هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد ... و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد
" عزيزتي ؟؟ "
رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي ... و هي تبكي بألم صارخ ... و تقول بين دموعها :
" لا تتركوني وحدي ... لا تتركوني وحدي ... "
أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها ...
ثم نظرت إلى باستياء و قالت :
" لماذا يا وليد ؟؟ "
في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد ...
الكثير من الرسومات الجميلة ...لأشياء كثيرة ... ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !
صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !
و العديد من صور أشياء خيالية ... و أشباح !
لا أعرف ما الذي تقصده بها ...
كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي
الآن أسمع طرقا على الباب
" تفضل "
و دخلت والدتي
" وليد ... العشاء جاهز "
تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :
" وليد ... لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا "
فأومأت برأسي موافقا .
و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .
بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة
لا يزال الدمار ينتشر ... و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف ... و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع ...
تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن ... و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف ...
كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا .... و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم ...
منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا ... و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة ...
في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !
" تفرج على هذه أيضا ... هذا كل ما لدي "
وضعتُ الكراسات علة المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي ... تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة ...
إن عيني كانت على الرسومات ، ألا أن أذني كانت مع التلفاز !
بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :
" رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ "
رغد ابتسمت بخجل و قالت :
" نعم ... عدا اللوحة الأخيرة "
و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !
لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟
إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي ... فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !
قلت :
" متى تنهينها ؟ "
لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !
قالت :
" غدا أو بعد الغد ... "
قلت :
" خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! "
رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :
" لماذا ؟ "
أجبت :
" لأنني ... سأرحل غدا باكرا ... كما تعلمين ! "
اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق ... و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي ...
و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !
حملق الجميع بي ... فشعرت بالأسى لأجلهم ... كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم
أول من تحدث كان أمي :
" ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ "
صمت قليلا ثم قلت :
" قلت ذلك منذ أتيت ... انتهت الزيارة و لابد لي من العودة "
قال والدي مقاطعا :
" ستبقى معنا يا بني "
هززت رأسي ، و قلت :
" و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ "
و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !
و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى !
أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :
" سأخلد للنوم "
و ذهبت إلى غرفة سامر
أخذت أقلب كراسة رغد مجددا ...
كم أثارت ذكريات الماضي ... كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو ... تعود تلك الأيام ...
جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي
ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة ...
كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع ... كالمرة السابقة ...
و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل ...
كان السكون يخيم على الأجواء ... و الكون غارق في الظلام الموحش ... إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب
خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد ... و سرت إلى البوابة الخارجية ... فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي ..
استدرت إلى الوراء ... فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !
صمدت في مكاني مندهشا !
رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي ... ثم تهز رأسها اعتراضا ... ثم تقبل إلي مسرعة ...
" وليد ... لا ... لا ترحل أرجوك "
حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال ... سألتها :
" لم ... أنت مستيقظة الآن ؟؟ "
رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها ...
" أوه ... كلا أرجوك ! "
قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر ...
ألا أن رغد بدأت تبكي بحدة ...
" لا تذهب وليد أرجوك ... أرجوك ... ابق معنا "
قلت :
" لا أستطيع ذلك ... أعني ... لدي عمل يجب أن أعود إليه "
و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي ... علي أن أهرب منه ...
رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا ... ثم تقول :
" خذني معك "
ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة ...
رغد قالت :
" أريد أن أعود إلى بيتنا "
" رغد !! "
دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم ... و نبدأ دوامة جديدة من الدموع ...
قلت :
" رغد ... أرجوك كفى ... "
رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :
" أنا ... وفيت بوعدي ... و لم أخن اتفاقنا ... لكنك كذبت علي ... و لم تعد ... و الآن بعد أن عدت ... تبادر بالرحيل ... و تنعتني بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد ... تتركني و ترحل من جديد "
كالسم ... دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته ... و زلزلتني أيما زلزلة ...
قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :
" لم ... لم ... تخبري أحدا ... ؟؟ "
رغد هزت رأسها نفيا ...
قلت بذهول :
" و لا ... حتى ... سامر ؟؟ "
و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم ...
فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة ... تحت قدمي ّ
قالت :
" كنت أنتظر أن تعود ... لكنهم أخبروني أنك لن تعود ... و لا تريد أن تعود ... و كلما اتصلت بهاتفك ... وجدته مقفلا ... و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين ... لماذا يا وليد ؟؟ "
لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك ... أو ... أو حتى أتقيأ من الصدمة !
لكن ...
ما الجدوى الآن ...
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء ... أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل ...
و حسبي الله و نعم الوكيل ...
سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو ... و نبهني للوقت الذي يمضي ...
و الوقت الذي قد مضى ...
و الوقت القادم المجهول ...
كم سخرت الدنيا مني ... فهل من مزيد ؟؟؟
" صغيرتي ... أنا ذاهب ... "
رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة ... و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها ...
استدرت موليا إياها ظهري ... لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي ...
سرت خطى مبتعدا عنها ... نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها ...
قلت :
" اقفلي الباب من بعدي .. "
دون أن التفت نحوها ... فهو دوري لأذرف الدموع ... التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها ...
" وليــــــــــد "
و كعصفور يطير بحرية ... بلا قيود و لا حدود ... و لا اعتبار لأي شيء ... أقبلت نحوي ...
استدرت ... و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي ... و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها ... احتفالا بمولد يوم جديد ...
منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا ...
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام
و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب ... مع الآخرين .
بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم
كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، ألا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم ...
أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها ...
توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت اتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر ... اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم
علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام ...
أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى ...
في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .
لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، ألا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !
حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، ألا أني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .
أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه ... و أكلت الحرب مدنا جديدة ...
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن ...
في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك ...
في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا ...
الكثير الكثير من المباني المحطمة ... و الشوارع الخربة ...
مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب ... فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر ...
قلت :
" سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ "
أجاب سيف :
" نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ "
" كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! "
ابتسم سيف و قال :
" إنه مصنع عاطف ... والد عمّار ... يرحمهما الله ! "
دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى ... !
أخذت أتأمله بشرود ... ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني ...
سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام ... قال سيف :
" نعم ... فعاطف قد توفي في العام الماضي ... رحمه الله "
~~~~~~
الحلقة السابعة عشر
بين يوم و آخر ، يحضر نوار لزيارة دانه أو الخروج معها للعشاء في أحد المطاعم أو للتنزه ... أو شراء مستلزمات الزفاف و عش المستقبل !
" إلى أين ستذهبان اليوم ؟؟ "
سألتها ، و هي ترتدي عباءتها استعدادا للخروج ، قالت :
" إلى محلات التحف أولا ، ثم إلى الشاطئ ! سأعود ليلا ! "
قلت :
" الشاطئ ؟ رائع ! كم أشتاق الذهاب إليه ! "
قالت بمكر :
" تعالي معنا ! "
نظرت إليها باستهتار ثم أشحت بوجهي عنها ... قلت :
" كنت سأفعل لو أن خطيبك لم يكن ليرافقنا !"
قالت بخبث :
" نذهب وحدنا ؟ أنا و أنت ؟؟ "
" نأخذ أبي و أمي ! ما رأيك دانه ؟؟ اصرفيه و دعينا نذهب نحن الأربعة ! "
" لا تكوني سخيفة ! "
و انصرفت عني ترتب عباءتها أمام المرآة ...
قلت :
" في كل يوم تخرجين معه ! لم لا تتنازلين عن هذا اليوم لنخرج معا ؟؟ إنني أشعر بالملل "
قالت :
" غدا يعود سامر و اذهبي معه حيث تريدين ! "
و غدا هو موعد زيارة سامر ، الذي يأتي مرة أو مرتين من كل شهر ... ليقضي عطلة نهاية الأسبوع معنا ...
لكن ...
لكنني لا أشعر بالحماس للذهاب معه ...
حين أقارن بين وضعي و وضع دانه أشعر بفارق كبير ... إنها منذ لحظة ارتباطها تعيش سعادة و بهجة متواصلة ... و تستمتع بحياتها كل يوم
خطيبها رجل ثري و يغدق عليها الهدايا و الهبات !
كل يوم أذهب أنا للكلية ثم أعود و أقضي وقتا لا بأس به في الواجبات و في الرسم ، بينما تستمتع دانه بالنزهات و الرحلات مع خطيبها المغرور ...
و في أحيان أخرى تقضي ساعات طويلة في التحدث معه عبر الهاتف !
حين يتصل سامر فإن حديثنا لا يستغرق غير دقائق ...
فهل كل المخطوبين مثل دانه سواي أنا ؟؟
قلت أستفزها :
" و على كل ... فخطيبك شخص مغرور و بغيض ! لا أعرف كيف تحتملين البقاء معه كل هذه الساعات ! "
التفتت دانه نحوي و نظرت إلي بخيلاء و قالت :
" مغرور ؟ و حتى لو كان كذلك ! يحق له ... فهو أشهر و أغنى لاعب في المنطقة ! أما بغيض ... فلا تعني شيئا ! فهو رأيك في جميع الرجال ! "
و صمتت لحظة ثم قالت :
" و ربما حتى سامر ! أنت خالية من الرومانسية يا رغد ! و لا تعرفين كيف تحبين أو تدللين خطيبك ! "
و هنا سمعنا صوت جرس الباب ، فانطلقت دانه مسرعة تحثني على الخروج من غرفتها ، ثم تقلق الباب ... و تغادر ...
ربما نسيت دانه ما قالت حتى قبل أن تغادر ، لكن كلماتها ظلت تدق مسمارا مؤلما في قلبي لوقت طويل ...
أنا فعلا لا أشعر باللهفة للقاء سامر ! لكنه دائما يشتاق إلي ... و في الآونة الأخيرة ، بعد أن انتقل إلى مدينة أخرى ، صار يعاملني بطريقة أشد لطفا و حرارة كلما عاد
ذهبت إلى غرفتي و أنا متأثرة من جملة دانه الأخيرة هذه ... فهل أنا فعلا خالية من الرومانسية ؟؟
و هل بقية الفتيات يتصرفن مثل دانه ؟؟
أنا لم احتك مباشرة بصديقة مخطوبة فأنا أول من خطبت من بين صديقاتي رغم أنني أصغرهن سنا !
أردت طرد هذه الأفكار عن رأسي ، فعمدت إلى كراساتي ... و أقبلت على الرسم ...
شيء ما دعاني لأن أفتش بين لوحاتي المتراكمة فوق بعضها البعض عن صورة وليد !
لا تزال الصورة كما هي ... منذ رحل ... لم أملك أي رغبة في إتمام تلوينها ...
لست من النوع المتباهي بنفسه ، لكن هذه اللوحة بالذات ... رائعة جدا !
وليد ... له وجه عريض ... و جبين واسع ... و شعر كثيف ... و عينان عميقتا النظرات ... و فك عريض منتفخ العضلات ... و أنف معقوف حاد !
إنه أكثر وسامة من نوّار الذي تتباهى دانه به !
و من سامر المشوه طبعا ...
لم أكن لأرسم شيئا مشوها كوجه سامر ... إنه لا يصلح عملا فنيا ...
في لقائي الأخير به ، عند رحيله ليلا ... بكيت كثيرا جدا ... ربما أكثر مما بكيت يوم علمت أنه سافر للدراسة دون وداعي قبل سنوات ...
أوصدت الباب و دخلت ، و العبرات منزلقة بانطلاق على خدي الحزين
فوجئت برؤية والدتي تقف عند النافذة المشرفة على الفناء ، و التي تسمح للناظر من خلالها أن يرى البوابة ، و من يقف عند البوابة ، و ما يحدث قرب البوابة !
لم أعرف لحظتها ما أفعل و ما أقول ... أصابني الهلع و الخرس ... أمي اكتفت برشقي بنظرات مخيفة و حزينة في آن واحد ، ثم انصرفت ...
منذ ذلك الحين و هناك شيء ما يقف بين وبينها ... لا أعرف ما كينونته و لا أجله
في المساء ، زارتني ابنة خالتي نهلة ، و طبعا سارة معها فهي تلازمها كالذيل ليلا و نهارا !
كنت أرغب في التحدث مع نهلة عن أمور تشغل تفكيري و تحيرني ... و أشياء لا أستطيع التحدث عنها لشخص آخر ... و لكن كيف لي أن أصرف هذه الصغيرة المتطفلة ؟؟
" ساره ... هل تحبين الذهاب إلى غرفتي و التفرج على رسوماتي ؟؟ يمكنك أيضا رسم ما تشائين ! "
" سأذهب حين تذهب أختي "
أوه ... كيف لي أن أصرفها ...؟؟
" إذن ... ما رأيك بمشاهدة فيلم هزلي جديد مدهش ... أحضره أبي يوم أمس ؟ اذهبي لغرفة المعيشة و تفرجي مع أمي ! "
"سأبقى معكما "
نهلة نظرت إلي نظرة استنتاج ، ثم قالت لشقيقتها :
" عزيزتي ساره ... شاهدي الفيلم و نحن سنأتي بعد قليل ! "
" سأذهب حين تذهبان "
يا لها من فتاة مزعجة ! ألا أستطيع أن أنفرد بصديقتي لبعض الوقت ؟؟
قالت نهلة :
" لا بأس رغد ! فهي لا تكترث لما نقول ! ... أهناك شيء ؟؟ "
ترددت ، و لكنني بعد ذلك أطلقت لساني لقول أمور لم أظن أن سارة ستفهمها ... فهي إلى كونها لا تزال صغيرة ، غبية لحد ما !
قلت :
" سامر سيأتي غدا ! "
قالت :
" و ...؟؟ "
قلت :
" سيفتح موضوع زواجنا من جديد ، كما في كل مرة ! إنه يريد أن نتزوج مع دانه ... و يبدو أن والدتي اقتنعت بالفكرة و صارت تشجعني عليها ... "
قالت :
" و أنت ؟؟ "
تنهدت ثم قلت :
" تعرفين ... إنني أريد أن أنهي دراستي أولا ... و ... و ... أعرف رأي وليد "
نهلة ترفع حاجبا ، و تخفض آخر ... و تميل إحدى زاويتي فمها بمكر !
" و أعرف رأي وليد ! و إذا قال وليد : الزواج ممنوع !؟ "
قلت بسرعة :
" لن أتزوج ! "
قالت :
" و إن قال : الزواج واجب !؟ "
لم أرد ... نهلة تأملتني برهة ، ثم قالت :
" رغد ! و لماذا تنتظرين رأي وليد ؟؟ إنه ليس ولي أمرك أو المسؤول عنك ! "
استأت من هذه الحقيقة الموجعة ...
فلطالما كان وليد مسؤولا عني منذ الصغر ... و لطالما قال أنه لن يتخلى عني ... و لطالما اعتبرته أهم شخص في حياتي ... إلى أن غاب ...
قلت :
" لكنه ... لكنه ... أكبرنا ... و أنا أحترم رأيه كثيرا ... و ... سأعمل بما يقول "
و إن كان بغيضا في عيني ، فهو في عينيها شيء رائع ... و مميز !
لم تكترث دانة لقولي ، و أخذت تنقل الخاتم من إصبع لإصبع بسرور و دلال !
" دانه ... "
" نعم ؟ "
كنت أريد أن أسألها ... و شعرت بالخجل ... و لزمت الصمت !
دانة نظرت إلي باستغراب :
" نعم رغد ؟؟ ماذا أردت القول ؟؟ "
ترددت قليلا ثم قلت بحياء و بصوت منخفض و نبرة متوترة :
" هل ... تحبين نوّار ؟ "
دهشت دانه من سؤالي ، لذا حملقت بي وهلة ، ثم قالت :
" ما هذا السؤال !؟ "
ندمت لأنني طرحته ! إنه موضوع حساس لم أجرؤ من قبل على التحدث فيه مع أي كان ...
