رغد تأملت عيني، و ربّما سرّها ما قلت.. فمسحت الدمعتين الجاريتين على خديها ، و قالت :
" حقا ؟ هل بدوت رائعة ؟ "
اضطربت، حرت في أمري.. بم أجيب ..؟؟
يا رغد أنت تثيرين جنوني.. ماذا تتوقعين مني ؟ أنا.. و للأسف، و بكل أسف..لست زوجك حتى يحل لي أعجب بك و أبدي إعجابي لك.. كيف لي أن أصرّح أمامك : أنت رائعة، و أنت لست ِ ملكي..؟ أنى لي أن أتأملك و أنت لست ِ زوجتي أنا ؟؟
يا رغد.. أنت لستِ امرأتي و أنا لا أستطيع تخطي الحدود التي يجب أن تبقى بيننا..
و إن لم أر روعتك، و لم أتأملها و لم أعلّق عليها، فلتعلمي بأنك في قلبي أروع مخلوقة أوجدها الله في حياتي.. مهما كان مظهرك ..
لا تزال تنظر إلي منتظرة الإجابة.. كطفلة صغيرة بحاجة إلى كلمة طيبة من أحد.. قلت :
" بالطبع ! أنت دائما رائعة منذ صغرك ! "
رغد ابتسمت، أظن بفرح.. ثم قامت و اتجهت إلى أحد الأكياس التي تحوي ما اشترته من السوق، و أخرجت بعض الأشياء لتريني إياها !
أرتني أحد الفساتين، و هي تقول :
" هذا سيدهشك ! انظر .. ما رأيك ؟؟ "
الفستان كان أنيقا، و في الواقع أنا لست خبيرا بمثل هذه الأمور ، لكني أظن أنه من النوع الذي يعجب النساء !
قالت :
" سيغدو أجمل حين أرتديه ! "
و قربته من جسمها و ذهبت لتشاهد ذلك أمام المرآة..
كانت تبدو سعيدة ..
قالت تخاطب المرآة :
" متأكدة سيبهر دانة حين تراه ! و ستشعر بالغيظ ! "
ثم اكفهر وجهها فجأة .. و شردت برهة ، و استدارت إلي .. و رمت بالفستان على السرير..
قلت :
" ما الأمر ؟ "
قالت :
" أريد أن أرتديه "
قلت :
" إذن افعلي ! "
قالت و بريق من الدموع لمع في عينيها :
" أرتديه لأبقى حبيسة في هذه الغرفة ؟ "
و صمتت قليلا ثم قالت :
" لو كان والداي حيين.. لكنا الآن هناك، في بيتنا.. أريهما أشيائي هذه، و أسمع تعليقاتهما.. "
" رغد .. "
" و لكنت ارتديت ما أشاء.. و تزيّنت كيفما أريد .. بكل حرية.. "
" رغد صغيرتي ... "
" و لكنت اشتريت ما يحلو لي دون حساب.. و لطلبت من والدي تجديد طقم غرفة نومي .. لم يكن ليتضايق من طلباتي.. فقد كان يحبني كثيرا.. و يدللني كثيرا.. و يحرص على مشاعري كثيرا.. أكثر من أي أب آخر في الدنيا .. "
و ارتمت فوق الفستان المرمي على السرير، و أخذت تبكي بحرقة...
تمزّق قلبي أنا .. خلية خلية..لهذا الموقف الأليم المرير.. و رغما عنّي تمخّضت مقلتي عن دمعة كبيرة...
اقتربت منها محاولا المواساة :
" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي .. "
رغد استمرت في البكاء ، و لم تنظر إلي ، لكنها قالت وسط الآهات :
" لن يشعر أحد بما أشعر به.. حبيسة و مقيّدة في هذا المكان..
ليتهما يعودان للحياة.. و يعيداني معهما إلى البيت.. و أنا سأتخلى عن كل شيء فقط لأعيش معهما ! "
مسحت دمعتي ، و قلت بصوت ألطف و أحن :
" بالله عليك يا رغد..يكفي فقد تفطّر قلبي "
رغد استدارت نحوي، و أخذت تنظر إلي مطولا..
ثم قالت :
" هل تحس بما أحسّه يا وليد ؟؟ أتعرف معنى أن تفقد والديك، و مرتين، و بيتك و عائلتك، و مدينتك و جامعتك، و تبقى مشردا عالة متطفلا على غرباء ؟ في مكان لا يوفر لك أبسط حقوقك ؟ أن ترتدي ما تشاء ! "
" رغد ! ماذا بيدي ؟ أخبريني ؟ ماذا أستطيع أن أفعل ؟ و حتى لو خرجنا من هذا المنزل و سكنا منزلا آخر... لا حل للمشلكة ! "
" بلى ! "
قالت رغد ذلك بسرعة ، فقلت أنا مسرعا :
" ما هو ؟ "
رغد الآن.. عقدت لسانها و هي تنظر إلي نظرات عميقة، كأنها تفكّر فيما تود قوله ثم قالت للقهر :
" أرسلني إلى بيت خالتي "
ذهلت لسماع هذه الجملة ، و ترنحت قليلا ، ثم سألت :
" إلى بيت خالتك ؟؟ كيف ؟ و زوج خالتك ؟ و حسام ؟؟ "
قالت :
" أتزوّجه "
هنا .. توقّف قلبي عن النبض، و توقفت عيناي عن الرؤية، و أذناي عن السمع، و كل حواسي عن العمل ، بل و الساعة عن الدوران...
لم أسترد شيئا من حواسي المفقدوة إلا بعد فترة، و أنا في المزرعة ..
و كان أول شيء استعدته هو الشم، إذ غزت رائحة السيجارة أنفي و أيقظت إحساسه عنوة ...
قلبتني جملتها هذه رأسا على عقب... و بعد أن كنت شديد الحزن و التعاطف معها، أصبحت أرغب في خنقها..
حسام ؟ نعم حسام.. إنه الحبيب السري الذي يعيش في قلب رغد منذ الطفولة.. ليس في قلبها فقط، بل و في صندوق أمانيها الذي لم أنسه يوما...
أهذا ما تريدين يا رغد ؟؟
لم تمض تلك الليلة بسلام.. ظل قلبي ينزف ..من الطعنة العميقة التي سددتها رغد إلى صدري...
لذا فإنني عاملتها بشيء من الجفاء في اليوم التالي، و حين هممنا أنا و أروى بالذهاب إلى السوق لشراء الخاتمين و العقد، و سألتني إذا كنا نسمح بذهابها ، أجبت :
" أروى تريد أن نشتريهما بمفردينا "
" و تتركاني وحدي ؟؟ "
" لا ، بل مع الخالة ليندا "
و لم أسمح لها بإطالة الحديث، بل انصرفت مباشرة...
اروى
و ليته أحضرها عوضا عن كل هذا !
فبدلا من تأمل المجوهرات، يتأمل الساعة بين الفينة و الأخرى.. و اتصل مرتين لسؤال أمي عنها !
بصراحة، وليد يبالغ في اهتمامه بها و أنا منزعجة من هذا الأمر.. و أتمنى لو يأتي خطيبها و يعتني بها لبعض الوقت، حتى نتنفّس !
تجوّلنا كثيرا، بحثا عن طقم يناسبنا.. و وليد لم يكن مركزا معي جيدا، بل كان يقول عن أي كل عقد أسأله عن رأيه به :
" جميل، دعينا نشتريه ! "
اخترنا في النهاية طقما جميلا مناسبا، بالإضافة إلى خاتمي الخطوبة .. و أراد وليد أن نعود للمزرعة لكنني ألححت علي بالذهاب إلى مطعم و تناول العشاء هناك..
إنها فرصة ذهبية بالنسبة لي، لا وجود لرغد معنا!
" فيم تفكّر ؟ "
سألته و أنا أراه شاردا، قال :
" أأ .. في المزرعة ، تعرفين أننا تركنا عمل اليوم غير منجز .. حالما أعود فسأنجزه "
قلت :
" أوه وليد ! أتفكّر بالعمل حتى و أنت معي هنا ؟ دع عنك المزرعة و شؤونها و لنتحدّث في أمور تخصّنا "
لم تظهر عليه أمارة مشجعة ، تضايقت من شروده عني ، قلت :
" وليد ! أنا معك ! هل تراني ؟ "
الآن ابتسم و قال :
" طبعا أروى ! أنا آسف..، فيم تودّين الحديث ؟ "
قلت ببعض الخجل :
" في أمور بيتننا و خطط مستقبلنا ! "
قال وليد :
" أخبرتك بأننا لن نتزوّج قبل رغد "
رميت بالملعقة التي كانت بين أصابعي ، أتناول بها طبق المهلبية الباردة .. و قلت بانفعال :
" رغد ثانية ! أوه .. رغد ، رغد ، رغد ! وليد ! هللا توقفت عن ذكرها أمامي كل ساعة ؟؟ "
قال وليد و هو مرتبك :
" أروى ! ما حلّ بك ؟؟ "
قلت :
" ما حلّ بك أنت ؟؟ ألا تشعر بأنك تهملني من أجلها ؟ إنني خطيبتك ! "
قال :
" أنا آسف يا أروى، لكنك .. لا تعلمين ما تعنيه رغد بالنسبة لي .. "
قلت :
" ماذا تعني ؟؟ "
وليد غيّر الجملة و قلب السؤال ، إلى ما يعنيه هو بالنسبة لها ، إذ قال :
" إنها فتاة يتيمة، و بلا بيت و لا عائلة و لا ولي غيري، إن أهملتك أنت، فباستطاعتك اللجوء إلى أمك أو خالك، أما إن قصّرت مع ابنة عمي اليتيمة الوحيدة ، فإلى من ستلجأ ؟؟ "
أنا قلت مباشرة :
" إلى خطيبها "
و لا أدري لم انزعج وليد فجأة و قال :
" لنغيّر الحديث، ماذا كنت تودين قوله بشأن المزرعة ؟؟ "
قلت :
" أي مزرعة ؟؟ "
" المزرعة ! ألم تتحدثي عن المزرعة و مستقبلنا فيها ؟ "
اشتططت غضبا و قلت :
" بل عن عش الزوجية و خططنا المستقبلية فيه "
احمرّ وجه وليد ، و تمتم بجمل الاعتذار...
لكن ، أي اعتذار يا وليد؟ إنني أشعر بأنك لا تشعر بوجودي ... و كأنني لست خطيبتك.. و كأننا لن نتزوّج ذات يوم !
عندما عدنا إلى المزرعة ، و لم أكن أنا سعيدة بالقدر الذي تمنيت، دخلت إلى المنزل مباشرة ، أما وليد فذهب لينجز أعمال اليوم التي اضطر لتركها من أجل مرافقتي...
في الصالة، وجدت رغد جالسة تقرأ أحد الكتب..
" تأخرتما "
" نعم، فقد ذهبنا إلى المطعم.. و تنزهنا لبعض الوقت "
و ظهر الاستياء على وجهها، و قالت :
" و هل اشتريتما الخاتمين ؟ "
" أجل "
" هل أستطيع رؤيتهما ؟ "
قلت بحنق :
" نعم طبعا ، لكن غدا ، بعدما نلبسهما أنا و وليد لبعضنا البعض "
قالت :
" و أين وليد ؟ "
" في المزرعة ، سيعمل لبعض الوقت "
و استأذنت و ذهبت إلى غرفتي...
رغد
تركتني في غيظي ، اشتعل نارا كجهنم.. أكاد أحرق أوراق المجلة التي بين يدي
و لكن لا
لن أفوّت هذا بسهولة ! و لسوف أفسد عليهما سهرة الغد و أحرمهما من الهناء بخاتميهما !
نزعت الخاتم الذي ظل بنصري الأيمن محبوسا به لأربع سنين...
لم أكن قد نزعته قبل الليلة، كما لم أكن قد أبلغت وليد عن انفصالي الشرعي عن سامر.. رغم أن فترة قد مضت على ذلك..
لم أكن أريده أن يشعرني بأنه مهتم بي فقط و فقط لأنه ليس لدي من يهتم بي غيره.. كنت أود أن أشعر.. بأنه يهتم بي و يحبني و يريد بقائي معه حتى لو كان والداي على قيد الحياة ، ليس فقط حتى مع وجود خطيب لي..
عندما سألني :
" ماذا بيدي ؟ ما حل المشكلة "
كدت أقول :
" تزوّجني ! "
و كم كنت سأبدو بلهاء غبية و أنا أعرض على ابن عمّي ، و المرتبط، و الذي نعيش في بيت خطيبته أن يتزوّجني !
أردت أن ألفت نظره إلى وجود حل اسمه الزواج ، فقلت :
" أتزوج حسام "
و انتظرت ردة فعله، انتظرت أن أرى مقدار اهتمامه بي .. و رغبته في بقائي معه..كم تمنيت لو يهتف :
" مستحيل ! "
ألا أنه التزم الصمت، ثم غادر...
أحيانا.. أشعر بأنه يهتم بي و يحبني كثيرا.. لكن.. مثل حبه لدانة.. و أنا أريده أن يحبّني مثلما أحبه أنا.. و أن يعجب بي أنا.. و ألا ينظر إلى عيني امرأة غيري أنا !
و إن كان يريد رؤية عيون زرقاء، أو خضراء، أو حتى صفراء.. فأنا سأغير لون عيني و شعري و وجهي و كل شيء لإرضاء ذوقه !
لقد قال إنني رائعة منذ الطفولة ! كم أشعر بالسعادة كلما تذكرت هذه الجملة ! إنها كنزي الثمين الذي أفتحه و أنعش مشاعري به كلما أصابني اليأس ..
وليد و أروى يخططان لقضاء سهرة خاصة بهما ليلة الغد، للبس الخاتمين.. و أنا .. أخطط لأن أمرض غدا، و أقلق وليد بشأني، و أصرف تفكيره عن السهرة الخاصة، و أحرم أروى مما تصبو نفسها إليه !
سترين يا أروى !
وليد
لأنني لا أحب تأجيل عمل اليوم إلى الغد، و لأنني سأضطر لاختصار ساعات العمل غدا أيضا، من أجل السهرة التي تريدها أروى احتفالا بوضع الخاتمين ، فإنني قررت أن أقضي ساعات في العمل بالمزرعة الآن...
كنت متعبا، فقد قمت بعدة أشياء منذ الصباح، و كان يوما حافلا بالمهام التي كان علي إنجازها.. عدا عن هذا ، فهناك فتاة صغيرة تلعب في دماغي منذ الأمس، و تسبب لي صداعا رهيبا !
انتصف الليل، و أنا لا أزال في المزرعة أبذل مجهودا بدنيا لا يتناسب و الظلام و التوقيت، ألا أنني لم أشأ المغادرة قبل إتمامه...
كنت سأنقل بعض الأشياء إلى السيارة الحوض، ألا أنني حين وجدتها على مبعدة ، تقاعست عن تحريكها، فآخر شيء أفكر به هو قيادة سيارة الآن، اذا قمت بحمل بعض تلك الأشياء بجهد إلى الحوض، و تركت البقية لأنقلها في اليوم التالي، فقد أرهقت كثيرا جدا...
كنت أتصبب عرقا، و أشعر بإعياء شديد، و بحاجة ماسة و فورية للاستحمام ، و النوم مباشرة...
عدت إلى المنزل منهك القوى شديد التعب، متوقعا أن يكون الجميع نيام في مثل هذا الوقت ، لذا دهشت حين رأيت رغد جالسة في الصالة تقرأ كتابا !
و هو شيء أفضل الغرق في المحيط عليه، خصوصا و أنا بهذا الحال و التعب !
" تصبحين على خير "
قلت ذلك، و توجهت نحو غرفة نومي، لأنفذ بجلدي، و لكنني ما كدت أخطو بضع خطوات حتى سمعتها تناديني :
" وليــــد "
يا رب !
لست بمزاج جيّد لتلقي أي لوم و عتاب على تركك وحدك كل هذه الساعات ! أجّلي كل هذا للغد يا رغد ! و أعدك بأنني سأتلقى هجومك بأوسع صدر !
التفت إلى الوراء ، و لم أجب ... لكن لسان حالي أجاب : نعم ؟
أغلقت الكتاب الذي بين يديها، و وقفت ..
إنه التأهّب للهجوم ! رغد أرجوك الرحمة ! هذه الليلة فقط !
" أنا جائعة "
هل سمعتم شيئا كالذي سمعت ؟؟ تقول جائعة !
" ماذا ؟ "
" أنا جائعة ! "
تلفت يمينا و شمالا.. أبحث عن شخص يؤكد لي ما سمعت !
" ألم تتناولي عشاءا ؟ "
" كلا "
" حسنا ، لم لا تذهبين للمطبخ و تحضّرين وجبة لك ؟؟ "
قالت :
" أشتهي البيتزا "
" البيتزا ؟ "
" نعم ! البيتزا "
قلت :
" و لكن تحضيرها سيستغرق وقتا ! لم َ لم تعدّيها قبل الآن ؟ "
" لا أعرف طريقة لتحضيرها، و لا أريد أن أعرف، كما و أنني شعرت بالجوع الآن فقط
و بالتالي ماذا ؟؟
قلت :
" حسنا ، حضّري شيئا آخر .. "
" أريد بيتزا "
" رغد ! و هل تعتقدين أنني أستطيع تحضير بيتزا ؟؟ "
" تستطيع شراءها من المطعم "
نظرت إلى الساعة ، كانت الواحدة ليلا !
" مطعم ؟ الآن ؟؟ "
" نعم ، لابد أنه يوجد مطعم واحد على الأقل مفتوح الآن "
و هذا يعني أن علي ّ أنا الذهاب للبحث عن مطعم و جلب البيتزا ! آخر عمل أفكّر في القيام به على الإطلاق !
" حضّري لك أي وجبة من الطبخ ، الوقت متأخر و أنا متعب .. "
" لا أشتهي غير البيتزا ! "
" كلي أي شيء الآن ، و غدا آخذك إلى المطعم "
قالت :
" معكما أنت و أروى ؟ "
و رمقتني بنظرة حادة .. ثم أضافت :
" هل تقبل العروس ؟ "
تنهّدت ، و قلت خاتما الموضوع :
" أمامك المطبخ بما حوى ... تصبحين على خير "
و استدرت و تابعت طريقي، و لما بلغت الباب و فتحته سمعتها تقول :
" لو كان سامر هنا ، لما سمح بأن أنام و أنا جائعة ! و لكان لفّ العالم ليحضر لي ما أريد "
أفلتت أعصابي، صفعت الباب بقوّة و أنا أستدير إليها ، و أراها تجلس على المقعد و تحني رأسها إلى الأرض، و تبدأ بالبكاء...
سرت إليها و وقفت قربها و قلت بعصبية :
" حسنا.. أنا ذاهب لإحضار ما تريدين "
و سكت لأتنفس، ثم تابعت :
" لا تستفزّيني هكذا ثانية ! "
رفعت رأسها و نظرت إلي، ربما نظرة استغراب أو اعتذار ، لم أكد أميّزها لأنني سرعان ما استدرت و ذهبت نحو الباب، و ما أن فتحت الباب حتى وصلني صوتها و هي تقول:
" مع عيدان البطاطا المقلية... ! "
التفت إليها فوجدتها تبتسم ! نعم تبتسم !
أتعرفون أي نوع من الابتسامات ؟؟ تلك التي تنسي المرء أنه يتصبب عرقا و أن عضلاته مرهقة حد الشلل ، و مشاعره متهيجة حد الغليان !
يا لهذه الفتاة !
لم يكن العثور على مطعم مفتوح أمرا سهلا، لكنني اشتريت لصغيرتي المدللة هذه ما تريد، و خلال 40 دقيقة ، عدت إلى المنزل ...
كانت لا تزال جالسة على نفس المقعد ، و الكتاب في حضنها و يداها موضوعتين على صفحتيه ...
لم تنهض لدى دخولي...
قلت :
" وصل عشاؤك ! "
لم ترد... اقتربت منها ، فوجدت عينيها مغمضتين... و ببساطة كانت نائمة !
" رغد .. "
لم تجب، اقترب أكثر و همست :
" رغد هل نمت ِ ؟ "
و لم تستفق.
ماذا أفعل بهذه الفتاة ؟؟
في منتصف الكتاب المفتوح، لمحت شيئا يلمع.. اقتربت أكثر، إنه ليس إلا خاتم خطوبة رغد.. ! مددت يدي و أخذت الخاتم...و دققت النظر فيه.. محفور بباطنه الحرفان الأولان من اسمي رغد و سامر، مع تاريخ الخطوبة...
بقيت واقفا في مكاني أعبث بذلك الخاتم، و أتمنى أن امحيه من الوجود، و أمحي معه كل علاقة ربطت بين سامر و رغد.. حتى رابطة الدم !
في آخر مرّة زارنا فيها سامر.. في آخر لحظة قضاها معنا.. في المزرعة ، و آخر صورة التقطتها عيناي لهما هو و رغد، كانا في عناق حميم.. حلل كل خلايا الدم الجارية في عروقي.. و أصابني بأنيميا حادة فتّاكة...
لكني حتى هذه اللحظة، أجهل مصير هذه العلاقة و لا أجسر على التحدّث مع رغد بشأنها...
التفت الآن إلى رغد، نائمة بعمق و هدوء... و تعرفون كم تطيب لي مشاهدتها هكذا.. و تعرفون كم أعاني و أجاهد نفسي أقف عند الحدود فيما بيننا..
اقتربت منها أكثر، و همست :
" رغد.. قومي إلى غرفتك "
لكنها لم تتحرك، ناديت :
" رغد انهضي يا صغيرتي.. هل ستنامين هنا ؟؟ "
و مددت يدي و ربت بخفة على يدها ، رغد تحركت، و مالت بجدعها على المقعد حتى أسندت رأسها عليه و هي تقول :
" أوه أروى حلّي عني ، أكرهك ! "
و صمتت !
