراً نركبه فيريحنا، إني كرهتها، إنها متعبة، لا أريد رؤيتها بعد اليوم.. وباتا ليلتهما متخاصمين، يتجرعان مرارة الخلاف…
وجاءت الأيام ومع إصرار الزوجة على رأيها تفتت موقف الشيخ الصلب وانصاع لرغبة "زوجته"…..
في السوق الأسبوعي حيث ينعقد مؤتمر التجار والفلاحين ويلتقي الغني بالفقير والفلاح بالأمير والأمين بالغرّير، كان الناس يحملون السلل الحافلة بمختلف أنواع الخضر والفواكه الشهية التي منّت بها عليهم الأرض…. فواكه لذيذة أنتجتها أيدي خشنة متجعدة، كما عرضت في السوق أواني طينية أبدعتها أنامل النساء القرويات في أشكال منقوشة ومظاهر منحوتة وصور مزركشة قشبية أخذت من أمنا الأرض زخرفتها.
تقول الجدة "زينب" ضاحكة:
-"لو كان ما لساني لحلاح ما خذيت المداح" هذا حال الدنيا يا أكبادي، وهذه طبائع البشر كمعادن الأرض، فيها الذهب والفضة وفيها النحاس والرصاص، توجد نساء عطوفات كالأمهات أو أكثر، لا تخافوا يا صغاري، يبتسم الأطفال وتواصل الجدة سرد الحكاية، وهي تتثاءب واضعة راحة كفها على فمها من حين لآخر:
من مطلع الفجر لبس الزوج عباءته البيضاء ورمى برنوسه البني الطويل على كتفه ثم اتجه نحو الإسطبل ماسكاً الحبل بيديه المرتعشتين ليضعه حول قرني بقرة اليتامى…
كانت البقرة في طريقها إلى السوق الأسبوعي تبكي بلا دموع وكأنها عرفت مصيرها، بل أنها كانت تبدو حزينة لفراق الطفلين الأبدي.
عندما ابتسم الصبح حزيناً ذهبا إلى مكانها كالعادة لشرب حليب الصباح فوجدا المكان خالياً..
لم يجدا الكنز الذي تركته لهما أمهما فشعرا بموت أمهما مرة ثانية، وكأنها توفيت مرتين. فبكيا كثيراً…
كان الشيخ في طريقه يردد في نفسه كلمات يقصد بها زوجته:
-هي تقول وأنا أقول… هي تقول وأنا أقول حتى غلبتني بالقول،،، لقد صدق من قال لكل داء دواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها يا ليتني تزوجت بالضاوية بنت المدّاح المرأة الكريمة العطوفة.
وفي باب السوق وجد الشيخ جزاراً يسوم الناس أبقارهم، فباعه البقرة بأدنى ثمن وعاد إلى بيته حزيناً يدعو الله اللطف والرحمة بصغيريه اللذين وجدهما مكان البقرة في حداد ينظران نحوه نظرات غريبة ممزوجة بالعتاب والاستفهام…
استلقى الشيخ على فراشه ليلاً وبعد أرق وسهاد حرما على جفونه النعاس استسلم للنوم فرأى في الحلم زوجته الأولى أم الطفلين تزوره دامعة العينين وهي تقول له: سامحك الله…. لقد ضيعت الأمانة.
ثم تطلب منه الذهاب إلى الجزار لاسترجاع ضرع البقرة وقرنيها ووضعهم على قبرها في أقرب وقت لاحق.
قام الشيخ من نومه مفزوعاً ولبس عباءته في منتصف الليل، ثم غادر بيته صامتاً وفي سرعة عجيبة هرول نحو دار الجزار، وأكمل الهزيع الأخير أمام باب الجزار ينتظر خروجه.
استيقظ الجزار على نباح الكلب فوجد الشيخ على عتبة البيت يرتعد من البرد، استغرب لحاله واستفسره عن رغبته، تعلق الشيخ بملابس الجزار يقبل يديه ملتمساً منه إعطاءه ضرع البقرة وقرنيها.