و لما لحظت دانه تراجعي الخجل ، قالت :
" نعم أحبه ! إنه شريك حياتي ... ! نصفي الآخر ! "
صمت قليلا ثم سألت :
" إذن ... كيف تشعرين حين يكون معك ؟؟ "
أنا بنفسي لاحظت ذلك ... رغم المساحيق التي تغطي وجهها ألا أن اللون الأحمر المتوهج طلى وجهها و هي تجيب على سؤالي :
" أشعر ... ؟؟ ... بالحرارة ! "
و أشارت إلى قلبها بيديها كلتيهما ...
الحرارة ... في صدري و جسمي كله ، هي شعور لم أحس به في حياتي ... إلا عندما اقتربت من شخص واحد فقط ... هو وليد ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
" وليد ! هل فقدت صوابك !!؟؟
قال سيف و هو فاغر فاه لأقصى حد من هول المفاجأة ...
لقد أخبرته بخبر فعلتي الجنونية الأخيرة ...
" نعم يا سيف ! استقلت و انتهى الأمر "
أخذ يهز رأسه و يضرب يدا بالأخرى من الغيظ و الأسف ...
" أرجوك يا سيف ... قضي الأمر ... لم أكن لأستطيع الاستمرار و الجميع ينظر إلي و يعاملني بهذا الشكل ... يحتقرونني و يتحاشون الاقتراب مني و كأنني وباء خطير "
" و ما لك و لهم ؟ وليد ! لم يكن الحصول على هذه الوظيفة بالأمر السهل ... لقد تسرعت "
استدرت بغضب ، و قلا بانفعال :
" فليذهبوا بوظيفتهم للجحيم "
أعرف أن العثور على عمل هو من أكثر الأمور صعوبة في الوقت الحالي ، لكنني ضقت ذرعا بالهمزات و اللمزات التي يرمي بها الآخرون علي بقسوة ، لكوني قاتل و خريج سجون ...
كما و أنني سمعت بعضهم يذكر صديقي سيف بالسوء بسبب علاقته الوطيدة معي ...
بقائي في العمل بشركته صار يهدد سمعته هو ... و أنا لم أكن لأرضى عليه بأي أذية ...
أليس هو الباقي لي من الدنيا ؟؟
تلا هذا صمت مغدق ...
سيف استاء كثيرا جدا من إقدامي على هذه الخطوة التي وصفها بالتهور ... ألا أنني كنت أراها حلا لابد منه
قال :
" ما أنت فاعل الآن ؟؟ "
ابتسمت ابتسامة سخرية ...
" أفتش من جيديد "
نعم ... عدنا للصفر !
لو أنني أتممت دراستي ، مثلك يا سيف ، لكنت الآن ... رجلا محترما مهابا ... أتولى إدارة إحدى الشركات كما كنت أحلم منذ الصغر ...
و فشلي في تحقيق أي من أحلامي ، هو أمر لا يجب أن تتحمل أنت مسؤولياته ، أو ينالك سوء بسبب علاقتك بي
سيف كان قلق ... أردت أن أغير الموضوع ، فقلت :
" اخبرني ... ما النبأ الجميل الذي تحمله ؟؟ "
و كان سيف قد أبلغني بأن لديه خبر جميل ، عندما وصل إلى بيتي قبل دقائق !
سيف قال :
" لقد ... عزمت على إتمام نصف الدين ! "
فاجأني الخبر ، و أسرني كثيرا ، فأمطرت صديقي بالتهاني القلبية ! إنه أول خبر سعيد أسمعه منذ شهور ...
" أخيرا يا رجل ! فليبارك الله لك ! "
" شكرا أيها العزيز ... العقبة لك ! متى يحين دورك ؟؟ "
دوري أنا !
إن مثل هذا الموضوع لم يكن ليخطر على بالي !
و هل يفكر في الزواج رجل خرج من السجن قبل شهور ، و بالكاد بدأ يتنفس الهواء ... و كان و عاد عاطلا عن العمل ! ...
و فوق كل هذا ... ذو جرح لم يبرأ بعد ...
قلت :
" قد تمضي سنوات و سنوات قبل أن تعبر الفكرة على رأسي مجرد العبور ! "
" لم يا رجل !؟ إننا في السابعة و العشرين ! وقت مناسب جدا ! "
قلت :
" لأجد ما يعيلني أولا ! كيف لي أن أتحمل مسؤولية زوجة و أطفال ! "
قال سيف :
" إنك تحب الأطفال يا وليد ! ألست كذلك ؟ "
" بلى ! ... "
" ستكون أبا عطوفا جدا ! "
و ضحكنا
يمكنني أن أضحك بين حلقات سلسة همومي التي مذ بدأت لم تنته ...
قضيت أسابيع أفتش عن عمل ... و فشلت
حتى أقاربي الذين لجأت إليهم طالبا الدعم ، خذلوني
لو كان سبب دخولي السجن شيء آخر ، لربما عاملني الناس بطريقة أفضل ...
كرهت الدنيا و كرهت نفسي و كرهت كل شيء من حولي ...
و بدأت نقودي التي جمعتها خلال الأشهر الماضية تنفذ ... و أعود للفقر من جديد ...
كنت جالسا في حديقة المنزل الميتة ... أدخن السيجارة تلو الأخرى ... غارقا في التفكير و الهموم ...
كانت الأرض أمامي قاحلة ... لا زرع فيها و لا حياة ...
تماما مثل حياتي ...
تزوج صديقي سيف بعد 3 أشهر خطوبة ... و ينعم الآن بحياة جديدة ، و يتولى مسؤوليات أكبر ... و لم يعد متفرغا لي ...
حصلت على عمل بسيط جدا في أحد المحلات التجارية ... ألا أنني لم استمر فيه بسبب المشاكل التي واجهتني ، لكوني موصوم بالإجرام و القتل ...
أصبحت بإحباط شديد ... و أنا افقد القليل الذي كنت قد حصلت عليه ... و ضاقت بي الدنيا ... كما و داهمني الإعياء و المرض ... فقررت الهروب من مدينتي إلى مكان ألقى فيه شيء من الاحترام و المودة
بعيدا عن السمعة المجروحة ... إلى حيث يوجد من يحبني و يرغب بوجودي و يتقبلني على ما أنا عليه من عيوب و وصم عار ... إلى أهلي ..
كانت شهور عشرة قد انقضت منذ رحلت عنهم ...
كلما اتصلوا بي أو اتصلت بهم ، أخبرتهم بأنني في أحسن حال ، بينما أنا في أسوئه
انفث الدخان السام من صدري ... و أفكر ... أ أعود إليهم ؟؟ أم لمن ألجأ ؟؟
أتخيل نفسي بينهم من جديد ... فتظهر صورة رغد لتحتل منطقة الخيال من رأسي ... فأبعدها و أبعد الفكرة ...
" لا ... لن أعود "
و أرمي بالسيجارة على الأرض ، و أدوسها بحذائي فتندفن تحت الرمال ... إلى جانب شقيقاتها ... في قبور متجاورة و مزدحمة ...
لماذا لا أموت أنا مثلها ؟؟
إلى متى أستمر في تدخين هذه الأشياء القذرة ؟؟
ألا يكفي السجن أن لوث سمعتي و ضيع مستقبلي ؟
أ أترك دروسه و مخلفاته تلوث صدري و تفسد صحتي ؟؟
أتذكر قول نديم لي ... لا تدع السجن يفسدك يا وليد ...
هل أنا شخص فاسد الآن ؟؟
نديم ...
ليتك معي الآن ...
فجأة ... تذكرت شيئا غاب عن مذكرتي تماما !
يوم وفاته ، نديم أوصاني بشيء ...
طلب مني أن أزور عائلته و أطمئن عليهم !
وقفت منفعلا ... يا للأيام ! لم يخطر هذا الأمر ببالي من ذي قبل ...
و كيف له أن يجد فرصة للظهور فيما يحتل تفكيري أمور أخرى ...
ربما وفاءا لذكرى صديق عزيز لطالما كان يدعمني في أسوأ أيام حياتي ...
أو ربما كان فراغا طويلا لم أجد معه ما أفعله
أو حتى هروبا من هذه المدينة و سمعتي المنحطة فيها
أيا كان الدافع ، فقد قررت يومها زيارة عائلة نديم !
نديم أخبرني بأنه يملك مزرعة في المدينة الشمالية ، و هذه المدينة بعيدة عن مدينتي و هي أقرب إلى المدينة الصناعية حيث يعيش أهلي ...
جمعت كل ما أحتاجه و ما قد أحتاجه ، و عزمت الرحيل ...
الهدف لم يكن زيارة عائلة نديم تنفيذا لوصيته التي ماتت يوم وفاته ، بقدر ما كان الفرار من الفشل الذريع الذي أعيشه في هذه المدينة
الآن أدرك لم قرر والدي الرحيل ، و لم لا يفكر في العودة
لا بد أنه تعرض لمثل ما تعرضت له ... بسبب جريمتي النكراء ...
ذهبت لزيارة سيف في مسكنه الجديد ، و أبلغته أنني راحل ...
كان وداعنا مؤلما ألا أنه قال :
" في أي وقت ... و كل وقت ... تشعر بأي حاجة لأي شيء ، تذكر أنني موجود "
و دفع إلي مبلغا من المال قبلته على شرط أن أرده له في أقرب فرصة ... و لا أعلم كم تبلغ المسافة بيني و بين هذه الفرصة !
أقفلت أبواب المنزل الكئيب ... و تركت الذكريات القديمة سجينة ... تغط في سبات أبدي ...
بما فيها صندوق الأماني المخنوق ، و الملقى بلا اهتمام عند إحدى زوايا الغرفة
إن كتب لي أن أعود يوما ... فسأفكر في فتحه !
انطلقت مستعينا بالله و متوكلا عليه ... متجها إلى المدينة الشمالية ... لم أكن قد زرتها في حياتي من قبل ، ألا أنني أعرف أن الطريق إلى المدينة الصناعية يؤدي إليها ، و أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا قليلا
وصلت إلى المدينة الصناعية ... و شوقي سحبني نحو بيت عائلتي سحبا ...
كيف لي أن أعبر من هنا ... ثم لا أمر لألقي و لو نظرة عابرة على أهلي ..؟؟
كان الوقت عصرا ... أوقفت سيارتي إلى جانب سيارة أبي ، و السيارة الأخرى التي تبدو جديدة و آخر طراز !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
مؤخرا صار سامر يأتي إلينا مرة واحدة في الشهر ... أصبح يعمل عملا مضاعفا و قلت حتى اتصالاته !
و حين جاء البارحة ، طلبت منه أن يصطحبني إلى الشاطئ هذا اليوم !
طبعا سامر فرح كثيرا بهذا الطلب ... و أنا كنت أريد أن أرفه عن نفسي و أقلد دانه !
إنها دائما تشعرني بأنني لا أصلح امرأة !
الجميع من حولي يعاملونني على أنني لا أزال طفلة !
إنني الآن في الثامنة عشر من العمر ... و أحس بأنني خلال الأشهر الماضية كبرت كثيرا !
لقد بدأت استخدم المساحيق بكثرة مثلها ، و أشتري الكثير من الحلي و الملابس... بالرغم من أنني لا أجهز للزفاف مثلها !
فكرة الزواج الآن لم أقتنع بها ... و لسوف أنتظر حتى أنهي دراستي و أكتسب صفات المرأة التي تعرف كيف تحب و تدلل شريك حياتها !
أليس هذا هو المطلوب ؟؟
" هيا رغد ! الوقت يمضي ! "
سامر يناديني ، و هو يقف خلف الباب ، ينتظر خروجي ...
أجبت و أنا ارتدي شرابي ثم حذائي الجديد ذا الكعب العالي ، على عجل :
" قادمة ... لحظة "
و في ثوان كنت أفتح الباب ...
حين صرت أمامه راح يحدق بي باستغراب ، ثم قاد بصره إلى حذائي !
" رغد ! لقد طلت بسرعة ! لم تكوني هكذا البارحة ! "
ابتسمت و قلت و أنا أظهر حذائي الطويل من خلف عباءتي :
" إنها الموضة ! "
سامر ضحك و قال :
" و لكن يا عزيزتي هل ستسيرين بحذاء هكذا على الشاطئ ؟؟ "
" لا يهم ! أنا أريد أن أظهر أطول قليلا حتى لا يظنني الناس طفلة ! "
" كما تشائين ! هيا بنا "
و خرجنا ، و مررنا بالمطبخ حيث وضعت سلة صغيرة تحتوي بعض الحاجيات فحملها سامر و هممنا بالانصراف ....
و إذا بدانة تقول :
" هل آتي معكما ؟؟ "
أنا و سامر تبادلنا النظرات ...
طماعة ! ألا يكفيها أنها تخرج مع خطيبها كل يوم فيما أنا جالسة وحيدة في المنزل ؟؟
قلت :
" لا ! إنها رحلة خاصة ! "
سامر ابتسم بخجل ، و دانه نظرت إلي من طرف عينها مع ابتسامة خبيثة أعرفها جيدا ... و أعرف ما تعنيه منها !
تجاهلتها و سرت مبتعدة ...
" انتبهي لئلا تنزلقي زرافتي ! "
و أخذت تضحك !
قلت بحنق :
" ليس من شأنك "
و خرجت مسرعة ....
دانه تتعمد التعليق على أي شيء يخصني ... و دائما تعليقها عنه يوحي بعدم رضاها أو سخريتها منه !
ألا أنها تشعر بالغيرة من طولي الذي يسمح لي بارتداء أحذية كهذه ، و هي محرومة منها !
خرجنا على الفناء الخارجي و سامر يبتسم بسرور !
حتى و إن كانت نظارته السوداء الكبيرة تخفي عينيه ... كنت أعرف أنه يحدق بي !
اعتقد أنه سعيد جدا ... السعادة المميزة ... التي لم أذق لها أنا طعما حتى الآن ...
فيما نحن نقترب من الباب ، قرع الجرس !
تقدم سامر و فتحه ...
و توقفت الكرة الأرضية عن الدوران !
اعتقد أن شهابا قد ارتطم بها ... هنا خلف هذا الباب !
شعور مفاجئ ... و اصطدام مجلجل ... و حرارة محرقة شاوية ... و حمم ... و ضباب ... و اختناق ... و ارتجاف ... و عرق ... و ذهول ... كلها مجتمعه انبثقت فجأة من عند الباب و اجتاحتني ...
هل أصدق عيني ! ؟
هل يقف أمامي المارد الناري الضخم المرعب ... متمثلا في صورة ... وليد ؟؟؟
هتف سامر بذهول و بهجة عارمة :
" أخي وليد ! "
و تعانقا عناقا طويلا ...
يا لها من مفاجأة مذهلة !
اعتقد أنه كان علي الأخذ بنصيحة سامر و تغيير حذائي ... إنني أوشك على الانزلاق ! لماذا فقدت توازني بهذا الشكل ؟؟
بعد لقائهما الحميم ... استدارا نحوي ...
حينما وقت عيناه على عيني ، طردهما بسرعة و غض بصره ... و قال بهدوء لا يتناسب و الحمم و البركاين و الانفجار و النيران الذي تولدت لحظه ظهوره من فتحة الباب :
" كيف حالك صغيرتي ؟ "
لقد حاولت أن أحرك لساني لقول أي شيء ... لكن بعد احتراقها ، فإن كلماتي قد تبخرت و صعدت للسماء !
طأطأت رأسي للأرض خجلا ... حين عبرت ذكرى لقائنا الأخير سريعة أمام عيني ! ...
الرجلان يقتربان ...
رفعت رأسي فإذا بعينيه تطيران من عيني إلى الشجرة المزروعة قرب الباب الداخلي ...
سمعته يقول :
" ألا يبدو أنها كبرت !؟ "
التفت إلى الشجرة ... صحيح ... لقد كبرت خلال الشهور الطويلة التي غاب فيها وليد عنا !
لكني سمعت سامر يضحك و يقول :
" إنه الكعب ! "
أدركت أنه كان يقصدني أنا ! كم أنا غبية !
قال وليد :
" أ كنتما ... خارجين ؟؟ "
قال سامر :
" أوه نعم ... لكن يمكننا تأجيل ذلك لما بعد ... تعال للداخل ستطير أمي فرحا ! "
قال وليد :
" أرجوكما امضيا إلى حيث كنتما ذاهبين ! إنني سأبقى في ضيافتكم فترة من الزمن ! "
مدهش !
