اسمي رغد ، و أنا يتيمة الأبوين أعيش في بيت عمّي الوحيد شاكر منذ الطفولة .
أنهيت دراستي الثانوية مؤخرا و أفكر في الالتحاق بكلية للفنون و الرسم . أعشق الرسم كثيرا و أنا ماهرة فيه .
الجميع يعرفني برغد المدللة ، حيث أنني تعودت منذ الصغر الحصول على كل ما أريد ، و بأي طريقة !
اليوم نقيم في منزلنا الصغير حفلة متواضعة بمناسبة تخرجي من المدرسة الثانوية . لم يتسن لنا إقامتها قبل الآن لأن والدتي ـ أي زوجة عمي ـ كانت متوعكة الصحة .
في الواقع ، صحة والدتي ليست على ما يرام منذ سنين ...
دانه تبالغ في وضع المساحيق لتبدو ملفتة للنظر !
رغم أنها لم تكن ترحب بفكرة الحفلة ، إذ أننا لم نقم حفلة عند تخرجها ، ألا أنها مصرة على سرقة الأضواء مني هذه الليلة !
" إنها حفلة بسيطة و لا تقتض منك كل هذا ! تبدين كعروس بكامل زينتها ! "
قلت لها و أنا واقفة أراقبها و هي ( مزروعة ) أمام المرآة منذ ساعات !
لم تلتفت إلي ، و قالت :
" ما دمنا قد دعوناهن، فلنبهرهن ! قد تعجب بي إحداهن فتخطبي لأخيها مثلا ! "
و ابتسمت بدهاء !
أنا أعرف من تقصد تحديدا ... لديها صديقة من عائلة ثرية جدا و شقيقها رجل تحلم نصف فتيات العالم بالزواج منه ، أما النصف الآخر فيبغضه بشدة !
إنه لاعب كرة قدم مشهور و صوره تملأ الصحف و المجلات و برامج التلفاز أيضا!
قلت :
" لا أعرف ما الذي يعجبكن في شخصية كهذه ! إنه حتى لا يتوقف عن توزيع الضحك و الابتسامات و كأنه مهرج ! "
نظرت إلي بحدة من خلال المرآة ، ثم قالت :
" على كل ٍ ، الأمر لا يعنيك فأنت أخذت نصيبك و انتهى دورك ! "
ثم انشغلت بتزيين خصلة من شعرها بسائل ملمّع ...
صرفت نظري عنها ، إلى يدي اليمنى ، بالتحديد إلى إصبعي البنصر ، و بمعنى أدق ، إلى خاتم الخطوبة الذي أضعه منذ سنين ...
بمجرد أن بلغت الرابعة عشر من عمري أي قبل ثلاث سنوات و أكثر ، تم عقد قراني على ابن عمي سامر ...
و بقينا مخطوبين حتى إشعار آخر .
سامر ... يكبرني بخمس سنوات تقريبا ، و ما أن تخرج من الثانوية حتى بادر بطلب الزواج مني
والدي ، بل و والدتي و دانة أيضا ... الجميع كان يريد ذلك ، فأنا أصبحت فتاة بالغة و لم يكن من الممكن بقائي و ابن عمي في بيت واحد دون حرج على كلينا
عدا عن ذلك ، فإن سامر يحبني بجنون !
كما و أنني كنت السبب في الحادث الذي شوه وجهه ، و قلل فرصه لنيل إعجاب الفتيات قطعا
أما أنا ، و بالرغم من كوني جميلة أيضا ، ألا أن هذا الخاتم يصرف الجميع عن الالتفات إلي ...
على أية حال نحن لا نفكر في الزواج الآن فسامر لا يزال يبحث عن وظيفة
و أنا أطمح إلى الحصول على شهادة جامعية ...
نبهتني دانة من شرودي الذي لاحظته من خلال انقطاعي عن التعليق المستمر على مظهرها
قالت :
" أين سرحت ؟ ألن تبدلي ملابسك ؟ إنهن على وشك الوصول ! "
غادرت غرفتها و اتجهت إلى غرفتي ، حيث ارتديت فستاني الجديد الرائع ... و الذي أضطر والدي لشرائه لي رغم ارتفاع ثمنه ، فقط لأنني قلت : أريده لي !
كان فستانا خمري اللون مطرزا بخيوط ذهبية ، طويل الذيل ، و بدون كمّين ، مما يسمح للندبة القديمة في ذراعي اليسرى بالظهور ...
أكملت زينتي و تحليت بطقم العقد الذهبي الذي أهدتني إياه والدتي قبل أيام ...
حينما لففت السوار حول معصمي الأيسر ، لم يبدُ منظره متناسقا مع الساعة ...
إذ أن السوار ذهبي بينما الساعة فضية اللون ...
هممت بخلعها ، لكنني لم أستطع ... لا أريد أن أبقيها بعيدة عني في هذه الليلة ...
لطالما كانت قريبة مني و ملتصقة بي ...
لم أكن آبه لتعليقات زميلاتي المزعجة حول ارتدائي لساعة رجالية !
إنها شيء لا أستطيع التخلص منه ... تماما كهذه الندبة !
نزعت السوار الذهبي ، و حاولت لفه حول معصمي الأيمن ففشلت !
" سحقا ! "
صحت بغضب ، في ذات اللحظة الذي طرق فيها الباب ...
لابد أنها دانه جاءت تقارن بين مظهرينا كالعادة !
" ادخل "
قلت ذلك و أنا مازلت أحاول إغلاق السوار بيدي اليسرى حول معصمي الأيمن دون جدوى
" مساء الخير ! "
لم يكن هذا صوت دانه ، بل سامر
رفعت بصري إليه و باندفاع قلت :
" سامر ، هل لا أغلقت هذه قبل أن أحطمها ؟ "
و أقبلت نحوه أمد إليه بمعصمي الأيمن و بالسوار ...
" رويدك ! هاتي .. "
و أغلق السوار حول يدي اليمنى ، فسحبتها ألا أنه أمسك بها و قال :
" تبدين رائعة ! جدا "
تورد خداي خجلا .. ثم قلت :
" مساء النور ... ! هل قلت ُ ذلك ؟ "
ابتسم ، و قال :
" لا أظن ! "
" إذن مساء النور ! "
ثم سحبت يدي فأطلقها
توجهت إلى سريري ألملم الأشياء التي بعثرتها أثناء تزيين نفسي ، و دخل سامر و أغلق الباب ...
" رغد "
ناداني بصوت مرح و بابتسامة مشرقة ، و سعادة تملأ عينيه
" نعم ؟ "
أقبل نحوي ، و عاد يمسك بيدي و قال :
" لدي خبر سار جدا "
ابتسمت و قلت :
" هات ؟ "
" لقد عثرت على فرصة ذهبية للعمل في وظيفة مرموقة "
فرحت كثيرا ! قلت بسرور :
" حقا ! أوه أخيرا ... ممتاز ! "
شد سامر قبضته على يدي و قال منفعلا :
" أخيرا ! كم أنا سعيد و لا يتسع صدري لفرحتي هذه ! سأحصل على راتب عظيم ! "
بالنسبة لنا فهذا شيء مهم جدا ، لأن أحوالنا المادية كانت في انحطاط بسبب ظروف الحرب ، و كنا بحاجة لدعم مادي جيد .
قلت :
" متى تباشر العمل ؟ "
" حالما أنهي الإجراءات اللازمة . سأحاول إتمامها خلال يومين أو ثلاثة "
" وفقك الله "
قرب سامر يدي من صدره ، و قال :
" يجب أن نحدد موعد الزواج "
تفاجأت ، فنحن لم نتحدث عن الزواج بجدية بعد ...
حالما رأى سامر علامات التعجب ظاهرة على وجهي قال :
" عملي سيكون في مدينة أخرى ، و أريد أخذك معي "
سحبت يدي مجددا ، في توتر ..
فالخبر قد فاجأني ، و لم يعجبني ... قلت :
" في مدينة أخرى ؟ ... لم عليك الذهاب لمدينة أخرى ؟ "
قال :
" تعرفين كم هو صعب العثور على وظيفة جيدة بسبب ظروف البلد ... إنها فرصة لا يمكنني رفضها مطلقا . أخبرت والدي ّ فشجعا ذهابي "
صرفت نظري عنه إلى الأرض بضع ثوان ، ثم عدت أنظر إليه و قلت :
" و شجعا زواجنا ؟ "
ابتسم ، و قال :
" لم أذكر ذلك لهما بعد . أود أن نناقش الأمر نحن أولا "
من البرود الذي اعترى تعابيري أدرك سامر عدم موافقتي ، فقال :
" لم لا ؟ "
قلت :
" و الكلية ؟؟ "
قال :
" الكلية ... هل هناك ضرورة لها ؟ "
" بالطبع ... أريد أن أدرس ، إنها فرصتي "
صمت سامر قليلا ، ثم قال :
" اصرفي نظر عنها يا رغد أرجوك ... أنا لا أريد تضييع الفرصة ، كما لا أريد العيش وحيدا هناك ... تعلمين أنني لا أستطيع الابتعاد عنك ... "
و أخذ ينظر إلى نظرات رجاء و أمل ...
كنت على وشك قول : لنؤجل النقاش في الأمر لوقت أنسب لأن ضيفاتي على وشك الوصول
ألا أن طرق الباب سبقني ، و دخلت دانة مباشرة و هي تقول :
" رغد ! ألم تنتهي ؟ وصلت نهلة ! "
التفتنا أنا و سامر نحو دانة ، و التي أخذت تحدق بي قليلا ثم التفتت إلى سامر و قالت :
" أنت هنا سامر ؟ قل لي كيف أبدو ؟ أليس فستاني أكثر جمالا من فستان رغد ؟ "
سامر أخذ يدور ببصره بيننا ثم قال مداعبا :
" أنا لا أصلح للحكم بين خطيبتي و أختي ! فخطيبتي ستبدو أجمل في كل مرة ! "
ثم انصرف مسرعا و هو يضحك .