كان الطلب غريباً كلن قلب الجزار رغم قسوته رقَّ لحال الشيخ واستجاب لرغبته وقدّم له ما أراد في تلك الصبيحة….
بيديه حمل الشيخ ضرع البقرة والحليب يسيل منه ممزوجاً بالدم، ووضع قرنيها داخل قلمونة برنوسه، وسار في اتجاه المقبرة التي تنام فيها زوجته الأولى، عندما وصل إلى قبرها حياها في حسرة وأسف، ثم وضع الضرع على قبرها قرب حجر الشاهد، وغرس قرني البقرة بالقرب من القبر ثم انصرف إلى بيته مسروراً بإرضاء زوجتيه معاً.
** *
يشتد الزمن على الطفلين بمرارته المتوالية مع الأيام، لقد حزنا حزناً عميقاً لغياب بقرتهما، وها هو الجوع يضنيهما وزوجة أبيهما ترفض الاستجابة لتوسلاتهما المنبعثة من معدتيهما الخاويتين،، شحب لون وجهيهما وهزل جسماهما حتى صارا لا يُعرفان عند الناس…
في يوم من الأيام اشتد شوقهما لرؤية أمهما، فذهبا خفية إلى مقبرة القرية يزوران قبر حبيبتهما ويشكوان لها حالهما،، وصلا إلى القبر جائعين يلهثان من العطش فوجدا عليه ضرع البقرة يفيض حليباً دافئاً، كان ينتظرهما كالعادة وبالقرب منه نخلتين باسقتين كثيرتا العراجين التمرية، تأتي أكلها كلَّ حين.
احتضنا قبر أمهما فرحين مسرورين بلقائها وكأنهما يسمعان صوتها ينبعث من تحت التراب ثم بكيا حتى تبلل تراب قبرها حينما تذكرا حضنها الدافئ الحنون.
شربا الحليب وأكلا التمر حتى شبعا وارتويا ثم تحولا بنظراتهما يتطلعان إلى السماء وإلى النخلتين في صورتهما الشبيهتين بقرني البقرة، وبقي الطفلان اليتيمان طوال النهار يناجيان أمهما في مظهر إنساني لا مثيل له.
قدم الطفلان إلى المكان مرة ثانية وثالثة، يرتادانه وقت الحاجة حتى عادت النضرة إلى وجهيهما والسحر إلى محييهما والعافية لجسميهما فعاود زوجة أبيهما الحسد والضغينة، وطلبت من ابنتها (عسلوجة) إعادة الكرة مرّة ثانية، قبلت (عسلوجة) المهمة بغبطة وكأنها خلقت لفعل التجسس.
رافقت عسلوجة شقيقيها المغضوب عليهما إلى حيث يسيران، كانا يتعمدان التمويه في سيرهما بين المزارع والحقول يريدان التخلص من أسئلتها التحقيقية لكنها كانت مصممة على بغيتها. ويمر النهار عسيراً على الطفلين رغم اللعب والمرح بعض الأحيان، ينتظران عودة (عسلوجة) إلى البيت وقد أخذ منهما العياء والجوع،،، طلباً منها الرجوع فلم تقتنع حذراها من مهالك الطريق الذي يسلكانه فلم تأبه لكلامهما… حاولا العودة إلى البيت لكن الشوق والجوع والظمأ أرغموهما على الاتجاه نحو المقبرة…
كان الوقت أصيلاً وخلاله قهرهما الجوع فلم يستطيعا صبراً وتوجها نحو الضرع والنخلتين يهزان جذعيهما فيتساقط الحب رطباً شهياً. وانكشف السر…. تقدمت (عسلوجة) من الضرع المدرار وتجرعت خلسة قليلاً من الحليب وأبقت جرعة في فمها، كما وضعت تحت شفتها السفلى شق تمرة ثم عادت نحو البيت مسرعة لتجد أمها في انتظار التقرير الكامل المفصل عن المهمة الموكلة لها.