عظيم !
ممتاز !
و أقبلا نحو الباب الداخلي ، و دخلنا نحن الثلاثة ...
كانت مفاجأة مذهلة أحدثت في بيتنا بهجة لا توصف ...
عشر شهور مضت ... و هو بعيد ... لا يتصل إلا قليلا ... و حين يتصل يتحدث مع الجميع سواي ... و إن تحدث معي صدفة ، ختم جمله المعدودة بسرعة ...
أمي بعد ذلك ، عادت بالأطباق إلى المطبخ ، ثم أقبل الجميع إلى غرفة المعيشة و حاصروني بنظراتهم ... و أسئلتهم حول أموري ...
أنا كنت اكتفي بإجابات مختصرة ... فلا شيء فيما لدي يستحق الذكر و الاهتمام ...
و كالبقية كانت رغد تتابعني بعينيها و أذنيها ، في صمت ...
" ما رأيك بتجربة سيارتي يا وليد ! لنقم بجولة قصيرة ! "
بدت فكرة ممتازة و منقذة ، فوافقت فورا و نهضت مع سامر ، و خرجنا ...
" هل غضبت مني أمس حقا ! أنا آسفة يا رغد ! كنت أمازحك ! "
نظرت إلى السقف و قلت :
" حسنا ، انتهى الأمر الآن "
ثم إليها و قلت :
" و لكن لا تنعتيني بالببغاء ثانية ... خصوصا أمام وليد "
قالت دانة باستغراب :
" وليد ؟؟ "
فاضطربت ...
قالت :
" تعنين سامر !؟ "
قلت :
" وليد او سامر أوأي كان ... أمام أي كان ! "
و أشحت بوجهي بعيدا عنها
فعادت تبرد أظافرها بالمبرد و تغني !
كنا نجلس في المطبخ ، و للمطبخ نافذة مطلة على ساحة خارجية خلفية تنتهي بالمرآب
مرآب منزلنا مفتوح من ثلاث جهات ، و يسد جهته الخارجية بوابة كهربائية ...
أقبلت أمي تحمل سلة الملابس المغسولة و دفعت بها إلي :
" رغد ... انشريها على الحبال "
أوه ... يا لعمل المنزل الذي لا ينتهي !
أردت أن أعترض و أوكل المهمة إلى دانة ، التي تجلس أمامي تبرد أظافرها بنعومة !
" انشريها أنت يا دانة ! "
هزت رأسها اعتراضا ، فهممت أن أتذمر !
لكني لمحت من خلال النافذة بوابة المرآب تنفتح ، و أدركت أنهما قد عادا !
و بسرعة ابتلعت جملة التذمر قبل أن أتفوه بها و قل متظاهرة بالاستسلام :
" حسنا ... لن أؤذي أظافرك ! سأنشرها أنا ! "
و حملت السلة ، و خرجت للفناء الخلفي ...
وليد ركن السيارة في المرآب ثم خرج منها هو و سامر ...
و هاهما الآن يقبلان باتجاهي ...
سامر نزع نظارته السوداء ...
و سارا متوازيين جنبا إلى جنبت يسبقهما ظلهما ... و يدوسان عليه ...
وليد ... بطوله و عرضه و بنية جسده الضخم ... و الذي اكتسب عدة أرطال مذ لقائي الأخير به قبل شهور ... زادت وجهه امتلاء و جسده عظمة ... و كتفيه ارتفاعا ... و صار يشغل حيزا محترما من هذا الكون و يفرض وجوده فيه !
يخطو خطا أكاد أسمع صوت الأرض تتألم منها !
سامر ... بجسمه النحيل ... و قوامه الهزيل... و وجهه الطويل ... المشوه ...
و خطاه الهادئة البسيطة ... و أنظاره الخجلة التي غالبا ما تكون مدفونة تحت الأرض ...
شيء ما أحدث في نفسي توترا و انزعاجا ...
إنهما مختلفان ...
لماذا تنجرف أنظاري لا إراديا نحو وليد ؟؟؟
لماذا يشدني التيار إليه هو ؟؟
حين صارا أمامي مباشرة ، توقف سامر و قال :
" أ أساعدك ؟؟ "
بينما تابع وليد طريقه مرورا بي ... ثم ابتعد دون أن ينظر إلي ...
لكني كنت أراقبه ...
توقف برهة و استدار مادا يده نحو سامر قائلا :
" المفتاح "
مفتاح السيارة كان يسبح في كفه كسمكة في البحر !
تناول سامر المفتاح منه ، ثم أخذ يساعدني في نشر الملابس على الحبال ... في الحقيقة قام هو بالعمل ... فأنا كنت شاردة و سارحة أفكر ...
هل هذا هو شريك حياتي حقا ؟؟
لماذا علي أنا أن أتزوج رجلا مشوها ؟؟
لقد شغلت الفكرة رأسي حتى ما عدت بقادرة على التركيز في شيء آخر ...
هل حقا سأتزوج سامر ؟؟
كم كانا مختلفين ... و يهما يسيران جنبا إلى جنب ...
في وقت الغذاء ، لم أساهم في إعداد المائدة و وافيت البقية متأخرة بضع دقائق ...
أتدرون ماذا حدث عندما دخلت غرفة المائدة و جلست على مقعدي المعهود ؟؟
تلوت معدتي ألما حين رأيته يذهب ... إنه لا يريد أن يجلس معي حول مائدة واحدة!
الجميع تبادلوا النظرات و حملقوا بي ...
أمي تبعته ، ثم عادت بعد أقل من دقيقة و قالت :
" رغد ... خذي أطباقك إلى المطبخ "
صدمت و اهتز وجداني ... و شعرت بالإهانة ... و بأنني أصبحت شيئا
لا يرغب وليد في وجوده ... شيئا يزعجه ... و يتحاشى اللقاء به ...
نعم فأنا ابنة عمه التي كبرت و أصبحت ... شيئا محظورا ..
رفعت أطباقي و ذهبت إلى المطبخ و انخرطت في بكاء مرير ...
بعد قليل أتتني دانة تحمل أطباقها هي الأخرى :
" رغد ! و لم هذه الدموع أيتها الحمقاء ! "
لم أعرها أذنا صاغية ، فقالت :
" إنه يشعر بالحرج و الخجل ! تعرفين كيف هو الأمر ! هذا من حسن الأدب ! "
قلت :
" لكنني كنت معكم العام الماضي "
قالت :
" ربما لم يكن قد اعتاد فكرة أنك ... كبرت ! "
ليتني لم أكبر !
تركت أطباقي غير ملموسة و خرجت من المطبخ متوجهة إلى غرفتي ،
و دانة تشيعني بنظراتها ...
في الغرفة ... تأملت صورة وليد التي رسمتها قبل شهور ... و انحدرت دموعي ...
أخذت أتخيله ... و هو واقف إلى جوار سامر ... يفوقه في كل شيء يعجبني ...
ثم ...
ثم ...
أتزوج سامر !
لماذا أقارن بينهما هكذا ؟؟
وفي العصر ، أتتني دانة ..
" الم تستعدي بعد ؟ سننطلق الآن ! "
" إلى أين ؟؟ "
" أوه رغد هل نسيت ! إلى الشاطئ كما اتفقنا ! "
بالفعل كنت قد نسيت الفكرة ... و بالرغم من أنني كنت مسرورة جدا بها مسبقا ألا أنها الآن ... لا تعجبني !
" لا أريد الذهاب "
حملقت دانة بي و قالت :
" عفوا ! ألم تكوني أنت المشجعة الأولى ! هل ستبقين في البيت وحدك ؟؟ "
قلت :
" هل سيذهب الجميع ؟؟ "
" بالطبع ! إنهم في انتظارنا فهيا أسرعي ! "
و ذهبت إلى غرفتها تستبدل ملابسها ...
أن أبقى وحدي في البيت هي فكرة غير واردة ... لم يكن أمامي إلا الذهاب معهم ...
توزعنا على سيارتي أبي و سامر ...
جلس وليد على المقعد المجاور لسامر ، و أنا خلفه ، و دانه إلى جانبي ، و تركنا والدي ّ معا في السيارة الأخرى ...
وليد و سامر كانا يتبادلان الأحاديث المختلفة تشاركهما دانة ، أما أنا فبقيت صامتة ... أراقب و استمع ... و أشعر بالألم ...
لم تفتني أي كلمة تفوه بها وليد ... او أي ضحكة أطلقها
كنت أضغي إليه باهتمام بالغ ! حتى كدت أحفظ و أردد ما يقول !
عندما وصلنا ، فرشنا بساطا كبيرا و وضعنا أشياءنا و جلسنا عليه ، ألا أن وليد ظل واقفا ... ثم ابتعد ... و سار نحو البحر ...
إنه لا يرد الجلوس حيث أجلس ...
لماذا يا وليد ؟؟
هل تعرفون كم دقيقة في الساعة ؟؟
ستون طبعا !
و هل تعرفون كم مرة في الساعة فكرت به ؟
ستون أيضا !
و هل تعرفون كم ساعة بقينا هناك ؟؟
ست ساعات !
هل أحصيتم كم وليد جال برأسي خلال الرحلة ؟؟
الثلاثة ، أبي و وليد و سامر ذهبوا للسباحة ، أمي تصف قطع اللحم في الأسياخ و دانة تساعدها ...
و أنا ، معدتي تئن !
" رغد ! لم لا تبتلعين أي شيء ريثما يجهز العشاء ؟؟ لم تضرم النار بعد و سنستغرق وقتا طويلا ! "
نظرت إلى دانة و قلت :
" لم لا تسرعان ؟ "
" لا يزال الوقت مبكرا ! أنت من فوّت وجبة الغداء ! "
لقد كنت جائعة بالفعل ! و فتشت في السلات فلم أجد شيئا يستحق التهامه حتى يجهز طعام العشاء المشوي !
نظرت من حولي فرأيت مقصفا صغيرا على مقربة منا ...
" أريد الذهاب إلى هناك ! "
قالت دانة :
" اذهبي ! "
قلت :
" تعالا معي ! "
ابتسمت دانة ابتسامتها الساخرة التي تعرفون و قالت :
" نعامتي الصغيرة ... تخشى من الظلام ... و ترجف خوفا ... من فئران نيام ! "
و هو مطلع أغنية للأطفال !
غضبت منها فاسترسلت في الضحك ...
تجاهلتها و خاطبت والدتي :
" تعالي معي ... "
أمي مدت يديها الملطختين بعصارة اللحم ، تريني إياهما و قالت :
" فيما بعد رغد "
نظرت نحو الشاطئ فوجدت وليد يجلس على أحد المقاعد ... و والدي و سامر لا يزالان يسبحان ...
التفت إلى دانة و قلت :
" دعينا نقترب من الشاطئ ... أريد أن أبلل قدمي ! "
دانة قالت :
" أنا لا أريد ! اذهبي أنت "
" لا أريد الذهاب وحدي "
و عادت تغني :
" نعامتي الصغيرة ... تخشى من الظلام !! "
أصبحت لا تطاق ... !
و أمي منهمكة في إعداد أسياخ اللحم ...
" اذهبي رغد ... إنهم هناك ! اذهبي عزيزتي ... "
قالت أمي مشجعة إياي ...
لم يكن هناك الكثيرون على مقربة منا ... و لكنني ترددت كثيرا ...
في النهاية أقنعت نفسي بأنهم قريبون من الساحل ، كما أن وليد يجلس هناك ... و لا داعي لأي خوف ...
سرت نحوه و أنا أحس بنظرات أمي تتبعني ... فهي تريد لي التخلص من خوفي المبالغ به ... من أماكن لا تستوجب أي خوف أو حذر ...
كانت أمواج البحر تتلاطم بحرية ... و نسمات الهواء باردة منعشة تغزو صدري الضائق منذ ساعات ... فتفتح شعبه و توسعه ...
اقتربت من وليد ... و لم يشعر بي
تجاوزته نحو الماء ... فلم أحس بحركة منه .. التفت فرأيته مغمض العينين ، و ربما نائم !
سمحت للماء البارد بتبليل قدمي ... و شعرت بانتعاش !
لوّح سامر لي ... فشعرت بأمان أكثر و تجرأت على خطو خطوتين يمينا و يسارا ... ألا أنني لم ابتعد أكثر من ذلك ... لم أخرج عن الحيز الذي يحيط بوليد و يشعرني بالطمأنينة ...
و الآن تجرأت على خطوة أكبر ... و جلست على الرمال المبللة و مددت يدي لألامس الأمواج ...
كان شعورا رائعا !
أقبل مجموعة من الأطفال بألعابهم و أطواق نجاتهم ، و بدؤوا يلعبون بمرح ... كنت أراقبهم بسرور !
ليتني أعود صغيرة لألهو معهم !
التفت للوراء ... إلى وليد ... استعيد ذكريات ظلت عالقة في ذاكرتي ...
كان وليد يلاعبني كثيرا حينما كنت صغيرة ! و في المرات التي نقوم فيها برحلة إلى الشاطئ ... كان يبقى حارسا لي و لدانة !
عدت بنظري للأطفال ... أتحسر !
يبدو أن أصواتهم قد أيقظت وليد من النوم ... سمعت صوته يتنحنح ثم يتحرك ، استدرت للخلف فوجدته يقف و ينظر إلى ما حوله ...
وليد تحرك مقتربا من البحر ... فنهضت بسرعة و قلت :
" إلى أين تذهب ؟؟ "
وليد توقف ، ثم ... قال :
" لأسبح ... "
قلت :
" انتظر ... سأعود لأمي ... "
في نفس اللحظة أقبل سامر يخرج من الماء نحو اليابسة ...
" وليد ... تعال يا رجل ! يكفيك نوما ! "
قال سامر ، فرد وليد :
" أنا قادم ... لكن ألا يجب أن نشعل الجمر الآن ؟؟ "
" لا يزال الوقت مبكرا ! "
و التفت سامر إلي و قال :
" رغد أخبري أمي بأننا سنقضي ساعات أكثر في السباحة ! "
قلت :
" حسنا ! "
بينما تصرخ معدتي : كلا !
سامر خرج من الماء ، و صار واقفا إلى جوار وليد ... و قام ببعض التمارين الخفيفة ...
التفت إلى ناحية البساط الذي نفترشه ، و خطوت متجهة إليه ...
مجموعة من الناس كانوا يلاحقون كرة قدم ... فيضربها هذا و يركلها ذاك ... يتحركون في طريقي ...
وقفت في منتصف الطريق لا أجرؤ على المضي قدما ...
التفت إلى الوراء فوجدت الاثنان يراقباني ...
و إلى حيث تجلس أمي و أختي ... فإذا بهما أيضا تراقباني ...
الآن ... تدحرجت الكرة نحوي و اقتربت من قدمي ... و أقبل اللاعبون يركضون نحوها ...
وصل إلي أحدهم و قال :
" معذرة يا آنسة "
أصبت بالذعر ... فجأة ...
خطوة للوراء ...
ثم خطوة أخرى ...
ثم أطلقت ساقي للريح راكضة باضطراب و فزع ...
إلى حيث جرفني التيار ...
نحو وليد !القرار الاخيــــر
أفقت من غفوتي القصيرة ...
كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة ...
الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال ... منظر لم تره عيناي منذ سنين
إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي ...
أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة
ما أن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !
كانت رغد ... صغيرتي الحبيبة ... خطيبة أخي الوحيد ... تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء ... إلى جواري تماما
وجّهتُ سهام بصري إلى البحر ... ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي ... و خطوت مبتعدا عنها
استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :
" انتظر ! سأعود لأمي ... "
لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، ألا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد ...
و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي ... و استدارت نحونا ... و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !
أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !
أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني ...
الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا
و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب
أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر ...
رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :
" لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ "
كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة ...
لحظة جحيم الذكرى ... و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة ... من عيني يقدح الشرر الحارق ... و من عينها تنسكب الدموع المجروحة ... و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين ... و صورة لعمّار يبتسم ... و الحزام يتراقص ...
" لكنت قتلته "
نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر ... و القهر ...
لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي ... و أشياء تعتصر ... و أشياء تتوجع و تصرخ ...
كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟
لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، ألا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة
" رغد ... "
أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر ...
لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا ...
قال :
" رغد ... عزيزتي ... "
و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر ...
رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما ...
الآن ... تصل أمي و أختي ... و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :
" قلت لك لا أستطيع ... لا أريد المجيء ... لا أستطيع ... لا تتركوني وحدي "
و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم
أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه ...
ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانه ، يبتعدن عائدات من حيث أتين ...
سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن ... و حانت منه التفاتة إلي ... فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما ...
لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي ... و دوار داهمني دون إنذار مسبق ... و خور و وهن مفاجئ في بدني ... فهويت أرضا ...
كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته ... و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي ... و أحسست بها تصعد من جوفي ... و تملأ فمي ... ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر ...
الآن ... تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح ... تماما كما ترى النور ...
رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر ...
" ما هذا ؟؟ "
ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي ... و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي ...
ما هذا ؟
أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما ...
بعد فترة ... كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات ... و نتلذذ برائحتها الشهية ...
كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر ... و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة ...
و الآن جاء دوري ...
" تفضل يا وليد "
كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها طعما منذ سنين ... لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام ...
" شكرا أبتاه ... لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا "
قال سامر :
" لقد تقيأ دما قبل قليل "
الجميع ينظر إلى الآن بقلق ...
ابتسمت و قلت :
" ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا "
أمي قالت بقلق :
" بني ... عساه خيرا ؟؟ "
" لا تقلقي أماه ... ستهدأ بالصيام لبعض الوقت "
ثم حاولت تغيير مجرى الحديث ...
أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا :
" نصيبك يا رغد "
رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه ...
رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة ...
نهضت أنا و قلت :
" تفضلي هنا ... أنا سأتمشى قليلا "
و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع ... و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية ...
ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة ... ثم انطلقت إلى البحر ... و جلست على الرمال ... أدخن بشرود
صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا ... إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم
كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم ... ليتني أستطيع ذلك ...
ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر ... و نسيانه ...
بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة
ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى ألا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب ...
" أنت تدخّن ؟؟ "
مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها ... و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط ...
" عادة سيئة ... لا خلاص منها ! "
دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة ... ثم قالت :
" لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! "
قلت ببعض الخجل :
" معذرة "
ثم أضافت مداعبة :
" و على فكرة ... فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف فستسببون أزمة عزّاب و عوانس ! "
أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان!
قلتُ بعد ذلك :
" إذن ... هل استعديتما للزفاف ؟؟ "
بشيء من الخجل قالت :
" تقريبا ... إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة ... أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! "
و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي ... و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي !
في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد ... لينضموا إلينا
قال سامر :
" هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! "
قالت دانة ضاحكة :
" أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! "
و استدارت نحوي :
" وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ "
" كلا ، لا طاقة لي بالطعام هذه الليلة "
و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة ...
قال :
" فيم كنتما تتحدثان ؟؟ "
قالت دانة :
" فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! "
سامر ابتسم و قال :
" أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! "
العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة ... التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم ... ثم فقدتها للأبد ... فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟
قالت دانة :
" هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! "
ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :
" و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! "
أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله ... تكلمي رغد ؟؟
رغد ظلت صامتة ... و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ ... هيا يا رغد قولي أي شيء ... ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر ...
اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة ... توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما ... أو يزيد ...
و أقسم ... أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري ... مهما كان ...
بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية ... و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديد أكاد معه أسمع دبيب النمل ...
بعد كل هذا ... جاءني السهم المباغت التالي :
" وليد ... ما رأيك ؟؟ "
أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟
تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟
في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟
في أن تذبحيني اليوم أو غدا ... أو بعد قرن ؟؟
أتشهد أيها البحر ؟؟
ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة ... فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !
تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها ...
بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..
سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي ...
و أطلقت زفرة قوية ... حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها ...
قلت ... بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :
" الأمر عائد إليكما "
و وقفت ...
و قلت :
" معذرة ... سأدخن في مكان آخر "
و انصرفت عنهم ...
سرت مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري ... انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي ... و أحترق .
بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت ...
لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر ... فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر ... توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !
مشوار العودة كان طويلا مملا ... فقد التزمنا الصمت ... و رغد نامت !
" وصلنا عزيزتي ! "
قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد ...
كنا قد وصلنا قبل الآخرين ...
فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق ...
ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل ...
و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي ... و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ ...
وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية ... رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني ...
حين مررت منها ...
" وليد "
وقفت ... و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة ... يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي ...
لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله ...
" وليد "
عادت تناديني ... تعصرني ...
" نعم ؟؟ "
قالت :
" ألم يعد يهمك أمري ؟؟ "
فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا ...
كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم ... و لكن القلق باد عليهما ...
" لم تقولين ذلك !؟ "
قالت :
" لم لم تبد رأيك بشأن زواجي ؟؟ "
تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة
قلت :
" إنه أمر يخصكما وحدكما ... و لا شأن لي به "
رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :
" لكن وليد ... أنا ... "
و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها ...
فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر ... و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :
" وليد ... هل لي بسؤال ؟ "
" تفضل ؟؟ "
تأملني لحظة ثم قال :
"وليد ... لماذا ... قتلت عمّار ؟؟ "
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف ...
فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال
يكاد قلبي ينفطر أسى ... لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني
وليد لم يعد يهتم لأمري ... و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة ...
ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت ... فعادتي أن أنام مبكرة ، ألا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن ... و الألم و الدموع أيضا
لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟
و دليل آخر ... تكرر صباح اليوم التالي ...
فقد نهضت متأخرة ... و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى ...
دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح ... ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم ...
و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة ...
شعرت بألم حاد في صدري ...
قلت :
" كلا ... ابق حيث أنت ... أنا عائدة إلى غرفتي ... اعتذر على إزعاجكم "
و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي ...
و غادرت المكان ...
ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي ...
وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال
" رغد يا عزيزتي ... لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا ... لكنه الحياء ! "
انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري ...
قلت :
" إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي ... ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد "
أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش ...
" رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ "
" إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ ... كأنني فتاة غريبة و موبوءة ... أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ "
و سكت ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي ... كنت أبكي بانفعال ...
والدتي قالت فجأة :
" و الآن ؟؟ "
نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة ...
و الآن ؟؟
أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به ... و إن قرأت بعض معالمه في عينيها ...
إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر ...
و خفت ... من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان ... حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..
في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها
كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب ...
هناك فوجئت بأمر آخر !
خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :
" هل صحيح أنك ... أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ "
دهشت و هالني ما سمعت ... قلت بذهول :
" أنا ؟ من ... قال ذلك ؟؟ "
خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين ...
قالت :
" لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة ... و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام ... و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! "
لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي ... و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول ...
" رغد ... أخبريني بكل شيء ... فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا "
فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !
قلت :
" و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها ... كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ "
نهلة تنهدت و قالت :
" هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! "
" يا إلهي ! "
ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :
" أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر "
قفزت أنا واقفة بغضب ...
" نهلة ! "
ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :
" قلت لك يا أمي ... تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية ... أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني "
" يكفي نهلة ... "
قلت بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :
" هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! "
قلت :
" لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه ... و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه"
نهلة جلست على السرير ، و قالت :
" ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! "
انزعجت من هذا ... فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى ... لكن ...
" أرجوك نهلة لنغير الموضوع ... لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ ... و إن بدا عليها عدم الاقتناع ... لكن لندع الأمر ينتهي الآن ... "
و أتيت و جلست قربها ... ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير ...
" إذن ... ماذا قررت ؟ مع دانه أم بعدها ؟؟ "
تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته ... قلت :
" لم أقرر يا نهلة ... لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ "
نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :
" لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! "
" لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن ... تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه "
كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة ... و أجبرني على النظر إلى عينيها ...
قالت :
" تقصدين لا تحبينه ... "
و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا ...
التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق ...
" لا تهربي رغد ! أنت لا تحبينه ! "
استسلمت ... و غضضت بصري ... أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة ...
نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري ...
نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :
" رغد ... لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك ... إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! "
" نهلة ! ... "
و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :
" أليس كذلك ؟؟ "
عدت أحدق بها ... في حيرة من أمري ...
قلت :
" من أتزوج إذن ؟؟ "
هي ابتسمت و قالت بمكر :
" أخي حسام ! "
رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !
" آه ... رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! "
قلت بنفاذ صبر :
" قلت لك ! لا تتوبين !"
قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :
" صدقيني يا رغد ... إنه مهووس بك ! "
قلت :
" و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! "
قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :
" من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! "
" قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانه ! "
ضحكت نهلة و قالت :
" سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! "
و استمرت في الضحك ...
الجملة أثارتني كثيرا ... غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :
" قلت لك دعي وليد و شأنه ... لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ "
نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة ...
" ما الأمر رغد ! كنت أمزح ... لم انفعلت هكذا ؟؟ "
خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا ...
بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح ... لم علي الانفعال هكذا ؟؟
اعتقد أن وجهي تورد ... فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي ...
التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة ... التي تعرفني عز المعرفة ...
" رغد ... ماذا دهاك ؟؟ "
" أنا ؟ لا شيء ... لا شيء "
و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري ... بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة ... متظاهرة بالبرود ...
قالت تحاصرني :
" وليد غائب الآن ؟؟ "
قلت :
" لا ... عاد إلينا منذ يوم أمس الأول ... "
و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور ... و حتى الأخبار السياسية و الرياضية ... و صور اللاعبين !
" أوف ! "
أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !
يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !
" ماذا دهاك ؟؟ "
" إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي ... أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانه المسكينة ! "
" و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ "
" كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! "
و ضحكنا بمرح ...
ثم قالت :
" و خطيبك سيرحل اليوم ؟ "
" نعم ... خلال ساعتين "
" إذا ... ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ "
وقفت ... و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة ... فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا ... و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن ...
قلت :
" إنه مع وليد ... الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟
تحشرج صوتي في حنجرتي ... و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه ... لكنه سمعه !
" أريد أن أتحدث إليك "
" خيرا ؟ "
كل هذا و هو مدير ظهره إلي ... أمر ضايقني كثيرا ...
" وليد ... أنا أحدثك ! أنظر نحوي ! "
استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني ...
كم آلمني ذلك ...
قلت :
" لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ "
بدا مضطربا ثم قال :
" تفضلي ... قولي ما عندك "
و تنهد بضيق ...
قلت بمرارة :
" إذا كنت لا تود الاستماع إلي ... و لم يعد يهمك أمري ... فلا داعي لقول شيء "
وليد التزم الصمت ...
ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف ...
أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل ... و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة :
" انتظر ... "
وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب ... و رأيت النار تشتعل في عينيه ... كان مرعبا جدا ...
الدموع تغلبت علي الجفون ... و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين ...
وليد توتّر ... و تلفت يمنة و يسرة ... ثم قال :
" لماذا تبكين الآن ؟؟ "
قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها ... ثم فتحتهما :
" لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ "
الرعب ... و الذعر و الهلع ... أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة ... قبل أن يضربني بكلماته التالية :
" يا ابنة عمي ... لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها ... أنت الآن امرأة بالغة ... و على وشك الزواج ... لدي حدود معك لا يجوز تخطيها ... و لديك سامر ... ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا "
و تركني ... و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه ...
اختفى وليد ... و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني ... وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن ..
مسحت بقايا دموعي و آثارها ... و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة ...
أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس ...
سامر ... كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل ...
اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها ... ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين ... ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام ... ثم قلت :
فكلما شعرت بالضيق ، عكفت على التدخين بشراهة ...
و رؤية رغد و سامر يقبلان نحونا ... و أصابعهما متشابكة جعلت شعبي الهوائية تنقبض و تنسد ...
سامر جلس معنا ، و ذهبت رغد إلى الداخل ...
بعد قليل دخلت قاصدا الذهاب إلى غرفة سامر و إحضار السجائر ، فرأيتها أمامي ...
الغضب الذي كان يسد شعبي مع ذلك الهواء خرج فجأة باندفاع مصبوبا عليها ... فتحدثت معها بقسوة رافضا الإصغاء إلى ما كانت تود إخباري به ...
الآن أنا في الغرفة أشعر بالندم ...
لماذا أصبحت أعاملها بهذه الطريقة ؟؟
أليست هذه هي رغد ... طفلتي الحبيبة المدللة ؟؟
رغد ...
أتسمعون ؟؟
أتدركون ؟؟
إنها رغد ! رغد !
حملت سجائري و ذهبت في طريقي إلى الخارج ...
عند عبوري الممر قرب المطبخ لمحت أختي دانه ، و كانت ترتدي مريلة خاصة بالمطبخ و توشك على المسير نحو الباب ...
" وليد ! ... أوه سجائر ! "
ثم مسكت أنفها بإصبعيها كمن يمنع رائحة كريهة من اقتحام أنفه !
" لن أدخن هنا ! "
قالت :
" أنا أيضا ذاهبة لوداع سامر ! رغد الكسولة تركتني أعمل وحدي ! "
و خرجنا سوية ...
رغد كانت تجلس قرب سامر ... الذي يبدو على وجهه الانفعال و السرور !
قالت دانة :
" آسفة سامر سأودعك الآن و أعود للمطبخ ! "
و وجهت كلامها إلى رغد :
" فالكسالى يجلسون هنا ! و لكن بعد أن أتزوج ستقع على رؤوسهم أعمال المنزل
رغما عنهم ! "
سامر ضحك ، و كذلك والدي ... أما رغد فألقت نظرة لا مبالية على دانه ثم أخذت تشرب الشاي ...
والدتي قالت :
" بل على رأسي أنا ! فأنتما ستخرجان من هنا في ليلة واحدة ! "
أنا صعقت ... و اكفهر وجهي ... و حملقت في رغد ... أما دانه فقالت :
" ماذا ... أمي ؟؟ هل ...؟؟ "
سامر قال :
" قررنا أخيرا !! "
دانه سارت نحو رغد ببهجة فوقفت الأخرى و تعانقتا ...
" أيتها الخبيثة ! هل تريدين سرقة الأضواء مني ؟؟ "
و ضحكتا بمرح ...
ثم عانقت دانة سامر و تمتمت ببعض الكلمات ، ثم ودعته و عادت إلى الداخل ...
" يجب أن أغادر الآن ! "
قال ذلك سامر ... فوقف والدي ، و احتضنهما و قبل رأسيهما ...
ثم أمسك بيدي رغد ، و ضمها إليه في عناق طويل ...
كل هذا و أنا واقف كالشجرة التي إلى جانبي ... أشعر بالصواعق تضربني من كل جانب ، و أعجز عن فعل شيء ...
و الآن ... يقبل الخائن نحوي أنا ... يريد توديعي ...
ابتعد يا سامر فأنا أشعر برغبة جنونية في ضربك ! و لا أعرف أي قوية امتلكت لحظها و منعت يدي من أن تحطم وجهه ...
صافحته و عانقته عناقا باردا خال من أية مشاعر ... و تركته يذهب ...
بعدما خرج ، تجاوزت الطاولة و من يجلس حولها ، و وقفت بعيدا لئلا أزعج أحدا بدخان سجائري ...
كنت أسمع أصوات الثلاثة ، أبي و أمي و الخائنة يتحدثون عن أمور الحفلة و الإعداد لها ...
و كنت أشعر بأن طبقة سميكة من الإسمنت قد صبت على صدري و يبست و كتمت أنفاسه ...
أمي ذهبت بعد ذلك للمطبخ لتساعد دانه ، و بقي والدي مع رغد ...