بقينا نحن الاثنتان كل منا تتأمل الأخرى ، حتى وقعت عينا دانه على ساعة يدي ، فقالت بحدة :
" رغد ! ستبدين في منتهى السخافة هكذا ! اخلعيها و لا تحرجينا أمامهن ! "
نظرت إليها بغضب و قلت بعناد :
" لن أخلعها ، و سأظل الأجمل أيضا ! "
في غرفة الضيوف حيث نقيم الحفلة ، وجدت نهلة و سارة ، ابنتا خالتي قد وصلتا و كانتا أول من حضر .
" واو ! فستان رائع ! ما أجمله يا رغد ! "
قالت نهلة و هي تبعد يدها بعد مصافحتي ...
نهلة كانت صديقة طفولتي الأولى ، و انتقلت مع عائلتها للعيش في هذه المدينة مثلنا أيضا منذ سنين ، و لا تزال أفضل صديقة لدي .
أما سارة فهي الشقيقة الوحيدة لنهلة ، و تصغرني بست سنوات ، و تلازم نهلة كالظل !
" هل أعجبك حقا ؟ اشتراه والدي بسعر مرتفع ! إنني أعامله كأي قطعة من حليي هذه ! "
ابتسمت نهلة و قالت :
" كم أحسدك ! لديك أب يدللك كما لا يدلل والد ابنته ! رغم أنك لست ابنته الحقيقية ! "
هذه الكلمة تزعجني كثيرا ، فأنا لا أحب أن يشير أحد إلى والدي ّ بأنهما ليسا والدي ّ الحقيقيين . إنني اعتبرتهما كذلك منذ الصغر و لا أعرف والدين غيرهما مطلقا .
قلت بنبرة مازحة :
" لأنني البنت الصغرى ، و آخر العنقود ... يجب أن أتدلل ! "
ثم نظرت إلى سارة و قلت :
" أليس كذلك سارة ؟ "
أجابت ببرود :
" كما تقول أختي "
رفعت نظري عن هذه الفتاة البليدة ، و عدت أخاطب نهلة :
" و كيف حال خالتي و زوج خالتي ؟ و حسام ؟ "
أجابت :
" بخير جميعا ! حسام أوصلنا إلى هنا و أظنه يلقي التحية على والدك الآن "
ثم أضافت ، و هي تنظر إلي من زاوية عينها بخبث :
" و على فكرة ، هو يبعث إليك أيضا بتحية حارة مشتعلة !! "
رفعت إصبعي السبابة الأيمن و ضربت جبينها ضربة خفيفة و أنا أقول :
" لا تتوبين ! "
و انبعث ضحكاتنا تملأ الأجواء .
ما إن حضرت صديقتنا الثرية حتى استقبلتها دانه استقبالا حميما ، و أولتها اهتماما مركزا طوال الحفلة !
أتساءل ... هل هذا ما يحدث مع جميع الفتيات !
هل يجذبن العرسان إليهن بهذه الطريقة ؟؟
حقيقة لا أعرف !
بينما كنا في أحاديثنا المتواصلة في الحفلة ، سألتني هذه الصديقة :
" هل أنت مخطوبة ! "
و كانت تنظر إلى خاتم الخطوبة المطوق لإصبعي ، و في دهشة واضحة !
تولت دانة الإجابة بسرعة :
" ألم أخبرك مسبقا ؟ إنها و شقيقي مرتبطان منذ زمن ! "
قالت الصديقة :
" و لكن ... تبدين صغيرة ! "
و مرة أخرى تدخلت دانة قائلة :
" تصغرني بعامين و بضعة أشهر ، لكن حجمها صغير ! "
صحيح أن طولي لا يقارن بطول دانه أو سامر ، لكنني لست قصيرة ! بل هما الطويلان كما هما أبي و أمي !
إنني أبدو بالفعل لست من هذه العائلة !
قلت مداعبة :
" هذا يجعلني قادرة على ارتداء الأحذية الأنيقة ذات الكعب العالي المتماشية مع الموضة ! على العكس من دانة ! "
و ضحكنا جميعا بمرح ...
قضينا سهرة ممتعة أنستني تماما موضوع سامر الأخير .
و بعد الحفلة ، أويت إلى فراشي مباشرة و نمت بسرعة ، دون أن يخطر الموضوع ببالي .
في اليوم التالي ، و فيما أنا منشغلة برسم لوحة جديدة في غرفتي ، جاءني سامر ...
" ألم تتعبي ؟ قضيت فترة طويلة في الرسم ! "
" الرسم لا يتعبني مطلقا يا سامر ، بل أهواه و أجد راحة كبرى أثنائه و سعادة غامرة لا أجدها مع أي شيء آخر "
قال :
" و لا حتى معي أنا ؟؟ "
كان سامر يقف إلى جانبي يتأمل رسمي الجديد ... و كنت أنا أدقق النظر في اللوحة و ألقي عليه نظرة بين الفينة و الأخرى
و حين نطق بجملته الأخيرة هذه ، أطلت النظر إليه ، فشعرت بالخجل و طأطأت رأسي
" رغد ... "
لم أجب ...
مد سامر يده فامسك بوجهي و رفعه للأعلى ...
قال :
" رغد ... هل فكرت بموضوعنا ؟ "
في تلك اللحظة فقط تذكرت الموضوع !
آه يا إلهي كم هي ضعيفة ذاكرتي !
سامر كان يتحدث باهتمام ... فالأمر يعني له الكثير ، و قد قضى وقتا طويلا في البحث عن عمل ...
لم أشأ أن أصيبه بخيبة بقولي : كلا
فقلت :
" لازلت أفكر ... "
سامر قال بنبرة مليئة بالرجاء :
" أرجوك يا رغد ... يجب أن أبدأ الإجراءات المطلوبة قبل أن تضيع الوظيفة "
نظرت إليه و قلت :
" ماذا لو ... عملت أنت هناك ، و أكملت دراستي أنا هنا ... ثم ... "
لم أتم جملتي ، إذ أن سامر هز رأسه اعتراضا و قال :
" لا ... إما أن نذهب سويا ... أو نبقى سويا ... "
كنت أدرك أن سامر لا يستطيع الابتعاد عنا ، كما أن علاقاته بالآخرين محدودة و كثيرا ما كان يتجنب الاجتماعات المختلفة ، ليتلافى الحرج من وجهه المشوه .
حتى أنه حين أراد إكمال دراسته ، اختار مجالا لا يدع له الفرصة للاحتكاك بالآخرين
إلا نادرا
سامر ... هو شخص هادئ و مسالم ... و طيب القلب ...
قلت :
" دعنا نأخذ برأي أبي و أمي كذلك ... يجب أن تتم أنت الإجراءات الآن ، فيما نفكر بروية "
ابتسم سامر و قال :
" سأذهب الآن لإنجاز ذلك ، و أعرض الأمر على والدي ّ الليلة ! سنفاجئهما ! "
ابتسمت ابتسامة قلقة حائرة ، و تركته يذهب و واصلت رسم لوحتي ...
كنت مصرة على إنجاز تلك اللوحة بأسرع وقت ...
و في الليل ، تركت سامر يذهب إلى غرفة والدي لعرض الفكرة ، فيما بقيت في غرفتي في قلق و حيرة ... و أخذت أفكر ...
و يبدو أن كثرة التحديق في اللوحة أصابت عيني بل و جسدي بالإعياء ، فأغمضتهما و لدهشتي استسلمت للنوم !
أفقت بعد ذلك فزعة على صوت طرق متواصل على الباب ...
نهضت عن سريري بفزع ... و أصغيت إلى الهتاف ...
" رغد ... رغد افتحي ... افتحي بسرعة ! "
كانت دانة !
سرت إلى الباب بسرعة و ارتعاش و أنا في قمة القلق ...
و قبل أن أصل إليه رأيته ينفتح و تدخل دانة في انفعال ...
كانت في حالة يصعب علي وصفها ...
كان جسدها يرتعش ، و أنفاسها تتضارب و تتلاحق بسرعة عبر فيها المفغور ... ذراعاها مفتوحتين ... و يداها مرفوعتين
و أصابعها منفرجة ، و تهتز بشدة ...
و الدموع تنهمر بغزارة على خديها
قلت في هلع و أنا أرفع يدي إلى قلبي من الذعر :
" دانه ... ماذا حدث ؟؟ "
" رغد ... رغد ... "
و عادت تلهث ...
" رغد ... رغد ... أخي ... أخي ... "
تجمّدت و انحبس نفسي الأخير في صدري ...
حاولت قول : ماذا ...
ألا أنني عجزت من الذعر ...
هززت رأسي و أنا أشد الضغط بيدي على صدري فوق قلبي ، كمن يحاول حماية قلبه من تلقي صدمة ما ...
كانت دانة تحاول النطق و عجزت إلا عن إصدار أصوات مبهمة ، و أشارت إلي أن اقترب ...
خطوت خطوة نحوها و نطقت أخيرا :
" سامر ... "
هزّت دانة رأسها و قالت بصوت لا أعرف من أين خرج ...
" و ...
و ...
وليد ...
وليد عـــــــــــــــــــــــــــــاد "
للحظة ... ظللت أحدق في دانة ... في تشتت
لم أكن أعرف ... هل هذا واقع أم أحد أحلامي ... ؟
تلفت من حولي علّي أرى شيئا واضحا أكيدا بالنسبة لي ...
كل شيء كان مبهما ...
دانة عادت تقول :
" وليد قد عاد ... عاد يا رغد ... عاد "
لم تكن كلمات واضحة بالنسبة لي ... و بقيت واقفة على نفس الوضع ...
فأقبلت دانة نحوي و أمسكت بكتفي و ضغطت عليهما ...
لمجرد إحساسي بيديها على كتفي أدركت أنه ليس حلما
لم أشعر بأي شيء يتحرك في جسدي لكنني رأيت الجدران تتحرك بسرعة و الأرض تجري من تحت قدمي ّ و الطريق يقودني إلى خارج الغرفة ...
و أطير ...
أطير ...
نحو مصدر أصوات البكاء التي أسمعها منبعثة من مكان ما في المنزل ...
بالتحديد ... مدخل المنزل ...
و عند أعلى الدرجات المؤدية إلى المدخل ...