في كل بيت، في كل قرية ومدينة يتذكر الكبار والصغار حكاية الأوائل الذين صنعوا الحياة بأفراحها وأتراحها،، وبين مئات الحكايات التي ترددها الجدات… من ذاكرة لأخرى ومن حكاية لحكاية نستلطف أعذب القصص وأغربها عبر سالف الأزمنة، تتداولها الألسن لتكوّن جلسة من جلسات التسلية والإثارة،، نقضي بها الساعات الطوال من الليل قرب الجدة.
"زينب" التي ما فتئت ذاكرتها المشحونة بصور حوادث مؤلمة ومفرحة يستعيد تذكرها زفير الزمن، يبتهج لها الصبية المجتمعون حولها في صبر وشوق وهي تسرد عليهم هذه الحكاية قائلة:
-آه يا أبنائي سأقص عليكم حكاية "بقرة اليتامى" القصة التي أبكت الأجيال، قصة الإنسان الذي لعبت به الأقدار في سخرية دامعة،،
يردون عليها: -نعم،، نعم يا جدتي هيا بسرعة،،
الجدة:
تغمر السعادة قلب الرجل الساكن الكوخ،، تحت زقزقة العصافير وزرقة السماء، ومع اخضرار الأرض تداعبه بسمات زوجته الحنون وهي ترعى طفليها "ظريف ومرجانة" مع بقرتهما الصفراء، ذاك رزقهما في الدنيا ينتفعان بحليبها… يجلسان بقربها، فتلامس بلسانها وجه "ظريف"، هذه سعادتهما تتضاعف، وقهقهاتهما تتعالى والفرح يحيط عالمهما وهما يترعرعان في حضن أبويهما الكريمين،، وتمر الأيام والليالي والقدر يكن للعائلة الصغيرة الهادئة أموراً أخرى،،
فجأة تخور قوى الأم الرؤوم فتصبح طريحة الفراش،، تمزقها سكاكين الوجع، تزيدها حرقة دموع طفليها وحسرة زوجها،، كانت الفتاة تسهر بجانب والدتها تخفف حرارة جسمها، وأضعه قطعة من القماش مبللة بالماء البارد على جبينها.. وما عسى "ظريف" أن يفعل سوى ذرف دموع حارقة شفقة على أمه التي قد يفقدها إلى الأبد!! وتزداد الحمى ويشتد مرضها،، فتسلم روحها إلى بارئها تاركة وراءها طفلين للوحدة والاغتراب،، لليتم والأحزان،،،،،
** *
الحزن دخل البيت دون استئذان،، شقاء وآلام مرة مرارة العلقم ودموع من فيضها تجري كالوديان… ما أقساك يا زمن الفراق، صحيح أن فراق الأحبة غربة،، وهكذا صار الطفلان كالعصفورين الصغيرين يبحثان عن أمهما في قلب أبيهما،، وأضحى الكوخ حزيناً مكفهراً، الظلام الدّامس يسكنه في رابعة النهار كما سكن أفئدة العائلة الجريحة كأنها طائر مهيض الجناح، الحزن الأسود يخيم على الجميع، حتى البقرة أحست بفقدان صاحبتها فندر الحليب في ضرعها…
** *
مرت السنون والعائلة بائسة تكاد رياح الشقاء تعصف بها.
رغب الأب عن الزواج بامرأة أخرى لأن زوجته الأولى لازالت تحتل قلبه وتفكيره لكن حرصه على ولديه، ورعايتهما وتدبير شؤون البيت جعله يفكر في الأمر مرة ثانية.
وتزوج الشيخ من امرأة ظن الخير في ناصيتها لكنها كانت تخفي تحت جمالها قلباً أسود أقسى من الحجر، قلباً لا يرحم ولا يلين.