كنت أختلس نظرة ناحيتهم من حين لآخر ... والدي كان يجلس موليا ظهره إلي أما الخائنة فكانت تواجهني
و لم يحدث أن التفت ُّ إلا و اصطدمت نظراتنا ، فزادت الإسمنت على صدري طبقة بعد طبقة ...
والدي تلقى مكالمة عبر هاتفة المحمول ، ثم انصرف إلى الداخل ...
و بقيت صغيرتي وحدها تشرب الشاي ... توقفت عن الالتفات إلى الوراء ... و شردت في اللاشيء الذي لا أراه أمامي ...
و الآن شعرت بحركة خلفي ... و بقيت كما أنا أرتقب ... و ظهر ظل أمامي يكبر و يكبر ... و الفتاة الواقفة خلفي تقترب و تقترب ... و الآن توقفت ...
لثوان معدودة ... ظلت رغد واقفة خلفي و أنا لا أملك من الشجاعة و القوة ما يمكنني من الاستدارة إليها ... و لكني أرى ظلها أمامي ... و أرى يدها تتحرك نحوي ... ثم تتراجع ... ثم تستدير ... ثم تنسحب ...
عندما ابتعدت استدرت أنا للخلف و رأيتها و هي تسير مبتعدة و يدها تمسح ما قد يكون دموعا منسكبة على وجهها ...
مددت يدي ... أريد أن أمسك بها ... أمسك بظلها ... أمسك بطيفها ... أمسك بدمعها ... أمسك بذرات الهواء التي لامستها ... و اختفت رغد ... و عادت يدي فارغة لم تجني غير الحسرة و الألم ...
عندها ، تلوّت معدتي أيما تلوي ... و عصرت كما تعصر الملابس المبللة باليدين ...
في تلك الليلة ، حضر نوّار خطيب شقيقتي و قد جالسته لبعض الوقت ...
و رغم أنه دمث الخلق ، ألا أن نفسه لا تخلو من الغرور و التعالي ... و قد أحرجني لدى سؤاله لي عن دراستي المزعومة و أعمالي و خبراتي المعدومة !
و كنت أختصر الإجابات ببعض جمل غامضة ، و سرعان ما انسحبت تاركا الخطيبين يستمتعان بعشائهما ...
و لشدة الآلام ـ الجسدية منها و النفسية ـ فإنني اكتفيت بقدر يسير من الطعام ... و ذهبت إلى غرفة سامر متحججا بالنعاس ...
رغد لم تكن قد شاركتنا الوجبة ، فلا أظنها تفكر في فعل ذلك بعد الطريقة الفظة التي عاملتها بها ...
الندم يقرصني و يوخز جميع أعصابي الحسية ... إضافة إلى آلام المعدة الحادة ...
و مرة أخرى خرجت الدماء من جوفي و زاد قلقي ... لابد أنني مصاب بمرض ... و لابد لي من مراجعة الطبيب ...
على السرير تلويت كثيرا حتى قلبت المفارش و البطانيات و الوسائد رأسا على عقب ...
أفكاري كانت تدور حول رغد ... كيف لي أن أهدأ لحظة واحدة ... و موعد زفافها قد تحدد !
لو كان باستطاعتي تأجيله قرنا بعد ... فقط قرن واحد ... أضمن فيه أنها تبقى معزولة عن أي رجل ... و تموت دون أن يصل إليها أحد ...
أخرجت صورة رغد الممزقة و جعلت ألملم أجزاءها ، و أتاملها ، ثم أبعثرها من جديد
و أعود لتجميعها كالمجنون ...
نعم مجنون ... لأن تصرف كهذا لا يمكن أن يصدر من كائن عاقل ...
تركتها ملمومة على المنضدة التي بجواري ... و قمت أذرع الغرفة ذهابا و جيئة كبندول الساعة !
اقتربت الساعة من الواحدة ليلا ... و أنا ما بين آلم معدتي الحارق و ألم قلبي المحترق ... حتى رغبت في تناول أي شيء من شأنه أن يهدئ الحريق المشتعل بداخلي ...
و تنفُّس أي شيء يطرد الضيق من صدري ...
أخذت علبة سجائري ... و خرجت من الغرفة ... تاركا الباب مفتوحا ...
ذهبت أولا إلى المطبخ و حملت علبة حليب بارد معي فقد لاحظت تأثيره المهدئ على معدتي ، و خرجت إلى الفناء ... و بدأت بشربه و التدخين معا ...
لا أستطيع أن أنام و أنا أفكر ... و أفكر و أفكر ... فيما قاله وليد لي ... و الصداع يشتد لحظة بعد أخرى ...
كم آلمني ... أن أكتشف أنه لم يعد يهتم بي أو يرغب في رعايتي كالسابق ...
لقد تغير وليد ... و أصبح قاسيا و مخيفا ... و غريبا ...
كنت أبكي حسرة و مرارة ... فأنا فقدت شيئا كان يشغل حيزا كبيرا من حياتي ...
و منذ ظهوره ، و أنا في صراع داخلي ...
بقيت فترة طويلة أتأمل صورته التي رسمتها قبل شهور ... و لم أتمها ...
و إذا بي أرى نفسي ألّون بياض عينيه باللون الأحمر الدموي ... ! غضبا و حسرة ...
صار مخيفا ... مرعبا ...
دانه كانت تمضي وقتا غاية في السعادة و المتعة مع خطيبها الذي تحبه ... و هذا يجعلني أتألم أكثر ... لأنني لا أحظى بالسعادة التي تحظى بها ... و لا أشعر بالمشاعر التي تشعر هي بها تجاه خطيبها ...
غدا هو يوم دراسة ، و يجب أن أنام الآن و إلا فإنني سأنام في القاعة وسط الزميلات !
خرجت من غرفتي و في نيتي ابتلاع قرص مسكن من الأقراص الموجودة في الثلاجة ، و فيما أنا أعبر الردهة لاحظتُ باب غرفة سامر مفتوحا ...
تملكني الفضول !
سرت بحذر و هدوء نحو الغرفة !
وقفت على مقربة و أصغيت جيدا ... لم أسمع شيئا ...
اقتربت أكثر خطوة بعد خطوة ، حتى صرت عند فتحة الباب ، و أطللت برأسي إلى الداخل بتهور ... لكني لم أجد أحدا !
عندها فتحت الباب على مصراعيه بسرعة ... و بذعر و هلع صحت :
" وليد ! "
قفزت و أنا أركض كالمجنونة ... أجول في أنحاء المنزل و في رأسي الاعتقاد الصاعق بأن وليد قد فعلها و رحل خلسة ...
الدموع تسللت من عيني من شدة ما أنا فيه ، و شعرت برجلي ّ تعجزان عن حملي فصرت أترنح في مشيتي مخطوفة الفؤاد ... منزوعة الروح ...
و انتهى بي الأمر إلى باب المدخل ...
وقفت عنده و مسكت قبضته و ركّزت كل ثقلي عليها لتدعمني لئلا أقع ... فإن انفتح الباب ... فلا شك أن وليد قد غادر و تركه مفتوحا ...
و انفتح الباب و انهرت أنا مع انفتاحه ...
لقد فعلها و فر خلسة دون وداعي ... خارت قواي و أخذت أبكي و أنحب بصوت عال ...
" لماذا ؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ "
فجأة ... ظهر شيء أمامي !
كنت أجلس عند الباب بلا حول و لا قوة ... و شعرت بشيء يتحرك فأصابني الذعر الشديد ... فإذا به وليد يظهر في المرأى ...
" رغد !!؟ "
لم أصدّق عيني ... هل هذا شبح ؟؟ أم حقيقة ؟؟
جسم كبير ... طويل عريض ... متخف في الظلام ... يتقدم نحوي ... لا يُرى شيءٌ منه بوضوح غير لهيب السيجارة التي بين إصبعيه ...
" رغد ... ما ... ماذا تفعلين هنا ...؟؟ "
و كدمية كهربائية قد فُصِل سلكها عن المكبس ، شللت ُ عن الحركة ...
حتى رأسي الذي كان ينظر إلى الأعلى ... الأعلى .. حيث موضع عيني وليد ، هوى إلى الأسفل ... متدليا على صدري سامحا للدموع بأن تبلل الأرض ...
لم أجد في بدني أي مقدار من القوة لتحريك حتى جفوني ...
وليد وقف مندهشا متوجسا برهة ... ثم جلس القرفصاء أمامي ... و قال بصوت حنون جدا ...
" صغيرتي ... ؟؟"
الآن ... كسبت من الطاقة ما مكنني من رفع رأسي للأعلى و النظر إليه ...
و بقيت أنظر إلى عينيه و تحجبني الدموع عن قراءة ما فيهما ...
" ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ "
" هل تريد الرحيل دون وداعي ؟؟ "
لم تخرج الكلمات كالكلمات ... بل خرجت كالبكاء الأجش ...
" الرحيل ؟؟ من قال ذلك ؟؟ "
" ألست ... ألست تريد الرحيل ؟؟ "
" لا ... خرجتُ أدخّن ! ... لكن ... ما الذي تفعلينه أنت هنا في هذا الوقت ؟؟ "
أخذت نفسا عميقا و أطلقت الكلمات التالية باندفاع و بكاء :
" ظننت أنك رحلت ... دون علمي و وداعي ... كما فعلت في قبل سنين ...
تركتني وحيدة ... في أبشع أيام حياتي ... "
مد وليد يده فجأة و بانفعال نحوي ، ثم أوقفها في منتصف الطريق ، و سحبها ثانية ...
قلت :
" حتى لو لم أعد أعني لك شيئا ... لا ترحل دون علمي يا وليد ... أرجوك لا تفعل ... عدني بذلك ... "
وليد ظل صامتا لا يجرؤ على شيء سوى الإصغاء إلي ...
قلت :
" عدني بذلك وليد أرجوك ... "
هز رأسه إيجابا و قال :
" أعدك .. "
نظرت إليه بتشكك ... كيف لي أن أثق بوعوده ... ؟؟ ...
قلت :
" اقسم "
وليد تردد قليلا ثم قال :
" أُقسِم ... لن أرحل دون علمك ... صغيرتي ... "
شعرت بالراحة لقسمه ... و سحبت نفسا عميقا ليهدئ من روعي ...
وليد حملق بي قليلا ثم وقف ... و رفع سيجارته إلى فمه و سحب بدوره نفسا عميقا ...
وقفت أنا ، و سمحت للباب الذي كنت أستند عليه و أحول دون انغلاقه أن ينغلق
نفث هو الدخان للأعلى ، ثم قال و هو لا يزال ينظر عاليا :
" لم استيقظت الآن ؟؟ "
قلت ، و أنا أراقب الدخان يعلو و ينتشر ...
" لم أنم بعد "
قال :
" لم ؟ ألن تذهبي غدا إلى الكلية ؟ "
قلت :
" بلى ... لكن ... لدي أرق "
و صمت ...
ثم سألته :
" و أنت ؟ "
قال :
" كذلك ، لذا خرجتُ أدخن ... في ساعة كهذه "
قلت :
" هل ... يريحك التدخين ؟؟ "
وليد لم يجب مباشرة ، ثم قال :
" نعم ... إلى حد ما ... يرخي الأعصاب ... "
قلت :
" دعني أجرب ! "
وليد التفت إلي بدهشة و نظر باستغراب !
" ماذا ؟؟ "
" أريد أن أجرب ! "
اعتقد أنها ابتسامة تلك التي ظهرت على إحدى زاويتي فمه !
قال :
" هل تعنين ما تقولين ؟؟ "
" نعم ... أتسمح ؟؟ "
وليد هز رأسه اعتراضا و قال :
" لا ... لا أسمح "
" لم ؟ "
" لا أسمح لشيء كهذا بدخول صدرك ... "
" لكنه يدخل صدرك ! "
قال :
" أنا صدري اعتاد على حمل السموم و الهموم ... "
ثم رمى بالسيجارة أرضا و سحقها تحت حذائه ...
و علت وجهه علامات التألم ، و ضغط بيده على بطنه و قال :
" لندخل "
و حينما دخلنا ، قال :
" تصبحين على خير "
و اتجه نحو المطبخ ...
أنا تبعته إلى هناك فرأيته يخرج علبة حليب بارد و يجلس عند الطاولة و يرشف منها ...
و بعد رشفة أو رشفتين سمعته يتأوه ... و يسند رأسه إلى الطاولة في وضع يوحي للناظر إليه بأنه يتألم ...
دخلت المطبخ ... فأحس بوجودي ... فرفع رأسه و نظر إلي ...
" ألن تخلدي للنوم ؟ الوقت متأخر "
شعرت بقلق شديد عليه ... قلت :
" ما بك ؟؟ "
أبعد نظره عني و قال :
" لا شيء "
لكني كنت أرى الألم باد على وجهه ... و عاد يشرب الحليب جرعة بعد جرعة ...
تنهد بنفاذ صبر و شرب بقية الحليب دفعة واحدة ، ثم نهض ... و خطا نحوي ...
" تصبحين على خير "
و تجاوزني ، و ذهب إلى غرفة سامر ... و أغلق الباب ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
صحوت من النوم على صوت والدتي توقظني من أجل تأدية صلاة الفجر ...
كنت قد نمت قبل ساعة و نصف ، و أشعر بإعياء شديد ...
أفقت من النوم فوجدتها واقفة قربي ... نهضت و ذهبت للتوضؤ ، و عندما عدت وجدتها لا تزال واقفة عند نفس المكان تنظر إلى المنضدة ...
ما أن أحست بوجودي حتى استدارت نحو بسرعة ، و قالت :
" والدك ينتظرك ... "
ثم خرجت من الغرفة ....
ألقيت نظرة على المنضدة التي كانت أمي تراقبها قبل مجيئي ... فإذا بي أرى صورة رغد الممزقة ... التي نسيتُ إعادتها إلى محفظتي ليلا ...
شعرت بالقلق ... لابد أن أمي رأت الصورة واضحة ... و لابد أن شكوكا قد راودتها
إلا إذا كان احتفاظ رجل لصورة ممزقة لطفلة كان متعلقا بها بجنون ... هو أمر مألوف و مشهد تراه كل يوم ... !
أدينا الصلاة في مسجد قريب و عدت إلى السرير و نمت بسرعة قياسية ...
عندما نهضت ، كان ذلك قبيل الظهر و لم يكن في البيت غير والدتي ، فوالدي في مكتبه ، و رغد في الكلية ، و دانه مدعوة للغداء في مطعم ، مع خطيبها ...
أمي لم تشر إلى أي شيء بحيال تلك الصورة ... لذا ، تجاهلت الأمر ... و أقنعت نفسي بأنها نسيت أمرها ...
لم أرَ صغيرتي ذلك النهار ، إذ يبدو أنها عادت من الكلية عصرا و ذهبت للنوم مباشرة في وقت كنت أنا فيها مشغول بشيء أو بآخر ....
و في الليل ... و قبل ذهابي إلى غرفة المائدة لتناول العشاء ، مررت بالمطبخ فرأيت صغيرتي تأكل وجبتها منفردة هناك ...
عندما رأتني توقفت عن الأكل و انخفضت بعينيها إلى مستوى الأطباق ... في انتظار مغادرتي ...
آلمني أن أراها وحيدة هكذا فيما نحن مجتمعون معا ... قلت :
" تعالي و انضمي إلينا "
رغد حملقت بي قليلا متشككة ثم سألت :
" ألا يزعجك ذلك ؟؟ "
قلت :
" لا ... صغيرتي "
و سرعان ما حملت أطباقها و طارت إلى غرفة المائدة ... بمنتهى البساطة !
فيما نحن نتحدث عن أمور شتى ، قال والدي :
" أيمكنك يا وليد اصطحاب رغد من و إلى الجامعة يوميا ؟؟ إن تفعل تزيح عن عاتقي مشوارا مركبا "
و لأنه لم يكن لدي ما أقوم به ، لم أجد حجة تمنعني من الموافقة ... لكن بعض الاستياء ظهر على وجه والدتي ... أنساني إياه البهجة التي ظهرت على وجه رغد ... أو ربما توهمت أنها ظهرت على وجه رغد !
في اليوم التالي كان علي أن أنهض باكرا من أجل هذه المهمة ، و رافقتنا والدتي هذه المرة ....
المشوار كان يستغرق قرابة العشرين دقيقة .