توقف الكون فجأة عن الحركة من حولي ...
و ترنحت ذراعاي إلى جانبي ّ ...
و تشبثت أنظاري بالصورة التي ظهرت أمامي ...
و تمركزت فوق العينين السوداوين اللتين تعلوان الرأس العريض الثابت فوق ذلك الجسد الطويل ....
ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟
" حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز "
قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...
و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !
قلت :
" عدا عن كسر بسيط في الأنف ! "
و ضحكنا !
قلت :
" فعلها والدك ؟ "
ابتسم و قال مداعبا :
" والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "
" بعشر سنين من عمري أهديها لك !"
ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
الطريق ...
الشارع ...
الأشجار
كل شيء يتحرك ...
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...
8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال
بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ...
كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...
" وصلنا ! انهض عزيزي "
لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، ألا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...
" وصلنا ! إلى أين ؟ "
قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...
قال سيف :
" إنه منزلي يا وليد "
حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :
" خذني إلى منزلي رجاءا ! "
سيف علاه شيء من الحزن و قال :
" كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "
قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !
" أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "
قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، ألا أن سيف ضحك و قال :
" هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "
رفعت بصري إليه و قلت :
" لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "
هز سيف رأسه و قال :
" انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "
هل انتهى حقا ... ؟؟
رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...
رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
سمعت صوت نديم يناديني ...
" انهض يا وليد ، جاء دورك "
كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...
هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ...
لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...
" وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "
كان صديقي سيف يقف إلى جانبي ...
قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :
" أنت وليد ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "
سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :
" عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "
خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :
" سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "
الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ
بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
لم يفتحه أحد ...
جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد
لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ...
نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !
" وليد ! ما الذي تفعله !؟ "
أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :
" سأفتح الباب ، انتظرني "
و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف ...
" و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "
بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !
قلت :
" سترى ! "
و انطلقت نحو الحديقة ...
لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ...
انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ...
أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
وقعت أنظاري على أدوات الشي التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
توجهت إليها و أخذت احفر الرمال ...
" ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "
و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !
تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :
" عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "
و ضحكنا ...
كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ...
و أخيرا دخلت المنزل
للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ...
تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ...
عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ...
صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...
" تبا ! "
توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ...
كانت هي الأخرى مقفلة
أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ...
أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ...
عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار ...
جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ...
" أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... "
أغمضت عيني و تخيلت ...
تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ...
على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ...
و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !
" أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... "
كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ...
و أتوهم سماع أصواتهم ...
لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و وليد وحيدا تائها ...
هل تخلوا عني ؟؟
هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ...
ثم يرحلون ...
أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ...
أبي ...
أمي ...
سامر ...
دانه ...
رغد ...
لقد عدت !
أين أنتم ؟؟
أجيبوا أرجوكم ...
سيف ظل واقفا يراقب عن بعد ...
كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ...
من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية
و حين فتحتها وجدت التالي :
( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )
لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !
" وليد !! ماذا دهاك ؟؟ "
نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :
" إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ "
و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !
سيف قال :
" عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! "
و ضحكنا من جديد .
و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ...
لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ...
كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
إنني لمجرد روية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ...
لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ...
و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ...
رغد ...
رغد ...
أنا قادم إليك أخيرا ...
قادم أخيرا ...
وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال
لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ...
" ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! "
تنهد سيف و قال :
" يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ "
" أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! "
ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :
" صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! "
لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ...
لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ...
عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :
" تفضل حصتك ! "
هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ...
أسندت رأسي على المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ...
" أ أنت بخير ؟؟ "
سألني سيف ، فأجبت :
" صداع شديد "
" خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! "
و هززت رأسي مجددا ...
ثم التفت إليه و قلت :
" هل لي ببعض المال ؟؟ "
أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ...
ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ...
" وليد ! "
تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :
" أ أنت بخير ؟؟ "
" دوار ... "
أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :
" اشرب قليلا "
رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ...
بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :
" هل لي بعلبة سجائر ؟ "
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبي وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ...
سأل سيف الرجل :
" أ أنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبي وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟"
" نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! "
لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
تبادلنا أنا و سيف النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ...
" هيا يا وليد ... "
بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض
" وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! "
قلت بسرعة :
" لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... "
و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ...
" ما بك ؟ قلق ؟؟
" ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا "
" هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك "
كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟
في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة رغد !
ربما هم نيام الآن !
لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ....
كم أنا مشتاق إليكم جميعا ...
إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم !
يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ...
أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ...
ثم ثبت أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون ...
رغد ...
يا حلوتي الصغيرة ...
ها أنا قد عدت ...
" دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! "
قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل ...
قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ...
و لكن الباب انفتح أخيرا ...
و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بلا لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سامر ....
" سامر ... يا أخي ! "
دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ...
تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟
لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدماء ...
والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة
و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا
و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى
و لم يعد هناك مجال للكلمات ...
لا أستطيع وصف المزيد
أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو دانة
كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة !
فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ...
و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ...
لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ...
" رغد ؟؟ "
هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ...
كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه ... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ...
لا ...
بل لسبقتها ...
الآن ستظهر رغد !
هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ...
هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ...
هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ...
ستأتي رغد ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ...
و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات ....
كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... فما فيهم قلبي المزلزل ...
توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ...
و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها
هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ...
وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد ... و لم تكن رغد ...
كنت انتظر أن تظهر رغد ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول :
وليـــد ... احملني !
لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ...
أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ...
أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :
" و ... لـ ... يــ ... ــد ؟؟؟ "
ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف
" وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد "
الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ...
لقد كنت أنا المحور
و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ...
بسرعة ...
بسرعة ...
كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
أما رغد ...
صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
بل اخترقته ...
لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ...
لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ...
لذلك اليوم المشؤوم ...
لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ...
فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد ...
لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ...
ألا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار
أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها رغد ...
رغم أنها كبرت ألا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...
" رغد ! صغيرتي ! "
لقد عشت لأراك ثانية ...
و نجوت لأعود إليك ...
" آه "
أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ...
أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ...
لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت
" لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "
ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :
" أنا متعب جدا "
و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف ...
لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟
قلت :
" أين سيف ؟ "
أجاب سامر :
" غادر ... قال أنه سيأتي غدا "
و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...
عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...
أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش
و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ...
وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...
لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها
" رغد ؟ "
التفتت رغد نحوي بفزع ، إذا أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...
" أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "
أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...
قلت :
" أريد بعض الماء ... رجاءا "
رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...
" لقد ... كبرت ! "
لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...
قلت :
" لكنك لم تتغيري كثيرا ... "
رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...
قلت :
" و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "
ترددت قليلا ثم قالت :
" هل بدّلت أنفك ؟ "
ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :
" بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "
رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :
" على العكس ! "
ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...
استدرت و ناديت :
" رغد انتظري ... "
ألا أنها اختفت بسرعة !
و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !
عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ...
إنه ليس مجرد حلم ...
لقد عدت إلى أهلي أخيرا
عدت إلى رغد ...
و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ...
و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها
و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ...
ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟
" حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز "
قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...
و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !
قلت :
" عدا عن كسر بسيط في الأنف ! "
و ضحكنا !
قلت :
" فعلها والدك ؟ "
ابتسم و قال مداعبا :
" والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "
" بعشر سنين من عمري أهديها لك !"
ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
الطريق ...
الشارع ...
الأشجار
كل شيء يتحرك ...
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...
8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال
بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ...
كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...
" وصلنا ! انهض عزيزي "
لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، ألا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...
" وصلنا ! إلى أين ؟ "
قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...
قال سيف :
" إنه منزلي يا وليد "
حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :
" خذني إلى منزلي رجاءا ! "
سيف علاه شيء من الحزن و قال :
" كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "
قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !
" أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "
قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، ألا أن سيف ضحك و قال :
" هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "
رفعت بصري إليه و قلت :
" لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "
هز سيف رأسه و قال :
" انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "
هل انتهى حقا ... ؟؟
رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...
رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
سمعت صوت نديم يناديني ...
" انهض يا وليد ، جاء دورك "
كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...
هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ...
لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...
" وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "
كان صديقي سيف يقف إلى جانبي ...
قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :
" أنت وليد ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "
سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :
" عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "
خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :
" سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "
الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ
بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
لم يفتحه أحد ...
جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد
لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ...
نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !
" وليد ! ما الذي تفعله !؟ "
أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :
" سأفتح الباب ، انتظرني "
و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف ...
" و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "
بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !
قلت :
" سترى ! "
و انطلقت نحو الحديقة ...
لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ...
انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ...
أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
وقعت أنظاري على أدوات الشي التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
توجهت إليها و أخذت احفر الرمال ...
" ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "
و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !
تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :
" عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "
و ضحكنا ...
كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ...
و أخيرا دخلت المنزل
للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ...
تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ...
عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ...
صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...
" تبا ! "
توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ...
كانت هي الأخرى مقفلة
أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ...
أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ...
عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار ...
جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ...
" أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... "
أغمضت عيني و تخيلت ...
تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ...
على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ...
و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !
" أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... "
كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ...
و أتوهم سماع أصواتهم ...
لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و وليد وحيدا تائها ...
هل تخلوا عني ؟؟
هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ...
ثم يرحلون ...
أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ...
أبي ...
أمي ...
سامر ...
دانه ...
رغد ...
لقد عدت !
أين أنتم ؟؟
أجيبوا أرجوكم ...
سيف ظل واقفا يراقب عن بعد ...
كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ...
من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية
و حين فتحتها وجدت التالي :
( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )
لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !
" وليد !! ماذا دهاك ؟؟ "
نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :
" إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ "
و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !
سيف قال :
" عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! "
و ضحكنا من جديد .
و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ...
لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ...
كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
إنني لمجرد روية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ...
لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ...
و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ...