دهشت ! بم تحلم صغيرتي هذه اللحظة ؟؟ و لم تقول شيئا كهذا ؟ و ماذا يعني ذلك؟؟
" هذا أنا وليد، أنت تنامين في الصالة رغد، قومي إلى غرفتك "
ابتسمت رغد، و هي نائمة ، ثم قالت :
" بابا .. أحبك .. "
و غطت في سكون عميق !
ليتني أدخل حلمك و أرى... بما و من تحلمين !
نوما هنيئا...صغيرتي..
رغد
عندما نهضت، و على صوت منبه مزعج ، رأيت نفسي نائمة على المقعد في وضع غير مريح ! و على المنضدة الموضوعة أمام المقعد ، وجدت كيسا يبدو أنه لأحد المطاعم !
نهضت و نظرت من حولي فلم أر أحدا، لكنني كنت أسمع صوت المنبه القوي قادما من ناحية غرفة وليد !
مددت يدي نحو الكيس أولا و تفقّدت ما به
" إنها البيتزا ! "
و صوّبت نظري ناحية غرفة وليد، فوجدت الباب مفتوحا على مصراعيه ... و كان المنبه يرن باستمرار ... دون أن ينهض وليد...
قمت أنا و تسللت إلى الغرفة، و أوقفته، و ألقيت نظرة على وليد...
كان مستلق ٍ على السرير و أطرافه الأربعة موزعة على جميع الزوايا ! كان يبدو غارقا في النوم جدا !
و مع ذلك ما أن نطقت باسمه :
" وليد "
حتى فتح عينيه بسرعة، ثم نهض جالسا باندفاع !
هل صوتي مفزع لهذا الحد ؟؟ لقد كان المنبه يرن حد البحة!
وليد تلفت يمينا و شمالا ثم نظر إلي
" رغد ؟ ما بك ؟ "
إنه بالفعل فزع !
قلت :
" لا شيء ! إنه وقت الصلاة ! "
خرجت من غرفته، و ذهبت إلى غرفة أروى،التي لا أزال أشاركها فيها، حاملة معي كيس المطعم !
وجدت الباب موصدا من الداخل !
" أروى! تبا لك ! سأعتبره طردا ! "
بعد قليل، و قد خرج وليد مع العجوز كالعادة للصلاة للمسجد، حملت كيسي و البطانية ، و ذهبت إلى غرفة وليد و تابعت نومي على المقعد !
وجدتها فرصة ذهبية لتوسيع دائرة الخلاف بيننا، أنا و أروى.. قلت مخاطبة وليد بعد عدة ساعات :
" إنها لا تريدني في غرفتها، و لا في بيتها و لا مزرعتها، أخرجني من هذا المكان "
وليد كان متضايقا جدا، قال :
" لا يمكن أن تتعمّد أروى إيصاد الباب دونك! ربما أقفلته خطأ ً "
" طبعا ستقول هي أنه خطأ، لكني متأكدّة من أنه مقصود ، وليد لا أريد العيش في هذا المكان.. "
امتقع وجه وليد و كأبت ملامحه بشدّة... و فرك جبينه براحة يده ثم قال :
" إلى أين نذهب إذن ؟ "
قلت :
" دعنا نعود إلى شقة سامر "
لم ترق الفكرة لوليد، و قال :
" و عملي ؟ "
" فتّش عن عمل آخر، إنه عمل متعب و لا يستحق اهتمامك و مجهودك على أية حال "
وليد حزن من قولي هذا، كما ظهر جليا على وجهه، ألا أنه قال :
" سأحاول إيجاد حل آخر..."
و صمت قليلا ، ثم تابع و هو يضيق فتحة عينيه :
" ألا أنني لن أسمح لك بالزواج قبل الخامسة و العشرين ! "
ذهلت من كلامه، و من نظرته فحملقت به بفضول ، و سألت :
" و لم الخامسة و العشرين بالذات ؟ "
" هذا على الأقل، فأنت لا تزالين صغيرة ، و ستظلين صغيرة لبضع سنين ! "
بشكل تلقائي، رفعت يدك اليمنى مبرزة إصبعي البنصر، لأثبت بأنني مخطوبة يعني كبرة ! و للدهشة ، لم أجد الخاتم !
تبدّلت ملامحي ، و أخذت أقلب كفي ظهرا و بطنا و أفتش عن الخاتم في أصابعي العشرة ! لا ، بل العشرين !
وليد كان يراقبني، و رآني و أنا أضطرب، ثم أذهب نحو المقعد و أفتّش ما حوله..
أقبل وليد يسير ببطء ، حتى وقف خلفي مباشرة، و كنت أنا جالسة على الأرض محنية رأسي للأسفل ، أتحسس بيدي الأرضية تحت المقعد ...
يا إلهي أين اختفى !؟
" عمّ تبحثين ؟ "
رفعت نظري إلى الجبل الطويل الواقف خلف، فرأيت ميلا بسيطا لإحدى زاويتي فمه للأعلى، يعني ، شبه ابتسامة ماكرة !
قلت و أنا لا أزال في وضعي أنظر إليه كمن ينظر للسقف !
" هل رأيته ؟ "
" ما هو ؟؟ "
" محبسي ! "
" أي محبس ؟؟ "
" خاتم خطوبتي يا وليد ، تركته على الكتاب البارحة ! "
تغيّرت تعبيرات وليد و قال :
" هل يعني لك فقده شيئا مهما ؟؟ "
قلت مستغربة :
" طبعا ! إنه ليس مجرّد خاتم ! "
وليد عبس بعض الشيء، ثم مد يده في أحد جيوبه، و أخرج الخاتم... و وضعه على المنضدة ...
نهضت أنا و نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وليد... و حرت في أمره...
ولى وليد مدبرا خارجا من المنزل ألا أنه حين بلغ الباب استدار و قال :
" لن تضعي شيئا كهذا في يدك اليسرى قبل مضي سنين ! مهما كان الطرف الآخر ! لن أسمح بذلك ..."
و انصرف !
اروى
أخيرا حلّ الليل! كم أنا مسرورة و في قمة السعادة.. فالليلة سنرتدي أنا و وليد خاتمي الخطوبة أخيرا !
قضيت فترة طويلة على غير العادة أمام المرآة أتزيّن !
أعددت لسهرة جميلة و رومانسية مع خطيبي، في الغرفة الخارجية...
و الإعداد يشمل العشاء، و طبق التحية، و الشموع الحمراء، و فستاني الأزرق الداكن، و تسريحتي الجميلة، و خاتمي الخطوبة، و طقم الشبكة، و أيضا الكلام اللطيف الذي حضّرته لأقوله لوليد!
و هو أهم ما في السهرة، فإن في قلبي مشاعر أود التعبير عنها...
بصراحة حتى الآن لا أشعر بأنني كبقية الفتيات المخطوبات، لأن ظروف وليد لم تسمح لنا بالاستمتاع بأيام خطوبتنا كما ينبغي... كيف نهنأ و والداه توفيا قبل فترة تعتبر وجيزة...؟؟
و الآن بعدما استرد كيانه، و اجتاز الصدمة، حلّت رغد.. كعائق دون انفرادي بخطيبي!
و اليوم هي مستاءة منّي لأنني نسيت باب غرفتي مغلقا، بعد استبدال ملابسي، و أويت للنوم !
على كل ٍ استياؤها هذا جاء بفائدة ألا وهي بقاؤها بعيدة بعض الشيء !
فتح الباب أخيرا و دخل وليد.. خطيبي العزيز..
و انبهر بكل ما حوله، فقد صنعت جوا رومانسيا رائعا !
" جميل ! ذوقك جميل ! "
" شكرا وليد! تفضّل بالجلوس ! "
اتخذنا مجلسينا متقابلين تفصلنا مائدة العشاء المميز... و إلى جانبنا منضدة صغيرة وضعت عليها علبة الخاتمين و العقد...
تبادلنا أطراف الحديث، الهادىء اللطيف، و الابتسامات الناعمة ! و بمجرّد أن نلبس الخاتمين، سأقول له : ( أحبك يا وليد ! )
كم تتخيلون كان مقدار سعادتي؟؟
و ماذا تتصوّرون لون وجهي ؟؟
و هل لديكم فكرة عن سرعة دقّات قلبي ؟؟
ليتكم كنتم معنا...
تناول وليد علبة الخاتمين، و أمسك بخاتمي الذهبي، و هم ّ بإلباسي إياه...
إنها اللحظة الحاسمة التي كنت انتظرها ...
حينها، سمعنا طرقا سريعا على الباب جعلنا نفزع و ننهض واقفين بسرعة...
" وليد.. "
و انفتح الباب ، فإذا بها أمي تقبل مسرعة ...
" أمي .. ماذا حدث ؟؟ "
أمي كانت تنظر إلى وليد و هي مقبلة نحوه و مخاطبة له بقول :
" وليد.. أسرع .. رغد متعبة جدا ! "
وليد ، لم ينتظر حتى إلى أن تنهي أمي جملتها، رمى بالخاتم بسرعة فوقع في كأس العصير... و قفز خارجا من الغرفة يركض بقوة... كمتسابق في الماراثون...
لم تكن غير ثانية ، أو ربما عشر الثانية أو حتى جزء من مئة جزء منها ، إلا و اختفى وليد.. و تلاشى كل شيء...!
و خيّم سكون على الغرفة.. لا يعكّره إلا رنين الخاتم المصطدم بالكأس..
و ظلام لا يوتّره إلا لهيب الشمع المنصهر أمام عيني ...
و بقايا أمسية..انتهت قبل أن تبدأ..
و سعادة اختفت قبل أن تظهر..
و لسان خرس قبل أن ينطق...
( أحبك يا وليد ) ....
الحلقة الثالثة و الثلاثون
أرجوحة الزمن !
رغد
بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!
كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !
لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !
و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !
سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :
" أين خاتمك ؟ "
وليد فكّر قليلا ثم قال :
" في علبته ! "
شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !
إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا
أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :
" و أنت ؟؟ "
رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟
قال :
" أين خاتمك ؟ "
و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !
" نعم ، لابد أنه يوجد مطعم واحد على الأقل مفتوح الآن "
و هذا يعني أن علي ّ أنا الذهاب للبحث عن مطعم و جلب البيتزا ! آخر عمل أفكّر في القيام به على الإطلاق !
" حضّري لك أي وجبة من الطبخ ، الوقت متأخر و أنا متعب .. "
" لا أشتهي غير البيتزا ! "
" كلي أي شيء الآن ، و غدا آخذك إلى المطعم "
قالت :
" معكما أنت و أروى ؟ "
و رمقتني بنظرة حادة .. ثم أضافت :
" هل تقبل العروس ؟ "
تنهّدت ، و قلت خاتما الموضوع :
" أمامك المطبخ بما حوى ... تصبحين على خير "
و استدرت و تابعت طريقي، و لما بلغت الباب و فتحته سمعتها تقول :
" لو كان سامر هنا ، لما سمح بأن أنام و أنا جائعة ! و لكان لفّ العالم ليحضر لي ما أريد "
أفلتت أعصابي، صفعت الباب بقوّة و أنا أستدير إليها ، و أراها تجلس على المقعد و تحني رأسها إلى الأرض، و تبدأ بالبكاء...
سرت إليها و وقفت قربها و قلت بعصبية :
" حسنا.. أنا ذاهب لإحضار ما تريدين "
و سكت لأتنفس، ثم تابعت :
" لا تستفزّيني هكذا ثانية ! "
رفعت رأسها و نظرت إلي، ربما نظرة استغراب أو اعتذار ، لم أكد أميّزها لأنني سرعان ما استدرت و ذهبت نحو الباب، و ما أن فتحت الباب حتى وصلني صوتها و هي تقول:
" مع عيدان البطاطا المقلية... ! "
التفت إليها فوجدتها تبتسم ! نعم تبتسم !
أتعرفون أي نوع من الابتسامات ؟؟ تلك التي تنسي المرء أنه يتصبب عرقا و أن عضلاته مرهقة حد الشلل ، و مشاعره متهيجة حد الغليان !
يا لهذه الفتاة !
لم يكن العثور على مطعم مفتوح أمرا سهلا، لكنني اشتريت لصغيرتي المدللة هذه ما تريد، و خلال 40 دقيقة ، عدت إلى المنزل ...
كانت لا تزال جالسة على نفس المقعد ، و الكتاب في حضنها و يداها موضوعتين على صفحتيه ...
لم تنهض لدى دخولي...
قلت :
" وصل عشاؤك ! "
لم ترد... اقتربت منها ، فوجدت عينيها مغمضتين... و ببساطة كانت نائمة !
" رغد .. "
لم تجب، اقترب أكثر و همست :
" رغد هل نمت ِ ؟ "
و لم تستفق.
ماذا أفعل بهذه الفتاة ؟؟
في منتصف الكتاب المفتوح، لمحت شيئا يلمع.. اقتربت أكثر، إنه ليس إلا خاتم خطوبة رغد.. ! مددت يدي و أخذت الخاتم...و دققت النظر فيه.. محفور بباطنه الحرفان الأولان من اسمي رغد و سامر، مع تاريخ الخطوبة...
بقيت واقفا في مكاني أعبث بذلك الخاتم، و أتمنى أن امحيه من الوجود، و أمحي معه كل علاقة ربطت بين سامر و رغد.. حتى رابطة الدم !
في آخر مرّة زارنا فيها سامر.. في آخر لحظة قضاها معنا.. في المزرعة ، و آخر صورة التقطتها عيناي لهما هو و رغد، كانا في عناق حميم.. حلل كل خلايا الدم الجارية في عروقي.. و أصابني بأنيميا حادة فتّاكة...
لكني حتى هذه اللحظة، أجهل مصير هذه العلاقة و لا أجسر على التحدّث مع رغد بشأنها...
التفت الآن إلى رغد، نائمة بعمق و هدوء... و تعرفون كم تطيب لي مشاهدتها هكذا.. و تعرفون كم أعاني و أجاهد نفسي أقف عند الحدود فيما بيننا..
اقتربت منها أكثر، و همست :
" رغد.. قومي إلى غرفتك "
لكنها لم تتحرك، ناديت :
" رغد انهضي يا صغيرتي.. هل ستنامين هنا ؟؟ "
و مددت يدي و ربت بخفة على يدها ، رغد تحركت، و مالت بجدعها على المقعد حتى أسندت رأسها عليه و هي تقول :
" أوه أروى حلّي عني ، أكرهك ! "
و صمتت !
دهشت ! بم تحلم صغيرتي هذه اللحظة ؟؟ و لم تقول شيئا كهذا ؟ و ماذا يعني ذلك؟؟
" هذا أنا وليد، أنت تنامين في الصالة رغد، قومي إلى غرفتك "
ابتسمت رغد، و هي نائمة ، ثم قالت :
" بابا .. أحبك .. "
و غطت في سكون عميق !
ليتني أدخل حلمك و أرى... بما و من تحلمين !
نوما هنيئا...صغيرتي..
رغد
عندما نهضت، و على صوت منبه مزعج ، رأيت نفسي نائمة على المقعد في وضع غير مريح ! و على المنضدة الموضوعة أمام المقعد ، وجدت كيسا يبدو أنه لأحد المطاعم !
نهضت و نظرت من حولي فلم أر أحدا، لكنني كنت أسمع صوت المنبه القوي قادما من ناحية غرفة وليد !
مددت يدي نحو الكيس أولا و تفقّدت ما به
" إنها البيتزا ! "
و صوّبت نظري ناحية غرفة وليد، فوجدت الباب مفتوحا على مصراعيه ... و كان المنبه يرن باستمرار ... دون أن ينهض وليد...
قمت أنا و تسللت إلى الغرفة، و أوقفته، و ألقيت نظرة على وليد...
كان مستلق ٍ على السرير و أطرافه الأربعة موزعة على جميع الزوايا ! كان يبدو غارقا في النوم جدا !
و مع ذلك ما أن نطقت باسمه :
" وليد "
حتى فتح عينيه بسرعة، ثم نهض جالسا باندفاع !
هل صوتي مفزع لهذا الحد ؟؟ لقد كان المنبه يرن حد البحة!
وليد تلفت يمينا و شمالا ثم نظر إلي
" رغد ؟ ما بك ؟ "
إنه بالفعل فزع !
قلت :
" لا شيء ! إنه وقت الصلاة ! "
خرجت من غرفته، و ذهبت إلى غرفة أروى،التي لا أزال أشاركها فيها، حاملة معي كيس المطعم !
وجدت الباب موصدا من الداخل !
" أروى! تبا لك ! سأعتبره طردا ! "
بعد قليل، و قد خرج وليد مع العجوز كالعادة للصلاة للمسجد، حملت كيسي و البطانية ، و ذهبت إلى غرفة وليد و تابعت نومي على المقعد !
وجدتها فرصة ذهبية لتوسيع دائرة الخلاف بيننا، أنا و أروى.. قلت مخاطبة وليد بعد عدة ساعات :
" إنها لا تريدني في غرفتها، و لا في بيتها و لا مزرعتها، أخرجني من هذا المكان "
وليد كان متضايقا جدا، قال :
" لا يمكن أن تتعمّد أروى إيصاد الباب دونك! ربما أقفلته خطأ ً "
" طبعا ستقول هي أنه خطأ، لكني متأكدّة من أنه مقصود ، وليد لا أريد العيش في هذا المكان.. "
امتقع وجه وليد و كأبت ملامحه بشدّة... و فرك جبينه براحة يده ثم قال :
" إلى أين نذهب إذن ؟ "
قلت :
" دعنا نعود إلى شقة سامر "
لم ترق الفكرة لوليد، و قال :
" و عملي ؟ "
" فتّش عن عمل آخر، إنه عمل متعب و لا يستحق اهتمامك و مجهودك على أية حال "
وليد حزن من قولي هذا، كما ظهر جليا على وجهه، ألا أنه قال :
" سأحاول إيجاد حل آخر..."
و صمت قليلا ، ثم تابع و هو يضيق فتحة عينيه :
" ألا أنني لن أسمح لك بالزواج قبل الخامسة و العشرين ! "
ذهلت من كلامه، و من نظرته فحملقت به بفضول ، و سألت :
" و لم الخامسة و العشرين بالذات ؟ "
" هذا على الأقل، فأنت لا تزالين صغيرة ، و ستظلين صغيرة لبضع سنين ! "
بشكل تلقائي، رفعت يدك اليمنى مبرزة إصبعي البنصر، لأثبت بأنني مخطوبة يعني كبرة ! و للدهشة ، لم أجد الخاتم !
تبدّلت ملامحي ، و أخذت أقلب كفي ظهرا و بطنا و أفتش عن الخاتم في أصابعي العشرة ! لا ، بل العشرين !
وليد كان يراقبني، و رآني و أنا أضطرب، ثم أذهب نحو المقعد و أفتّش ما حوله..
أقبل وليد يسير ببطء ، حتى وقف خلفي مباشرة، و كنت أنا جالسة على الأرض محنية رأسي للأسفل ، أتحسس بيدي الأرضية تحت المقعد ...
يا إلهي أين اختفى !؟
" عمّ تبحثين ؟ "
رفعت نظري إلى الجبل الطويل الواقف خلف، فرأيت ميلا بسيطا لإحدى زاويتي فمه للأعلى، يعني ، شبه ابتسامة ماكرة !
قلت و أنا لا أزال في وضعي أنظر إليه كمن ينظر للسقف !
" هل رأيته ؟ "
" ما هو ؟؟ "
" محبسي ! "
" أي محبس ؟؟ "
" خاتم خطوبتي يا وليد ، تركته على الكتاب البارحة ! "
تغيّرت تعبيرات وليد و قال :
" هل يعني لك فقده شيئا مهما ؟؟ "
قلت مستغربة :
" طبعا ! إنه ليس مجرّد خاتم ! "
وليد عبس بعض الشيء، ثم مد يده في أحد جيوبه، و أخرج الخاتم... و وضعه على المنضدة ...
نهضت أنا و نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وليد... و حرت في أمره...
ولى وليد مدبرا خارجا من المنزل ألا أنه حين بلغ الباب استدار و قال :
" لن تضعي شيئا كهذا في يدك اليسرى قبل مضي سنين ! مهما كان الطرف الآخر ! لن أسمح بذلك ..."
و انصرف !
اروى
أخيرا حلّ الليل! كم أنا مسرورة و في قمة السعادة.. فالليلة سنرتدي أنا و وليد خاتمي الخطوبة أخيرا !
قضيت فترة طويلة على غير العادة أمام المرآة أتزيّن !
أعددت لسهرة جميلة و رومانسية مع خطيبي، في الغرفة الخارجية...
و الإعداد يشمل العشاء، و طبق التحية، و الشموع الحمراء، و فستاني الأزرق الداكن، و تسريحتي الجميلة، و خاتمي الخطوبة، و طقم الشبكة، و أيضا الكلام اللطيف الذي حضّرته لأقوله لوليد!
و هو أهم ما في السهرة، فإن في قلبي مشاعر أود التعبير عنها...
بصراحة حتى الآن لا أشعر بأنني كبقية الفتيات المخطوبات، لأن ظروف وليد لم تسمح لنا بالاستمتاع بأيام خطوبتنا كما ينبغي... كيف نهنأ و والداه توفيا قبل فترة تعتبر وجيزة...؟؟
و الآن بعدما استرد كيانه، و اجتاز الصدمة، حلّت رغد.. كعائق دون انفرادي بخطيبي!