رغد كانت تركب المعقد الخلفي لي ، ذهابا و إيابا ... و كانت تلتزم الصمت معظم المشوار إلا عن تعليقات بسيطة عابرة ...
في المساء ، كنا نقضي أوقاتا ممتعة في مشاهدة أحد الأفلام ، أو مزعجة في متابعة الأخبار و ما آلت إليه الأوضاع الأخيرة ، أو محرقة في الحديث عن الزفاف المرتقب ...
أتناول وجباتي معها ... آخذها إلى الجامعة أو أي مكان تود ... أتبادل بعض الأحاديث معها بشأن دراستها و ما إلى ذلك ... أتفرج على لوحاتها الجديدة ...
أرافقها هي و دانة و أمي إلى الأسواق ... أنصت باهتمام كلما تحدثت و أراقبها دون أن أشعر كلما تحركت ...
كل هذا ... قد أثار جنوني ... و ذكريات الماضي ... فصرت أشعر بأنها عادت لي ... طفلتي الحبيبة التي أعشقها و أعشق رعايتها ...
أخذني جنوني إلى التفكير بعدم الرحيل ...
كيف لي أن أبتعد عنها و أنا متعلق بها بجنون ...
كيف لي أن أسمح للمسافات و الزمن بتفريقنا ؟؟؟
إنني سأبقى حيث تكون رغد ... لأنه لا شيء في هذه الدنيا يهمني أكثر منها هي ...
سأبحث عن عمل ، و استقر هنا إلى جانبك ...
سأبقى قربك يا رغد ... نعم قربك يا صغيرتي الحبيبة ...
ثم ... و باتصال هاتفي واحد من سامر ... يتحطم كل شيء ، و أسقط من برج الأوهام الطرية ، إلى أرض الواقع القاسية الصلبة ... و يتدمر كل شيء ...
لم تكن صغيرتي تملك هاتفا في غرفتها ، لذلك فإن مكالماتها تكون على مرأى و مسمع من الجميع ... و كلما تحدثت إلى سامر غمرتني رغبة في تقطيع أسلاك الهاتف و الكهرباء ... في المنزل برمته !
في أحد الأيام ، كنت ذاهبا لإحضارها من الجامعة ، و صادف أن الشارع كان مزحوما و شبه مسدود بسبب حادث مروري ...
طال بي المشوار و أنا أسير ببطء شديد بسبب الحادث ... و عوضا عن الوصول خلال 20 دقيقة وصلت بعد 40 دقيقة على الأقل ...
عادة ما تكون صغيرتي تنتظرني عند الموقف حيث تقف الطالبات ، ألا أنني الآن لم أجدها ...
انتظرت بضع دقائق ، لكنها لم تخرج ... وقفت في مكاني حائرا
ثم اتجهت إلى الحارس و أخبرته بأنني أنتظر قريبتي و لم أرها ، فطلب اسمها ثم اتصل برقم ما ، و بعدها بدقيقتين رأيت رغد تخرج من البوابة ... مع بعض الفتيات ...
كنت لا أزال واقفا قرب الحارس ، نظرت هي باتجاهي و ظلت واقفة حيث هي ... و تتحدث إلى زميلاتها ...
شكرت الحارس ثم تقدمت ُ إليها فودعتهن و أتت نحوي ...
" أنا آسف ... تأخرت ُ بعض الشيء "
" بل كثيرا "
قالت بغضب ... ثم سارت نحو السيارة ...
بعدما اتخذنا مقعدينا ، و قبل أن ننطلق عدت ُ أقول :
" آسف صغيرتي ... "
و لكنها لم تجب ، و فتحت نافذة السيارة لأقصى حد ... يبدو أنها مستاءة و غاضبة !
و نحن نسير بالسيارة مررت من حارس الأمن ذاته فألقيت التحية عبر النافذة و انطلقت ...
" كيف تلقي تحية على شخص بغيض و غير مهذب كهذا ؟؟ "
تعجّبت من سؤالها ! قلت :
" لم تقولين عنه ذلك ؟؟ "
" كلما خرجت ُ لأرى ما إذا كنت َ قد وصلت َ أم لا ، وجدته ينظر باتجاه المدخل ... كان أجدر بك أن تصفعه ... لقد كنت أخرج فأجد والدي في انتظاري هنا كل يوم ... إياك و أن تتأخر ثانية "
يا له من أسلوب !
قلت :
" حاضر ... أنا آسف "
صمتت برهة ثم قالت :
" و كذلك ابق هاتفك المحمول مشغلا ، كلما اتصلت وجدته مغلقا "
و أخرجت هاتفي من جيبي فاكتشفت أنه كان مغلقا سهوا ...
" حسنا ... لم انتبه له "
و أيضا صمتت برهة ثم عادت تقول :
" و لا تخرج من السيارة ... ابق حيث أنت و أنا سآتي إليك "
عجبا لأمر هذه الفتاة ! قلت :
" و لم ؟؟ "
قالت بعصبية :
" افعل ذلك فقط ... مفهوم ؟؟ "
قلت باستسلام :
" مفهوم ... سيدتي !! "
لحظتها اجتاحتني رغبة بالضحك ، كتمتها عنوة !
و توقفت عن الكلام ...
و طوال الوقت ظلت صامتة بشكل لم يرحني ... لابد أنها لا تزال غاضبة لأنني تأخرت ...
حينما شارفنا على بلوغ المنزل ... راودتني فكرة استحسنها قلبي و استسخفها عقلي ... لكنني قبل أن أقع في دوامة التردد طرحت السؤال التالي :
" هل ... هل ترغبين ببعض البوضا ؟؟ "
طبعا السؤال كان غاية في السخف و الحماقة ... لكنني كنت أسيرا للذكريات ... ففي تلك الأيام ... كنت أغدق العطاء بالبوضا و غيرها على صغيرتي كلما غضبت لإرضائها !
شعرت بالندم لأنني تفوهت بهذه الجملة الغبية ... و كنت على وشك الاعتذار ألا أن رغد قالت بمرح و على غير ما توقعت :
" نعم ... بالتأكيد ! "
أوقفت السيارة عند محل لبيع البوضا ، قريب من المنزل ... و سألتها :
" أي نوع تفضلين ؟؟ "
قالت :
" هل ستتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "
و فتحت الباب هامة بالنزول
دخلنا المحل ، و كان يحوي عددا من الناس ، ما جعل رغد تسير شبه ملتصقة بي ...
بعد ذلك ... انتهى بنا المطاف إلى المنزل ، و لو تركت الساحة لأحلامي لأخذتني مع صغيرتي في نزهة ... كما في السابق ...
ألا أنني طردتها بعيدا و عدت بالصغيرة إلى المنزل ... و أنا مسرور و مرتاح ... فرائحة الماضي أنعشت رئتي ...
ليت الأقدار لم تفرقني عنك يا رغد ...
ليتك تعودين إلي !
ليتنا نتناول البوضا أو البطاطا المقلية سوية ... كل يوم ...
ما أجملها من لحظات ...
و نحن نحمل البوضا اللذيذة برضا و سرور دخلنا إلى داخل المنزل ، ثم إلى غرفة المعيشة ... حيث فوجئت بالنار تصهر ما بيدي ... و ما بصدري ... و ما بجوفي و داخلي ...
هناك كان سامر يجلس مع والدي ّ و دانه ...
حضر على غير توقع و دون سابق إبلاغ ...
حينما رآنا نهض بسرور و جاء يرحب بنا ...
نصيبي من الترحيب كان محدودا ... مقابل نصيب الفتاة التي تقف إلى جواري ... تحمل البوضا في يد ، و الحقيبة في اليد الأخرى ...
السعادة المؤقتة التي أوهمت نفسي بها تلاشت نهائيا ... و أنا أرى سامر يطوقها بذراعيه ...
" اشتقت إليك عروسي ! "
البوضا وقعت و لوثت الأرض ...
بل قلبي هو من وقع أرضا و لوثت دماؤه الكرة الأرضية بأكملها ...
انثنيت نحو الوضا المنصهرة أود التقاطها ...
" دعها بني ، أنا أرفعها "
و أقبلت أمي لتنظف ما تلوث ...
" ملابسك تلوثت وليد "
" حقا ؟ سأذهب لتغييرها "
أهي ملابسي من تأذت ؟؟
و انصرفت مسرعا ... لا يحركني شيء غير الغضب و الغيرة المشتعلة في صدري ... و رغبة مجنونة في أن أوسع سامر ضربا ... إن بقيت انظر إليه دقيقة أخرى بعد ...
محال أن أبقى في هذا المنزل ليلة أخرى ... و الليلة بالذات ... سأرحل و بلا عودة .
بدأت أشعر بأن وليد يهتم بي ... إلى حد ما ... و هو شعور جعلني أحلق في السماء ...
و اليوم ، تأخر عن موعد حضوره للجامعة عصرا ، و بعدما وصل خرجت أنا و بعض زميلاتي كل واحدة في طريقها لسيارتها ...
وليد كان يقف قرب حارس البوابة ... و هو شخص غير محترم ... نبغضه جميعنا..
رأتني إحدى زميلاتي أنظر ناحية وليد فسألتني :
" إلى من تنظرين !؟ "
قلت باستياء :
" من تظنين ؟ الحارس ؟ طبعا إلى ابن عمّي "
قالت و هي تنظر إليه :
" تعنين هذا الرجل ؟؟ "
" نعم "
قالت :
" واو ! كل هذا ابن عمك !؟ حجم عائلي ! "
و ضحكت هي و فتيات أخريات ضحكات خفيفة !
و قالت أخرى :
" ما شاء الله ! مع أنك صغيرة الحجم ! أنت و ثلاث أخريات معك مطلوبات من أجل التوازن ! "
و ضحكن كلهن !
قلت بغضب :
" مهلا فليس هذا هو خطيبي "
ثم ودعتهن على عجل و سرت نحوه ...
عندما عدنا إلى البيت و نحن نأكل البوضا باستمتاع ، وجدت سامر هناك فدهشت ...
لم يكن قد أبلغنا بأنه قادم ، كما و أنه غير معتاد على الحضور نهاية أسبوعين متتاليين !
أخبرني في وقت لاحق بأنه اشتاق إلي .. و يريد أن نتحدث عن الزفاف المرتقب ، و الذي لم يسعه الوقت للحديث حوله في المرة الماضية ...
قضينا أمسية عائلية هادئة لم يشاركنا فيها وليد معللا بآلام معدته المزعجة ...
أظن أن السبب هو التدخين !
في اليوم التالي ، أيقظتني أمي لتأدية صلاة الفجر ...
عندما رأيتُ عينيها حمراوين متورمتي الجفون ، سألت بقلق :
" أمي .. ماذا هناك ؟؟ "
أمي مسحت براحتها على رأسي و قالت بحزن :
" رحل وليد "
جن جنوني ...
و قفزت ... و ركضت خارجة من غرفتي ... إلى غرفة سامر ... فوجدتها خالية ... و جلت بأنحاء المنزل غير مصدقة و غير مقتنعة ... لا يمكن أن يكون قد رحل !
لقد وعد بألاّ يرحل دون وداعي ...
أقسم على ذلك ...
تدفقت دموعي كمياه السد المتهدم ... تجري بعنف و تدمر كل أمل تصادفه في طريقها ... باب المنزل كان موصدا... والدي و سامر قد ذهبا للمسجد ... فتحت الباب ... و خرجت للفناء مندفعة ... ثم إلى البوابة الخارجية ... فتحت منها القدر الذي يكفي لأن أرى الموقف خال ٍ من أي سيارات ... استدرت ... و هرولت أقصد المرآب ... والدتي أوقفتني ... و أمسكت بكتفي ...
" لا داعي يا رغد ... لقد ودعنا قبل قليل ... "
لا !
لا يمكن أن يفعل ذلك !
لا يمكن أن يختفي من جديد ...
صعقت ... و انفضت أطرافي ... و صحت :
" لماذا لم يودعني ؟؟ "
أمي هزت رأسها بأسى ...
صرخت :
" لماذا يفعل بي هذا ؟؟ لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "
و مسكت بعضدي أمي بقوة و انفعال ... و زمجرت بقوة و عصبية و بكاء أجش :
" لماذا يعاملني بهذا الشكل ؟؟؟ لقد وعد بألا يرحل دون وداعي ... إنه كاذب ... كاذب ... كان يسخر مني ... كان يستغفنلي و يهديني البوضا ! ... كما فعل سابقا
أنا أكرهه يا أمي ... أكرهه ... أكرهه ... أكرهه ... "
لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .
المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ...
كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .
كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي ...
عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات
كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ...
ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ...
كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .
فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..
كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ...
اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .
السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .
قلت :
" معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته "
قالت السيدة :
" من أنت ؟؟ "
أجبت :
" أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر "
تهلل وجه السيدة ، و قالت :
" أنت صديق نديم ؟؟ "
قلت :
" نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... "
و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :
" في السجن ... "
علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري ...
قالت :
" أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ "
" نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم "
قالت :
" و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ "
صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ...
عادت تكرر بخشية :
" أما زال في السجن ؟؟ "
رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟
السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ...
أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... ألا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة :
" البقاء لله "
السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ...
ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت :
" يا ويلي "
أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ...
فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا !
اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :
" سيدتي ! "
و ظهر لي أنها فقدت الوعي ...
عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ...
تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :
" أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... "
و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ...
ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :
" أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني "
وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !
كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ...
فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :
" من هناك ؟؟ "
قلت بسرعة و اضطراب :
" أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها "
اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !
" أمي ! "
صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ...
وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ...
" أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... "
و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها
أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ...
الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :
" خالي ... تعال بسرعة "
تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ...
نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي
" خالي ... أسرع "
يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟
إنني من تسبب في موتها ...
ماذا أفعل الآن ؟؟
لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ...
ألا أن رجليّ لم تسعفاني ...
ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ...
و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ...
أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :
" أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ "
السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ...
الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !
" من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ "
أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ....
الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :
" ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ "
قالت الفتاة :
" يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة "
و تعاونا الاثنان على إسنادها ...
قال العجوز :
" السيارة في المؤخرة ! "
قالت الفتاة :
" أوه كلا ! "
حينها أنا تدخلت و قلت :
" أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة "
نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :
" من أنت ؟؟ "
قلت :
" أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم "
الفتاة نظرت إلي باهتمام ، ألا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :
" أمي ... تماسكي أرجوك ... "
قلت :
" تعالوا معي ... "
و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ...
وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية
تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ...
الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !
قال الطبيب :
" نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج "
رباه !
هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟
كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !
الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ...
بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ...
تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ...
الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا
العجوز يبادر بالسؤال :
" كيف هي ؟؟ "
" نائمة ، لكنها أفضل "
و بعدها تنظر إلي أنا ...
غضضت أنا بصري ... فسألتني :
" من أنت ؟؟ "
أجبت :
" وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه "
قالت :
" إنه والدي "
قلت :
" نعم ... عرفت "
قالت :
" و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ "
صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟
قال :
" بم أخبرت أمي ؟؟ "
و أيضا بقيت صامتا ...
قالت :
" والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ "
رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ...
ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ...
قلت :
" أنا ... آسف ... "
خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت :
" كنت أتوقع ذلك ... "
ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ...
بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ...
و كم أثار ذلك حزني و حنقي ...
أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟
أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟
طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟
و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ...
بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ...
لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ...
و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..
هل أنت على ما يرام ؟؟ "
سألني العجوز ... أجبت :
" أشعر بالإعياء ... "
قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ...
انهرت على السرير هناك و قلت :
" أنا مرهق ... ساعدني ... "
اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ...
بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ...
الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،
فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ...
الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ...
" أ أنت بخير يا هذا ؟ "
" أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ "
" لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك "
و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :
" هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير "
الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :
" سأعود بسرعة "
و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :
" إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد "
خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر
وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة
أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟
أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .
حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :
" من هنا رجاءً "
أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ...
في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ...
قلـــــت:
" سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ "
وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة
قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني :
" تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ "
" وليد ... وليد شاكر أيها العم "
" تفضل يا وليد شاكر "
ترددت قليلا ، ألا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله
المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .
أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ...
" أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل "
قلت :
" لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا "
قال :
" و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ "
" كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! "
قال :
" نعم أجل ... الطعام "
و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ...
الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ...
و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ...
" لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم "
كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !
كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟
قلت :
" يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... ألا أنني ... "
العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !
قال :
" هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها "
و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ...
وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت :
" تفضل يا سيد وليد "
و انصرفت
شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء !
" تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء "
دهشت ! قلت :
" العشاء !؟ "
" نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة "
" أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل "
و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !
العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .
الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !
السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، ألا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ...
قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :
" أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع "
أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ...
يا رب انتقم منهم جميعا ...
عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !
رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... ألا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ...
و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين ...
لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !
في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ...
كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .
على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه
بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !
مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ...
كم كان منعشا و باعثا للنشاط !
أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ...
المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !
فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ...
كانتا ترتديان ملابس سوداء ... ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله ... و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار ... تجرانها جرا ... إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض .
تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق ...
اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع !
تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة ...
و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا ...
" صـ باح الخير "
حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة :
" هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ "
قلت :
" على العكس ... نمت بعمق ... شكرا لكم جميعا "
السيدة قالت مخاطبة ابنتها :
" أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا "
الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت :
" حسنا "
و همت بالذهاب ...
أنا قلت :
" شكرا لكن لا داعي لذلك ... لا أشعر بالجوع الآن "
قالت السيدة :
" بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية "
ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :
" هيا أروى "
الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل ... و السيدة تابعت سحب صندوقها ...
سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة ... فيما هي لا تزال تجر صندوقها !
الآن انتبه العجوز إلي !
" صباح الخير أيها العم "
" أوه ! شاكر ... نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير "
وضعت الصندوق في السيارة و قلت :
" كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !"
سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال :
" أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ "
نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت :
" أفضل مساعدتكم ! "
ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر ... و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس !
أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق ... فتعجبت ! ثم قالت :
" طعامك جاهز أيها السيد ... تفضل إلى المنزل "
و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها ...
وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق ...
كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد ... قلت :
" دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء "
فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها ...
انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم :
" لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله "
شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز
" إلياس ... تعال لتكرم ضيفنا ! "
نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل ...
هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا !
في معرض الحديث ، قال العجوز :
" ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني ... ماذا تعمل ؟؟ "
توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي !
قلت :
" في الواقع أيها العم الطيب ... أنا عاطل عن العمل ! "
دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل ...
قال :
" شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! "
قلت :
" سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! "
قال :
" إذن ... ما هي خطتك الآن ؟؟ "
قلت :
" سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة ... عسى الله أن يوفقني هذه المرة "
بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة ....
حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق ...
نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت :
" ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ "
قال :
" كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! "
يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة !
لو تعلم يا نديم ... !
قلت :
" دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! "
و بدأت العمل !
قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد ...
بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض !
كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له :
" هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك "
بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب ... ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني ...
و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها ...
عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت ... في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء ... غدا و بعده و كل يوم ... اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا
أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر ... دون علم أحد !
الشمس كانت على وشك المغيب ... لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش ...
كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية ... و أفكاري المهمومة ... بما فيها الخائنة رغد !
رغد ...
ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟
و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟
ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى ... و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟
" ماذا تفعل ! "
روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع !
كانت ابنة نديم !
كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد !
ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم ... تنظر نحوي بدهشة !
تتأتأتُ في الحديث ، قلت :
" أأأ ... فكرت في ... بما أنني لازلت هنا ... يمكنني المساعدة قبل ... معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! "
و خفضت بصري نحو الأرض ...
شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها ...
الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب !
قالت :
" لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! "
قلت :
" بلى ... من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن ... ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله ... و أجل عائلته "
الفتا قالت بعد صمت قصير :
" شكرا لك ... أنت رجل نبيل "
و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت :
" لماذا دخلت السجن ؟؟ "
و لما لم تجد مني جوابا ، قالت :
" اعتذر ... تجاهل سؤالي إن كان يزعجك ... "
أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها !
سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة !
متى تنقشعين !؟
يبدو أنها امرأة قوية و جريئة !
ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى ... ذات طباع و شخصيات أخرى ... غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه !
بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي :
" شكرا لك يا سيد وليد ... والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه ... "
قلت بخجل :
" العفو ... سيدتي "
ثم ابتعدت و أنا أقول :
" مع السلامة "
وقعت ِ أخيرا ! "
صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي !
تلفت من حولي و قلت :
" نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! "
نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني !
قالت بحدة و مكر :
" اعترفي يا رغد ... لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! "
مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه !
" سأخنقك ِ يا نهلة ّ "
نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة :
" سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير ... رغد تحب ابن عمّها وليد... دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! "
و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة !
طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع !
تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب ... كانت دانه !
" رغد ... وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! "
حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد ...
عندما رأتني أمي قالت له :
" بني ... هذه رغد ترغب في التحدث معك "
و مدت السماعة إلي ...
أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت :
" وليد ؟؟ "
أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر ...
صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول :
" مرحبا ... صغيرتي "
بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت !
قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة :
" كذّاااااااااااااب "
و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال !
و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري ...
و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها ... حتى كدت اختنق !
بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت :
" نعم ... مفهوم "
أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء ... و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة ... الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها ...
" عزيزتي ... "
ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما ... و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى ... قلت و أنا في غمرة الحزن ... في لحظة صدق و اعتراف
" لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود ... لكنه عاد ... لكنه تركني ... لم يعد يهتم بي ... لأنني سأتزوج سامر ... لكني لا أحب سامر ... لا أحبه ... "
و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير ...
" نهلة ... أنا ... لا أحب سامر ... أنا ... لا أريد أن أتزوج منه "
نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي ...
قالت :
" اخفضي صوتك ... "
شعرت باليأس و فقدِ الأمل ... و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر ...
كيف لي أن أقول هذا ... و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟
لا يحق لي حتى مجرد التفكير ... فقد قضي الأمر ... و انتهى كل شيء ...
بعدما هدأت من نوبة بكائي ... و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي :
" رغد ... لم يفت الأوان بعد ... دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال "
هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها :
" لا ... كلا كلا ... نهلة إياك و الإقدام على هذا ... "
" لكن يا رغد ... "
" أرجوك نهلة ... لا تفسدي علي الأمور ... لقد فات الأوان ... و انتهى كل شيء ... لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع ... "
نهلة أمسكت بيدي و قالت :
" لكن... أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ "
" قدري و نصيبي "
" و وليد ؟؟ "
وقفت ببطء ... و استسلام ... و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم ... مستغفلا إياي بعلبة بوضا !
قلت :
" لم يعد له وجود ... أو داع للوجود "
طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي ...
أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت :
" رغد ... أهناك شيء ؟؟ "
واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت :
" لا ... لا شيء "
و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك ...
هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت :
" يجب أن أذهب الآن ... "
و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ...
قلت :
" نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! "
قالت :
" لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... "
قالت أمي :
" لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا "
ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :
" ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! "
رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :
" نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك "
نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ...
عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !
ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :
" بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! "
لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:
" أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي "
دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :
" لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! "
ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :
" قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ "
و صفعتُ الباب خلفها ...
اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ...
و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ...
لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ...
لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ...
أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ...
كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟
كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ...
و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟
أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟
عدا عن ذلك ...
فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟
حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟
أم ... وليد ...الذي ...
الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟
وليد ... الكذاب !
كذاب !
كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ...
لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟
لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟
ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟
أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !
الخائنان !
كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .
بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ...
كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، ألا أنني شعر بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !
إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ...
لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي .
عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ...
الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبر كسورها بالمطرقة و المسامير !
ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ...
رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :
" مرحبا بك أيها السيد النبيل ... "
هبطت ببصري أرضا و قلت :
" كيف أحوالكم ؟ "
" الحمد لله . ماذا عنك ؟ "
" بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ "
" خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل "
و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :
" سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكم ؟ "
قالت :
" لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك "
و ذهبت مسرعة إلى المنزل ...
أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير !
بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !
شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !
قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :
" دعاني أتولى ذلك "
طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :
" ريثما يعود العم إلياس "
و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !
في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ...
أمر مخز بالفعل !
بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي ...
قلت :
" مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! "
اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !
أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ...
قال العجوز :
" أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ "
قلت :
" ليس بعد ! "
قال :
" إذن ؟؟ "
قلت :
" هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ "
ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !
شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ...
في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان !
و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ...
وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ...
رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ...
أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن !
و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !
اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ...
أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !
هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :
" و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! "
قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :
" لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... "
قال :
" و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ "
أنا ؟؟
أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟
لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية !
" لا يمكنني ... يا أبي ... "
" في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! "
" أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! "
" و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا "
أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !
خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم ...
كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ...
قال العم :
" نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير "
ابتسمت له بفرح ، و قلت :
" بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا "
و هي حقيقة أدركها ... تماما
قالت أروى :
" نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ "
قلت :
" سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... "
قالت :
" أ لديك شقيقات ؟؟ "
قلت :
" نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا "
قالت :
" أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا "
" أنا واثق من ذلك ... "
و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :
" نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود "
و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... !
أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... !
أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ...
تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد .
في أي لحظة قد يصل ...
لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ...
أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !
" عروسي ... تفضلي هذا "
أخذت العصير و شكرته و قلت :
" لم تحضره بنفسك ! ؟ "
ابتسم و قال :
" عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! "
ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ...
سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !
قال :
" لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... "
قلت في نفسي :
ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟
الآن أمسك بيدي و قال :
" ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! "
سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !
قال :
" فيم تفكرين ؟؟ "
التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :
" مندمجة مع التلفاز ! "
سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :
" بل أنت في مكان آخر ! "
لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ...
قال سامر :
" تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ "
التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟
نعم هناك ما يكاد يخنقني !
أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟
سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :
" لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! "
في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... !
بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :
" سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! "
سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :
" إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! "
قالت دانة :
" آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! "
جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... قال سأل سامر منفعلا :
" هل وصل وليد حقا ؟؟ "
قالت :
" نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! "
عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، ألا أنني الآن شعرت بالبرودة !
البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !
دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :
" ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! "
وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي !
أهذا وقته ؟؟
سامر قال :
" فداك ! "
ثم التفت إلى دانه و قال ...
" إلى وليد ! "
و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ...
دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :
" ألن تأتي لتحيته ؟؟ "
قلت :
" سأبدل ملابسي ... "
و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :
" أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي "
دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !
شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ...
من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟
أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا !
مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !
ألست عروسا على وشك الزواج ؟؟
لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !
و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !
أليس هذا من حقي ؟؟؟
طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ...
دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت :
" بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ "
قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :
" أتزين ! ما ترين !؟ "
قالت :
" تتزينين ! الآن ؟؟ "
قلت :
" ماذا في ذلك ؟؟
قالت :
" ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! "
قلت :
" و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... "
ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ...
دانة كانت تحدثني باستنكار ، ألا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ....
لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟
لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟
ماذا جرى لي الآن ؟؟
جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ...
لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟
لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟
كم كان شعورا جميلا ... رائعا ...
و انتهى ...
و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ...
أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !
" رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ "
" أنا ؟؟ لا أبدا "
" إذن ... لم هذه الزينة ! "
حتى أنتِ يا أمي ؟؟
هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !
أهي أفضل مني ؟؟
قلت :
" هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ "
قالت :
" لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! "
" لم يرغب في وداعي ... إذن ... لا أرغب في استقباله ... أنا ... لا أطيق مجالسة الكذابين "
الحلقة الواحدة والعشرون
دلال الاحبة
عندما اقتربت من المنزل اتصلت بهاتفه فأجابني والدي ، و أخبرته أنني قد وصلت ...
والدي خرج لاستقبالي عند باب السور الخارجي للمنزل ، و طبعا استقبلني استقبالا شديد الحرارة !
بعدها ذهبت معه إلى غرفة المعيشة حيث وجدت أمي و أختي دانة ، و اللتين بدورهما رحبتا بي ترحيبا حميما ...
ثم ذهبت دانة لإبلاغ البقية عن وصولي
و البقية تعني : سامر + رغد ...
قالت :
" إنهما يختبئان في غرفة الضيوف ! سأفاجئهما ! "
كانت مازحة ، أو ربما جادة ، في كلا الحالتين هذا يشعرني بالانزعاج ... من أول لحظة !
جلست مع والدي ّ و سكبت لي أمي عصير البرتقال الطازج في أحد الكؤوس و قدمته لي ...
" تفضل بني ...هذا نصيبك "
نصيبي ؟؟ هل كانوا يحسبون لي حسابا ؟؟ إني أرى أربعة كؤوس شُرب محتواها ، و هذا كأسي الخامس ...
بعد قليل أقبل أخي سامر فاتحا ذراعيه ...
قمت و عانقته ، و منها شعرت بأول آلام المعدة !
قال :
" ما شاء الله ! ماذا كنت تأكل يا رجل ! إنك تنتفخ مرة بعد مرة ! "
الجميع ضحك ، و تمتمت والدتي بعبارات التهليل و التكبير و الصلوات !
قلت :
" هل أبدو سمينا لهذا الحد ؟؟ "
قال سامر :
" سمين ؟ لا ! بل عظيم البنية و مفتول العضلات ! يا رجل هل كنت تمارس رياضة حمل الأثقال أم ماذا ؟؟ "
قلت :
" كنت آكل بقرة مشوية كاملة كل يوم ! "
و هنا أقبلت دانة فدخلت و أغلقت الباب من بعدها و قالت مداعبة و موجهة حديثها إلى أبي :
" سيسبب لنا الإفلاس ! هات مصروفا آخر ! "
أبي قال و هو يضحك :
" أفلست ُ بسببك يا ابنتي ! أما كفاك كل ما أخذت ؟؟ "
قالت و هي تضحك :
" من قال لك أن تزوّج ثلاثة أبناء دفعة واحدة ! ؟ "
قال سامر :
" ما ذا لو انضم الكبير إلينا ! ؟ "
يقصدني بذلك !
أمي ابتسمت و نظرت إلي و قالت :
" دعوا الكبير لي ! لن أسلمه لامرأة ما و أنا لم أتهنى بعد به ! "
و ضحكنا جميعا ...
ربما هم يضحكون من قلوبهم لكنني أضحك مجاراة لهم ...
و أدور بعيني فيما بينهم ... و أشعر بشيء ناقص ...
طبعا تعرفون ما أعني !
الصغيرة المدللة لم تأت ِ لتحيتي و لا للعشاء معنا ، و الساعات تمر و هي في غرفتها و حين كررت سؤالي عنها لوالدتي بعد العشاء قالت :
" إنها منزعجة منك ! "
قلت :
" مني أنا ؟؟ "
" نعم ! فأنت على ما يبدو كنت قد وعدتها بألا تسافر دون وداعها ثم خرجت خلسة ! "
قالت دانة :
" دعك من هذه الفتاة المتدللة يا وليد ! لها ألف مزاج في اليوم الواحد ! يا إلهي كيف سأتحمل تصرفاتها وحدي طوال هاذين الأسبوعين ! "
سامر قال :
" حذار من القسوة على عروسي يا دانة ! و إلا حبستك في المطبخ ليلة زفافك ! "
الجميع كان يضحك بمرح ، ألا أنني كنت أشعر برغبة في غرس الشوكة التي أمسك بها في صدر شقيقي ...