رغد ...
رغد ...
أنا قادم إليك أخيرا ...
قادم أخيرا ...
وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال
لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ...
" ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! "
" يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ "
" أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! "
ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :
" صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! "
لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ...
لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ...
عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :
" تفضل حصتك ! "
هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ...
أسندت رأسي على المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ...
" أ أنت بخير ؟؟ "
سألني سيف ، فأجبت :
" صداع شديد "
" خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! "
و هززت رأسي مجددا ...
ثم التفت إليه و قلت :
" هل لي ببعض المال ؟؟ "
أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ...
ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ...
" وليد ! "
تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :
" أ أنت بخير ؟؟ "
" دوار ... "
أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :
" اشرب قليلا "
رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ...
بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :
" هل لي بعلبة سجائر ؟ "
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبي وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ...
سأل سيف الرجل :
" أ أنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبي وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟"
" نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! "
لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
تبادلنا أنا و سيف النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ...
" هيا يا وليد ... "
بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض
" وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! "
قلت بسرعة :
" لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... "
و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ...
" ما بك ؟ قلق ؟؟
" ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا "
" هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك "
كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟
في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة رغد !
ربما هم نيام الآن !
لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ....
كم أنا مشتاق إليكم جميعا ...
إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم !
يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ...
أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ...
ثم ثبت أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون ...
رغد ...
يا حلوتي الصغيرة ...
ها أنا قد عدت ...
" دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! "
قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل ...
قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ...
و لكن الباب انفتح أخيرا ...
و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بلا لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سامر ....
" سامر ... يا أخي ! "
دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ...
تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟
لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدماء ...
والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة
و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا
و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى
و لم يعد هناك مجال للكلمات ...
لا أستطيع وصف المزيد
أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو دانة
كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة !
فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ...
و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ...
لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ...
" رغد ؟؟ "
هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ...
كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه ... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ...
لا ...
بل لسبقتها ...
الآن ستظهر رغد !
هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ...
هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ...
هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ...
ستأتي رغد ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ...
هيا يا رغد ... اظهري ... تعالي ... أسرعي إلي ...
و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات ....
كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... فما فيهم قلبي المزلزل ...
توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ...
و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها
هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ...
وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد ... و لم تكن رغد ...
كنت انتظر أن تظهر رغد ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول :
وليـــد ... احملني !
لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ...
أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ...
أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :
" و ... لـ ... يــ ... ــد ؟؟؟ "
ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف
" وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد "
الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ...
لقد كنت أنا المحور
و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ...
بسرعة ...
بسرعة ...
كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
أما رغد ...
صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
بل اخترقته ...
لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ...
لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ...
لذلك اليوم المشؤوم ...
لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ...
فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد ...
لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ...
ألا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار
أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها رغد ...
رغم أنها كبرت ألا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...
" رغد ! صغيرتي ! "
لقد عشت لأراك ثانية ...
و نجوت لأعود إليك ...
" آه "
أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ...
أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ...
لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت
" لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "
ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :
" أنا متعب جدا "
و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف ...
لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟
قلت :
" أين سيف ؟ "
أجاب سامر :
" غادر ... قال أنه سيأتي غدا "
و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...
عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...
أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش
و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ...
وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...
لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها
" رغد ؟ "
التفتت رغد نحوي بفزع ، إذا أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...
" أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "
أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...
قلت :
" أريد بعض الماء ... رجاءا "
رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...
" لقد ... كبرت ! "
لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...
قلت :
" لكنك لم تتغيري كثيرا ... "
رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...
قلت :
" و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "
ترددت قليلا ثم قالت :
" هل بدّلت أنفك ؟ "
ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :
" بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "
رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :
" على العكس ! "
ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...
استدرت و ناديت :
" رغد انتظري ... "
ألا أنها اختفت بسرعة !
و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !
عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ...
إنه ليس مجرد حلم ...
لقد عدت إلى أهلي أخيرا
عدت إلى رغد ...
و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ...
و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها
و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ...
و أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني ...
بقيت مغمض العينين ...
حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة ...
ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس !
أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا ...
كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بالكسل ! و الجوع أيضا !
آه ... ما أجمل العودة إلى البيت ... و الأهل ...
فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه
و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟
على وجه أمي !
كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم !
جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب :
" أماه ! ماذا حدث ؟؟ "
والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت :
" لا لا شيء ، لا تقلق بني "
لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى :
" ماذا حدث ؟؟ "
هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت :
" لا شيء وليد ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك "
ثم انخرطت في البكاء ...
نهضت عن سريري و أقبلت ناحتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة ...
" لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن "
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير وليد !
نام وليد في غرفة سامر ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة .
أنا لا أستطيع أن أصدق أن وليد قد عاد !
لقد آمنت بأنه اختفى للأبد
كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار ...
لكنه عاد ... و بدا كالحلم !
لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل !
كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا !
البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني ...
كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا !
" رغد ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! "
انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت دانة ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها ...
ابتسمت و قلت :
" ها أنا أوشك على الانتهاء "
دانة حدقت بوجهي قليلا ثم قالت :
" لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! "
أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار !
انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة
مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان وليد يحبها
والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر !
ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح ...
و الآن هي بالتأكيد في غرفة سامر !
" دانه "
كانت دانة تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت :
" نعم ؟؟ "
قلت :
" هل كان وليد يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ "
رفعت دانة رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :
" لا أذكر ! حضّري أيا منهما "
قلت :
" أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا دانة أرجوك "
رمقتني بنظرة غضب و قالت :
" أوه رغد قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي "
وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سامر !
في طريقي إلى هناك صادفت والدي ...
" إلى أين ؟ "
استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض :
" أريد التحدث مع أمي "
ابتسم أبي و قال :
" إنها عند وليد ! "
تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سامر ، ألا أن أبي استوقفني مرة أخرى
" رغد "
التفت إليه
" نعم أبي ؟؟ "
لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه
و فهمت ماذا يقصد ...
انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سامر و طرقت الباب طرقا خفيفا ...
سمعت صوت أمي يقول :
" تفضل "
ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل ... فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني وليد !
رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني ...
أقبلت أمي ففتحت الباب
" رغد ! أهلا ... أهناك شيء ؟؟ "
قلت باضطراب :
" العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ "
أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت :
" عفوا ؟!! "
كان باستطاعتي أن أرى وليد واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر !
" هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ "
ابتسمت والدتي و قالت :
" كما تشائين ! "
قلت :
" ماذا يفضل ؟؟ "
و لم أجرؤ على النطق باسمه !
والدتي التفتت نحو وليد ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة ...
قالت أمي :
" ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ "
ابتسم وليد و قال :
" البرتقال قطعا ! "
ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت :
" هل بقي شيء بعد ؟ "
" لا ... تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير ... و السلطة "
" عظيم ، أنا قادمة معك "
ثم استأذنت وليد ، و خرجت و أغلقت الباب .
و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سامر هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات ...
بادلانا بالتحية ثم سأل :
" ألم ينهض وليد ؟ "
قالت أمي :
" بلى ! استيقظ قبل قليل "
" عظيم ! انا ذاهب إليه "
و ذهب سامر مسرعا ، فهبت دانة واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال :
" و أنا كذلك "
و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي :
" أتمي تحضير السلطة ! "
و في ثوان كانا قد اختفيا ...
ماذا عني أنا ؟؟
أنا أيضا أريد أن أذهب إليه .... !
نظرت إلى أمي فقالت :
" أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
قبل قليل ، جاءت رغد و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان ...
أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل !
يبدو أنها نسيت ذلك ... لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوضا أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية !
يا ترى ... ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟
طرق الباب ، ثم دخل أخي سامر و دانة ...
أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد ...
قال سامر :
" أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! "
ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا ... و شعري طويلا ... و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة !
قلت :
" هل أبدو مزريا ؟؟ "
ضحكت دانة و قالت :
" بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال !
ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :
" بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! "
و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور ... ( مجرم ) ... ألست كذلك ؟؟
لكن أحدا لم يحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول :
" بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! "
أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟
تعلمون كم يهمني معرفة ذلك !
لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت ... ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟
فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز !
نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن ... و بلاء السجن ...
بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما ... رجلا يستحق الاهتمام ....
حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !
" ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! "
ابتسمت ، ثم قلت
" يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! "
قال :
" أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! "
ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أمي يقفان في الردهة ...
ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد .
عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا !
أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة !
ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة ...
و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها ...
" أوه ! كل هذا !؟ "
نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :
" تفضل بني بالهناء و العافية "
لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ !
انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !
في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت :
" سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! "
و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا
اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء ...
اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي ... ، فيما سامر إلى يساره
و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد ... فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير ... المقابل لي شاغرا ...
أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة !
كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا .
لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا
إنها صغيرتي رغد !
محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين ...
تعرفون ما تعني لي ...
و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق ...
إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي !
إنني أشعر بأنها تراقبني !
ليست هي فقط ... بل الجميع يراقبني
إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون ....
و لكن لوقت أطول ... و لكميات أكبر !
ما أشهى أطباق أمي !
كل شيء يبدو لذيذا جدا ... حتى الماء ...
لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين ...
و هل للماء طعم ؟؟
أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم ... السجن ...
أمور كثيرة قد تحدثنا عنها ألا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا
كما أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع ... و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي .
و كانت رغد أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر
كنت أريد أن أتحدث معها ...
أسألها عما عملت في غيابي ...
أمسك بيديها ...
أمسح على شعرها ...
أضمها إلي ...
كما كنت أفعل سابقا ... فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا ... أكثر من شوقي لأي شخص آخر ...
لست بحاجة لوصف المزيد فانتم تعرفون ...
لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب ... لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان ...
هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟
لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب... تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، ألا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير ... و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !
قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :
" رغد ... صغيرتي ... إلى أين وصلت في الدراسة ؟ "
رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :
" أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل "
ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !
" عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله "
ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت :
" و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ "
تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال ...
و نقلت بصري إلى أمي ... أبي ... سامر ... و دانة ...
" و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! "
قلت مستاءة :
" أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا "
انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال :
" ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! "
قالت :
" لا أعرف ! "
ثم التفتت إلي و قالت :
" و أنت !؟ من تشبهين ؟؟ "
صمت قليلا ، ثم قلت :
" ربما أمي المتوفاة ! "
لكنها قالت :
" لا ! تشبهين بل شخصا آخر ! "
سألت باهتمام :
" من ؟؟ "
ابتسمت بخبث و قالت :
" الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! "
رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة !
أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا !
تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني
حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه
" انتظري ! وليد بالخارج "
أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت :
" صحيح ؟؟ "
قالت :
" نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا "
تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها !
أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان !
و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟
لقد كان وليد !
كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب
لا بد أنه رآني هكذا ... و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل !
نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول :
" لماذا تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ "
رفعت دانة حاجبيها و قالت :
" بلى قلت لك ! "
" ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! "
دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت :
" أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! "
قلت :
" شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! "
في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر ...
نظر مباشرة إلي و قال :
" ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج "
نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر :
" نعم سأذهب ! "
و انطلقت مسرعة نحو غرفتي ...
غير آبهة بنداءات دانة المتكررة !
بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء
كم كنت متعبة !
إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ
و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة ...
تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر ...
ما الذي سيقوله وليد عني !؟
فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين !
إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها !
شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة ... لابد أن وجهي توهج الآن ... لم لا ألقي نظرة !
قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة ... و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيل على وجهي هذا !
أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة !
نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة !
الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة ...
نسيت فكرتي السخيفة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء
الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد ...
لابد أنه سيفاجأ حين يراها ... و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية !
قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج
دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه !
لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي ...
حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره ...
وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جدعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه ... حزين !
طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه
فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي ...
و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة ...
بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه !
و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض
حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي ... فرجعت خطوة للوراء ... و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى !
أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة :
" كنت ... أعني ... لدي شيء أود إعطائك إياه ... "
وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة ... ربما أزعجه أن أحضر بمفردي ... أو ربما ... ربما ...
لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي
لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري ...
لا أظن أن وليد رآها و لكن ...
حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف
ارتعدت أطرافي و جفلت !
وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها ...
نطق لساني بفزع و اضطراب :
" أنا ... لم ... كنت ... سأعيدها إليك ! "
وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي ...
في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر ... رأيت قطرات الدموع تتجمع ... ثم تفيض ... ثم تنسكب ... ثم تشق طريقها على الخد العابس ... ثم تنتهي عند الفك المنقبض ...
لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها ...
أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة ... حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي ... فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة ..
يمد يده إلي و يقول :
" تعالي يا رغد "
" وليد ... "
نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني ...
بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة :
" انصرفي "
أنا انتفضت بذعر ... و ارتجفت جميع أطرافي ... فتحركت خطوة للوراء ... ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني ... و بأوسع خطى ... و ذهبت إلى غرفتي ... فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري ...
كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة ... و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش ... فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها ...
بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي كساني
أصبحت مرعبة !
ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟
لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك ...
هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة غبية ؟؟
أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟
أم ماذا ؟؟
و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته ...
الساعة !
لقد حطّمها !
لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه ... لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟
شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني
بكيت من الذعر و الخوف ... و الحيرة و الدهشة ...
لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي ...
لم يعد هذا وليد !
وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول :
" انصرفي "
كان دائما يبتسم و يقول :
" تعالي يا رغد !! "
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء
لم يكن أمامي شيء يرى ... أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام
لا شيء يستحق أن أعيش لأجله ... بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة
رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء ...
يا رب ...
لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر ...
و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر ...
الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها
الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت ... و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة ... و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه ...
و رغد ...
رغد ..
أول و آخر و أهم أحلامي ...
رغد الحبيبة ... مدللتي التي رعيتها منذ الصغر ...
و راقبتها و هي تنمو و تكبر ...
يوما بعد يوم ...
و قتلت عمار انتقاما لها ...
و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن ... في السجن
منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة ... و نور الشمس ...
و ذقت الأمرين ... و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي ... بالعودة إليها و لو بعد سنين ...
أعود فأراها مخطوبة لغيري !
و من ؟؟
لشقيقي ..؟؟
يا رب
رحمتك بي
فانا لست حملا لكل هذا
و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال ...
كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه ...
" ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟"
و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة
حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع ...
لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها ...
رغد !؟
رغد صغيرتي أنا ... أصبحت زوجة لأخي ؟؟
إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة ..
كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ...
عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين ...
ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح
" كلا .. أرجو أطفئه "
قلت ذلك و أنا ارفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ...
سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ...
ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ...
" ماذا حدث ؟؟ "
سألني سيف بصوت هادئ منخفض ...
لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول :
" أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام "
بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ...
" وليد ؟؟ "
الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ...
الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب
و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .
لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ...
جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ...
تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا
إلى الخارج ...
يا دموعي و آلامي
يا أحزاني و ذكرياتي الماضي
إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي
إلى الخارج يا بقايا الأمل
إلى الخارج يا روحي ...
و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ....
و إلى الخارج ...
يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ...
" هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... "
و صمت ...
فتابعت أنا مباشرة :
" كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء ...
إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف "
قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :
" أنا عائد معك إلى مدينتنا ! "
طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها
سمعته يقول :
" ماذا ؟ ! "
قلت مؤكدا :
" نعم ! سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا "
سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :
" أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ "
و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ...
ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :
" سيئا فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة ! إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان "
مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ...
و هل يشعر الجدار ؟؟
آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ...
" لقد سرقوا رغد مني ! "
لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت :
" أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... "
و سكت
لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية ...
و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :
" أجدها مخطوبة ؟؟ "
هنا وقف سيف ...
ألا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي
قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :
" و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ "
حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها ...
لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف ...
و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك ...
اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل ... و أنا أقول :
" لو كان ... لو كان شخصا آخر ... أي شخص ... لكنت قتلته و محوته من الوجود ... لكنه أخي ... أخي يا سيف ... أخي ...
كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟
كيف فعلوا هذا بي ؟؟
أهذا ما أستحقه ؟؟
ليتني لم أخرج من السجن
ليتني مت هناك
ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما
الخائنة ...
الخائنة ...
الخائنة ... "
و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال ...
" لقد أطعمتك بيدي ... كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك أنت ...
أيتها الخائنة ... أكان هذا حلمك ...؟
اذهبي بأحلامك إلى الجحيم ... "
و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم ...
أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي ...
لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس ... و تدري أيها صورة رغد ... فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات ...
الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة ...
" أيتها الخائنة ... اذهبي و أحلامك إلى الجحيم ... "
و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير ...
مزقت الورقة ... إربا إربا ...
و رميت بها في الهواء ...
و مزقت صورة رغد ... قطعة قطعة ... و بعثرتها في الفراغ ... إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي ...
و انتهت آخر لحظات حبي الحالم ...
و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي ...
و لم يبق لي ...
غير حطام قلب ٍ منفطر ...
الحلقة الثالثة عشر
ذهبنا أنا و دانة لرفع الأطباق عن المائدة
كان الضيف مع أبي و سامر ، و وليد في غرفة الضيوف ، فيما تعد والدتي الشاي في المطبخ .
لأن سامر يجلس عادة إلى يسار والدي ، فلا بد أن الضيف قد جلس إلى يمنه ، و لابد أن الكرسي المجاور له كان كرسي وليد ...
" من كان يجلس هنا ؟ "
سألت ، بشيء من البلاهة المفتعلة ، فأجابتني دانة بسحرية و هي ترفع الأطباق :
" ما أدراني ؟ أتصدقين ... لم أكن معهم !
أقصد كنت أجلس على الكرسي المقابل لكنني لم أنتبه لمن كان يجلس أمامي ! "
قلت :
" و ما دمت قد كنت جالسة معهم ، فلماذا لا أرى أطباقا أمام مقعدك ؟؟ "
رفعت دانة نظرها عن السكاكين و الملاعق و الأشواك التي كانت تجمعها ، و هتفت بغضب و حدة :
" رغد ! "
و هي تحرك يدها مهددة برميي بالسكاكين !
قلت بسرعة :
" حسنا حسنا لن أسأل المزيد "
و صمتنا للحظة
ثم عدت أقول :
" الشخص الذي كان يجلس هنا ... لم يأكل شيئا ! ربما لم يعجب الضيف طعامنا ! "
كنت أريد منها فقط أن تقول شيئا يرجح استنتاجي بأن وليد كان هو من يجلس على هذا المقعد ...
جلست على ذلك المقعد ، و أخذت إحدى الفطائر من الطبق الموضوع أمامي و بدأت بقضمها
التفتت إلى دانة ناظرة باستهجان :
" ماذا تفعلين ؟؟ !"
مضغت ما في فمي ببطء شديد ثم ابتلعته ، ثم قلت :
" أرى ما إذا كانت الفطائر في هذا الطبق غير مستساغة ! لكنها لذيذة ! لم لم تعجبه ؟؟ "
طبعا كنت أتعمد إثارة غيظها ! فأنا أريدها أن تأمرني بالمغادرة فورا لأنجو من غسل عشرات الأطباق ... فقد تعبت !