و اليوم هي مستاءة منّي لأنني نسيت باب غرفتي مغلقا، بعد استبدال ملابسي، و أويت للنوم !
على كل ٍ استياؤها هذا جاء بفائدة ألا وهي بقاؤها بعيدة بعض الشيء !
فتح الباب أخيرا و دخل وليد.. خطيبي العزيز..
و انبهر بكل ما حوله، فقد صنعت جوا رومانسيا رائعا !
" جميل ! ذوقك جميل ! "
" شكرا وليد! تفضّل بالجلوس ! "
اتخذنا مجلسينا متقابلين تفصلنا مائدة العشاء المميز... و إلى جانبنا منضدة صغيرة وضعت عليها علبة الخاتمين و العقد...
تبادلنا أطراف الحديث، الهادىء اللطيف، و الابتسامات الناعمة ! و بمجرّد أن نلبس الخاتمين، سأقول له : ( أحبك يا وليد ! )
كم تتخيلون كان مقدار سعادتي؟؟
و ماذا تتصوّرون لون وجهي ؟؟
و هل لديكم فكرة عن سرعة دقّات قلبي ؟؟
ليتكم كنتم معنا...
تناول وليد علبة الخاتمين، و أمسك بخاتمي الذهبي، و هم ّ بإلباسي إياه...
إنها اللحظة الحاسمة التي كنت انتظرها ...
حينها، سمعنا طرقا سريعا على الباب جعلنا نفزع و ننهض واقفين بسرعة...
" وليد.. "
و انفتح الباب ، فإذا بها أمي تقبل مسرعة ...
" أمي .. ماذا حدث ؟؟ "
أمي كانت تنظر إلى وليد و هي مقبلة نحوه و مخاطبة له بقول :
" وليد.. أسرع .. رغد متعبة جدا ! "
وليد ، لم ينتظر حتى إلى أن تنهي أمي جملتها، رمى بالخاتم بسرعة فوقع في كأس العصير... و قفز خارجا من الغرفة يركض بقوة... كمتسابق في الماراثون...
لم تكن غير ثانية ، أو ربما عشر الثانية أو حتى جزء من مئة جزء منها ، إلا و اختفى وليد.. و تلاشى كل شيء...!
و خيّم سكون على الغرفة.. لا يعكّره إلا رنين الخاتم المصطدم بالكأس..
و ظلام لا يوتّره إلا لهيب الشمع المنصهر أمام عيني ...
و بقايا أمسية..انتهت قبل أن تبدأ..
و سعادة اختفت قبل أن تظهر..
و لسان خرس قبل أن ينطق...
( أحبك يا وليد ) ....
الحلقة الثالثة و الثلاثون
أرجوحة الزمن !
رغد
بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!
كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !
لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !
و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !
سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :
" أين خاتمك ؟ "
وليد فكّر قليلا ثم قال :
" في علبته ! "
شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !
إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا
أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :
" و أنت ؟؟ "
رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟
قال :
" أين خاتمك ؟ "
و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !
" حقا !؟ كدت ُ أنسى ! كنت ِ تضعين ألعابك و تأتين إلي طالبة مني البحث عنها ! "
ابتسمت ُ بخجل...
قال :
" لكنها كانت ألعاب .. أما هذا .. "
و بتر جملته...
و ظل ينظر إلي بصمت برهة.. ثم وجه عينيه نحو الجدار...
قلت :
" وليد .. "
بصوت خافت هامس، التفت إلي و أجاب :
" نعم ؟ "
" هل.. ستظل تعتني بي .. فيما لو بقيت ُ دون زواج عشر سنين أخرى ؟ "
استغرب وليد من سؤالي، ثم قال :
" و عشرين، و خمسين ، و مئة ! "
قلت بخجل :
" حقا وليد ؟ "
" طبعا صغيرتي ! إنك جزء مني ! "
كدت ُ أقول بسرعة :
" و أنت كلّي ! "
و لكنني خدّرت الجملة في لساني لئلا تصحو !
قلت و أنا أعبث بأصابعي :
" وليد ... "
و أتممت :
" تخلّصت ُ من الخاتم "
و نظرت إليه لأرى تعبيرات وجهه
بدا مستغربا حائرا
قلت موضّحة أكثر :
" سامر حل ّ رباطنا و لذلك .. خلعته "
هي تعبيرات غاية في الغموض ، تلك التي ارتسمت على وجه وليد لحظتها... ذهول مفاجأة ، صدمة، استياء... عدم تصديق، أو .. لا أدري.. لا أدري ما كان معناها...
بعد صمت الاستيعاب و التفكير ، قال :
" إذن .. إذن ... أنت و سامر ... "
أتممت ُ جملته :
" لم نعد مرتبطين ! "
وليد وقف فجأة ، و أخذ يحوم...في الغرفة ، يفكّر .. ثم استدار إلى فجأة و سألني :
" لماذا يا رغد ؟ "
تبادلنا نظرة عميقة، ثم أحنيت رأسي و أخفضت عيني نحو الأسفل.. خشية أن تصرخ الجملة من عيني : ( لأني أحبك أنت ! )
التزمت الصمت، و لم أرفع بصري إليه مجددا... فما كان منه إلا أن أقبل نحو الستارة ليغلقها
بعدما أغلقها حول سريري، قال جملة أخيرة :
" مهما كان السبب، و لأنك تحت رعايتي الآن، فاحذفي فكرة الزواج من رأسك نهائيا.. طوال السنين المقبلة "
وليد
الآن، و أخيرا..أصبحت رغد حرّة !
اتصلت بسامر و علمت منه بالتفاصيل، و الجملتان اللتان ظلتا معلقتين في رأسي كانت أولاهما :
" لا داعي لأن تأتيا لزيارتي ، لا أريد أن أراها "
أما الثانية، فهي :
" تستطيع أن تتزوّج الآن ممن أرادت "
" من تعني ؟ "
" اسألها ! "
كل هذا أكد لي ، أن رغد بالفعل انفصلت عن سامر من أجل رجل آخر... و هذا الآخر لن يكون غير حسام، و أنا لن أكون وليد إن سمحت لها بالزواج من أي مخلوق على وجه الأرض.. فرغد من هذه اللحظة أصبحت لي ! نعم لي !
و مهما كانت العقبات، و مهما عاندت الظروف، فسوف لن أسمح لأي رجل بدخول حياتها و سرقتها مني مجددا.. و لن تكون في النهاية إلا لي أنا..
توالت الأيام، و رفع الحظر أخيرا عن المدينة الصناعية و صار بإمكان الناس التحرك منها و إليها دون خطورة .. و ما أن حدث ذلك ، حتى طالبتي رغد بأخذها إلى بيت خالتها و ألحّت علي بالطلب ، الأمر الذي جعل الشكوك في رأسي تكبر و تتفاقم و أصبحت مهووسا باسم حسام حتى صرت أراه في الكوابيس...
و بعد إلحاح شديد منها وافقت على اصطحابها لزيارة عائلة خالتها بمجرد انتهاء موسم الحصاد .
رغد
بعد أيام، سيأخذني وليد أخيرا لرؤية خالتي و نهلة و الجميع ... كم اشتقت إليهم ! كم من الشهور مضت مذ افترقنا في تلك الليلة الحمراء ...
كنت رغم ذلك على اتصال شبه يومي بنهلة أخبرها عن كل شيء يدور من حولي و داخلي ...
في أحد الأيام، كان وليد يعمل في المزرعة كالعادة، و كنت أراقبه و أرسم منظرا جميلا على مقربة منه، الشقراء كانت داخل المنزل مشغولة ببعض الأمور مع والدتها
فجأة ، إذا بي أرى أناس غرباء يدخلون المزرعة، و يعبرون الممر و يقتربون منّي !
كانوا أربعة رجال... تقدّم أحدهم نحوي أكثر و سأل :
" أأنت الآنسة أروى نديم ؟؟ "
قال آخر مقاطعا :
" أرأيت ؟ كما توقّعت ! إنها فتاة قاصر ! "
قال الرجل الأول و هو يقترب أكثر :
" أنت هي ؟ "
تراجعت أنا للوراء، و ألقيت بالفرشاة و علبة الألوان جانبا و هتفت :
" وليـــــد "
وليد كان يعمل بالجوار.. ، و حين سمع ندائي أقبل مسرعا .. فلما ظهر أمام عيني ركضت إليه في ذعر ...
" رغد .. ماذا هناك ؟ "
و نظر إلى الرجال الغرباء ...
ثم سألهم :
" من أنتم ؟؟ "
قال الرجل الذي تحدّث إلي :
" أنا المحامي يونس المنذر، و هؤلاء رجال قانون أتباعي ، أتينا بحثا عن الآنسة أروى نديم "
و نظر باتجاهي أنا
اختبأت أنا خلف وليد، و أطللت برأسي لأراهم !
قال المتحدّث :
" أهي هذه ؟ "
قال وليد :
" لا ، لكن هل لي أن أعرف ماذا تريدون منها ؟ "
قال المتحدّث :
" أهي هنا ؟ أ هذه مزرعة المرحوم نديم وجيه ؟ "
" نعم . فماذا تريدون منها ؟ "
" عفوا من تكون يا سيد ؟ "
" وليد شاكر، زوج أروى نديم "
تبادل الرجال جميعهم النظرات ، ثم قال المتحدّث :
" هل يمكننا التحدث إلى السيدة أروى ؟ فالأمر مهم "
قال وليد :
" هل لي أن أعرف .. الموضوع ؟؟ "
قال الرجل :
" الموضوع يتعلق بإرثها، و لكن لا أريد مناقشته دون حضورها شخصيا و مع البطاقة المدنية ، بعد إذنك "
وليد استدار ليتحدّث معي ...
" رغد، من فضلك، استدعي أروى، و اطلبي منها إحضار بطاقتها ، و احضري بطاقتي من محفظتي ، تجدينها في أول أدراج الخزانة في غرفتي "
أذعنت للأمر و ذهبت مسرعة نحو أروى ، و أخبرتها بالأمر، ثم أسرعت إلى غرفة وليد أفتّش عن محفظته
استخرجت المحفظة من أحد أدراج الخزانة، و أخرجت البطاقة منها و أثناء ذلك ، لمحت شيئا داخل المحفظة أثار فضولي !
مجموعة من قصاصات الورق مرصوصة خلف بعضها البعض و مدسوسة خلف البطاقة !
بفضول سحبت واحدة منها فاكتشفت أنها جزء ممزق من صورة فوتوغرافية ما !
استخرجت القصاصة الثانية ، و الثالثة ، و الجميع، حتى وجدت قطعة حاوية على وجه شخص !
رتبت القصاصات .. حتى اكتملت الصورة ، و صارت جليّة أمامي ...
صورة لفتاة صغيرة، تجلس على الأرض، و أمامها علبة ألوان و دفتر تلوين تلّون رسومه ... صورة لا يقل عمرها عن 13 عاما كما لا يزيد عمر الطفلة الظاهرة فيها عن 5 سنين !
إنها صورتي أنا !!
" رغد "
سمعت صوت أروى مقبل نحوي فأعدت القصاصات بسرعة كيفما اتفق، و أخذت البطاقة و خرجت مسرعة من الغرفة ...
" ها أنا "
خرجنا سوية من المنزل إلى المزرعة، فوجدنا وليد و الرجال الأربعة و قد جلسوا على المقاعد الموجودة حول طاولة موضوعة على مقربة من المنزل ...
حينما أقبلنا.. وقف الجميع .. و قال وليد مشيرا إلى أروى :
" هذه هي أروى نديم وجيه "
و بعد أن استوثق الرجال من البطاقة ، قال ذلك الرجل نفسه :
" إذن فأنت لست فتاة قاصر كما اعتقدنا "
قالت أروى :
" أنا في الرابعة و العشرين من العمر ! "
قال الرجل :
" هذا سيسهّل مهمّة استلامك للإرث "
أورى و وليد تبادلا نظرة التعجب ، ثم قالت :
" الإرث ؟ أي إرث ؟ والدي رحمه الله لم يترك لنا غير هذه المزرعة ! "
و أشارت بيدها إلى ما حولها ...
الرجل تحدّث قائلا :
" لا أتحدّث عن إرث والدك رحمه الله "
تعجبت أروى ، و سألت :
" من إذن ؟؟ "
قال الرجل :
" عمّك المرحوم عاطف وجيه "
حملقنا نحن الثلاثة في وجوه بعضنا البعض، في منتهى الدهشة و الاستغراب ، و إن كنت أنا أقلهم استغرابا !
قال وليد :
" عاطف وجيه ؟؟ أبو عمّار ! "
أجاب الرجل :
" نعم أبو عمّار ، رحمهما الله "
وليد و أروى نظرا إلى بعضهما .. ثم إلى الرجل الغريب ...
سألت أروى :
" عمّي عاطف ! عجبا ! لقد مات قبل عام ! هل ذكرني في وصيته !؟ "
الرجل قال :
" لم يترك المرحوم وصية، كما لم يترك وريثا ، لكنه ترك ثروة ! "
ازداد تحديق وليد و أروى في بعضهما البعض ، ثم سألت أروى :
" ثروة ؟ "
قال الرجل :
" نعم ، و لك منها نصيب كبير "
حلّ الصمت برهة ، ثم قالت أروى :
" ما يصل إلى كم تقريبا ؟ "
قال الرجل بصوت تعمّد أن يكون واضحا رنانا :
" ما يصل إلى الملايين يا سيدتي ! "
فغرت أروى ، و كذلك وليد و أنا.. كلنا فغرنا أفواهنا من الذهول ... و قالت أروى غير مصدّقة :
" ملا...يين ؟؟ تركها لي ..!! "
قال الرجل :
" نعم ملايين ! "
هزّت أروى رأسها غير مصدّقة... و هي تضع يدها على صدرها من الذهول ...
قال الرجل :
" يبدو أنك لم تكوني على علم ٍ يا سيّدتي.. بأن عمّك المرحوم عاطف وجيه كان مليونيرا فاحش الثراء ! "
وليد
لقد كانت مفاجأة هزّت كياننا جميعا ...
عاطف وجيه، هو والد عمّار القذر، الذي قتلته بيدي قبل تسع سنين ..
و عاطف هذا ، كان رجلا شديد الثراء و يملك العديد من الأملاك ... و من بينها مصنع كبير كان يضاهي معظم مصانع المدينة الساحلية، و هو مصنع لم تلمسه يد الحرب، كما فعلت بمصانع أخرى ، منها مصنع والدي السابق ...
حقيقة، كان حدثا مزلزلا شل ّ حركتنا و أفكارنا طوال عدّة أيام...
و الفتاة الفقيرة التي ارتبطت بها ، و التي قبلت بي على حالي و عللي ، و فتحت قلبها و بيتها و كل ما لديها من أجلي، و التي كنت أفكر بالانسحاب من حياتها من أجل رغد... أصبحت الآن..مالكة لثروة كبيرة !
يا للأيام ...
يا للزمن .. الذي يؤرجحنا و مصائرنا إيابا و ذهابا... علوا و هبوطا... مستقبلا و ماض ٍ !
كان يفترض عليها السفر إلى المدينة الساحلية من أجل إتمام الإجراءات اللازمة شخصيا.. و استلام نصيبها العظيم من تلك الثروة...
و كان علي أنا ترتيب الأمور من أجل هذه الرحلة، إلى المدينة الساحلية، مدينتي الأصلية، و التي لم أزرها منذ زمن..
" هل تصدّق يا وليد ؟؟ إنني لا أكاد أصدّق ! كأنه حلم ! آخر شيء كنت أتوقعه في الوجود على الإطلاق..هو أن أرث شيئا و من ثروة عمّي الذي لم أره في حياتي غير بضع مرّات عابرة ! "
قالت ذلك ، و هي بين التصديق و التكذيب.. تشع عيناها فرحا و ابتهاجا..
قلت :
" سبحان الله ! "
أروى، مدت يديها و أمسكت بيدي و قالت :
" شدّ على يدي ّ بقوّة يا وليد ! دعني أحس بالألم لأتأكّد من أنها حقيقة "
ابتسمت لها و قلت :
" إنها حقيقة مذهلة ! صدّقي يا أروى ! أصبحت ِ ثرية ! "
أروى نظرت إلي بسعادة، و اغرورقت عيناها بالدمع، ثم ارتمت في حضني ...
" ضمّني بقوّة يا وليد.. فأنا أريد أن أشعر بأنها الحقيقة..بأنني لا أحلم..بأنني في الواقع..وبأنك معي ! "
أحطتها بذراعي مشجعا ..و مؤكدا لها ما أعجز أنا نفسي عن تصديقه... و مكررا :
" سبحان الله...سبحان الله "
أغمضت عيني، و نحن متعانقين، و سبحت في بحر الذكرى البعيدة... استعرض شريط حياتي و المفاجآت التي اختزنها القدر لي ، و صدمني بها مرة تلو أخرى ...
قالت أروى :
" ماذا سنفعل الآن؟؟ "
" لا أعرف ! لازلنا في أول الطريق ! "
ابتعدت أروى عن صدري قليلا، و نظرت إلي مطولا، و ابتسمت و قالت :
" لا حاجة للقلق..ما دمت معي "
ابتسمت لها، فعادت و غمرت رأسها في صدري بارتياح...
أما أنا فأغمضت عيني في ألم...و مرارة ..في حيرة و ضياع.. ماذا سأفعل الآن؟؟ ماذا ينتظرني بعد ؟؟ ماذا تخبئين لي أيتها الأقدار ؟؟
و عندما فتحتهما..لمحت عينين حمراوين..ملأتهما الدموع..تنظران إلي بألم، مطلتين من فتحة الباب.. و ما أن رأيتهما ..حتى انسحبت صاحبتهما مبتعدة .. تاركة إياي في بحر من الضياع..
لم استطع البقاء مكاني لحظة بعد.. أبعدت أروى عني قليلا و قلت :
" دعيني أذهب لترتيب بعض الأمور.. من أجل السفر "
أروى ابتسمت و قالت :
" و أنا أيضا سأرتب بعض أموري... لا أدري كم سنغيب هناك ! "
و تركتها و تسللت نحو غرفة رغد..
طرقت الباب مرارا لكنها لم تجبني، و حين هممت بالانصراف رأيت مقبض الباب يتحرك أخيرا...
في الداخل، وجدت رغد غارقة في الدموع المريرة..فتصدّع فؤادي و طار عقلي خوفا عليها...
" ما بك صغيرتي؟؟ ماذا حصل ؟"
رمتني رغد بنظرة ثاقبة .. لم يكفها تمزيق أحشائي بل و صهرت الجدار الذي خلفي من حدّتها...
" رغد !؟ "
قالت :
" متى ستسافران ؟ "
قلت :
" خلال أيام معدودة "
قالت :
" هل يجب أن تذهب أنت ؟ "
استغربت سؤالها و أجبت :
" طبعا ! فأروى ستكون بحاجة إلي بالتأكيد ! "
قالت بنبرة حزينة :
" و أنا ؟ "
نظرت إليها بتعجّب ، و قلت :
" بالطبع ستكونين معنا ! "
رغد لم تعقّب، بل أحنت رأسها للأسفل بحزن...
اقتربت منها أكثر ، ثم قلت :
" رغد ! و هل تظنين أنني سأترك هنا و أذهب ؟؟ "
رغد رفعت رأسها و نظرت إلي نظرة جعلت قواي تخور فجأة ...
قلت بصوت ضعيف واهن :
" أرجوك يا رغد.. ماذا تقصدين ؟ أخبريني بلسانك فلغة العيون هذه ..ترسلني إلى الجنون "
قالت رغد :
" ستصبحان ثريين ! "
ثم أضافت :
" هنيئا لكما ! "
و غطت وجهها بيديها كلتيهما و بكت بكاء ً مؤلما...
" أرجوك يا رغد، لم كل هذا ؟؟ ماذا يجول برأسك الآن ؟؟ "
رغد قالت و هي على وضعها هذا :
" دعني وحدي "
لم أقبل، قلت مصرا :
" ما بك الآن ؟ أخبريني أرجوك ؟؟ "
أزاحت رغد يديها و رمقتني بنفس الناظرة ، و قالت :
" أريد الذهاب إلى خالتي ! هلا ّ أخذتني إلى هناك ؟ "
رتبنا الأمور للسفر برا ، أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا ، فيما ظل العم إلياس في المزرعة، يهتم بأمورها بمساعدة الأشخاص الذين عيّنتهم أنا للعمل عندنا قبل مدّة.
خطة سفرنا كانت تقتضي منا التعريج على المدينة الصناعية أولا ، من أجل زيارة عائلة أم حسام، كما ترغب رغد و تلح، و من ثم الذهاب إلى المدينة الساحلية.
في السيارة، كانت أروى تجلس على المقعد المجاور لي، و كنا نتبادل الأحاديث معظم الوقت، بينما يخيم صمت غريب على المقعدين الخلفيين، رغد و الخالة !
الخالة سرعان ما غلبها النعاس فنامت، أما الصغيرة الحبيبة، فكلما ألقيت نظرة عبر المرآة إليها وجدتها تحدّق بي بحدّة ! و كلما حاولت إشراكها في الحديث معنا ردت ردا مقتضبا سريعا ، باترا !
المشوار إلى المدينة الصناعية المنكوبة لم يكن طويلا، لكن الشارع كان خاليا من أية سيارات، الأمر الذي يثير الوجل في قلوب عابريه !
عبرنا على نفس محطة الوقود التي بتنا عندها تلك الليلة.. و نحن مشردون في العراء !
المحطة كانت مهجورة، و البقالة مقفلة... المكان ساكن و هادىء ، لا يحركه شيء غير الريح الخفيفة تعبث بأشياء مرمية على الأرض ...
كم كان يومنا مأساويا...