أنجب الشيخ من زوجته بنتا سمّاها (عسلوجة) فتضاعف حقد زوجة الأب على الطفلين (ظريف ومرجانة) اللذين كان يقضيان وقتيهما في النهار مهملين جائعين، وعند المبيت يفترشان الثرى أو التبن قرب بقرتهما، يستمدان العطف والحنان من نظراتها كما يستمدان الغذاء من حليبها الدسم فنما جسماهما وتوردت خدودهما صحة وعافية وكان ذلك العطاء الحيواني تعويضاً للحرمان الإنساني.. احتارت زوجة الأب في أمر (ظريف ومرجانة)، رغم حرمانها وإهمالها لهما، يزدادان نمواً وجمالاً، وفي المقابل يعتري (عسلوجة) شحوب وهزال رغم عنايتها الفائقة بها غذاء ولباساً ودلالاً. فسهرت لذلك الليالي تفكر باحثة عن جواب شاف كاف للأسئلة المتهاطلة عليها كسيل الأمطار، لكنها لم تجد حلاً للغز المفارقة التي تراها تزداد يومياً.
وفي أحد الأيام أوصت بنتها (عسلوجة) قائلة:
-رافقيهما إلى المرعى وارصدي حركاتهما لتخبريني من أي مصدر يسترزقان، من أين يأكلان، لم تكن عسلوجة أقل من أمها حقداً وغيرة تجاه أخويها (ظريف ومرجانة) مما جعل نار الحسد تشتعل في قلبها الصغير فيصعد دخان اللهب إلى وجهها ليجعله أسود وهكذا ورثت (عسلوجة) من أمها صفة قبيحة تميت صاحبها ببطء.
استجابت عسلوجة لطلب أمها بلهفة وراحت ترقب الطفلين عن بُعد…!!
كانت دهشتها كبيرة وهي ترى البقرة في منتصف النهار تقترب منهما فيجثوان على ركبتيهما ثم يمسكان بضرعها لينهلا منه الحليب الصافي، يرضعان مثل الصبيين التوأمين كأنهما يمتصان ثدي أمهما،، يا له من مشهد رباني،،، ياله من موقف غريب عجيب،، حادث رائع، يدعو إلى التفكير في أسرار هذه الحياة وسخرية الأقدار ببني الإنسان.
اندهشت البنت (عسلوجة) لما رأت ذلك، لكنها سرعان ما حاولت تقليدهما،، تقدمت نحو البقرة وقبل أن تضع رأسها قرب الضرع صَكَّتْها البقرة بحافرها فأصابت عينها اليمنى، وكان ذلك جزاء التجسس على الأبرياء.. وعادت البنت (عسلوجة) إلى أمها مغمضة العين باكية الأخرى فأخبرت والدتها بما حدث لها وما شاهدت طول النهار.
اغتاظت الزوجة لما رأت وسمعت واشتد غضبها فعاقبت الطفلين (ظريف ومرجانة) عقاباً شديداً وقررت التخلص من البقرة (أم اليتامى).
ها قد شرعت تفكر في حيلة تنصب شراكها لتنفيذ قرارها.
بدأت توحي بذلك إلى زوجها تمهيداً لإبلاغه القرار، وبعد ذلك بأيام طلبت منه ذلك جهاراً نهاراً، قائلة:
-أيها الزوج العزيز، يا شيخي الكريم، نحن لسنا في حاجة إلى البقرة.
ردَّ عليها في دهشة وغضب: -ماذا تقولين أيتها الحمقاء؟ أجننت؟ أنسيت حليبها ولبنها وسمنها؟!
قالت وهي تلح في جرأة وقحة:
-بعها واشتر لنا حماراً نركبه فيريحنا، إني كرهتها، إنها متعبة، لا أريد رؤيتها بعد اليوم.. وباتا ليلتهما متخاصمين، يتجرعان مرارة الخلاف…
وجاءت الأيام ومع إصرار الزوجة على رأيها تفتت موقف الشيخ الصلب وانصاع لرغبة "زوجته"…..