دانة كانت على وشك الصراخ بوجهي ، ألا أن والدتنا أقبلت داخلة الغرفة لتساعدنا في رفع الأطباق و تنظيفها ، فأسرعت بالنهوض و عملت بهمة و نشاط خجلا منها !
بعد أن انتهيت من درس الغسيل هذا ذهبت إلى غرفتي و أنا متعبة و أتذمر
كنت قلقة بشأن بشرة يدي التي لا تتحمل الصابون و المنظفات
أخذت أتلمسها و شعرت بجفافها ، فأسرعت إلى المرطبات و المراهم ، و دفنت جلدي تحت طبقة بعد طبقة بعد طبقة منها !
قلت في نفسي :
" رباه ! إنني لا أصلح لشيء كهذا ! كيف سأصبح ربة منزل ذات يوم ؟ لا أريد أن أفقد نضارتي ! "
و تذكرت حينها موضوع زواجنا الذي كدت أنساه !
لا أعلم ما إذا كان سامر قد تحدث مع والدي بشأن الزواج أم لا ... فقد شغلنا جميعا حضور وليد عن التفكير بأي شيء آخر ...
اضطجعت على سريري بعد فترة ، و أنا متوقعة أن أنام بسرعة من شدة الإرهاق ...
ألا أن أفكارا كثيرة اتخذت من رأسي ملعبا ليلتها و حرمتني من النوم ... !
حتى هذه اللحظة لا زلت أشعر بشيء يحرق داخل عيني ...
إنها نظرة وليد المرعبة الحادة التي أحرقتني ...
تقلبت على سريري كما تُقلّب السمكة أثناء شويها !
كنت أشعر بالحرارة في جسدي و فراشي ...
فنظرت من حولي أتأكد من عدم انبعاث الدخان !
لماذا حدّق بي وليد بهذا الشكل ؟؟
تحسست يدي اليمنى باليسرى ، و كأنني لا أزال أشعر بالألم فيها بل و توهمت توهجها و احمرارها ... و حرارتها ...
إنه طويل جدا ! لا يزال علي ّ رفع رأسي كثيرا لأبلغ عينيه ...
و رفعت رأسي نحو السقف ، أعتقد أنني رأيت عينيه هناك ! معلقتين فوق رأسي تماما ...
بسرعة سحبت البطانية و غطيت رأسي كاملا ... و بقيت هكذا حتى نفذت آخر جزيئات الأوكسجين من تحت البطانية فأزحتها جانبا ، و انتقل الهواء البارد المنعش إلى صدري مختالا ، ألا أن حرارتي أحرقته ، فخرج حارا مخذولا !
عدت أنظر إلى السقف ، و أتخيل عيني وليد ... و أنفه المعقوف !
و أتخيله يضع نظارة سامر السوداء التي تلازمه كلما خرج من المنزل ، كم ستبدو مناسبة له !
لا أعرف كم من الوقت مضى و أنا أتفرج على الأفكار السخيفة و هي تلعب بحماس داخل رأسي !
كنت أريد أن أنام و لكن ...
نظرت إلى ساعة الجدار و رأيت عقربيها الوامضين يشيران إلى الساعة الواحدة ليلا ...
ليس من عادتي أو عادة أفراد عائلتي السهر ... لابد أن الجميع يغط الآن في نوم عميق فيما أنا مشغولة بعيني وليد !
لدى رؤيتي للساعة تذكرت شيئا فجأة ، فجلست بسرعة :
" الساعة ! "
و بسرعة خاطفة ، نهضت عن سريري و خرجت من الغرفة و ركضت نحو غرفة الضيوف ...
لقد وجدت الباب مغلقا ، فوقفت حائرة ...
ترى هل يوجد أحد بالداخل ؟؟
و خصوصا من النوع الذي تتعلق عيناه في الأسقف ؟؟
قربت رأسي و تحديدا أذني من الباب ، قاصدة الإصغاء إلى أي صوت قد يدل على وجود شخص ما ، مع أنني واثقة من أن أذني ليستا خارقتين ما يكفي لسماع صوت تنفس بشر ما يفصلني عنه باب و عدة خطوات !
لكني على الأقل ، لم أسمع صوت المكيف !
لمست مقبض الباب الحديدي ، و لأنه لم يكن باردا اعتمدت على هذا كدليل قاطع يثبت أن المكيف غير مشغل ، و بالتالي فإن أحدا ليس بالداخل !
أعرف !
أنا أكثر ذكاءا من ذلك ، لكن هذه اللحظة سأعتمد على غبائي !
فتحت الباب ببطء و حذر ... و تأكدت حينها أنه لم يكن هناك أحد...
أشعلت المصباح و توجهت فورا إلى المكان الذي وقعت فيه الساعة بعد ارتطامها بالحائط ... خلف المعقد الكبير ...
كانت هناك مسافة لا تتجاوز البوصتين تفصل المقعد الكبير عن الجدار ...
حاولت النظر من خلال هذا المجال الضيق ألا أنني لم أستطع رؤية شيء
صحيح أن حجمي صغير ألا أن يدي أكبر من أن تنحشر في هذه المساحة الضيقة محاولة استخراج الساعة !
" تبا ! ماذا أفعل الآن ؟؟ "
شمّرت عن ذراعي ، و تأهبت ... ثم أمسكت بالمقعد الكبير و حاولت تحريكه للأمام محاولة مستميتة
لكن مفاصلي كادت تنخلع دون أن يتزحزح هذا الجبل عن مكانه قدر أنملة !
" أرجوك أيتها الساعة أخرجي من هناك ! "
ليتها كانت تسمعني ! لماذا لم يصنع الإنسان ساعة تمشي على أرجل حتى يومنا هذا ؟؟
شعرت بإعياء في عضلاتي فارتميت على ذلك المقعد ...
رباه !
ستضطر غاليتي للمبيت بعيدة عني ... مجروحة و حزينة و لا تجد من يواسيها !
وضعت وسادة المقعد على صدري و أرخيت عضلاتي ...
لم أشعر بنفسي ...
و لا حتى بالحر الذي يكوي داخلي قبل خارجي
و استسلمت للنوم !
~ ~ ~ ~ ~ ~
و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ...
متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ...
طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ...
نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة ..
أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ...
وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممزقة ، لكنني لم أقو على ذلك ...
كيف لي أن أمح من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟
آخر شيء جاءني منك ...
و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ...
كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ...
لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ...
لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ...
بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ...
تفكيري لم يكن صافيا ، ألا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ...
بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ...
ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه !
" هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! "
قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين التين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ...
لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ...
قال سيف :
" أنني أفكر في الطعام ! أ لديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ "
كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من ان تسمح لي بأي تفكير لائق او ذوق سليم ، قلت :
" دعنا ننطلق الآن "
سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ...
" الآن ؟؟ "
" نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضير من السفر الآن "
سيف صمت قليلا ثم قال :
" عائلتك ... أتظن أنهم .... ... "
رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت :
" لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ...
بل من البارحة فصاعدا "
لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ...
بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه
كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ...
" سأمر لوداعهم "
نعم وداعهم
بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم
بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس
بعد كل الحرمان و الضياع ...
أودعهم !
كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟
لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا
و حين وصلنا ، أركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية .
كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل
و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ...
قلت :
" سيف معي ... "
و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول
" دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن "
ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف :
" تفضل "
و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ...
في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له !
" صباح الخير يا أبي "
والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل !
هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ...
ابتسمت لدى رؤيتي و قالت :
" لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك "
طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ...
قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث :
" هل تناولتم فطوركم ؟ "
" ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما !"
و استطردت :
" سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها "
" حسنا "
و هممت بالانصراف ، فقالت أمي :
" قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ "
إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ...
قلت بلا مبالاة :
" أي شيء ... "
ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف .
كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا
فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي !
ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع !
أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا اعرف ماذا افعل !
ببساطة لا أعرف ماذا أفعل !
ثم ماذا ؟
رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب !
" رغد انتظري ! "
توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة !
ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار !
و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... !
اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، ألا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح !
" أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... "
كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ...
عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب :
" أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... "
و لم أجد كلمة مناسبة !
مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا :
" يمكنك الذهاب "
و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة...
تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ...
لقد كان دافئا بل و حارا أيضا !
ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟
و تتدثرين بالوسادة أيضا !
يا لك من فتاة !
لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ...
لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك
إنها ضحكة !
لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ...
لم يطل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي
عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ...
و أداعب شعرها الأملس ...
كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة !
و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية !
لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
لم أدرك أنني نمت حيث كنت ، على ذلك المقعد الكبير الثقيل ، ( الكنبة ) إلا بعد أن استفقت فجأة فرأيت عيني وليد تحدقان بي !
فزعت ، و نظرت من حولي و اكتشفت أنني كنت هنا !
كان جسمي حارا و العرق يتصبب منه ، و جلست مذعورة أتلفت باحثة عن شيء أختفي خلفه ... و لم أجد غير وسادة المقعد التي كنت ألتحفها
غطيت بها وجهي و قمت مسرعة أريد الهروب !
لا أصدق أنني وصلت غرفتي أخيرا بسلام ! يا إلهي ما الذي يحدث معي !؟
كيف نمت بهذا الشكل ؟؟ و كيف لم يوقظني الحر ؟؟
و ما الذي كان يفعله وليد هناك ؟؟؟
كنت لا أزال أحتضن الوسادة و أسند ظهري إلى الباب الموصد ، و ألتقط أنفاسي بقوة !
كانت غرفتي باردة و لكن ليس هذا هو سبب ارتعاش أطرافي !
كم أنا محرجة من وليد !
أمس يراني بقطعة عجين تغطي أنفي و اليوم بهذا الشكل !
ماذا سيظنني ؟؟
كما تقول دانة .. علي ّ ألا أغادر غرفتي بعد الآن !
كنت أشعر بعينيه تراقباني ! أحس بهما معي في غرفتي الآن !
ببلاهة نظرت إلى السقف ، في الموضع الذي توهمت رؤيتهما فيه البارحة و تورد خداي خجلا !