خففت السرعة، و جعلت أراقب ما حولي و أستعرض شريط الذكريات... لقد نجونا بأعجوبة ! سبحان الله ...
" وليد .. "
كان هذا صوت رغد، تناديني بوجل.. و كأن الذكرى أثارت في قلبها الفزع... التفت إليها فوجدتها تكاد تلتصق بمقعدي ! و علامات التوتر و الخوف مستعمرة تقاسيم وجهها الدائري...
قلت مشجعا :
" نجونا.. بفضل الله .."
و سبحنا في بحر عميق من الهدوء الموحش ...
تابعنا طريقنا ، و الذكرى تجول في رأسينا... هنا مشينا حفاة.. هنا ركضنا... هنا وقفنا... هنا حملت رغد... هنا وقعت رغد ... هنا أصيبت رغد ! آه ..ما كان أفظع ذلك الجرح ! ...
و هنا ...
هنا ...
ماذا تتوقعون هنا ؟؟
إنها سيارتي !
" وليد ! "
نادتني رغد و هي ترى سيارتي القديمة واقفة إلى جانب الطريق ، مع سيارات أخرى في نفس المكان !
أوقفت السيارة ، و أخذت أتفرج على سيارتي القديمة هناك !
التفت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ...
يا للأيام ! بل يا للشهور ! أما زالت سيارتي القديمة واقفة في انتظار عودتي في مكانها !
فتحت الباب و هممت بالنزول ، ناو الذهاب و تفحصها عن كثب !
" إلى أين وليد ؟؟ "
سألني رغد ، قلت :
" سألقي نظرة ! "
و قبل أن أخرج كانت رغد قد فتحت بابها و سبقتني !
وقفت إلى جانبها ، و قلت :
" سأرى ما إذا كانت تعمل أم لا ! "
" سآتي معك "
و طبعا لا داعي لأن اعترض !
ذهبنا سوية، و بيدي نفس الميدالية التي أهدتني إياها صغيرتي، و التي تضم جميع مفاتيحي ، و اقتربنا من السيارة.
فتحت الأبواب الغير موصدة، و تفحصت ما بالداخل ...و رغد إلى جانبي..
" كما هي ! لم يتغير شيء ! أ رأيت يا رغد ؟؟ "
لم تعقّب ، بل ظلت تتفحصها بعينيها ، و ربما تستعيد الذكرى المرعبة ..
" سليمة لم يصبها شيء ! رغد .. أتصدّقين ذلك ! سبحان الله ! "
رغد قالت :
" هيا بنا..ننطلق للخلف، و نعود من حيث أتينا تلك الليلة، و نعود بالزمان للوراء، و ننسى ما حصل انطلاقا من هذه النقطة ! "
ابتسمت و قلت :
" يا ليت ... "
و تنهّدت و أضفت :
" يا ليتنا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة، رجعنا للوراء ، و رجع كل شيء كما كان... "
و أسندت رأسي إلى مسند المقعد.. و أغمضت عيني ...
لست أريد العودة للوراء بضعة اشهر، بل تسع سنين ، بل عشر... بل 15 ...
إلى ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه مخلوقة صغيرة حياتي فجأة ! و ملأتها صراخا ، و بكاء ، و دموعا.. و ألما...
فتحت عيني و التفت إلى رغد، فوجدتها تنظر إلي بقلق..
إنها هي ذاتها... المخلوقة التي غزت عالمي منذ سنين .. ذاتها التي تجلس قربي الآن ، لا يفصلني عنها سوى بضع بوصات...
تنظر إلي نظرتها للعالم بأسره، و أمثّل بالنسبة لها كل الناس...
" رغد .. "
" نعم ؟ "
" كيف تشعرين الآن ؟؟ "
قالت :
" الآن الآن ؟"
" نعم الآن ! ؟ "
ابتسمت و قالت :
" بالسرور ! "
عجبا ! أمر هذه الصغيرة كله محيّر !
بعد ذلك، أقفلت أبواب السيارة، و ودعناها على أمل العودة لها ذات يوم، و تابعنا مشوارنا نحو المدينة...
ما إن أطللنا على مشارفها، حتى رأينا الدمار و الخراب يعشش على شوارعها و أجوائها...
اضطررت لسلك طرق ملتوية و معقّدة لأصل إلى قلبها...
المباني المتهدّمة ، الأشجار المحترقة، الشوارع المدمّرة، و الأشياء المبعثرة هنا و هناك ...
كلها ، مناظر تثير الرعب في قلب الصخر...
عبرنا أخيرا على الشارع المؤدي إلى منزلنا... و آه من ألم المنظر .. آه بعد ألف آه و آه...
بيتنا.. كتلة من الفحم الأسود... محاطة بطبقة من الرماد و الغبار...
تحوّل ذلك المنزل الصغير الهادئ، الحبيب .. إلى شبح ميت.. لا أثر فيه و لا معلم من معالم الحياة و الروح...
" يا إلهي ! "
قالت رغد ذلك ، و وضعت يدها على وجهها لتحاشي رؤية المنظر المؤلم...
و تخفي الدموع التي ساحت على الجانبين.. رثاء و عزاء ...
لم أستطع أن أمر من هنا مرور الكرام ، أوقفت سيارتي عند الباب ، المكان الذي اعتدت أن أوقفها فيه.. و نظرت من حولي ...
شعرت باختناق شديد في صدري، و كأن الغبار و الرماد قد سدّت حويصلاته ، و منعت جزيئات الهواء من الدخول...
مع ذلك، لم أتمالك منع نفسي من المضي قدما...
فتحت الباب، وقلت :
" سألقي نظرة"
و التفت إلى رغد.. كانت لا تزال تخفي وجهها خلف يديها...
قلت :
" رغد.. أتأتين ؟؟ "
أردتها أن تأتي معي.. شيء حي يتحرك معي في سكون ذلك الشبح الميت، أردت أن أشعر ببعض الحياة.. ببعض الأمان..بأن هناك من لا زال حيا معي .. رغم موت من مات.. و فناء من فني...
أروى قالت :
سآتي معك ! "
رغد بسرعة أبعدت يديها عن وجهها و فتحت الباب !
خالتي الأخرى أيضا تبعتنا... و سرنا نحن الأربعة نحو الداخل...
الأبواب كانت مفتوحة، كما تركناها أنا و دانة ليلة هروبنا ...
سرنا ندوس على الرماد، و نتنفس الغبار.. و رائحة الخراب و الوحشة... تقرصنا الذكريات و تصفعنا المناظر المؤسفة، و تحني ظهورنا الحسرة على ما كان و ما لم يعد...
رغد أمسكت بيدي، و كلما سرنا خطوة شدت ضغطها علي.. و كلما رأت شيئا أغمضت عينيها بقوّة و عصرت الدموع المتجمعة في محجريها...
حتى إذا ما بلغنا الردهة المؤدية إلى غرفة والدي ّ ، حررت يدي من بين أصابعها، و هرولت نحو الباب و فتحته باندفاع...
" أمي... أبي ... "
حينها فقط، أدركت كم كنت مجنونا حين سمحت للفضول بالتغلب علي ... و وقفت عند المنزل...
اقتحمت رغد الغرفة و هي تهتف
" أمي .. أبي .. "
و انهارت على السرير ، تحضن الوسائد و تبكي بحرارة و مرارة .. بكاء عاليا صدّع الحجر ... و أدمع الجدران.. و زلزل الأرض...
" أنا أنتظركما ! لماذا لا تعودان ؟ أي حج هذا الذي لا يعود الحجيج فيه من بيت الله ! .. الله ! يا الله .. أنت ترى بيتي الآن ! أنت رب البيت و أنا لا بيت لي... و أنت رب الناس و أنا لا ناس لي ! أتاك جميع الآباء و الأمهات.. و أنا لا أب لي و لا أم ! يا رب.. لا أب لي و لا أم ! يتّمتني مرتين يا رب .. مرتين يا رب .. مرتين أفقد فيهما أعظم ما أعطيتني إياه .. بل أربع مرّات ! أمان و أبان ! أربع أيتام في بيت خرب محروق ! "
كيف احتمل أنا ..وليد .. كلاما كهذا من رغد ؟؟
انهرت باكيا معها بلا شعور... و أي شعور يبقى للمرء و هو يرى ما نراه...؟ حسبنا الله و نعم الوكيل ...
من وسادة إلى وسادة، و من زاوية إلى زاوية، و من شيء إلى شيء، أخذت صغيرتي تتنقل و هي تهتف
" أمي .. أبي "
تفتش حطام الخزائن، و تستخرج الخرق المحروقة المتبقية من ملابسهما و تحضنها و تقبّلها و تصرخ .. و قلبي يصرخ معها .. و تتمزق، و قلبي يتمزّق معها .. و تنهار و قلبي ينهار معها أيما انهيار...
" يكفي رغد.. بالله عليك، دعينا نرحل "
أبت رغد الحراك، بل زاد تشبثها حتى ببقايا الستائر.. و شباك النوافذ..
أروى و الخالة بكتا لبكاء رغد، و وقفتا في الخارج في حزن و أسف على ما حلّ ببيتنا.. و بوالدينا..
رغد ، أقبلت فجأة نحو الأدراج الموجودة أسفل المرآة.. و أخذت تفتح الواحدا تلو الآخر... و تستخرج أشياء أمي ، ما تبقى منها و تضم ما تضم، و تقبّل ما تقبّل ، و تضع في حقيبتها ما تضع..
" هنا كانت أمي تجلس كل يوم تسرّح شعرها ! "
" وليد انظر ! هذا سوار أمي المفضل ! "
" وليد هل تعتقد أنها قد تغضب إن احتفظت به !؟"
" أريد أن آخذ هذا معي !، و هذا .. و هذا و هذا و هذا ! "
" وليد ..لا أريد أن أخرج من هنا ! ليتني كنت هنا و احترقت قبل رحيلهما "
و مرة أخرى أسمعها تدعو على نفسها بالموت.. هتفت متوسلا :
" يكفي يا رغد ، هيا نغادر المكان أرجوك فلم أعد أحتمل المزيد "
اقتربت منها و أمسكت بذراعها و أرغمتها على الخروج من الغرفة، رغم مقاومتها..
كانت رغد تبكي بكاءا شديدا ، و استمرّت في نوبتها هذه و نحن واقفان عند الباب، لا توافق على التزحزح عنه خطوة بعد...
" رغد .. صغيرتي ... "
ناديتها بأتعس صوت صدر من حنجرتي الكئيبة...على الإطلاق..
نظرت إلي و قالت بأسى :
" من بقي لي بعدهما؟ من بقي لي ؟ "
قلت :
" أنا يا رغد .. لك و معك دائما..أنا يا رغد.. أنا ... "
رغد نظرت إلي نظرة حزينة قاتلة، و فكها الأسفل يرتجف من البكاء.. و الدموع تقطر منه ...
" رغد ... "
" وليد ... ضمّني "
وقفت كالأبله ، لا أفهم و لا أفكر و لا أتصرف !
قالت و فكها لا يزال ترتجف :
" ضمّني .. ألست أبي و أمي الآن ؟ ألست من بقي لي ؟ "
لحظتها.. تمنيت لو أتحوّل إلى جدار ، يكون أكثر نفعا مني .. كأي جدار عانقته و تشبثت به.. كأي جدار ربما، و مع كونه جمادا لا روح فيه و لا حياة، أشعرها بالدفء و العطف و الأمان... أما أنا.. و أنا واقف أمامها كالشبح الميت، الغير مجدي .. فلم يكن مني إلا أن أحنيت رأسي للأمام في عجز عن فعل شيء أكثر أهمية و حرارة و نفعا من الجدران ...
لن أسامح نفسي ما حييت، على خذلاني لصغيرتي في لحظة كهذه...
بعد ذلك ، و رغم أنني كنت مصرا على المغادرة فورا، ألا أن رغد كانت مصرّة على دخول غرفتها و تفقّد أشيائها...
السرير كان محروقا، و لا زلت أشكر الله ألف مرة لأن رغد ليلتها كانت نائمة في بيت خالتها..
ألف حمد لك يا رب..
الأثاث، في موضعه السابق، ألا أنه مكتس باللون الأسود المتفحم.. و مغطى بذرات الرماد و فتات المحروقات...
لم أشأ دخول الغرفة، وقفت عن الباب أراقب رغد و هي تتحسس أشياءها المحروقة... حتى إذا ما انتهت إلى مجموعة لوحاتها الكبيرة ، جعلت تتفقدها بسرعة و وله ، و تهتف بألم :
" لا ، لا .. لا ... "
ثم نظرت إلي و قالت بين دموعها :
" وليد .. لقد احترقت َ ! "
و أخذت تحضن الرماد... و البقايا... أخيرا قررت الدخول، و حين صرت قربها مباشرة قالت و هي تنثر الرماد من حولها :
" أنظر.. لقد احترقت حتى الصورة ! لماذا ؟ يا إلهي ماذا تبقى لي ؟ ماذا تبقى لي ؟؟ "
" دعونا نغادر المكان و نختصر الألم أرجوكما "
كان ذلك صوت أروى التي كانت واقفة عند الباب.. قالت رغد
" ارحلوا و اتركوني.. أريد الموت هنا.. آه يا رب.. لماذا عشت أنا و ماتا هما ؟ حتى الصورة احترقت ! ماذا تبقى لي ؟؟ "
أروى تقدمت نحونا و أمسكت بيد رغد محاولة مواساتها و تشجيعها، ألا أن رغد نهرتها بقوة، و رمتها ببعض الكلمات الجارحة، ربما من شدة حزنها ...
و لم تسمح لنا رغد بمغادرة المنزل حتى تفقدته غرفة غرفة و ممرا ممرا و زاوية زاوية...
حتى المطبخ جلست فيه فترة طويلة تستعيد الذكرى و تقلّب المواجع ، و تكرر
" هنا كانت أمي تطهو الطعام ، و هنا كان أبي يدوّن ملاحظاته في المفكرة ! ، و هناك كانت دانة تزين كعكاتها بالشكولا ! ... و سامر يقف هناك، يتحدّث عبر الهاتف، و عند هذه الطاولة كنت أنا أجلس لأقشر البطاطا !
ليت ذلك يعود...
و لو يوما واحدا فقط..
أعيش فيه وسط عائلتي .. بين أمي و أبي، و أختي و أخي.. يوما واحدا فقط.. عسى أن يكون آخر أيام حياتي... "
بل إن هذا سيكون آخر أيام حياتي أنا، ما لم تتوقفي عن ذلك يا رغد ... ارحميني...
حملت رغد معها تذكارا من كل مكان و عن كل شخص.. حتى سامر...كما أخذت حليها و حلي دانة، بل و ما بقي من فستان زفافها المحروق أيضا !
" سأعطيه لأختي حين تعود ! كانت مهووسة به .. و تعتبره كنزها الثمين ! مسكينة يا دانة ! "
خرجنا من ذلك الحطام الكئيب بعدما أغرقناه بالدموع و ملأناه بالألم... إن كنت، الشخص الذي لم يعش في هذا المنزل فترة طويلة، و لم يحمل معه سوى القليل من الذكريات، و أنا أكاد أنصهر من حرارة ما بداخلي، فكيف برغد ...؟؟
ابتعدنا عنه و قلوبنا معلقة عنده، و أنظارنا متشبثة به حتى اللحظة الأخيرة...و أخذنا معنا ما غلا مما نجا، و ما نجا مما غلا
لم تتوقف سيل الدموع حتى بعدما وصلنا إلى منزل أبي حسام، و كان الآخر محترقا ، ألا انه أحسن حالا من بيتنا المدمّر...
حين قرعنا الباب، فُتح و ظهر من خلفه أفراد العائلة أجمعون، و الذين كانوا في انتظارنا منذ ساعات...
ما إن رأت رغد خالتها حتى صرخت.. و انهارت في حضنها بحرارة ...
اللقاء كان من أقسى اللقاءات التي مررت بها في حياتي.. لا يضاهيه أي لقاء، عدا لقائي بأهلي بعد خروجي من السجن، مع فارق ضخم، هو أنه لا أهل أمامي لأعود إليهم و أعانقهم و أبكي فوق صدورهم...
استهلكنا كمية كبيرة من الدموع حتى أوشكنا على الجفاف، صعدت رغد بعد ذلك مع ابنة خالتها إلى الطابق العلوي، و ذهبت النساء إلى غرفة أخرى، و بقينا نحن الرجال في غرفة المعيشة نقلّب الأحزان و نتجرّع الآهات و نتبادل التعازي...
حينما حل الظلام، أردت أخذ عائلتي إلى فندق لقضاء الليلة قبل متابعة السير غدا، مع أنني لست واثقا من العثور على مكان مناسب، و طلبت من حسام استدعاء الثلاث...
ذهب حسام و عاد بعد قليل مع أمه و أروى و أمها ، فسألت عن رغد ، فأخبرتني أم حسام أنها أرسلت ابنتها الصغرى لاستدعائها...
لحظات و إذا بالفتاة الصغيرة ( سارة ) تأتي نحونا و تقول :
" تقول رغد إنها ستبقى معنا و لن ترحل مع وليد و خطيبته الشقراء الدخيلة و أمها ! "
تبادلنا جميعا النظرات المتعجبة، و حملقنا في الفتاة الصغيرة ... ثم سألتها أمها :
" سارة ! هل هذا ما قالته ؟؟ و هل طلبت منك نقل هذا إلينا ؟؟ "
و هنا أقبلت الآنسة نهلة، و نظرت إلى أختها بغضب، ثم إلينا أنا و أروى و قالت :
" رغد ستبات معي الليلة "
شعرت بالضيق الشديد من ذلك، فقلت :
" أين هي ؟ أود ا لتحدّث معها فهلا ّ استدعيتها ؟ "
قالت :
" إنها لا تريد الخروج الآن... "
ضقت أكثر و قلت :
" أرجوك آنستي، هلا استدعيتها "
و ما كدت أنهي الجملة حتى طارت الصغيرة سارة لاستدعائها !
ثوان و إذا بها تعود قائلة :
" لن تذهب معك ! ارحل و اتركها و شأنها "
هتفت الآنسة نهلة :
" سارة ! تبا لك ! لا تتدخلي أنت و ابقي في مكانك "
قلت :
" هل أخبرتها بأنني أريد التحدّث معها ؟؟ "
موجها الخطاب إلى الفتاة الصغيرة، فابتسمت الأخيرة و قالت :
" نعم ! و قالت إنها لا تريد التحدث معك، و إن علي إخبارك بأنها لن تذهب معكم فارحلوا ! "
أم حسام ذهبت الآن إلى غرفة ابنتها و عادت بعد قليل قائلة :
" دعها تنام هنا الليلة ، إنها في حالة سيئة "
و عبارة ( حالة سيئة ) أزعجتني و أقلقتني أكثر...
" أرجوك يا سيدتي ، استدعيها لأتحدّث معها الآن "
و ما إن أنهيت جملتي هذه حتى رأيت رغد تظهر أمامي، ثم تقول :
" سأبقى هنا في بيت خالتي ! لن أرحل معكم "
اجتاحني الهلع، فقلت :
" تعنين الليلة ؟ "
قالت :
" بل كل ليلة ، سوف أعيش هنا بقية عمري "
نظرت إليها، و إلى جميع من حولي في عدم تصديق .. ثم سألتها :
" ماذا تعنين يا رغد ؟ لا يمكنك ذلك ! "
قالت بصوت متحد ٍ :
" بلى ، يمكنني "
" رغد ! مستحيل ! "
قالت بتحد أكبر :
" بلى يا وليد، سأبقى أنا مع عائلتي الحقيقية، و ارحل أنت مع عائلتك الجديدة.. و في أمان الله "
الحلقة الرابعة و الثلاثون
لن تبتعدي عنّي !
لأني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى، و تعلّقها اكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه...
لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!
وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر :
" سأبقى هنا بقية عمري "
وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب الأمور، ثم قال :
" مستحيل ! "
نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة، واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..ألا أن وليد قال بغضب :
" هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح "
بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة من قبل وليد !
قالت خالتي :
" دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش الأمر "
قال وليد :
" رجاء ً يا خالتي أم حسام، أنه أمر مفروغ منه "
قالت خالتي :
" و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ "
قال وليد :
" نعم إذا لزم الأمر "
و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !
حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !
يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !
تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !
و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي في لحظة كهذه !
حسام قال منفعلا :
" ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ "
رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :
" لا تتدخّل أنت "
قال حسام مستاء :
" كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها "
تدخّل أبو حسام قائلا :
" ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن "
التفت إليه حسام و قال :
" بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور ، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا "
وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :
" هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ "
حسام قال حانقا :
" ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد "
و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و الجميع !
قلت بتحد:
" نعم، أريد العيش هنا مع خالتي "
وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار... الأوداج التي تجانب عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !
عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !
رباه !
كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي كالشمس السوداء !
قال :
" و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و أنت معي "
في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي الصغرى، حين تقول :
" إذن .. نم معنا ! "
جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير، تلتها نظرة استحسان !
قال خالتي :
" تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ "
وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى ... و بعد نقاش قصير، نظر إلي وليد و قال :
" لهذه الليلة فقط "
معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه !
يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟
لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي ...
أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور...حتى أثقلت صدرها و رأسها،و نامت و تركتني أخاطب نفسي!
كذلك نام الجميع، و مضى الوقت... و أنا في عجز كلي عن النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي، بحثا عن وليد !
كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى أراه...
لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء ( شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق...
انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري سيفتح باب للمشادة !
لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !
(نوما هنيئا..يا وليد قلبي !)
جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي,,مخاطبة بها صورة وليد المحفورة في جفنيّ...
و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما
وليد
وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.
ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟
أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟
مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أدعك تبتعدين عني...
ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي... الطيور..يجب أن تعود إلى أعشاشها...
مهما ابتعدت، و مهما حلّقت...
مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا...
تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء في مكان آخر... و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس... و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور الحديث !
" وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! "
التزمت الصمت في انتظار التتمة
" إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها بحاجة إلى رعاية (أموية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا "
هزت رأسي اعتراضا مباشرة... فقالت أم حسام :
" لم لا ؟ "
" لا يمكنني تركها هنا "
" و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ طفولتها"
قلت مستنكرا :
" لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته "
استاءت أم حسام و قالت :
" لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ "
وقفت من شدة الانزعاج من كلامها ... كيف تصفني بالغريب ؟؟
" أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب "
" و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها يا وليد "
استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:
" و لا حسام و لا أباه ! "
أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :
" لكنني هنا ! "
" و إن ْ ؟ ... أروى و أمها أيضا هناك "
" لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا خالة رغد ، يعني أمها "
قلت بنفاذ صبر :
" لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و ابنتيك شيئا ! "
أم حسا صمتت برهة ثم قالت :
" إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان سابقا لأوانه "
الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :
" ماذا ... تقصدين ؟ "
أم حسام قالت :
" كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! "
كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة
حين بلغت الباب سمعتها تناديني :
" وليد ! إلى أين ! ؟ "
استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :
" سآخذها و نغادر فورا "
و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي
و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج اللقاء الودي بيني و بين أمه
لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق :
" ماذا حصل ؟ "
لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً
التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد و أروى و الخالة ليندا
" اخبريهن بأننا سنغادر الآن "
و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .
أم حسام قالت :
" وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ "
أجبت بحنق :
" راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و جزيتم خيرا "
حسام خاطب أمّه :
" هل أخبرتِه ؟ "
أجابت :
" نعم ، و لكن ... "
و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :
" هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ "
اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه...
بدا مترددا، لكنه قال :
" منذ زمن كنت أفكّر في ... "
و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :
" لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت "
الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة ... و المستنكرة
ثم نطق حسام :
" و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن ... "
و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة...
ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !
كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد ... أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت... ...
عادت سارة، و معها أروى و أمها
نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة قالت :
" رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! "
تحدّثت أروى الآن قائلة :
" إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها ! "
و استدارت إلى أمها متممة :
" أليس كذلك أمي ؟ "
قالت خالتي ليندا :
" بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟ "
عند هذا الحد، و ثار البركان...
الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ، أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين...
سألت الصغيرة سارة :
" أين هي ؟ "
أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها
قلت :
" أ أستطيع الدخول ؟ "
فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :
" أ أستطيع الدخول ؟ "
قالت أروى :
" أجل ... "
و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :
" رغد ... رغد "
حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..
طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء...
الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني، كما لا يهمكم سردها هنا
وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما بدا التوتر و القلق...
قلت :
" رغد، هيا بنا ... "
هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر حدّة و خشونة :
" رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا "
رغد تكلّمت قائلة :
" لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني "
رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :
" رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا لن أخرج من هنا إلا و أنت معي "
قالت رغد بتحد ٍ :
" لن أذهب ! "
في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي ..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد
أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها و أجبرتها على السير معي نحو الباب ...
من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار
أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء...ألا أنني سحبتها من بين أيديهم بقسوة
أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة...
نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :
" عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت في غنى عنها "
" من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. "
استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .
و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي ...
كنت أنوي إيساعه ضربا، ألا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في داخلي بلا هوادة .
وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة :
" ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة "
و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة ...
قطعنا مسافة طويلة، و نحن في صمت يشوبه صوت محرّك السيارة، و صوت الهواء المتدفق من فتحة نافذتي الضيقة، و صوت بكاء رغد المتواصل...
لم يتجرّأ أحد على النطق بكلمة واحدة... فقد كنا جميعا في ذهول مما حصل..
لم أتخيّل نفسي... أقسو على صغيرتي بهذا الشكل..ولكن .. جن جنوني لفكرة أنها باقية مع حسام، أو صائرة إليه...
و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أسمح لأحد بأخذ رغد منّي مهما كان..و مهما كانت الظروف.. و مصيرك يا رغد لي أنا...
" أما اكتفيت ِ بكاء ً ؟ هيا توقّفي فلا جدوى من هذر الدموع ... "
قلت ذلك بأسلوب جاف ، جعل أروى تمد يدها من خلفي، و تلامس كتفي قاصدة أن أصمت و أدع رغد و شأنها...
صمت ّ فترة لا بأس بها، بعدها فقدت أي قدرة لي على التركيز في القيادة، و أنا أرى رغد مستمرة في البكاء إلى جانبي...
أوقفت السيارة على جانب الطريق، و التفت إليها ...
كانت تسند رأسها إلى النافذة، في وضع تخشع له قلوب الجبابرة..فكيف بقلب وليد ؟؟
" صغيرتي ... "
ألقت علي نظرة إحباط و خيبة أمل أوشكت معها أن أستدير و أعود أدراجي و أوصلها إلى بيت خالتها ... ألا أنني تمالكت نفسي ...
" رغد ... أنا آسف ... "
لم تعر جملتي أية أهمية، و ظلت على ما كانت عليه...
" أرجوك يا رغد.. قدّري موقفي، لا أستطيع تركك في مدينة و أسافر أنا إلى أخرى ! إنك تحت مسؤوليتي و لا يمكنني الابتعاد عنك ليلة واحدة "
لم أر منها أي تجاوب، مددت يدي بعد تردد و أمسكت ُ بيدها ، فسحبت يدها بقوة و غضب :
" اتركني ... "
قلت :
" لا أستطيع أن أتركك في أي مكان ... "
رغد أجابت بانفعال :
" و أنا لا أريد الذهاب معك ! أهو جبر ؟ أهو تسلّط ؟ لا أريد السفر معك ... أعدني إلى خالتي .. أعدني إلى خالتي .. "
و أجهشت بكاء قويا ...
قلت أنا :
" سنعود لزيارتها حين ننهي مهمتنا ، و سنبقى هناك القدر الذي تريدين "
صرخت رغد :
" أريد العيش معهم مدى الحياة ! ألا تفهم ذلك ؟ "
اشتط غضبي من هذه الجملة، فأمسكت بيدها مجددا و شددت قبضتي عليها و قلت بحدة و أنا أضغط على أسناني كأني أمزّق حقيقة أكرهها بين نابي ّ :
" لن أدع لك الفرصة لتحقيق ما يدور برأسك.. و أقسم يا رغد.. أقسم بأنه ستمضي سنون خمس على الأقل، قبل أن أسمح لأي رجل بالزواج منك .. و إن كان ابن خالتك يطمع بك، فلينتظر هو بالذات عشر سنوات حتى أسمح له بطرح الفكرة ، و إن تجرأ على إعادة عرضه ثانية قبل ذلك .. فوالذي لم يخلق في داخلي قلبين اثنين، لأقننه درسا يُنسيه حروف اسمه ... و دون ذلك، لن يبعدك شيء عني ّ غير الموت.. الموت و الموت فقط "
لم أدرك تماما خطورة ما تفوّهت به ، إلا بعد أن رأيت رغد تحملق بي بذهول شديد، و قد تبخّرت الدموع التي كانت تجري على وجنتيها.. و ألجم حديثي لسانها و منعها حتى عن التأوّه من شدة قبضي على يدها...
ربما أكون قد كسرت أحد عظامها أو حرّكت أحد مفاصلها .. لقد كنت أضغط بقوة شديدة... أصابت عضلات يدي أنا بالإعياء...
سكون تام خيّم علينا، ما عاد هناك صوت للمحرك، و لا للهواء ، و لا لرغد، و لا لأي شيء آخر..
حررت يد رغد من قبضتي، فرأيتها محمرّة.. و بالتأكيد مؤلمة...
ألا أن رغد لم يظهر عليها الألم، و لم تسحب يدها بعيدا عني ، كما لم ترفع عينيها المذهولتين عن عيني ...
اروى
طوال الأشهر الماضية، كنت أنظر إلى خطيبي وليد نظرة إعجاب شديد، أكاد معها أجزم بأنه أفضل رجل على وجه الأرض، و لا أرى منه أو فيه أي عيب أو نقص...
و كانت جميع خصاله و طباعه تعجبني، و سلوكه و تصرفاته كلها مثار إنبهاري ..
و في هذا اليوم، رأيت شيئا أذهلني و فاجأني...
لم أتصوّر أن يكون وليد بهذا التسلّط أو هذه القسوة ! لم أتوقع أن يصدر منه أي تصرّف وحشي.. كنت أراه إنسانا هادئ الطباع و مسالما... و عظيم الخلق...
الطريقة التي سحب بها رغد رغما عنها، و الطريقة التي زجرنا بها حين حاولنا ثنيه عما كان مقبلا عليه، و الطريقة التي لكم بها حسام بوحشية، و الطريقة التي خاطب بها رغد و نحن في طريقنا الطويل إلى المدينة الساحلية، كلها أثارت في قلبي الخوف و الحذر...
و ذكّرتني، بأن خطيبي هذا قد قتل شخصا ما ذات يوم ... !
كان الطريق إلى المدينة الساحلية طويلا جدا، و مملا جدا ... و قد سيطر الصمت الموحش علينا نحن الأربعة ...
والدتي سرعان ما نامت، و بقيت أنا أراقب الطريق، و أحاول النظر إلى وليد ، ألا أنه كان مركزا في الطريق تركيزا تاما، و كان يسير بسرعة مخيفة !
" هللا خففت السرعة يا وليد ! "
طلبت منه ذلك، فقد شعرت بالخوف من انفعاله ... ألا أنه لم يخففها بل قال :
" طريقنا طويل جدا ... أجدر بي زيادتها "
ثم التفت إلى رغد، و التي كانت مشيحة بوجهها نحو النافذة و مسندة رأسها إليها ، و خاطبها قائلا :
" اربطي حزام الأمان "
لم أر من رغد أي حركة ، أهي نائمة ؟ أم لم تسمع ؟ أم ماذا ؟؟
عاد وليد يقول :
" رغد .. اربطي حزام الأمان "
رأيتها تتحرك، ثم سمعتها تقول :
" لماذا ؟ هل تنوي أن تصدمنا بشاحنة أو جبل ؟ "
بدا على وليد ، من نبرة صوته ، نفاذ الصبر و الاستياء، إذ قال :
" لا قدّر الله ، فقط اربطيه للسلامة "
قالت رغد :
" لا تخش على سلامتي ! مرحبا بالموت في أي وقت .. أنا انتظره بشوق "
الجملة هذه أربكت وليد فانحرف في مسيره قليلا و أفزعنا ! ثم خفف السرعة تدريجيا، حتى أوقف السيارة... و التفت إلى رغد قائلا :
" توقّفي عن ذكر الموت يا رغد.. تجرّعت منه ما يكفي.. إياك و تكرار ذلك ثانية "
لم تعقّب رغد، بل أسندت رأسها إلى النافذة من جديد...
قال وليد :
" اربطي الحزام "
قالت :
" لن أفعل ! "
" رغد ! هيا ! "
" لن أربطه ! "
" إذن، أنا سأربطه ! "
و رأيت وليد يمد يده باتجاه الحزام، ثم رأيتها ترتد بسرعة إليه! أظن أن رغد دفعتها بعيدا ، ثم سمعت صوت اصطكاك لسان الحزام بفكّه !
لقد ربطته بنفسها !
ثم سمعت وليد يقول :
" فتاة مطيعة "
و يعاود الانطلاق بالسيارة بأقصى سرعة !
بعد فترة، توقّف وليد عند إحدى محطّات الوقود، من أجل الوقود، و الطعام، و الصلاة...
خاطبنا مشيرا إلى مبنى على جانبنا :
" يوجد هنا مصلى للسيدات، حينما تفرغن عدن إلى السيارة ، ثم نذهب إلى المطعم "
أنا و والدتي فتحنا البابين الخلفيين، و نزلنا...
وليد فتح بابه.. ثم التفت إلى رغد... و التي كانت لا تزال جالسة مكانها لا تصدر منها أي حركة تشير إلى عزمها على النهوض ! ..
" ألن تنزلي ؟ "
سألها ، فسمعتها ترد بسؤال :
" إلى أين ستذهب أنت ؟ "
قال وليد :
" إلى المسجد "
و أشار بيده إلى نفس البناية، و التي تحوي مصلى صغيرا خاصا بالرجال، و آخر بالنساء ، يفصلهما جدار، و يقع باباهما في الطرفين المتضادين ..
يظهر أن الفكرة لم ترق لرغد ( هذه المدللة المدلّعة ) و أبت إلا أن يقف وليد عند مدخل المصلى النسائي، حارسا على الباب !
بعد ذلك، اقترح وليد أن ندخل إلى المطعم المجاور لتناول الطعام، فلم يعجبها الاقتراح، فاقترح أن يذهب هو لإحضاره و نبقى نحن في السيارة، و أيضا لم يعجبها الاقتراح ! يا لهذه الفتاة ... لقد بدأت أشعر بالضيق من تصرفاتها ! إنها بالفعل مجرد طفلة كبيرة !
أتدرون ما فعلت في النهاية ؟
أصرّت على الذهاب معه، و تركتنا أنا و أمي نعود للسيارة !
ركبت أنا المقعد الأمامي، و أمي خلفي مباشرة، و قلت مستاءة :
" إنه يدللها بشكل يثير سخطي يا أمي .. أستغرب.. لم َ لم ْ يتركها في بيت خالتها كما أرادت و أصرّت ! إنه ينفذ جميع رغباتها بلا استثناء! فلم عارض هذه الرغبة ؟؟ "
قالت والدتي :
" هذا لأنه يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاهها، لا تنسي يا ابنتي أنها يتيمة و وحيدة "
قلت :
" هل سمعت ِ ما قاله ؟ يبدو أن ابن خالتها يخطط للزواج منها، بعدما انفصلت عن خطيبها السابق ! أظنه حلا ممتازا لمثل وضعها ! لم يعارضه وليد ؟ "
قالت :
" هو الأدرى بالمصلحة يا أروى، لا تتدخلي في الموضوع بنيّتي "
و في الواقع، الموضوع كان يشغل تفكيري طوال الساعات الماضية...
لقد قال وليد و هو في قمّة الثورة و العصبية ، مخاطبا رغد أنه لن يسمح لها بالزواج من أي رجل قبل مرور سنين ! ... هذه الجملة تثير في داخلي شكوكا و أفكارا خطيرة ...
بعد قليل، أقبل وليد يحمل كيسا حاويا للطعام، و إلى جانبه تسير مدللته الصغيرة ..
من خلال النافذة، ألقت رغد علي نظرة غيظ حادة لم أفهم لها سببا، ثم ركبت السيارة إلى جوار والدتي...
وليد بعدما جلس، أخذ يوزّع علينا حصصنا من الطعام، و الذي كان عبارة عن
( هامبرجر ) و بعض العصير...
و حين جاء دور (المدللة) ، التفت إليها مادا يده، مقدّما علبة البطاطا المقلية ...
" تفضلي رغد.. طبقك "
الفتاة التي تجلس خلف وليد مباشرة قالت ببساطة :
" لا أريد ! كله أنت ! "
وليد بدا مستغربا ! و قال :
" ألم تطلبي بطاطا مقلية !؟ "
قالت :
" بلى، غيّرت رأيي، احتفظ به "
وليد مدّ إليها بعلبة ( الهامبرجر ) الخاصة به...
" خذي هذه إذن "
قالت :
" لا أريد ! شكرا "
" و لكن هل ستبقين دون طعام ؟ ماذا تريدين أن أحضر لك ؟؟ "
" لا شيء ! لا أشتهي شيئا و لا أريد شيئا ! "
" و هذه البطاطا ؟؟ "
" كلها ! أو ... أطعمها مخطوبتك ! "
و أسندت رأسها إلى النافذة، معلنة نهاية الحوار !
وليد أعاد علبتي البطاطا و الهامبرجر إلى داخل الكيس، و انطلق بالسيارة ...
باختصار، أنا و أمي كنا الشخصين اللذين تناولا وجبتيهما !
عدّة مواقف حصلت أثناء الرحلة الطويلة الشاقة، و رغد إذا خاطبتني ، تخاطبني بطريقة جافة و خشنة، كأنها تصب جم غضبها علي أنا !
بعد مرور ساعات أخرى، و وسط الظلام، استسلمت أنا للنوم..
حينما أفقت بعد مدة لم أحسبها، وجدت السيارة موقفة، و وجدت وليد و رغد يجلسان في الخارج، على الرمال، و أمي نائمة خلفي، و يتحدّثان فيما لا يعلم به إلا الله ...
وليد
لأن النعاس غلبني، كما غلب جميع من معي، أوقفت السيارة و في نيتي الخروج و الاسترخاء قليلا ، و تجديد نشاطي...
استدرت للخلف، فرأيت رغد تنظر إلي مباشرة !
" لماذا توقّفت ! ؟ "
" ألم تنامي ؟ أشعر بالتعب، سأمشي قليلا ... "
و ما إن سرت بضع خطوات، حتى تبعتني صغيرتي ...
لم نتحدّث، و أخذت أسير ببطء... على الرمال مبتعدا عن السيارة عدّة أمتار... و أشعر بها تسير خلفي، دون أن ألتفت إليها...
بعد مسافة قصيرة، استدرت قاصدا العودة، فوقعت عيناي على عينيها مباشرة...
أعتقد أن الزمن توقّف عن السير تلك اللحظة... لو تعرفون ما الذي تفعله، نظرة واحدة إلى عيني رغد بي ... لربما بررتم التصرفات الغريبة التي تصدر مني !
إنها ترسلني إلى الجنون... فهل يلام مجنون على ما يفعل ؟؟
بعد أن تابع الزمن سيره، تقدّمت نحوها... عائدا إلى حيث السيارة... رغد بقيت واقفة مكانها، إلى أن تجاوزتها ببضع خطوات، ثم أحسست بها تسير خلفي...
مشاعر كثيرة شعرت بها و أنا أغرس حذائي في الرمال..خطوة بعد خطوة...
الشعور بالقلق..لما يخبئه القدر لي، الشعور بالغيظ من رغبة رغد في البقاء مع خالتها.. و ابن خالتها، و بالندم من قسوتي معها.. بالرغبة في الاعتذار.. و بالشوق لأن أواسيها و أعيد إلى نفسها الطمأنينة و الأمان و الثقة بي.. و بالحزن مما قد يكون الآن دائرا في رأسها حولي.. و برغبة جنونية ، في أن أستدير إليها الآن و أهتف في وجهها :
( أنا أحبك ! ) ...
ماذا سيحدث حينها ؟؟
و أخيرا.. بشعور ٍ مسيطر...إن تمكّنت من السيطرة على جميع مشاعري و كبتها ، لا يمكنني الصمود في وجه هذا الشعور بالذات !
إنه قارس و قارص !
أنا جائع !
صدر نداء استغاثة من معدتي، سألت الله عشر مرات ألا يكون قد وصل إلى مسامع رغد !
حينما وصلت إلى السيارة، أسرعت الخطى إلى (نافذتي) المفتوحة فمددت يدي و استخرجت كيس الطعام، قبل أن تصل رغد ...
عدت ُ إلى الرمال، و جلست عليها.. و فتحت الكيس و استخرجت العلب الثلاث المتبقية فيه، علبة البطاطا المقلية، و الهامبرجر، و العصير !
رغد وقفت على مقربة تنظر إلي ! لابد أنها متعجبة مني ! رفعت رأسي إليها و قلت :
" تعالي و شاركيني ! "
و قمت بتقسيم الشطيرة ( الهامبرجر) إلى نصفين... و مددت ُ يدي بأحدهما إليها..
كانت لا تزال تنظر إلي باستغراب... قلت :
" صحيح باردة ، و لكنها تبقى طيبة المذاق "
ترددت رغد، ثم جاءت، و جلست إلى جانبي... و تناولت (نصف الشطيرة) من يدي...
قرّبت منها علبة البطاطا، و كذلك العصير، فرفضتهما...
بدأت أقضم حصتي من الشطيرة، و أبتلع أصابع البطاطا الباردة، و أشرب العصير، و أتلذذ بوجبتي هذه !
إنه الجوع ، يصيّر الرديء لذيذا !
قلت و أنا أمضغ إصبع بطاطا :
" لذيذ ! جرّبيه ! "
و أمسكت أحدها و قرّبته منها... كنت أنتظر أن تمد يدها لتمسكه بأصابعها، ألا أنها مدّت رأسها و أمسكته بأسنانها ! و بدأت تمضغه، و يبدو أنه أعجبها لذلك ابتسمت !
أن أراها تبتسم، و إن كانت ابتسامة خفيفة باهتة سطحية، بع كل الذي حصل، لهو أمر يكفي لأن يجعلني أنسى عمري الماضي...
الماضي... آه ... الماضي...
في الماضي، كنت أطعمها أصابع البطاطا بهذه اليد... نفس اليد كانت تمد إليها بإصبع البطاطا قبل ثوان...
نفس اليد، التي تتوق لأن تمسح على رأسها و تطبطب على كتفيها و تضمها إلى صدري...
نفس اليد، التي شدّتها بعنف وقسوة، و أجبرتها على ركوب السيارة رغم مقاومتها...
إنها نفس اليد التي قتلت بها عمّار... و ضربت بها سامر ... و لكمت بها حسام... و سأذبح بها أي رجل يحاول الاقتراب منك يا رغد...