في السوق الأسبوعي حيث ينعقد مؤتمر التجار والفلاحين ويلتقي الغني بالفقير والفلاح بالأمير والأمين بالغرّير، كان الناس يحملون السلل الحافلة بمختلف أنواع الخضر والفواكه الشهية التي منّت بها عليهم الأرض…. فواكه لذيذة أنتجتها أيدي خشنة متجعدة، كما عرضت في السوق أواني طينية أبدعتها أنامل النساء القرويات في أشكال منقوشة ومظاهر منحوتة وصور مزركشة قشبية أخذت من أمنا الأرض زخرفتها.
تقول الجدة "زينب" ضاحكة:
-"لو كان ما لساني لحلاح ما خذيت المداح" هذا حال الدنيا يا أكبادي، وهذه طبائع البشر كمعادن الأرض، فيها الذهب والفضة وفيها النحاس والرصاص، توجد نساء عطوفات كالأمهات أو أكثر، لا تخافوا يا صغاري، يبتسم الأطفال وتواصل الجدة سرد الحكاية، وهي تتثاءب واضعة راحة كفها على فمها من حين لآخر:
من مطلع الفجر لبس الزوج عباءته البيضاء ورمى برنوسه البني الطويل على كتفه ثم اتجه نحو الإسطبل ماسكاً الحبل بيديه المرتعشتين ليضعه حول قرني بقرة اليتامى…
كانت البقرة في طريقها إلى السوق الأسبوعي تبكي بلا دموع وكأنها عرفت مصيرها، بل أنها كانت تبدو حزينة لفراق الطفلين الأبدي.
عندما ابتسم الصبح حزيناً ذهبا إلى مكانها كالعادة لشرب حليب الصباح فوجدا المكان خالياً..
لم يجدا الكنز الذي تركته لهما أمهما فشعرا بموت أمهما مرة ثانية، وكأنها توفيت مرتين. فبكيا كثيراً…
كان الشيخ في طريقه يردد في نفسه كلمات يقصد بها زوجته:
-هي تقول وأنا أقول… هي تقول وأنا أقول حتى غلبتني بالقول،،، لقد صدق من قال لكل داء دواء يستطب به إلاّ الحماقة أعيت من يداويها يا ليتني تزوجت بالضاوية بنت المدّاح المرأة الكريمة العطوفة.
وفي باب السوق وجد الشيخ جزاراً يسوم الناس أبقارهم، فباعه البقرة بأدنى ثمن وعاد إلى بيته حزيناً يدعو الله اللطف والرحمة بصغيريه اللذين وجدهما مكان البقرة في حداد ينظران نحوه نظرات غريبة ممزوجة بالعتاب والاستفهام…
استلقى الشيخ على فراشه ليلاً وبعد أرق وسهاد حرما على جفونه النعاس استسلم للنوم فرأى في الحلم زوجته الأولى أم الطفلين تزوره دامعة العينين وهي تقول له: سامحك الله…. لقد ضيعت الأمانة.
ثم تطلب منه الذهاب إلى الجزار لاسترجاع ضرع البقرة وقرنيها ووضعهم على قبرها في أقرب وقت لاحق.
قام الشيخ من نومه مفزوعاً ولبس عباءته في منتصف الليل، ثم غادر بيته صامتاً وفي سرعة عجيبة هرول نحو دار الجزار، وأكمل الهزيع الأخير أمام باب الجزار ينتظر خروجه.
استيقظ الجزار على نباح الكلب فوجد الشيخ على عتبة البيت يرتعد من البرد، استغرب لحاله واستفسره عن رغبته، تعلق الشيخ بملابس الجزار يقبل يديه ملتمساً منه إعطاءه ضرع البقرة وقرنيها.