لماذا أشعر بالحرارة كلما عبر وليد على مخيلتي ؟؟؟
و لماذا تتسارع دقات قلبي بهذا الشكل ؟؟
بعد أن تجمعت الأشياء التي تبعثرت من ذاتي أثر الفزع نعمت بحمام منعش و بارد و ارتديت ملابسي و حجابي و ذهبت بحذر إلى المطبخ ...
كانت أمي تنظف السمك عند المغسل ، قلت باستياء :
" صباح الخير أمي ! لا تقولي أن غذاءنا اليوم هو السمك ! "
ابتسمت والدتي و قالت :
" صباح الخير ! إنه السمك ! "
أطلقت تنهيدة اعتراض ، فأنا لست من عشّاق السمك كما و أنني لا أريد حصة طبخ جديدة هذا اليوم !
" ألم تنهض دانة بعد ؟؟ "
سألتني ، قلت :
" ليس بعد ... "
ثم غيرت نبرة صوتي و قلت :
" أ لدينا ضيوف اليوم ؟؟ "
" إنه صديق وليد ... سيف ... ، لسوف نستضيفه و نكرمه حتى يسافر غدا ، فهو الذي ساعد ابني على ... "
و توقفت أمي عن الكلام ...
" على ماذا ؟ "
قالت بشيء من الاضطراب :
" على ... على الحضور إلى هنا ... فلم يكن يعرف أين نحن ! "
أنا تركت رسالة أخبر فيها وليد بأننا رحلنا على هذه المدينة ! لا أدري إن كان قد وجدها ! بالطبع لا ... كيف كان سيدخل إلى منزل موصد الأبواب !؟
كم أنا متلهفة لمعرفة تفاصيل غيابه ... دراسته ... عمله ... كل شيء !
سكبت لي بعض الشاي ، و توجهت نحو الطاولة الصغيرة الموجودة على أحد جوانب المطبخ قاصدة الجلوس و احتسائه على مهل
فيما أنا في طريقي نحو الطاولة ، و إذا بوليد و سامر مقبلين ... يدخلان المطبخ !
ما أن وقع بصري على وليد حتى اضطربت خطاي و اهتزت يدي ، و اندلق بعض الشاي الحار على أصابعي فانتفضت أصابعي فجأة تاركة قدح الشاي ينزلق من بينها و يهوي ... و يرتطم بالأرضية الملساء ساكبا محتواه على قدمي و ما حولها !
" آي "
شعرت بلسعة الشاي الحار و ابتعدت للوراء و أنا أهف على يدي لتبريدها ...
سامر أقبل مسرعا يقول :
" أوه عزيزتي ... هل تأذيت ؟ ! "
قلت :
" أنا بخير "
و أنا أتألم ...
سامر أسرع نحو الثلاجة و أخرج قطعة جليد ، و أتى بها إلي ، أمسك بيدي و أخذ يمررها على أصابعي ...
لملامسة الجليد لأصابعي شعرت بالراحة ...
قلت :
" شكرا "
و ابتسم سامر برضا .
تركته مشغولا بتبريد أصابعي و سمحت لأنظاري بالتسلل من فوق كتفه ، إلى ما ورائه ...
كان يقف عند الباب ، سادا بطوله و عرضه معظم الفتحة ، يحدق بنا أنا و سامر بنظرات مخيفة !
لا أعرف لماذا دائما تشعرني نظراته بالخوف ... و الحرارة !
الجليد أخذ ينصهر بسرعة ....
رفعت أنظاري عنه و بعثرتها على أشياء أخرى ، اقل إشعاعا و حرارة ... كالثلاجة كإبريق الشاي ، أو حتى ... لهيب نار الموقد !
وليد الآن تحرك ، متقدما للداخل ... و مبتعدا عنا ، و متوجها نحو أمي ...
قال :
" ماذا تصنعين أماه ؟ "
" سأحضر لكم السمك المشوي هذا اليوم ... ألم يكن صديقك يحبه في الماضي حسب ما أذكر ؟؟ "
سكت وليد برهة ثم قال :
" لا داعي ... يا أمي .. "
و سكت برهة أخرى ثم واصل :
" سوف يسافر سيف الآن ... "
جميعنا ، أنا و سامر و أمي ، نظرنا إلى وليد باهتمام ...
قالت أمي :
" يسافر ؟ ألم تقل أنه سيبقى حتى الغد ؟ "
" بلى ... لكن خطته تغيرت و سيخرج ... فورا "
قال ( فورا ) هذه بحدة و هو ينظر باتجاهنا أنا و سامر
أمي قالت :
" اقنعه يا وليد بالبقاء حتى وقت الغذاء على الأقل ... اقنعه بني ! "
وليد كان لا يزال ينظر باتجاهنا ، و رأيت يده تنقبض بشدة و وجهه يتوهج احمرارا و على جبينه العريض تتلألأ قطيرات العرق ...
لم يكن الجو حارا و لكن ...
هذا الرجل ... ناري ... ملتهب ... حار ... يقدح شررا !
نظر إلى أمي نطرة مطولة ثم قال :
" أنا ... ذاهب معه "
سامر ، ترك قطعة الجليد فوق أصابعي و استدار بكامل جسده نحو وليد ، كما فعلت أمي ...
قال سامر :
" عفوا ؟؟ ماذا ؟؟ "
وليد لم ينظر إلى سامر بل ظل يراقب تعابير وجه أمي ، المندهشة الواجمة ، و قال :
" نعم أمي ... سأسافر معه ... حالا "
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
لم تجد الدموع و النداءات و التوسلات التي أطلقها أفراد عائلتي في صرف نظري عن السفر ...
بل إنني و في هذه اللحظة بالذات ، أريد أن أختفي ليس فقط من البيت ، بل من الدنيا بأسرها
لقد كانت حالة أمي سيئة جدا ... و لكن صورة الخائنين و أيديهما المتلامسة ... و قطعة الجليد المنزلقة بدلال بين أصابعهما أعمت عيني عن رؤية أي شيء آخر ...
و أقيم مهرجان مناحة كبير ساعة وداعي ...
كان يجب أن أذهب ، و لم يكن لدي أية نوايا بالعودة ... فقد انتهى كل شيء ...
تحججت بكل شيء ...
أوراقي ... شهادتي ... أشيائي ... و كل ما خطر لي على بال ، من أجل إقناعهم بتسليمي مفاتيح المنزل ...
سيف ينتظرني في السيارة ، و هم متشبثون بي يعيقون خروجي ، محيطون بي من الجهات الأربع ... أمي و أبي ، و أختي و آخي الخائن ...
أما الخائنة رغد ... فكانت تراقب عن بعد ... إذ أنني لم أعد شيئا يجوز لها الاقتراب منه ...
للحظة اختفت رغد ، و صارت عيناي تدوران و تجولان فيما حولي ...
أين أنت ...؟؟
أين ذهبت ؟؟
أعليها أن تحرمني حتى من آخر لحظة لي معها ؟؟
آخر لحظة ؟؟
كنت ممسكا بالباب في وضع الخروج ... أردت أن أسير خطوة نحو الخارج ألا أن قبضة موجعة في صدري منعتني من الخروج قبل أن ... أراها للمرة الأخيرة ...
فقط ... للمرة الأخيرة ...
" أين رغد ؟؟ "
قلت ذلك ، و عدت نحو الداخل أفتش عنها
وجدتها في غرفة الضيوف و كانت للعجب ... تحاول تحريك المقعد الكبير عن مكانه !
" رغد ... ! "
التفتت إلي ، فرأيت الدموع تغرق عينيها فيما هي تحاول جاهدة زحزحة المقعد
دموع رغد تقطع شرايين قلبي ...
أشعر بالدماء تغرق صدري و رئتي ... و تسد مجرى هوائي ....
إنني أختنق يا رغد !
ليتك تحسين بذلك ...
" ماذا تفعلين ؟؟ ألن ... تودعيني ؟؟ "
هزّت رأسها نفيا و اعتراضا ...
تقدمت نحوها ، و أمسكت بالمقعد و حركته عن موضعه نحو الأمام بالشكل الذي أرادت
فأسرعت هي إلى خلفه ، و انحنت على الأرض و التقطت شيئا ما ، لم يكن غير ساعتي القديمة ...
رغد أقبلت نحوي تمد يدها إلي بالساعة و تقول :
" لقد تركت الجميع يسخر مني ... و أنا محتفظة بها و أرتديها في انتظار عودتك كما وعدت ! لكنك كذبت علي ... و لم تعد ! "
و رمت بالساعة نحوي فأصابت أنفي ...
انحنيت و رفعت الساعة عن الأرض ... و بقينا نحدق ببعضنا لبرهة ، ثم قلت :
" لم تعودي بحاجة للاحتفاظ بها ... فصاحب الساعة ... لم يعد موجودا "
و أوليتها ظهري ، و انصرفت نحو باب المدخل ...
لم أعط بصري الفرصة لإلقاء أي نظرة على أي منهم ... لم ألتفت للوراء ... و كنت اسمع نداءاتهم دون أن أستجيب لها ...
تريدون عودتي ؟؟
أعيدوا رغد إلي أولا !
أم تظنون أنني سأحتمل العيش بينكم ، و هي ... خطيبة لأخي ؟؟
دون رغد ... فإن وليد لم يعد له وجود على وجه الأرض ...
ألا تدركون ذلك ؟؟
ألا تدركون ما فعلتم بي ؟؟
قتلتموني ...
شر قتلة ...
" وليـــــــــــــــــــــد "
كان هذا صوت رغد ... يخترق أذني ... و رأسي ... و قلبي ... و كل خلية ... و كل ذرة من جسدي ...
لم أستطع أن أقاوم ... التفت نحو الوراء و لم أر شيئا ... غير طفلة صغيرة ... ضئيلة الحجم ... دائرية الوجه ... واسعة العينين ... خفيفة الشعر ... يتدلى شعرها القصير الأملس على جانبيها بعفوية ... ترفع ذراعيها نحوي بدلال و تقول :
" وليـــــــــــــــد ... احملني ! "
" رغد ... تعالي ! "
رأيت شبحها يقبل نحوي ... راكضا ... ضاحكا ... حاملا في يده اليمنى دفتر تلوين ... و في الأخرى صندوق الأماني ... و يمد ذراعيه إلي ...
قدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !
خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟
سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...
ما أن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...
المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...
شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام ...
وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !
التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك
ضغط على جرس السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك
الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...
وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :
" ألن تذهبي ؟؟ "
تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة
مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !
عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !
وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :
" أين نتجه ؟ "
سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .
كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...
أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام
وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :
" كم ستبقين ؟؟ "
تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :
" ألن تأتي معي ؟؟ "
وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :
" و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "
قلت :
" نعم ! "
قال :
" سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "
بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :
" هل يجب أن أرافقك ؟؟ "
قلت :
" أو تعيدني للبيت "
و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...
وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي
قلت :
" من هنا "
و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه
حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...
التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...
عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :
" ألن تدخل معي ؟؟ "
وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !
لذا تحرك ببطء ...
لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !
إنه أجمل و أغلى !
حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !
كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !
لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسر على مقربة مني بصمت و اضطراب ...
أنا أيضا كنت خرساء جدا !
أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات
دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !
جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...
تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...
أقبل صاحب المتجر يسألني :
" ماذا أعجبك سيدتي ؟ "
أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...
" وليد "
نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...
التفت إلي :
" هل انتهيت ؟ "
" لا "
تعجب ! و قال :
" إذن ؟؟ "
قلت :
" لا تبتعد عني "
بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...
اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا
فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها ألا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه
قبل أن نغادر المتجر قال وليد :
" أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "
أما أنا فاعرف ماذا تحب !
اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تتجدد دائما ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !
اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد
خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :
" سألقي نظرة "
و سار خطى سريعة نحو المدخل ...
كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...
و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :
" وليد "
و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...
أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :
" لا تتركني وحدي "
وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :
" سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "
عدت أقول :
" لا تتركني وحدي "
عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :
" هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "
قلت :
" كلا "
قال :
" إذن ... هيا بنا "
عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :
" شكرا ... وليد "
لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !
كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته
إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !
دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...
والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :
" هل وجدت ما أردت ؟؟ "
و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...
" نعم "
و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...
ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :
" إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "
و قربته منها فتأملته و قالت :
" نعم رائع و لكن ... "
لم تتم الجملة ، بل قالت :
" و لكنك اشتريته على أية حال ! "
ابتسمت ابتسامة النصر !
و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :
" أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "
وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :
" لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "
و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...
أمي قالت :
" بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "
الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !
ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟
أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !
" رغد ألن تستعدي ؟؟ "
انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !
" حاضر ، نعم سأذهب "
و انطلقت نحو غرفتي ...
تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !
لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !
أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !
طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...
أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحرق هذه الساعة !
كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...
سألته :
" كيف بدا العريس ؟؟ "
أجاب :
" مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "
قلت :
" لا يعجبني ! "
ابتسم سامر و قال :
" و لكن لم ؟؟ "
أجبت :
" لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "
سامر ضحك ، فضحكت معه ...
قال :
" ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "
ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :
" و رأيك بي أنا ... "
ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !
وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...
و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !
تبادلنا النظرات ...
قال وليد :
" هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "
نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :
" أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "
لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سمعها !
قال :
" أريد لحافا لو سمحت "
كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...
قال سامر :
" أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "
قال وليد :
" و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "
وليد شخص غريب ... نعم غريب !
نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !
انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟
توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !
في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !
أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...
كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...
وليد حرك ذات المقعد و قال :
" مقعدك ... "
و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...
جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !
فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :
" هل لا تبادلنا ؟؟ "
و تبادلا المعقدين ...
ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...
صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...
قدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !
خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟
سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...
ما أن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...
المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...
شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام ...
وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !
التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك
ضغط على جرس السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك
الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...
وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :
" ألن تذهبي ؟؟ "
تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة
مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !
عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !
وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :
" أين نتجه ؟ "
سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .
كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...
أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام
وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :
" كم ستبقين ؟؟ "
تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :
" ألن تأتي معي ؟؟ "
وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :
" و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "
قلت :
" نعم ! "
قال :
" سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "
بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :
" هل يجب أن أرافقك ؟؟ "
قلت :
" أو تعيدني للبيت "
و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...
وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي
قلت :
" من هنا "
و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه
حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...
التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...
عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :
" ألن تدخل معي ؟؟ "
وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !
لذا تحرك ببطء ...
لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !
إنه أجمل و أغلى !
حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !
كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !
لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسر على مقربة مني بصمت و اضطراب ...
أنا أيضا كنت خرساء جدا !
أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات
دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !
جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...
تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...
أقبل صاحب المتجر يسألني :
" ماذا أعجبك سيدتي ؟ "
أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...
" وليد "
نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...
التفت إلي :
" هل انتهيت ؟ "
" لا "
تعجب ! و قال :
" إذن ؟؟ "
قلت :
" لا تبتعد عني "
بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...
اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا
فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها ألا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه
قبل أن نغادر المتجر قال وليد :
" أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "
أما أنا فاعرف ماذا تحب !
اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تتجدد دائما ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !
اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد
خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :
" سألقي نظرة "
و سار خطى سريعة نحو المدخل ...
كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...
و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :
" وليد "
و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...
أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :
" لا تتركني وحدي "
وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :
" سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "
عدت أقول :
" لا تتركني وحدي "
عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :
" هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "
قلت :
" كلا "
قال :
" إذن ... هيا بنا "
عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :
" شكرا ... وليد "
لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !
كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته
إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !
دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...
والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :
" هل وجدت ما أردت ؟؟ "
و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...
" نعم "
و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...
ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :
" إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "
و قربته منها فتأملته و قالت :
" نعم رائع و لكن ... "
لم تتم الجملة ، بل قالت :
" و لكنك اشتريته على أية حال ! "
ابتسمت ابتسامة النصر !
و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :
" أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "
وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :
" لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "
و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...
أمي قالت :
" بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "
الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !
ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟
أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !
" رغد ألن تستعدي ؟؟ "
انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !
" حاضر ، نعم سأذهب "
و انطلقت نحو غرفتي ...
تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !
لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !
أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !
طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...
أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحرق هذه الساعة !
كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...
سألته :
" كيف بدا العريس ؟؟ "
أجاب :
" مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "
قلت :
" لا يعجبني ! "
ابتسم سامر و قال :
" و لكن لم ؟؟ "
أجبت :
" لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "
سامر ضحك ، فضحكت معه ...
قال :
" ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "
ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :
" و رأيك بي أنا ... "
ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !
وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...
و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !
تبادلنا النظرات ...
قال وليد :
" هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "
نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :
" أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "
لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سمعها !
قال :
" أريد لحافا لو سمحت "
كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...
قال سامر :
" أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "
قال وليد :
" و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "
وليد شخص غريب ... نعم غريب !
نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !
انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟
توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !
في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !
أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...
كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...
وليد حرك ذات المقعد و قال :
" مقعدك ... "
و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...
جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !
فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :
" هل لا تبادلنا ؟؟ "
و تبادلا المعقدين ...
ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...
صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...
وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...
بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...
بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر
تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...
دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...
مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !
و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !
انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
بأنفه المعقوف !
و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
سأرسمه !
لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي
و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...
ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...
أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !
رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :
" أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "
ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...
قال وليد :
" خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ " رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت ! !!!!
لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها
كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي
سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .
خلال تلك الأيام الخمسة ...
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :
" هل تسرقين ؟ "
اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها
في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .
لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !
ذهبنا انا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...
و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !
أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي
شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغت تقف بجواري !
قلت :
" رسوم جميلة ! "
" نعم . سأشتري الألوان من هناك "
و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...
مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :
" هل انتهيت ؟؟ "
قالت :
" لا "
تعجبت !
قلت :
" إذن ؟؟ "
قالت :
" لا تبتعد عني "
يا لهذه الفتاة !
قلت :
" حسنا ! "
و مضيت معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد
ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :
" وليد "
قلت :
" سأحضر سلة لحمل الأغراض "
فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !
عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !
كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...
دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :
" أنا هنا "
و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين ...
" أنا هنا !
حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !
كانت فزعة !
وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !
نظرت إليها بذهول ... قلت :
" ما بك ؟؟ "
قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :
" أين ذهبت ؟ "
أجبت :
" أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "
رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :
" لا تتركني وحدي "
نظرت إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...
فقالت :
" لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "
لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...
لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...
قلت :
" أ أنت ... بخير ؟؟ "
فعادت تقول :
" لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "
لم يبد لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...
سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...
لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :
" ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "
أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :
" ماذا حدث ؟؟ "
" لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "
عبس وجه والدتي ، و قالت :
" و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "
أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :
" أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ "
قالت أمي بمرارة :
" لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "
لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...
أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت ...
كم تمنيت ...
لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....
قالت أمي :
" و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، ألا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "
و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
أسندت رأسي إلى يدي ...
رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :
" بني ... أ أنت بخير ؟؟ "
رفعت يدي عن رأسي و قلت :
" و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "
قالت :
" لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستتزوجه عن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "
قلت :
" لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "
و لم تخرج الكلمة المعنية ...
أتممت :
" إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا ... "
و تابعت :
" كان يجب ... كان يجب ... إن ... "
و لم أتم ...
ماذا عساي أن أقول ... ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء ...
لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي ...
هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا ...
توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي ...
التفت إليها و قلت :
" أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني ... لن أعود ؟؟ "
والدتي قالت :
"أخبرناها بأنك قد تعود ... و لكن ... بعد عشرين عاما ... و قد لا تعود ... "