و بهذه اليد ذاتها، سأبقى ممسكا و متمسكا بك لآخر نسمة هواء تدخل إلى صدري، أو تخرج منه...
يا رغد... ليتك تعلمين...
" رغد ... "
نظرت إلي، فبقيت صامتا برهة، بينما عيناي تتحدثان بإسهاب... ألا ليتك تفهمين...
" نعم ؟؟! "
" سامحيني..."
جاء دورها الآن لتنظر إلي نظرة مليئة بالكلام... ألا أنني عجزت ُ عن ترجمته...
قلت :
" سامحيني.. أرجوك "
لم ترد إيجابا و لا سلبا، ألا أنها مدّت يدها إلى علبة البطاطا، و تابعت أكلها... على الأقل، هي إشارة حسنة و مطمئنة...
انهينا وجبتنا الباردة ، و في داخلي شعور غريب بالسعادة و الرضا، و الاسترخاء ، و الشبع أيضا !
و عوضا عن تجديد نشاطي، تملّكتني رغبة عارمة في النوم !
( فرشت ) الكيس على الرمال، و تمددت واضعا رأسي فوقه.. و أغمضت عيني..
أنا متأكد من أنني لو بقيت على هذا الوضع دقيقتين اثنتين، لدخلت في سبات عميق و فوري...
الذي حصل هو أن صغيرتي و بمجرد أن أغمضت عيني نادتني بقلق :
" هل ستنام وليد ؟؟ "
قلت و أنا أتثاءب :
" أنا نعسان بالفعل ! سوف أسترخي لدقائق "
" وليـــد ! اجلس ! "
صدر هذا الأمر من صاحبة الدلال و السيادة ، جعلني انهض فورا ، و أصحو تماما !
التفت إليها فوجدتها تنظر إلي بقلق...
" دعنا نعود إلى السيارة و نم هناك "
" حسنا... إذن هيا بنا "
و نهضنا و عدنا إلى مقعدينا...
" هل يضايقك أن أزيح مسند مقعدي للوراء يا رغد ؟ "
" كلا .. خذ راحتك "
" شكرا "
صمت برهة ثم عدت أقول :
" أنا متعب بالفعل، قد أنام طويلا ! إذا نهضت ِ و وجدت ِ الشمس توشك على الشروق، فلتوقظيني "
" حسنا "
" نوما هنيئا، صغيرتي "
" لك أيضا "
اروى
لم ينته الأمر هنا...
صحيح أن وليد قد نام بسرعة، ألا أن رغد ظلت تتحرك، و أشعر بحركتها لفترة...
كنت أتظاهر بالنوم.. و من حين لآخر أفتح عيني ّ قليلا ، خصوصا إذا أحسست بحركة ما...
هذه المرّة فتحتها فتحة صغيرة، فرأيت يد رغد تمتد إلى مقعد وليد، و رأسها يستند عليه...
هذا لا شيء...!
فالشيء.. الذي أيقظ كل الخلايا الحسية و العصبية و الوجدانية في جسدي، في ساعة كنت فيها في غاية التعب و النعاس، و أرسل أفكاري إلى الجحيم ...هو جملتها الهامسة التالية :
لم أكن أريد أن يدركنا الظلام ، سرت بأقصى سرعة ممكنة ، لكن الشمس سبقتني بالغياب ...
حين وصلت إلى المدينة الساحلية ، مسقط رأسي ، كان الظلام قد غطى الأجواء ...
تسارعت نبضات قلبي و أنا أسير في الطريق المؤدي إلى بيتنا... كلما وقفت عند إشارة مرور ، توقفت الذكريات عند حدث معيّن ...
شوارع المدينة لم تتغير... الكثير من الحفريات و الإصلاحات مبعثرة على الشوارع... لا تزال بعض المباني منهارة كما خلّفتها يد الحرب... و لا تزال المناظر تثير الرهبة في قلوب الناظرين...
" هنا مدينتنا "
قلت ذلك ، مخاطبا أروى التي كانت تشاهد المناظر من حولها... و كأنه واقع مخيف مرير أخشى تلقيه بمفردي...
" إنها آثار الحرب ! "
عقّبت أروى ، فقلت :
" و أي آثار ... ! تحمل هذه المدينة من ألم الذكرى و بصمات الماضي ما يجعل قلبي يتصدّع من مجرد ذكر اسمها ... "
و أي ذكرى أقسى من ... ذلك اليوم المشؤوم... الذي غيّر مجرى حياتي نهائيا ...
كأني به يعود للوراء...
كأني بعمار اللعين ... ينبعث من قبره...
كأني أراه يبتسم ابتسامته الشرسة القذرة... و يرمي بالحزام في الهواء...
كأني ... برغد تصرخ... تركض إلي... تتشبث بي... تخترق صدري ، و خلايا جسدي ... تمزّق قلبي ... تحرق أعصابي عصبا عصبا ... و تفجّر في داخلي رغبة عارمة مزلزلة ... منطلقة بعنف و سرعة ... ككتلة نارية قذفها بركان ثائر هائج... آبية إلا أن تنتهي بضربة بشعة فتاكة على رأس عمّار... خاتمة بها آخر أعماله القذرة ...
لم أتمالك نفسي ، دست بقدمي بقوة ... انطلقت السيارة بشكل جنوني... كنت ُ أراه أمامي... و كنت أريد أن أدوسه و أسحقه تحت العجلات ... مرة بعد مرة ... بعد مرة ...
" وليد ! خفف رجاء ً ! "
هذه المرة كانت أم أروى هي المتحدثة ، أعادتني إلى الواقع ، فوجدت نفسي أقود سيارة في شارع داخلي لا يخلو من النتوءات و الحفر ...
خففت السرعة ، و ألقيت نظرة على رغد من خلال المرآة ... كانت هي الأخرى مشغولة بمراقبة الطريق ...
أتراها تذكر ؟؟
الآن انتقل بصرها إلي ... أشارت إلى الخارج عبر النافذة و قالت :
" إنها مدرستي ! "
نعم إنها هي !
نعم إنها تذكر ... حاولت أن استشف من عينيها مدى تأثرها... و إلى أين وصلت بها الذكرى...
حدّقت في مبنى المدرسة... ثم حدّقت بي...
كيف تشعرين يا رغد ؟؟
هل يؤلمك شيء كما يؤلمني ؟؟
هل تطوف في مخيلتك ذكريات ذلك اليوم النحس، كما هي مسيطرة علي الآن ...؟؟
لو أملك يا رغد ... لمحوت ذلك الماضي من ذاكرتك نهائيا ...
لو أملك يا رغد ... لاستئصلت ذلك اليوم من عمرك ... و اقتلعته من أصل جذوره ...
لو أملك يا رغد ... لقتلت عمّار قبل أن تلده أمه ... و ما تركت له الفرصة ليؤذي أغلى مخلوقة لدي ... بأبشع طريقة ....
المسافة تقصر... النهاية تقترب ... المباني تمر بنا و تنصرف ... واحدا تلو الآخر... إلى أن ظهر أخيرا ... مبنى كبير قديم ... مهجور و غارق في الظلام ... موصد الأبواب و النوافذ ... كئيب ميت و مرعب... تحف به أشجار جافة بلا أوراق و لا ثمر ... أشجار ماتت واقفة... و بعثرت الريح أوراقها على المجرّة منذ سنين ... و ظلّت واقفة ... و قامت الحرب... و قعدت الحرب ... و ظلت هي واقفة ... في انتظار عودة سيدي المنزل ... لتنحني أمامهما ... محيية مرحبة ...
يا أشجار بيتي العزيز ...
ستظلين واقفة ما امتد بك الدهر ...
لأن السيدين ... اللذين تنتظرين عودتهما... لن يعودا أبدا ...
عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا...
بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك ... مركزا بصري على البوابة... كأنني أستأذنها بالدخول ... كأنها تستغرب عودتي ... كأنها نسيتني !
مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد ...
تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :
" أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ "
التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة و نظراتها المتوجسة ...
قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :
" منزلنا يا رغد ! "
رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها ... كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة ...
تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :
" هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ "
أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة ، و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور ...
عدت بنظراتي إلى رغد ... فهي أهم ما يعنيني في الأمر ... لطالما كانت هي الأهم ... قلت :
" هيا بنا ... توكّلنا على الله "
بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي ...
أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا ...
صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا ...
فتحت البوابة الرئيسية أخيرا ... و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ....
الحديقة الخارجية ... التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية ... هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها ...
لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل ... اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ......
في هذه الساحة ... كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى ...
تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا ... حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل ... و من خلال بصيص خفيف للضوء ، وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين ...
ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر...كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها ... مكان الندبة القديمة ...
قلت بعطف :
" رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ "
و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير ...
قلت أخيرا :
" دعونا ندخل إلى الداخل "
و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر... و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !
أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا ، عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها ...
تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي ، و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها ...
بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل ... وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد ...
كان المنزل غارقا في الظلام ... مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس ، حتى أضأت المصباح ... و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل ... !
الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل...
شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :
" ادخلن ... "
رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان ... و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر...
إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي ...
لكن ... و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته ، فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟
إنها وقفت على مقربة من الدرج ... و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :
" يا إلهي ... إنه بيتنا ! لم يتغيّر يا وليد ! أنا أذكره ! "
ثم قفزت الدموع من عينيها فجأة ...
أتذكرين يا رغد ؟؟
أتذكرين هذا المنزل ، الذي تربينا فيه سوية ؟؟
أتذكرين حين كنت أحملك على كتفي و أجول بك أرجاء المنزل ، و أنت تضحكين بفرح ؟؟
كم و كم و كم من الذكريات أحمل في صدري ... ذكريات طفلتي الحبيبة المدللة التي تركتها نائمة على سريرها ذات يوم ، و عدت ُ بعد 8 سنين ، و لم أجدها ...
ثمان سنين يا رغد ... كان يمكن أن أعيشها معك لحظة بلحظة يوما بيوم و سنة بسنة ... قضيتها هناك في السجن ... برفقة المجرمين المذنبين ، أُضرب و أهان و يُكسر أنفي ، و آكل الطعام الرديء الممزوج بالحشرات ، و أنام على سرير خشبي قاس و وسادة أشبه بالحجر ، بينما أنت في حضن شقيقي ... تنعمين بالحب و الرفاهية !
آه يا رغد ...
آه ثم آه ثم آه ...
قطع سيل الذكريات صوت أروى قائلة :
" أين غرف النوم ؟ أود أن أستلقي فأنا مرهقة جدا "
طبعا ، جميعنا مصابون بالإرهاق بعد سفر طويل و شاق ...
قلت "
" في الأعلى "
وهممت بالصعود ...
كلما صعدت ٌ خطوة تصاعدت الدماء إلى وجهي ، و تزايدت نبضات قلبي ، و كلما أنرت مصباحا تفجرت ذكريات أخرى في رأسي ... حتى إذا ما بلغت الردهة الرئيسية ... شعرت ُ بمفاصلي تتساقط أرضا من هول ما أنا فيه ...
وجها لوجه ، أمام البابين المتجاورين ... لغرفتي أنا و غرفة رغد ...
وجها لوجه ، و على بعد خطوات معدودة من بؤرة الذكريات ...
لهذا الحد و توقفت كل شيء عن الحركة من حولي ... و تجمّد الكون ... و تصلّبت الأشياء ...
وخز قوي شعرت به أخيرا في راحة يدي ، سببه ضغط أظافر رغد الشديد على يدي ...
هنا ...التفت إليها ... رأيت نهرا من الدموع ينساب من بين رموشها ... و على شفتيها كلمة لا تكاد تنطلق ...
" غرفتي ! غرفتي يا وليد ! "
حاولت تحريك يدي ، و تقريب ميدالية المفاتيح من عيني لاختيار المفتاح المناسب ، ألا أن رعشة قوية سرت ببدني .. جعلت الميدالية تنزلق من بين أصابعي و تسقط أرضا ، محدثة رنينا تخلخل عظامي و زلزلها ....
وقفت متسمرا في مكاني عاجزا عن الانثناء و التقاط المفاتيح
رغد تحرّكت و التقطت المفاتيح بنفسها و مدّت يدها إلي ...
تحشرج صوتي عن كلمة :
" افتحيه "
لا أعرف كيف ظهرت حروفها !
نظرت رغد إلي بتردد ، ثم التفتت نحو باب غرفتها ، و تقدّمت خطوة ... و بدأت تجرّب المفاتيح ...
و أخيرا انفتح القفل ... و حركت رغد الباب للأمام قليلا ، بتردد
كانت الغرفة غاطة في السبات العميق المظلم ، منذ تسع سنين !
لم تتحرك رغد ، بل توقفت في مكانها لا تملك من الشجاعة ما يكفي لأن تدخل
أما أنا ، فقد أصاب ركبتي تصلب حاد عجزت معه تحريك أي منهما
" أنا خائفة ! "
قالت ذلك رغد و هي تلتفت نحوي ...
" لا تقلقي ! لا يوجد أشباح ! "
قلت ذلك ، و أنا أرتجف خوفا من أشباح الماضي ...
و لما رأيت في عينيها التردد ... أجبرت قدمي على السير للأمام ... و وقفت إلى جانبها مباشرة ... أمام الباب
دفعت ُ به بهدوء حتى فتحته ... و أنا مغمض العينين !
من سأرى في الداخل ؟؟ لابد أنها طفلتي الصغيرة الحبيبة ، نائمة على سريرها ... كالملاك !
فتحت عيني ... كانت الغرفة تسبح في الظلام ... مددت يدي و أضأت المصباح ... و أخيرا ... رأيت كل شيء ...
و آه مما رأيت ...
هناك ... إلى اليمين ، ترقد سرير رغد القديم ، تماما كما تركته منذ سنين ...
لقد كنت أنا من وضع السرير في مكانه ، كما رتّبت أثاث الغرفة بنفسي ...
شمعت شهقة ضعيفة انطلقت من صدر رغد ... الواقفة إلى جواري
لكنني لم التفت إليها ... لقد كنت مأخوذا بسحر الذكرى الماضية ...
تقدّمت نحو سرير رغد ... أجر قدمي ّ جرا ... حتى إذا ما بلغته انثنيت عليه و أخذت أتحسسه ...
طافت بي الذكرى ... و تخيلت رؤية رغد نائمة هناك ... و هيء لي أنني لمست شعرها الناعم ... و أحسست بأنفاسها القصيرة ... شعرت بجسمها الضئيل يتحرك !
" رغد صغيرتي ! "
انطلق الاسم من لساني عفويا ... كما انطلقت عبرة حارقة من مقلتي ...
يا للأيام !
بعد كل هذه السنين ... أعود إليك !
داهمتني رغبة جنونية في أن أحتضن السرير برمته ... في أن أطوّقه بذراعي ... في أن أقبّل دعائمه ...
" هل كانت هذه غرفتك يا رغد ؟ "
كان هذا صوت أروى ، أيقظني من سبات الذكريات ، فهو صوت لم أعتد على سماعه في هذا البيت !
" نعم "
أجابت رغد و هي تتقدم نحوي ...
التفت إليها فإذا بي أراها تحدّق في شيء ما و هي تقول :
" وليد ! "
التفت إلى ذلك الشيء ، فإذا به ورقة صغيرة ... ملصقة بالجدار بشريط لاصق ، مرسوم عليها صورة لشخص ما ، و قد امتد خط طويل تحت أنفه !
إنها الصورة التي رسمتها لي رغد عندما كنا هنا ، قبل زمن !
و هذا الخط الطويل ... هو ( الشارب ) الذي تخيلته ينبت لي ، عندما أكبر !
مددت ُ يدي و انتزعت الورقة و نظرت إليها مليا ...
رباه ! ألا تزال هذه الصورة حيّة حتى الآن !
نظرت إلى رغد ... أعساها تذكرها ؟؟
سمعتها تقول :
" تشبهك ! أليس كذلك ؟ "
و تبتسم !
رفعت يدي إلى شاربي أتحسسه ، ثم قلت :
" إلى حد ما ! "
ثم نظرت إليها ...
و تعرفون ما حصل ؟؟
انفجرنا ضاحكين ...
ذلك الضحك الذي أعاد الحياة فجأة إلى بيت ميّت منذ سنين ....
بدت الأجواء الآن أكثر حيوية ، و جالت رغد في غرفتها بمرح تتحسس الأشياء من حولها و تنفض يديها من الغبار !
" لا شيء تغيّر وليد ! "
" لا شيء ! "
سوى أن تسع سنوات قد أضيفت إلى عمرك ِ و منعتني من أن أحملك ِ على ذراعي و أدور بك في الغرفة كما كنت أفعل سابقا !
" دعنا نرى غرفتك ! "
قالت ذلك رغد فالتفت ّ إلى الباب ، و حينها فقط تذكرت أن أروى و أمها كانتا موجودتين معنا !
بعد ذلك ، فتحت ُ باب غرفتي الملاصقة لغرفة رغد و ما إن أضأت المصباح حتى وقعت عيني مباشرة على ذلك الشيء المجعّد الملقى هناك عند تلك الزاوية !
التفت إلى رغد ... أتراها رأته ؟ أتراها تذكّرته ؟؟ أتراها تذكر الأمنيات التي ... حبستها فيه قبل 11 عام أو يزيد ؟؟
لكن رغد لم يبد ُ عليها أنها انتبهت لوجوده ، و هو محشور عند تلك الزاوية ...
تسللت رغد إلى الداخل و جالت ببصرها في أنحاء الغرفة جولة سريعة ثم وضعت يديها على وجهها و تنهّدت ...
" يا إلهي !! "
و عندما رفعت يديها ، كانت الدموع قد بللتهما
مسحت دموعها و أعادت تأمل الغرفة ، ثم قالت :
" لقد منعتني أمي من دخولها بعد رحيلك ! لا أصدق أنني دخلتها مجددا ! "
ثم التفتت فجأة ناحية الباب و قالت :
" لقد تركت ُ رسالة هاهنا ! "
قلت :
" نعم . لقد رأيتها ! لم أكن لأصل إليكم لولاها يا رغد ! شكرا لك ! "
و كانت رغد قد كتبت رسالة وضعتها أسفل الباب ، تذكر فيها انتقالهم إلى المدينة الصناعية ، و اكتشفت أنا وجودها ليلة عودتي إلى المنزل ، بعد خروجي من السجن ، العام الماضي !
رغد عادت تتأمل الغرفة إلا أنها لم تلمح ذلك الصندوق ...
و يبدو أنه لم يكن ليخطر لها على بال ...
بل و ربما لم تعد تذكره ...
و هذا ، جعلني أتألم كثيرا ... و كنت سأنبهها إليه لولا أن الخالة ليندا قالت لحظتها :
" أضنانا التعب يا بني ، أرنا أين يمكننا المبيت ؟ "
قالت رغد مباشرة :
" أنا سأنام في غرفتي ! "
و رُتّب الأمر بحيث أنام أنا في غرفتي ، و ورغد في غرفتها ، و أروى و الخالة في الصالة ...
كان التعب قد نال منا ما نال ، للدرجة التي ، و رغم كل ما أثارته الذكريات من الآلام ، نمت ُ فيها بسرعة ...
أظن أنني كنت أحلم بشيء ما ... و أظنه كان شيئا جميلا ... و أظن أن رغد كانت هي مضمون حلمي ...
فجأة سمعت نقرا على الباب ... استويت جالسا و أخذت أحدق في الظلام من حولي ... تذكّرت أنني أنام على سريري في منزلي القديم ... لم أصّدق أنها الحقيقة ... النقر كان يصل أذني ... أستطيع أن أسمعه جيدا ... إنه ليس بالحلم ... و حين أنهض ... و أفتح الباب ... سوف لن أجد خيال رغد الطفلة الصغيرة ... و أسمعها تقول ...
" وليد أنا خائفة ! دعني أنام معك ! "
تقدّمت نحو الباب و دقات قلبي تتسارع ...
أحقا ستظهر رغد ؟
أ أنت ِ خلف الباب يا رغد ؟
أعدت ِ للظهور كما في السابق ؟
هل رجع الزمن للوراء ... فقط تسع سنين ؟ ...
أمسكت بمقبض الباب ... و أدرتها ...
و أنا أنظر إلى الأسفل ... إلى حيث أتوقع أن أجد عيني صغيرتي الخائفة ...
يا رب ... حقق حلمي و لو لحظة واحدة ...
و لو لمرة أخيرة ... أرى فيها صغيرتي الحبيبة و آخذها إلي ...
فتحت الباب ... فوقعت عيناي على اليد التي كانت تطرق الباب ...
رفعتها للأعلى قليلا ... فإذا بي أرى وجها كالذي تمنيت رؤيته ...
أغمضت عيني برهة و عدت أحدق بعينيها
أأنا أحلم ؟ أم هذه حقيقة ؟؟
" رغد !!! "
همست بصوت لم أكد أن أسمعه ...
ارتفعت يد رغد قرب عنقها ، و تنهّد صدرها ثم سمعتها تقول :
" وليد ... أنا خائفة ... ابقني قربك ! "
الحلقة السادسة و الثلاثون
وقفت غير مصدّق لما أرى... متوهما أنه الحلم الذي لطالما راودني منذ سنين...
لكن... بالتأكيد فإن الشيء الذي يقف أمامي هذه اللحظة ... يضم ذراعيه إلى بعضهما البعض ... و يقشعر بدنه إن خوفا و بردا ... هذا الشيء
الملفوف في السواد ... هو بالتأكيد كائن بشري ...