كان الطلب غريباً كلن قلب الجزار رغم قسوته رقَّ لحال الشيخ واستجاب لرغبته وقدّم له ما أراد في تلك الصبيحة….
بيديه حمل الشيخ ضرع البقرة والحليب يسيل منه ممزوجاً بالدم، ووضع قرنيها داخل قلمونة برنوسه، وسار في اتجاه المقبرة التي تنام فيها زوجته الأولى، عندما وصل إلى قبرها حياها في حسرة وأسف، ثم وضع الضرع على قبرها قرب حجر الشاهد، وغرس قرني البقرة بالقرب من القبر ثم انصرف إلى بيته مسروراً بإرضاء زوجتيه معاً.
** *
يشتد الزمن على الطفلين بمرارته المتوالية مع الأيام، لقد حزنا حزناً عميقاً لغياب بقرتهما، وها هو الجوع يضنيهما وزوجة أبيهما ترفض الاستجابة لتوسلاتهما المنبعثة من معدتيهما الخاويتين،، شحب لون وجهيهما وهزل جسماهما حتى صارا لا يُعرفان عند الناس…
في يوم من الأيام اشتد شوقهما لرؤية أمهما، فذهبا خفية إلى مقبرة القرية يزوران قبر حبيبتهما ويشكوان لها حالهما،، وصلا إلى القبر جائعين يلهثان من العطش فوجدا عليه ضرع البقرة يفيض حليباً دافئاً، كان ينتظرهما كالعادة وبالقرب منه نخلتين باسقتين كثيرتا العراجين التمرية، تأتي أكلها كلَّ حين.
احتضنا قبر أمهما فرحين مسرورين بلقائها وكأنهما يسمعان صوتها ينبعث من تحت التراب ثم بكيا حتى تبلل تراب قبرها حينما تذكرا حضنها الدافئ الحنون.
شربا الحليب وأكلا التمر حتى شبعا وارتويا ثم تحولا بنظراتهما يتطلعان إلى السماء وإلى النخلتين في صورتهما الشبيهتين بقرني البقرة، وبقي الطفلان اليتيمان طوال النهار يناجيان أمهما في مظهر إنساني لا مثيل له.
قدم الطفلان إلى المكان مرة ثانية وثالثة، يرتادانه وقت الحاجة حتى عادت النضرة إلى وجهيهما والسحر إلى محييهما والعافية لجسميهما فعاود زوجة أبيهما الحسد والضغينة، وطلبت من ابنتها (عسلوجة) إعادة الكرة مرّة ثانية، قبلت (عسلوجة) المهمة بغبطة وكأنها خلقت لفعل التجسس.
رافقت عسلوجة شقيقيها المغضوب عليهما إلى حيث يسيران، كانا يتعمدان التمويه في سيرهما بين المزارع والحقول يريدان التخلص من أسئلتها التحقيقية لكنها كانت مصممة على بغيتها. ويمر النهار عسيراً على الطفلين رغم اللعب والمرح بعض الأحيان، ينتظران عودة (عسلوجة) إلى البيت وقد أخذ منهما العياء والجوع،،، طلباً منها الرجوع فلم تقتنع حذراها من مهالك الطريق الذي يسلكانه فلم تأبه لكلامهما… حاولا العودة إلى البيت لكن الشوق والجوع والظمأ أرغموهما على الاتجاه نحو المقبرة…
كان الوقت أصيلاً وخلاله قهرهما الجوع فلم يستطيعا صبراً وتوجها نحو الضرع والنخلتين يهزان جذعيهما فيتساقط الحب رطباً شهياً. وانكشف السر…. تقدمت (عسلوجة) من الضرع المدرار وتجرعت خلسة قليلاً من الحليب وأبقت جرعة في فمها، كما وضعت تحت شفتها السفلى شق تمرة ثم عادت نحو البيت مسرعة لتجد أمها في انتظار التقرير الكامل المفصل عن المهمة الموكلة لها.