توقفوا عن الحديث عن الزفاف المشؤوم هذا ... أفرغت الدنيا من المواضيع ؟؟
قلت مغيرا مسار الحديث الذي كان متمركزا حول الزواج المترقب :
" متى ستعودان من رحلة الحج تحديدا ؟ "
قال أبي :
" ليلة السابع عشر من شهر الحج إن شاء الله "
إنها فترة طويلة سأضطر لتمضيتها مع رغد تحت سقف واحد !
ليت الأيام تنقضي بسرعة !
رغد لم تظهر حتى الآن ... حقيقة هي أنني أنظر ناحية الباب بين الفينة و أختها و أرتقب طلوعها ...
كم اشتقت إليها ... ! هكذا بدون أي تكلّف و ادعاء ، أنا اشتقت إليها !
مرت الساعات و لم تظهر فتملكني الضيق و الانزعاج ... و لولا الحياء و الحرج لذهبت بنفسي إليها ... أهي غاضبة مني لهذا الحد حقا ؟؟
و الشخص الذي ذهب إليها كان بطبيعة الحال شقيقي ...
و بعد أن ذهب لم يعد
على الأريكة الضيقة رميت بجسدي فغرقت في أعماقها ... في غرفة الضيافة .
و للعجب نمت بسرعة لم أتوقعها ! و حين نهضت وجدت جسدي غارقا في العرق !
ساعات الصباح انقضت و الصغيرة لم تظهر ، أكاد أجن ... لم لا تأت لتحيتي و لو بشكل عابر ؟؟
على مائدة الغذاء انتظرت حضورها فلما لم أجدها سألت :
" أين رغد ؟؟ ألن تشاركنا ؟؟ "
دانة بدأت بالضحك ، قم قالت :
" إنها تقلي البطاطا ، فأطباقنا اليوم لم تعجبها و ستأكل البطاطا المقلية كالعادة ! "
نظرت نحو أمي و قلت :
" أرجو ألا أكون السبب في ... "
أمي هزّت رأسها نفيا و قالت :
" لا أبدا بني ! إنها لا تحب السمك كما تعلم كما و أنها كثيرا ما تتغيب عن المائدة خصوصا في الفترة الأخيرة ! "
قالت دانة بحدّة :
" تتدلّل ! "
قال أبي :
" دعوها تفعل ما تشاء "
قال سامر :
" سأستدعيها "
وقفت أنا و قلت :
" أنا سأستدعيها "
و تحركت فورا لأسبق سامر ...
حين وصلت إلى المطبخ وجدت الباب شبه مغلق . طرقته و قلت :
" أيمكنني الدخول ؟؟ "
سمعت صوت رغد يرد علي ...
" من أنت ! ؟ "
عجبا ! من أنا ؟؟ من عساي أكون !؟ بالطبع وليد ! قلت :
" وليد ! "
قالت :
" وليد ؟ لا ! "
ثم إذا بي أرى الباب يغلق بدفعة قوية !
تراجعت ُ للخلف خطوة و بقيت محدقا في الباب ...
هل تقصد أنها لا ترتدي الحجاب ؟
قلت :
" هل أذهب ؟؟ "
قالت :
" ماذا تريد ؟ "
" فقط ... أن ألقي التحية و ... أسأل عن الأحوال "
" بخير و شكرا و اذهب "
شعرت بالحرج من ردها هذا ، فقلت معتذرا :
" سأذهب ، أنا آسف "
و استدرت منصرفا ...
فجأة سمعت الباب ينفتح من خلفي ، فالتفت إلى الوراء ...
هناك عند الفتحة ، رأيت عيني رغد تطلان علي !
ظهرت رغد واقفة أمامي ... بحجمها الصغير و وجهها الطفولي و حجابها الطويل الذي يكاد يصل إلى ركبتيها !
لدى رؤيتي لها بعد كل تلك المدة من الغياب شعرت بأن قلبي قد تخدّر و أعصابي قد تبلّدت ... و عضلاتي استرخت لبرهة كادت تفقدني توازني .
قلت بصوت خفيف و بابتسامة تفجرت على وجهي رغما عني :
" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "
صغيرتي كانت تنظر إلي بنظرات ملؤها الغضب و الانزعاج ... كأنني أقرأ في وجهها كلمات اللوم و التأنيب و التوبيخ ... و الشتم أيضا !
قلت :
" أنا آسف ! "
رغد أشاحت بوجهها عني ، و استدارت و دخلت المطبخ ، تاركة الباب مفتوحا .
توجهت رغد نحو الموقد ، تحرك أصابع البطاطا في المقلاة ...
تجرأت و خطوت خطوة للداخل ، و خطوة أخرى فأخرى حتى صرت على مقربة من الوعاء الذي أعدته لوضع البطاطا المقلية فيه ...
هاهي الآن تضع أول دفعة من البطاطا فيه ... دون أن تلتفت إلي ...
قلت :
" تبدو شهية ! "
لم تعلّق !
قلت :
" أتسمحين لي بتذوقها ؟؟ "
قالت :
" تفضل "
طبعا دون أن تلتفت إلي ...
و لأنني كنت مخدّر الإحساس فأنا لم أشعر بحرارة البطاطا المقلية لا بين أصابعي و لا في فمي !
بل حتى طعمها لم أشعر به ، ألا أنني قلت :
" لذيذة ! "
قالت :
" خذها إن شئت "
" شكرا ، سأتناول الغذاء الآن "
بقيت صامتة و هي تخرج دفعات البطاطا واحدة بعد الأخرى حتى انتهت ...
ثم رفعت الطبق و وضعته على المائدة و سحبت الكرسي استعدادا للجلوس ...
قلت :
" ألن تأتي معنا ؟؟ "
قالت :
" لن آكل من أطباقكم "
قلت :
" تعالي بطبقك "
" لا داعي "
و جلست على الكرسي ، و انتظرت مغادرتي !
و عوضا عن الانصراف اقتربت ُ من الطاولة قليلا و قلت :
" صغيرتي ... هل أنتِ غاضبة مني ؟؟ "
لم تجب ...
قلت :
" أنا آسف ... سامحيني "
رغد الآن رفعت بصرها إلى و قالت بحنق :
" أطلب السماح ممن استهنت بعظمته لخداعي ... يا كذّاب "
كأنها خنجر مسموم طعنت كلماتها صدري بعنف ...
لم يكن أمامي إلا الانسحاب مخذولا ...
عدت وحيدا إلى من كانوا ينتظرون عودتي برغد ... و حين رأيت أعينهم جميعا تحدق بي بتساؤل ، قلت :
" لا تود الحضور ... "
و جلست على مقعدي و بدأنا تناول وجبتنا ...
لم يكن مضغ الطعام و بلعه من السهولة بمكان ... لقد اشتد على الألم، لا أدري أ بسبب الطعام الغير مهضوم ، أم بسبب الخناجر التي طعنت أحشائي ؟؟
ربما لاحظت والدتي شيئا فقد كانت تعلق :
" كل يا وليد ! ما بك لا تأكل ؟؟ "
من حين لآخر ...
هل يطيب لي الطعام و صغيرتي متخذة مني هذا الموقف ؟؟
في وقت لاحق ، اجتمعنا كلنا في غرفة المعيشة ، عدا رغد ...
والدي طلب من دانة استدعائها فهو يود قضاء الوقت معنا جميعا قبل السفر ... ذهبت دانة ثم عادت تقول :
" لا تريد الحضور ! و عندما قلت لها أنها تتصرف كالأطفال صرخت في وجهي ثم بدأت بالبكاء ! أوه خذاها معكما و خلصاني من سخافتها يا والدي ! "
جميعنا تبادلنا النظرات ...
والدي قال :
" دانة ... تحاشي الاصطدام بها يا بنيتي ، دعيها تفعل ما تشاء "
دانة قالت :
" كالعادة يا أبي ستقول لي ذلك ، حسنا، أنا لا شأن لي بهذه الطفلة الكبيرة ... أترك الأمر لوليد بالكامل حتى لا يتهمني أحد بأنني متعجرفة معها "
همّ سامر بالنهوض ألا أن أمي استوقفته و قامت هي ، و ذهبت إلى رغد ...
قال أبي موجها كلامه لي :
" اعتني بشقيقتيك جيدا يا بني ، دانة لن تتعبك في شيء ، فهي معتمدة على نفسها في تصريف أمورها ، لكن رغد ... معتمدة علينا كثيرا ... و طلباتها لا تنتهي ! "
قالت دانة معقبة :
" هذا لأنك تدللها كثيرا يا أبي ! كما الأطفال تماما ! "
والدي قال :
" دانة إياك و تعمّد مضايقتها ... رجاءً "
سامر قال :
" إياك ! "
دانة نقلت بصرها بين الاثنين ثم قالت :
" لا تخشيا على مدللتكما الصغيرة ! "
و التفتت نحو و قالت :
" ألقي عليك المسؤولية كاملة ! "
أنا وجدت الثلاثة يحملقون بي بمختلف التعبيرات المتقلبة على أوجههم ...
قلت بتردد :
" لا تقلقوا ... سيسير كل شيء على ما يرام ... "
بينما أنا في الداخل شديد القلق ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
أنا مستاءة بشكل لا يمكنكم تصوّره !
سأتزوج بعد ثلاثة أسابيع من سامر ، فيما يقف وليد إلى جانبي ليعتني بي أثناء ابتعاد أمي عني ...
ثلاثة أمور جعلتني في غاية التوتر خصوصا هذا اليوم ، و آخر شيء كنت لأتقبله هو كلمات السخرية من دانة التي ترددها منتقدة إياي ...
لم أحتمل كل ذلك و بدأت بالبكاء بشكل غريب !
هم يجلسون الآن معا يودعون بعضهم البعض و أنا قابعة هنا أبلل المناديل بالدموع المالحة المتدفقة بغزارة ...
أريد أن أبقى مع والديّ قبل رحيلهما !
ليت وليد يختفي !
ليتني أنا من يختفي !
ليتكم أنتم أيضا تختفون !
سمعت صوت والدتي تناديني ، من خلف الباب المغلق ...
" نعم أمي "
والدتي فتحت الباب و دخلت قبل أن تدع لي الفرصة لمسح دموعي ، و التي و إن مسحتها لا أسهل عليها من أن ترى آثارها مطبوعة على وجهي ...
أمي نظرت إلى بقلق و حيرة و قالت :
" و بعد ؟؟ ما نهاية حكايتك هذه ؟؟ ما بك يا رغد أخبريني ؟؟ "
" لا شيء أمي "
" إذن ... لم تحبسين نفسك في غرفتك و تسبحين في بركة الدموع هذه ؟؟ "
قلت بانفعال :
" لا شيء أمي لا شيء ... لا شيء ... لا شيء ... "
و انخرطت في البكاء باستسلام ...
لم أقاوم أو أواري أي دمعة تحدتني بالظهور ... بكيت بحرقة ... لم أعهدها من قبل ... لم أكن أشعر بمثل هذه الأشياء تتحرك في صدري قبل الآن ... لكنني أشعر الآن بصرخة كبيرة تود الانطلاق رغما عني ... إنني منهارة و أريد من يواسيني ...
من يسندني ... من يساعدني ... من ينقذني مما أنا مقبلة عليه ...
من ؟
من ؟؟
أمي أقبلت نحوي ، و مسحت بيدها الحنونة على رأسي و ربتت على كتفي بلطف
قالت :
" بنيتي ... أخبريني ما بك ... إنني قلقة عليك و لا أريد السفر قبل أن أطمئن ... ما بك ؟؟ مم أنت مستاءة ؟ "
أنظر إلى أمي ، فأرى في عينيها عالما كبيرا محيرا ... أرى فيها أكواما من القلق و الخوف ... و الخشية و الاضطراب ...
ليتك يا أمي تدخلين إلى أعماقي و ترين بنفسك ...
أترين يا أمي ؟؟
إنني لا أريد أن تسافري و تتركيني ...
أيقلقك ذلك ؟؟
إنني لا أريد الزواج من سامر ...
أيفجعك ذلك ؟؟
إنني أريد أن استعيد وليد ...
أيذهلك ذلك ؟؟
إنني أريد أن تعود أمي للحياة ...
أيقتلك ذلك ؟؟
إنني أموت ببطء يا والدتي ...
أيرضيك ذلك ؟؟
أموت و أنا لم أحي َ بعد ...
لم أولد بعد !
أترين كل ذلك يا أمي ؟؟
" لا شيء أمي ... لا شيء ... "
برقت دموع في عيني والدتي لتأثرها بحالتي هذه ، و الدموع في عين أمي هي شيء لا أحتمله مطلقا... مطلقا
مسحت دموعي بسرعة و قلت :
" أمي ... لا شيء صدقيني ، أنا فقط متأثرة لسفركما ، فهي أول مرة في حياتي تبتعدان فيها عني ... لا أتصور حياتي بدونكما "
والدتي ضمتني إلى صدرها و قالت :
" ستعيشين حياتك بسعادة و راحة مرضية ... لا تقلقي ... فابني سيعتني بك جيدا كما نفعل نحن ... الله قسم هكذا "
رفعت رأسي و نظرت إليها بشيء من الحيرة ... فكلماتها بدت غامضة ، فقالت هي:
" و الآن عزيزتي ... ألن تأتي لمجالسة والدك ؟ إن هي إلا فترة قصيرة ثم نسافر ! "
أجبت بإذعان :
" بلى "
و استدركت :
" وليد معكم ؟؟ "
قالت :
" بالتأكيد ... "
طبعا هو معهم ! أين يمكن أن يكون ؟؟
أخذت حجابي و سرت نحو المرآة لارتدائه ، و هالني منظر عيني الحمراوين و جفوني المتورمة !
تركت الحجاب جانبا و مضيت لأغسل وجهي ...
عندما خرجت من دورة المياه وجدت أمي تنتظرني ...
قالت :
" هيا عزيزتي ... "
ارتديت حجابي على عجل و أقبلت نحوها ...
قالت :
" سيسير كل شيء على ما يرام ، و إن احتجت شيئا لا تترددي في طلبه من دانة أو وليد أو سامر ... سنبقى على اتصال دائم "
بعدها ذهبنا إلى غرفة المعيشة ...
كانوا جميعهم مندمجين في الأحاديث المختلفة ، و ما أن رأونا حتى قال سامر :
" تعالي رغد ! كنا نوصي الكبير و العروس بك خيرا ! "
والدي قال موجها حديثه إلي و هو يبتسم بابتهاج :
" أهلا بالعزيزة المدللة ! تعالي و اجلسي قرب أبيك ليرتوي منك قبل السفر "
سرت ُ كالآلة نحو المقعد الذي يجلس عليه أبي و جلست إلى جواره ، ففتح ذراعه و أحاطني بها ...
قال :
" ما بك صغيرتي ؟ على الوجبات لست معنا ، و في الجلسات لا تشركينا ! ألن تشتاقي لشيبتي هذه ؟؟ "
سامر ضحك ، و دانة نظرت إلى السقف باستنكار ... و أمي ابتسمت ، أما الكائن الأخير فلم ألتفت نحوه لأعرف ما فعل !
قلت :
" بلى ... كثيرا جدا ! خذاني معكما ! "
قال سامر مداعبا :
" و أنا أيضا ! "
قالت دانة :
" ماذا عنّي ؟؟ "
قلت :
" نتركك مع المغرور ! "
ضحك من ضحك ، أما صوت وليد ـ و الذي كان خفيفا و مع هذا تمكنت مجسات أذني من التقاطه ـ فجاء في الكلمتين التاليتين :
" تقصدينني أنا ؟؟ "
و أجبرني سؤاله على الالتفات إليه ...
لقد كان ينظر إلي بغرابة ...
لم أرد عليه ، بل التفت إلى أبي
و دانة تولت الإيضاح بنفسها إذ قالت :
" بل تقصد خطيبي ... فهي لا تطيقه و تنعته بالمغرور دوما "
الآن أنا التفت إلى دانة و قلت بصوت حاد :
" على الأقل ... خير من الكذابين "
بعض الصمت خيم علينا لبعض الوقت ...
و بعض الندم شعرت ُ به لبعض الوقت !
قال أبي :
" و من الكذابون بعد يا ترى ؟؟ "
قلت :
" بعض معارفي يا أبي ! لا يطاقون ! ... "
و الآن تكلم وليد و قال :
" المغرورون ، و الكذابون ، و الخونة كذلك ... كلهم لا يطاقون ! "