و ليس أي كائن ...
تحديدا هي رغد !
" وليد ... أنا خائفة ! أبقني معك "
لا أعرف من الذي حرّك يدي ، نحو مكبس المصباح ، و أناره ...
هل يمكن أن أكون قد فعلت ذلك بلا وعي ؟؟
الإنارة القوية المفاجئة أزعجت بؤبؤي عيني ، فأغمضت جفوني بسرعة
و من ثم فتحتها ببطء...
رأيت وجه رغد بعينيها المتورمتين الحمراوين ، و اللتين تدلان على طول البكاء و مرارته ...
" رغد ... أأنت على ما يرام صغيرتي ؟؟ "
" أنا أشعر بالخوف ... وليد ... المكان موحش و ... ويثير الذكريات ... المؤلمة ! "
و سرعان ما انخرطت رغد في بكاء أجش بصوت مبحوح ...
" حسنا... عزيزتي يكفي ... لا تبكي صغيرتي ... تعالي اجلسي هنا "
و أشرت إلى مقعد بالجوار ، فجلست رغد عليه ... و بقيت واقفا برهة ... ثم جلست على طرف سريري ...
كنت في منتهى التعب و الإرهاق و أشعر برغبة ملحة جدا في النوم... لابد أن رأسي سيهوي على السرير فجأة و أغط في النوم دون شعور !
نظرت إلى الفتاة الجالسة على مقربة جاهلا ما يتوجب علي فعله !
" بلى ... لكن ... لا أشعر بالطمأنينة ! لا أستطيع النوم ... أنا خائفة ! "
و رفعت يدها إلى صدرها كمن يريد تهدئة أنفاسه المرعوبة
قلت :
" لا تخشي شيئا صغيرتي ... ما دمت ُ معك "
و لا أدري من أين و لا كيف خرجت هذه الجملة في مثل هذا الوقت و الحال !
و هل كنت أعنيها أم لا ... و هل كنت جديرا بها أم لا !
لكن فتاتي ابتسمت !
ثم تنهدت تنهيدة عميقة جدا
ثم أسندت رأسها إلى المقعد و أرخت ذراعيها إلى جانبيها ...ا و أغمضت عينيها !
و أظن ... و الله الأعلم ... أنها نامت !
" رغد ! ... رغد ؟ "
فتحت رغد عينيها ببطء و نظرت إلي ...
" إنك بحاجة للنوم ! "
ردت ، بشيء لا يتوافق و سؤالي البسيط :
" غرفتك لم تتغير أبدا وليد ! كم أنا سعيدة بالعودة إليها ! "
و أخذت تدور بعينيها في الغرفة ...
كان الهدوء الشديد يسيطر على الأجواء ... فالوقت متأخر ... و العالم يغط في الظلام و السبات ...
قالت و هي تشير إلى موضع في الغرفة :
" كان سريري هنا سابقا ! هل تذكر يا وليد ؟ "
ثم وقفت و سارت نحو الموضع الذي كان سرير رغد الصغير يستلقي فيه لسنين ... قبل زمن ...
قالت :
" و أنت كنت تقرأ القصص الجميلة لي ! كم كنت أحب قصصك كثيرا جدا يا وليد ! ليت الزمن يعود للوراء ... و لو لحظة ! "
عندها وقفت أنا ... و قد استفقت فجأة من نعاسي الثقيل ... و قفزت إلى قمة اليقظة و الصحوة ... و كأن نهرا من الماء البارد قد صب فوق رأسي ...
التفتت إلي ّ صغيرتي و قالت :
" كنت ... كنت أحتفظ بالقصص التي اشتريتها لي في بيتنا الثاني ... لكن ... أحرقتها النيران ! "
و آلمتني ... جملتها كثيرا ...
رجعت بي الذكرى إلى البيت المحترق ... فإذا بالنار تشتعل في معدتي ...
أضافت رغد بصوت أخف و أشجى :
" تماما كما احترقت الصورة ... "
" رغد ... "
إنه ليس بالوقت المناسب لاسترجاع ذكريات كهذه ... أرجوك ... كفى !
نظرت من حولها ثم قالت :
" لا تزال كتبك منثورة ! أتذكر ... ؟ كنت تستعد للذهاب إلى الجامعة لإجراء امتحان ما ! أليس كذلك ؟؟ أليس هذا ما أخبرتني به ؟؟ أتذكر ؟؟ "
لا أريد أن أتذكّر !
أرجوك أيتها الذكرى .. توقفي عند هذا الحد ..
أرجوك ...
لا تعودي إلى ذلك اليوم المشؤوم ...
لو كان باستطاعتي حذفه نهائيا ... لو كنت ُ ... ؟؟؟
كنت ُ أريد الهروب السريع من تلك الذكرى اللعينة ... لكنها كانت تقترب ... و تقترب أكثر فأكثر ... حتى صارت أمامي مباشرة ...
عينان تحدّقان بعيني بقوة ... تقيّدان أنظاري رغم عني ...
عينان أستطيع اختراقهما إلى ما بعدهما ...
خلف تينك العينين ، تختبئ أمر الذكريات و أبشعها ...
أرجوك يا رغد ...
لا تنظري إلي هكذا ...
لا ترمني بهذه السهام الموجعة ...
لم لا تعودين للنوم ؟؟
" وليد ... "
" إه ... نعم ... صـ ... غيرتي ؟؟ "
" لماذا ... لم تخبرني بالحقيقة ؟ "
قلت بصوت متهدرج :
" أي ... أي حقيقة ؟ "
" إنك ... قتلته ! "
آه ...
آه ...
إنه فأس يقع على هامتي ...
لقد فلقتها يا رغد ...
ما عدت قادرا على الوقوف ...
نصفاي سينهاران ...
أرجوك كفى ...
" وليد ... لماذا لم تخبرني ؟؟ أنا يا وليد ... أنا... لم أدرك شيئا ... كنت ُ صغيرة ... و خائفة حد الموت ... لا أذكر ما فعلتَ به ... و لا ...
و لا أذكر ... ما فعله بي ! "
عند هذه اللحظة ... و فجأة ... و دون شعور مني و لا إدراك ... مددت يدي بعنف نحو رغد و انقضضت على ذراعيها بقوّة ... بكل قوّة ...
انتفضت فتاتي بين يدي هلعا ... و حملقت بي بفزع ...
لابد أن قبضتي كانتا مؤلمتين جدا آنذاك ، و لابد أنها كانت خائفة ...
خرجت هذه الجملة من لساني كالصاروخ في قوّة اندفاعها ... مخلفة خلفها سحابة غبار هائلة تسد الأنوف و تكتم الأنفاس ... و تخنق الأفئدة ...
كررت ُ بجنون :
" ماذا فعل بك يا رغد ؟؟ ...
حتى... حتى لو كان قد ... لامس طرف حزامك فقط ... بأطراف أظافره القذرة ... كنت سأقتله بكل تأكيد ... بكل تأكيد ..."
فجأة رفعت رغد يديها و غطّت وجهها ... و هي تطلق صيحة قصيرة ...
كانت قبضتا يدي ّ لا تزالان تطبقان على ذراعيها بعنف ... و بنفس العنف انقضتا فجأة على يديها ... و أبعدتهما بسرعة عن وجهها ، فيما عيناي تحملقان بعينيها بقوة ....
صرخت ُ :
" ماذا فعل بك ؟؟ "
كانت رغد تنظر إلي ّ بذعر ...
نعم إنه الذعر ...
أشبه بالذعر الذي قرأته في عينيها ذلك اليوم ...
تملّصت رغد من بين يدي و ابتعدت بسرعة ، و اتجهت نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل ... و ارتمت عليه ... و هتفت :
" لا أريد أن أذكر ذلك ... لا أريد ... لا أريد "
و عادت لإخفاء وجهها خلف كفيّها .
دارت بي الدنيا آنذاك و شعرت برغبة شديدة في تمزيق أي شيء ... أي أي شيء !
التفت يمنة و يسرة في اضطراب باحثا عن ضحية تمزيقي ... و بعض زخات العرق تنحدر من جبيني بينما أشعر باختناق ... و كأن تجويف حنجرتي لم يعد يكفي لتلقي كمية الهواء المهولة و الممزوجة بذلك الغبار و التي يرغمها صدري الشاهق على الاندفاع إليه ...
تحركت خطوة في كل اتجاه ... و بلا اتجاه ...
بعثرت نظراتي في كل صوب ... و بلا هدف ...
و أخيرا وقع بصري على شيء مختبئ عند إحدى زوايا الغرفة ...
يصلح للتمزيق !
توجهت إلى ذلك الشيء ، و التقطته عن الأرض ... تأمّلته برهة ... و استدرت نحو رغد ...
إنه صندوق الأماني القديم ... الذي جمع أمنيات صغرنا منذ 13 عاما !
ها قد آن أخيرا ... أوان استخراج الأماني ...
و لم علينا الاحتفاظ بها مخبأة أطول ما دامت الأقدار ... أبت تحقيقها ؟
على الأقل ... أمنياتي أنا ...
يجب أن يتمزّق أخيرا ....
و الآن يا رغد ... جاء دورك !
" رغد "
ناديتها فلم تستجب مباشرة . اقتربت منها أكثر فأكثر حتى صرت ُ أمامها مباشرة
هي جالسة على المقعد مطأطئة الرأس ... تداري الدموع
و أنا واقف كشجرة بلا جذور في انتظار اللحظة التي تهب فيها الرياح ، فتقلعها ...
" رغد ... أتذكرين هذا ؟ "
و ازدردت ريقي ...
إنها اللحظة التي لطالما انتظرتها ... سنين و سنين و سنين ، و أنا أتوق شوقا و أحترق لهفة لمعرفة أمنيتك يا رغد ...
رفعت رغد رأسها و أخذت تنظر إلى الشيء المحمول بين يدي ...
نظرت إليه نظرة مطوّلة ... ثم اتسعت حدقتا عينيها و انفغر فاها و شهقت شهقة مذهولة !
إذن ، فأنت تذكرينه ؟؟
إنه صندوق أمانيك يا رغد ... أيتها الطفلة العزيزة ... أنا صنعته لك منذ 13 عاما ... في ذلك اليوم الجميل ... حين قدمت ِ إلي ّ منفعلة و أنت ِ تحملين كتابك الصغير و تهتفين :
" وليد ... وليد اصنع لي صندوقا "
تحركت عينا رغد من على الصندوق إلى عيني ّ ...
كانت آخر دمعة لا تزال معلقة على رموشها ، في حيرة .... أ تنحدر أم تتراجع ؟؟
شفتاها الآن تحركتا و رسمتا ما يشبه الابتسامة المترددة ...
و أخيرا نطق لسانها :
" صندوقي !! "
ثم هتفت متفاجئة :
" صندوقي ! أوه ... إنه صندوقي ! "
و هبّت واقفة و التقطته من بين يدي !
" يا إلهي ! "
قلت :
" أتذكرينه ؟ "
رفعت عينيها عن الصندوق مجددا و قالت بانفعال :
" نعم ! أذكره ! إنه صندوق الأماني "
قالت ذلك و هي تؤشر بإصبعها على كلمة (( صندوق الأماني )) المكتوبة على الصندوق الورقي ...
ثم أخذت تقلّبه ، و من ثم عبس وجهها فجأة و نظرت إلي ّ بحدّة و وجس :
" هل ... فتحته ؟؟ "
" ماذا ؟ "
" فتحتَه ؟؟ "
إنه سؤال بسيط ! و عادي جدا ! أليس كذلك ؟؟
و لكن ... لم لم أستوعبه ؟؟ و لم تطلّب مني الأمر كل هذا التركيز و الجهد البليغين حتى أفهمه ؟؟
هل فتحته ؟؟
أوتسألين ؟؟
رغد !
ألم أقطع لك العهد بألا أفتحه دون علمك ؟؟
أتشكين في أنني ... قد أخون عهدي معك ذات يوم ؟
ألا تعرفين ما سببه لي و ما زال يسببه لي صندوق أمانيك هذا مذ صنعته و حتى اليوم ؟؟
هل تعتقدين إنه اختفى من حياتي بمجرّد أن علّقته هناك فوق رف المكتبة ؟؟
إن كنتم قد نسيتم فأذكركم بأنني ذات مرّة و من فرط يأسي و حزني جعّدت الصندوق في قبضتي ...
قلت :
" إنه الزمن ! "
من الصندوق ، إلى عيني ّ إلى أنفي ، ثم إلى عيني ، انتقلت نظرات الصغيرة قبل أن تقول :
" إذن الزمن ... لا يحب أن تبقى الأشياء مستقيمة ! "
" عفوا ؟؟ "
ابتسمت رغد و قالت :
" أليس الزمن هو أيضا من عقف أنفك ؟ "
رفعتُ سبابتي اليمنى و لامست أنفي المعقوف ... و عندها تذكّرت ُ أنني عندما التقيت برغد أول مرّة بعد خروجي من السجن ، سألتني عما حدث لأنفي فأجبتها :
( إنه الزمن ! )
" نعم ! إنه الزمن ... "
و صمتّ قليلا ثم واصلت :
" ألن تفتحيه ؟ "
و كنت في قمة الشوق لأن أستخرج سر رغد الدفين و أعرف ... من هو ذلك ( الصبي ) الذي كانت تتمنى الزواج منه عندما تكبر ؟؟
نظرت إليها بنفاذ صبر ... هيا يا رغد ! افتحيه أرجوك ! أو اسمحي لي و أنا سأمزقه فورا ... و افضح مكنونه !
لكن رغد أومأت برأسها سلبا ...
كررت ُ السؤال :
" ألن تفتحيه ؟ "
" لا ! "
" لم ؟ ألا تتوقين لمعرفة ما بالداخل ؟ بعد كل هذه السنين ؟؟ "
" لا ! "
و طأطأت برأسها ... و قد علت خديها حمرة مفاجئة ... ما زادني فضولا فوق فضول لمعرفة ما تحويه !
قلت :
" هل ... تذكرين ... أمنيتك ؟ "
لم ترفع رأسها بل أجابت بإيماءة بسيطة موجبة .
" مادام الأمر كذلك ... فما الجدوى في إبقائها داخل الصندوق ؟ "
رفعت رغد أخيرا نظرها إلي و قالت :
" لأنها لم تتحقق بعد "
شعرت بنبضات قلبي تتوقف برهة ، ثم تندفع بسرعة جنونية ...و تخترق قدمي ّ و تصطدم بالأرض !
و استطردت ْ، و قد بدا الجد و الإصرار على ملامح وجهها فجأة :
" و سأعمل على تحقيقها من كل بد ... و بأي وسيلة ... و مهما كان الثمن "
و أضافت و هي تلوح بسبابتها نحوي و تحد من صوتها أكثر :
" ... و لن أسمح لأي شيء باعتراض طريقي "
الكلمات التي خرجت بحدّة من لسان رغد ، مقرونة بالنظرة القوية و اللهجة الجدية ، و المليئة بمعاني التحدّي ، جعلت تلك النبضات تقفز من باطن الأرض ، و تعود أدراجها متخللة قدمي ّ المرتجفتين ، و تضرب قلبي بعنف ... محدثة تصدّع خطير ...
اعتقد ... أنني أنا ( الشيء ) الذي لن تسمح له باعتراض طريقها ... و أعتقد أن اسم ( حسام ) مكتوب على قصاصة قديمة مختبئة داخل هذا الصندوق ... و اعتقد أنني أتلقى الآن تهديدا من حبيبة قلبي ... بألا أعترض طريق زواجها من الرجل الذي تمنت الارتباط به منذ الصغر ...
غضبي ثار ... نعم ثار ...
لازالت تنظر إلي ّ بتحد ...
حسنا يا رغد ...
قبلت ُ التحدي ...
قلت :
" و أنا أيضا لم أحقق أمنيتي بعد "
و بحدّة أضفت :
" و سأعمل على تحقيقها مهما كلّفني ذلك ... و أي شيء يعترض طريقي ... "
و صمت ّ برهة ، ثم أضفت :
" سأقتله ! "
و سحبت الصندوق من يدها بغتة ، و أكّدت :
" إنه حلمي ... و الموت وحده ما قد يحول دون نيله ... عدا عن هذا يا رغد ... عدا عن الموت ... فإنني لن أسمح لأي شيء بأن يبعده عنّي ... لن أتخلى عن حلمي أبدا ... إنه دائما أمامي ... و قريبا ... سيصبح بين يدي ... و لي وحدي ... "
لم أشعر بمدى قوة الضغط الذي كنت أمارسه على ذلك الصندوق الورقي المخنوق في قبضتي ، حتى أطلقت رغد صيحة اعتراض
كانت تنظر إلى الصندوق برثاء ... و مدّت يدها لتخلّصه منّي ... إلا أنني سحبت يدي بعيدا عنها ... ثم سرت ُ مبتعدا ... و اتجهت إلى مكتبتي و وضعت الصندوق المخنوق في نفس الموضع الذي كان يقف فيه قبل سنين ...
و حين استدرت ُ إلى رغد رأيتها تراقبني بنظرات اعتراض غاضبة .
قلت بتحدٍَ أكبر :
" سنرى من منّا سيحقق أمنيته ! "
..........................
لم أفهم معنى تلك النظرة القوية التي رمقني بها وليد !
كانت أشبه بنظرة تحد و إصرار ... و كانت مرعبة !
و ... في الحقيقة ... جذّابة !
أكاد أجن من هذا الـ وليد ! إن به مغناطيسا قويا جدا يجعل أي شيء يصدر منه ... نظرة ، إشارة ، إيماءة ، حركة ... ضحكة أو حتى صرخة ، أو ربما ركلة ، أي شيء يصدر منه يجذبني !
لا تسخروا منّي !
إنه وسط الليل و أنا شديدة التعب أكثر مما تعتقدون ، لكن الخوف جعلني أطرق باب وليد...
كان واقفا قرب المكتبة ، استدار إلي :
" بعد إذنك "
و ذهب إلى دورة المياه
جلست ُ أنا على المقعد الذي كنت أقف أمامه ، و أسندت رأسي إليه و شعرت بموجة قوية من النعاس تجتاحني ... انتظرت وليد ... لكن تأخر ...
في المرة التالية التي فتحت فيها عيني ّ ... كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة و الستار و جفوني !
شعرت بانزعاج شديد فأنا لازلت راغبة في النوم ... لكنني تذكرت فجأة أنني في غرفة وليد في بيتنا القديم ...
فتحت عيني ّ أوسعهما سامحة للضوء باختراق بؤبؤي و استثارة دماغي و إيقاظه بعنف !
مباشرة جلست و نظرت من حولي ...
وليد كان نائما في فراشه !
باب الغرفة كان مفتوحا كما تركته ليلة الأمس ...
نهضت عن مقعدي و شعرت بإعياء في مفاصلي ... ألقيت نظرة على وليد ، و كان يغلف جسده الضخم بالشرشف و بالكاد تظهر إحدى يديه !
عندما خرجت من الغرفة ، توجهت لإلقاء نظرة سريعة على الصالة ، حيث كانت الشقراء و أمها تنامان ...
ما إن ظهرت ُ في الصورة حتى رأين أعين أربع تحدّق بي !
لقد كانتا هناك تجلسان قرب بعضهما البعض ... و تنظران إلي !
" ص... صباح الخير ! "
قلت ذلك ثم ألقيت نظرة على ساعة يدي ، و عدّلت الجملة :
" أو ... مساء الخير "
لم تجب أي منهما مباشرة ... لكن الخالة قالت بعدها :
" مساء الخير . نوم الهناء "
لم أرتح للطريقة التي ردّت بها علي ، و شعرت أن في الأمر شيء ...
قالت أروى :
" مساء الخير. هل نهض ابن عمّك ؟؟ "
تعجّبت من الطريقة التي كلّمتني بها ، و من كلمة ( ابن عمّك ) هذه !
و لم تبد لي نظرتها طبيعية ...
قلت :
" لا ! إنه ... لا يزال نائما ! "
تبادلت الاثنتان النظرات ... وعادتا للصمت...
ذهبت بعدها إلى غرفتي الملاصقة لغرفة وليد ... و عندما خرجت للصالة بعد قرابة النصف ساعة أو يزيد ، رأيت الثلاثة ، وليد و الشقراء و أمها يجلسون سوية في الصالة ...
لا أعرف في أي شيء كانوا يتحدثون ... و بمجرّد أن لمحوني لاذوا بالصمت !
ألا يشعركم ذلك بأنني أنا موضوع حديثهم ؟؟؟
إلى وليد وجهت نظراتي و كلماتي ، بل و حتى خطواتي :
" مساء الخير "
" مساء النور ... "
و جلست ُ على مقربة .
نظرت ُ إلى الأشياء من حولي ، فأنا لم أتأملها البارحة ... الصالة كما تركناها قبل 9 سنين ... حسبما أذكر ، و الغبار يغطي أجزاءها !
قلت :
" سنحتاج وقتا طويلا و جهدا مكثفا لتنظيف كل هذا ! "
أروى قالت معترضة :
" و هل سيكون علينا تنظيف هذا ؟ إننا لن نسكن هنا على أية حال "
استغربت ، و نظرت إلى وليد متسائلة ... و هذا الأخير لم يعقّب !
قلت :
" وليد ... ألن نسكن هنا ؟ "
أجاب :
" سنبقى هنا في الوقت الراهن . لا نعرف كم من الوقت ستستغرق مسألة استلام الإرث . سأستعين بوالد صديقي سيف . آمل أن تسير الأمور بسرعة"
" أتعني ... أننا بعد إتمام هذه المهمّة سنعود إلى المزرعة ؟؟ "
تولت الشقراء الرد بسرعة :
" بالطبع ! ماذا تعتقدين إذن ؟؟ سنعود للمزرعة و نجري بعض التعديلات في المنزل ... ثم ... "
و نظرت إلى وليد و قالت مبتسمة :
" نتزوّج ! "
تخيلوا كيف يكون شعور فتاة تسمع أي امرأة أخرى تقول لها :
( سأتزوج حبيبك ) ؟؟
رميت سهام نظراتي الحارقة نحو الشقراء البغيضة ، ثم نحو وليد ... و اجتاحتني رغبة عارمة في تمزيقهما سوية !
أهذا ما يخططان له ؟؟
يستلمان الإرث الضخم ، و يذهبان للمزرعة ليعدا عشهما و يتزوجان !
ماذا عنّي أنا ؟؟
مجرّد هامش زائد لا أهمية له و لا معنى لوجوده ؟
كنت أريد أن أسمع من وليد أي تعليق ، لكنه ظل صامتا شاردا ... ما أثار جنوني ...
مازالت الابتسامة معلقة على شفتي الحسناء الدخيلة ، و هاهي تحرّكهما من جديد و تقول بصوت شديد النعومة :
" فيم شردت ... عزيزي ؟ "
مخاطبة بذلك الرجل الوحيد معنا في الصالة ، و الذي يجلس على مقربة منّي ، و الذي يجري حبّه في عروقي تماما كما تجري دماء قرابتنا ...
وليد قال :
" كنت أفكّر في أن ذهب إلى أحد المطاعم ! لابد أننا جائعون الآن ! "
في الحقيقة كان الطعام هو آخر ما أفكر به ، و لكنه أول ما قفز إلى ذهني عندما تلقيت سؤال أروى و أنا شارد ذلك الوقت ...
و ما حدث هو أننا ذهبنا إلى المطعم ثم إلى السوق و اشترينا بعض الحاجيات و من ثم عدنا إلى المنزل ...
كما و اتصلنا بالعم إلياس و كذلك بأم حسام – تحت إصرار من رغد – و طمأنا الجميع على وصولنا سالمين .
بعدها اتصلت بصديقي القديم و رفيق دراستي و محنتي ... سيف و اتفقت معه على أن يحضر إلى منزلي ليلا .
تعاونا نحن الأربعة في تنظيف غرفة الضيوف قدر الإمكان من أجل استقبال سيف .
حاولت جاهدا أن أتجاهل أي ذكرى تحاول التسلل إلى مخيلتي من جراء رؤيتي لأجزاء المنزل من حولي ... إلا إن هذه الذكرى الأليمة اخترقتني بكل إصرار !
كان ذلك عندما قمنا بنقل بعض قطع السجاد إلى الخارج ... إلى مؤخرة المنزل ، حيث تقع الحديقة الميتة و التي أصبحت مقبرة للحشائش الجافة و مأوى للرمال الصفراء ...
عند إحدى الزوايا ... كانت عدّة الشواء القديمة تجلس بكل صمود ... متحدية الزمن !
لا أعرف لماذا يقشعر بدني كلما رأيت هذه بالذات !
و لم أكن أعرف أن لها نفس التأثير على أي مخلوق إلى أن رأيت رغد ... و التي كانت تحمل السجادة معي تقف فجأة ، و تسند طرف السجادة إلى الأرض ... و تمد يدها اليمنى لتلامس ذراعها الأيسر !
صحيح أنها كانت صغيرة آنذاك ، و لكن حادثة السقوط على الجمر المتقد هي حادثة أقسى على قلب الطفل من أن ينسى آثارها ...
إن أثر الحرق ظل محفورا في ذراعها الأيسر ... و كنت أراه كل يوم فيما مضى !
ترى ...
ألا يزال كما هو ؟؟
وضعنا السجادة الملفوفة قرب أدوات الشواء تلك ، ثم جلسنا فوقها نلتقط أنفاسنا !
" ثقيلة جدا ! أراهن أنهما لن تتمكنا من حمل الأخرى ! "
قالت رغد ذلك ... و كانت أروى الخالة تحملان سجادة ملفوفة أصغر حجما و في طريقهما إلينا
قلت :
" بل ستفعلان ! لا تعرفين كم هما قويتان ! "
و أنا أعرف كيف كانتا تعملان الأعمال الشاقة في المزرعة !
قالت :
" إنهما متشابهتان جدا "
" نعم ... صحيح "
" و جميلتان جدا ! "
استغربت ... لكنني قلت :
" نعم ! صحيح ! "
واصلت رغد :
" و أنت محظوظ جدا ! "
صمت ، و علتني الريبة ! ما الذي تعنيه صغيرتي ؟؟
رمقتها بنظرة استفسار فتطوّعت هي بالإيضاح مباشرة :
" لديك خطيبة جميلة جدا ... و ثرية جدا ! ... سوف تعيشان سعيدين جدا "
و صمتت ثوان ثم استطردت :
" أما أنا ... "
ظهرت أروى و الخالة في مرآنا فالتفتنا إليهما ...
كانتا تجران السجادة بتثاقل ... و سرعان ما هببت ُ أنا لمساعدتهما .
و في الليل حضر صديقي العزيز سيف و كان لقاؤنا حميما جدا ...
تبادلنا الأخبار ... فعلمت منه أنه رزق طفلا صغيرا !
" دورك يا رجل ! و بما أن أمورك قد استقرت ... فهيا عجّل بالزواج ! "
ابتسمت ُ لدى تعليقه المتفائل ... إن أموري لم تستقر و لم تحل ... بل هي آخذة في التعقد مرة لعد أخرى ... و الآن أنا في حيرة شديدة ... ماذا علي َ أن أفعل ؟؟
شرحت له تفاصيل إرث أبي عمّار ... عم أروى التي هي خطيبتي ، و ابنة صاحبي الذي تعرفت علي في السجن ، بعد قتلي لعمّار ... فبدا الأمر أشبه بخرافة من خرافات الجدات العجائز !
" سبحان الله ! أي قدرة إلهية عجيبة أودت بك إلى هذا الوادي يا وليد ! "
" إنها الأقدار يا صديقي ! "
" إذن ... ستصبح زوج سيدة من أثرى سيدات المنطقة ! سبحان الله ! ها قد ابتسمت ، بل ضحكت لك الدنيا أخيرا يا وليد ! "
و لأن أي من علامات السرور لم تظهر علي ، فإن سيف لاذ بالصمت المفاجئ المتعجّب ...
كانت في صدري عشرات الهموم إلا أنني لم أشأ أن أنفثها في وجه صديقي مذ أول لقاء يجمعنا بعد طول فراق ...
بعد ذلك ، اتفقت مع سيف على ترتيب زيارة رسمية لمكتب المحاماة الذي يملكه والده غدا باكرا ، و اتخاذه محاميا قانونيا لتولي الإجراءات اللازمة بشأن الإرث.
بعد انصرافه ، ذهبت إلى الصالة العلوية حيث يفترض أن يكون الجميع ، فوجدت أروى تتصفح مجلة كانت قد اشترتها عصر اليوم أثناء تسوقنا ، و قد نفشت شعرها الذهبي الطويل على كتفيها بحرية ... بينما الخالة ليندا نائمة على المقعد ، و رغد غير موجودة ...
بادرتني أروى بالسؤال :
" كيف كان اللقاء ؟ "
" حميما و مثمرا ! سأذهب غدا مع سيف إلى مكتب أبيه و هو محام معروف و ماهر ، و سننطلق من هناك ! "
" آمل ألا يطول الأمر ... "
" إنها أمور تطول في العادة يا أروى ! علينا بالصبر "
قالت و هي تضع يدها على صدرها :
" أشعر بالحنين إلى المزرعة ... و إلى خالي ! الجو هنا مغبر و كاتم ... و كئيب جدا يا وليد "
تحركت الخالة ليندا قليلا ... فالتفتنا إليها ثم قالت أروى :
" دعنا نذهب إلى غرفتك كي لا نزعجها "
و هناك ، في غرفتي واصلنا الحديث ... أخبرتها بتفاصيل لقائي بسيف و ما خططنا له . و تشعبت أحاديثنا إلى أمور كثيرة و مر الوقت سريعا دون أن نشعر به !
فجأة ، سمعت طرقا على الباب ...
استنتاجكم صحيح !
العينان الواسعتان ذاتا النظرات الشجية ، حلقتا بعيدا عن عيني ّ و حطّتا على الفتاة الجالسة على السرير داخل الغرفة تعبث بخصلات شعرها الذهبية ...
ابتسمت ُ لصغيرتي ... و قلت :
" مرحبا رغد ! "
رغد لم تنظر إلي ّ، كما لم ترد علي ّ... و رأيت ُ وجهها يحمر !
قلت :
" تفضَلي "
رفعت بصرها إلي و رمتني بسهم ثاقب !
قلت :
" أهناك شيء ؟؟ "
ردّت رغد بجملة مضطربة :
" كنت ... أريد ...
أريد الهاتف ! "
و كررت بنبرة أكثر ثقة :
" أريد هاتفك لبعض الوقت ! هل تعيرني إياه ؟ "
كنت متشككا ، لكنني قلت :
" بكل تأكيد ! "
و أحضرت لها هاتفي المحمول ... و هو وسيلتنا الوحيدة للاتصال ...
تناولته رغد و شكرتني و انصرفت بسرعة ...
عندما استدرت ُ للخلف ، و جدت ُ أروى و قد مدّت رجليها على السرير و استندت على إحدى ذراعيها بينما استخدمت الأخرى في العبث بخصلات شعرها الطويل الأملس !
" حان وقت النوم ! سأنهض غدا باكرا و أريد أن آخذ قسطا كافيا من الراحة "
قلت ذلك معلنا نهاية الجلسة ... فاسحا المجال لأروى للذهاب من حيث أتت.
ساعتان و نصف من التقلب على السرير ... دون أن يجد النوم طريقه إلى إي من جفوني الأربعة ...
ليس ما يقلقني هو إجراءات الإرث تلك ... و لا خططي المستقبلية ... و لا المفاجآت التي يمكن أن تخبئها القدر لي ...
بل هو مخلوق بشري عزيز على نفسي ... يحتل حجرات قلبي الأربعة ... و يتدفق منها مع تدفق الدم ... و يسري في عروقي مع سريانها و ينتشر في خلايا جسدي أجمع ... ثم يعود ليقطن الحجرات الأربع من جديد ...
كائن صغير جدا ... و ضعيف جدا ... و خواف جدا !
و هو لا يشعر بالطمأنينة إذا ما ابتعد عني ... و جاء طلبا لبعض الأمان بقربي ...
لكنه اكتفى بأخذ هاتفي المحمول ... و اختفى خلف هذا الجدار المشترك بين غرفتي و غرفته ...
إنني لو اخترقت الجدار ... سأجده نائما على السرير ... بأمان
أو ربما باكيا خلف الجدار ... في خوف ...
أو جاثيا على الأرض ... في حزن ...
أو ربما ذارعا الغرفة جيئة و ذهابا ... في ألم ...
إنني لا أستطيع أن أنام دون أن أطمئن عليها ! و ستبوء كل محاولاتي بالفشل حتما !
استسلم !
لا تكابر يا وليد !
تسللت من غرفتي بهدوء و أنا أتلفت ذات اليمين و ذات الشمال ... مخافة أن يشعر بي أحد ... و وقفت عند باب غرفة صغيرتي و أمسكت بالمقبض !
كنت على وشك أن أفتحه لو أن عقلي لم يستيقظ و يزجرني بعنف ! أي جنون هذا ؟؟ من تظن نفسك يا وليد ؟؟ كيف تجرؤ ؟؟
عدت مسرعا ...أجر أذيال الخيبة ... و رميت بجسدي المثقل على مرارة الواقع ... و استسلمت لحدود الله....
لم يكن الأمر بالصعوبة التي توقعتها لكنه لم يكن سهلا ! الكثير من الأوراق و الوثائق و التواقيع استغرقت منا ساعات طويلة . و كان يتوجب علي أخذ أروى إلى المحكمة ...
منتصف الظهيرة ، هو الوقت الذي عدت ُ فيه إلى المنزل بعد جهودي السابقة و أنا أحمل وثائق في غاية الأهمية في يد ، و طعام الغذاء في اليد الأخرى !
كيف وجدت أروى و الخالة ؟
وجدتهما منهمكتين في تنظيف المطبخ !
" أوه ! لم تتعبان نفسيكما ! إنه مليء بالغبار ! "
ردّت الخالة :
" و نحن لا نحتمل الغبار و لا نحبه يا ولدي . اعتدنا الجو النقي في المزرعة . على الأقل هكذا سيغدو أفضل "
وضعت كيس الطعام على المائدة المحتلة قلب المطبخ . و نظرت من حولي
كل شيء نظيف و مرتب ! كما كانت والدتي رحمها الله تفعل . شعرت بامتنان شديد لأروى و الخالة و قلت :
" جزاكما الله خيرا . أحسنتما . أنتما بارعيتن ! "
أقبلت أروى نحوي و هي تبتسم و تقول :
" هذا لتعرف أي نوع من النساء قد تزوّجت ! "
فضحكت الخالة و ضحكنا معها ...
في هذه اللحظة دخلت رغد إلى المطبخ .
كان وجهها مكفهرا حزينا ... و بعض الشرر يتطاير من بؤبؤيها !
وجهت حديثها إلي ، و كان صوتها حانقا حادا :
" هل عدت أخيرا ؟ تفضّل . نسيت أن تأخذ هذا "
و دفعت إلي بهاتفي المحمول و الذي كنت قد أعطيتها إياه ليلة الأمس ... و تركته معها فيما رافقت سيف إلى حيث ذهبنا صباحا .
و من ثم غادرت مسرعة و غاضبة ...
أنا و السيدتان الأخريان تبادلنا النظرات ... ثم سألت :
" ما بها ؟ "
فردت أروى بلا مبالاة :
" كالعادة ! غضبت حين علمت أنك خرجت و لم تخبرها ! كانت تنتظر أن توقظها من النوم لتستأذنها قبل الخروج ! "
و لم تعجبني لا الطريقة التي تحدّثت أروى بها ، و لا الحديث الذي قالته .
استدرت قاصدا الخروج و اللحاق برغد ... فنادتني أروى :
" إلى أين ؟ "
التفت إليها مجيبا :
" سأتحدث معها "
بدا استياء غريب و غير معهود على ملامح أروى ... ثم قالت :
" حسنا ... أسرع إلى مدللتك ! لابد أنها واقفة في انتظارك الآن "
كنت واقفة في الصالة العلوية أضرب أخماسا بأسداس ...
وليد بدأ الحديث بـ :
" كيف أنت ِ ؟ "
رددت بعنف :
" كيف تراني ؟ "
صمت وليد قليلا ثم قال :
" أراك ... بخير ! "
قلت بعصبية :
" و هل يهمّك ذلك ؟ "
" بالطبع رغد ! أي سؤال هذا ؟؟ "
لم أتمالك نفسي و هتفت بقوّة :
" كذّاب "
تفاجأ وليد من كلمتي القاسية ... و امتقع وجهه ... ثم إنه قال :
" رغد ! ... هل لا أخبرتني ... ما بك ؟؟ "
اندفعت قائلة :
" لو كان يهمك أمري ... ما خرجت و تركتني وحيدة في مكان موحش ! "
" وحيدة ؟ بالله عليك ! لقد كانت أروى و الخالة معك ! "
" لا شأن لي بأي منهما . كيف تجرؤ على الخروج دون إعلامي ! كيف تتركني وحيدة هنا ؟ "
" و أين يمكنني تركك يا رغد إذن ؟؟ "
اشتططت غضبا و قلت :
" إن كان عليك تركي في مكان ما ، فكان أجدر بك تركي في بيت خالتي . مع من أحبهم و يحبونني و يهتمون لأمري ... لماذا أحضرتني معك إلى هنا ؟؟ ما دمت غير قادر على رعايتي كما يجب ؟؟ "
تنهّد وليد بنفاذ صبر ...
ثم قال :
" حسنا.. أنا آسف... لم أشأ أن أوقظك لأخبرك بأني سأخرج . لكن يا رغد ... هذا سيتكرر كثيرا ... ففي كل يوم سأذهب لمتابعة إجراءات استلام إرث أروى ... "
أروى ... أروى ... أروى ...
إنني بت أكره حتى حروف اسمها ...
حينما رأيتها البارحة في غرفة وليد ... و جالسة بذلك الوضع الحر ... على سريره ... و نافشة شعرها بكل أحقية ... و ربما كان وليد يجلس قربها مباشرة قبل أن أفسد عليهما خلوتهما ... حينما أتذكر ذلك ... أتعرفون كيف أشعر ؟؟؟
نفس شعور الليمونة الصغيرة حينما تعصر قهرا بين الأصابع !
أشحت بوجهي عن وليد ... و أوليته ظهري ... أردته أن ينصرف ... فأنا حانقة عليه جدا و سأنفجر فيما لو بقي معي دقيقة أخرى بعد ...
وليد للأسف لم ينصرف ... بل اقترب أكثر و قال مغيرا الحديث :
" لقد أحضرت طعام الغداء من أحد المطاعم . هلمّي بنا لنتناوله "
قلت بعصبية :
" لا أريد ! اذهب و استمتع بوجبتك مع خطيبتك الغالية و أمها "
" رغد ! "
التفت ّ إلى وليد الآن و صرخت :
" حل عنّي يا وليد الآن ... أرجوك "
و هنا شاهدت أروى مقبلة نحونا... عندما لمح وليد نظراتي تبتعد إلى ما ورائه ، استدار فشاهد أروى مقبلة ....
و أروى ، طبعا بكل بساطة تتجول في المنزل بحرية و بلا قيود ... أو حجاب مثلي !
قالت :
" رتبنا المائدة ! هيا للغداء "
التفت إلي وليد و قال :
" هيا صغيرتي ... أعدك بألا يتكرر ذلك ثانية "
صرخت بغضب :
" كذّاب "
حقيقة ... كنت منزعجة حد الجنون ... !
على غير توقّع ، فوجئنا بأروى تقول :
" كيف تجرؤين ! ألا تحترمين ولي أمرك ؟ كيف تصرخين بوجهه و تشتمينه هكذا ؟ أنت ِ فتاة سيئة الأخلاق "
صعقت للجملة التي تفوهت بها أروى ، بل إن وليد نفسه كان مصعوقا ...
قال بدهشة :
" أروى !! ما الذي تقولينه ؟؟ "
أروى نظرت إلى وليد بانزعاج و ضيق صدر و قالت :
" نعم يا وليد ألا ترى كيف تخاطبك ؟ إنها لا تحترمك رغم كل ما تفعل لأجلها ! و لا تحترم أحدا ... و لا أنا لا أسمح لأحد بأن يهين خطيبي العزيز مهما كان "
قالت هذا ... ثم التفتت إلي ّ أنا و تابعت :
" يجب أن تقفي عند حدّك يا رغد ... و تتخلي عن أفعالك المراهقة السخيفة هذه ... و تعرف__________________ ي كيف تعاملين رجلا مسؤولا يكرّس جهوده ليكون أبا حنونا لفتاة متدللة لا تقدّر جهود الآخرين ! "
" أروى ! "
هتف وليد بانفعال ... و هو يحدّق بها ... فرّدت :
" الحقيقة يا عزيزي ... كما ندركها جميعا ... "
التفت وليد نحوي ... ربما ليقرأ ملامح وجهي بعد هذه الصدمة ... أو ربّما ... ليظهر أمام عيني هاتفه المحمول في يده ... و أنقض عليه بدون شعور ... و أرفعه في يدي لأقصى حد ... و أرميه بكل قوّتي و عنفي ... نحو ذلك الوجه الجميل الأشقر .... ! يتبع>>>
لم يكن للضربة التي تلقيتها بيدي في آخر لحظة أي أثر على وجهي أو
يدي... لكن أثرها كان غزيرا غائرا في قلبي و مشاعري...
ليس فقط لأنني اكتشفت مدى الكره الذي تكنّه رغد لي، بل و لأنني اكتشفت أن وليد متساهل معها لأقصى حد ... بل و بلا حدود ...
و فوق كونها فتاة مراهقة شديدة التدلل و الغنج، و قليلة التفكير في مشاعر الآخرين و ظروفهم، و فوق فرضها لوجودها و احتلالها مساحة كبيرة جدا من اهتمام وليد و مسؤوليته، و فوق كرهها لي و غيرتها الواضحة مني، فوق كل هذا و هذا، رغد تحب خطيبي !
إنني و مذ سمعتها تلك الليلة... تهمس له – و هو نائم في السيارة –
( وليد قلبي )
و أنا في حالة عصيبة و رغما عني بدأت أراقب كل تصرفاتها و أترجم كل أفعالها على أنها ولع بوليد !
فكيف أصحو ذات صباح، و أذهب إلى غرفة خطيبي فأراها نائمة على المقعد في غرفته ؟؟
يومها أخبرت أمي بكل ما جد... و أطلعتها على اكتشافي... و بكيت بمرارة
إنها و منذ أن ظهرت في حياتي ... قبل عدّة أشهر... منذ تلك الليلة التي حضرت مع وليد و دانة هاربين من القصف ... و هي تشغل اهتمام وليد و تفكيره !
و بالرغم من أنني تعاطفت معها كثيرا ... للظروف المفجعة التي مرّت بها خلال أشهر ... و بالرغم من أنني أحسنت معاملتها و آويتها و أسرتي إلى منزلنا ... و أسكنتها غرفتي كذلك ... و عاملتها و أهلي كفرد منا و حاولنا توفير كل ما احتاجت إليه ... بالرغم من كل ذلك، ها أنا أشعر الآن برغبة قوية في إخراجها من حياتي أنا و وليد ...
وليد خذلني في الموقف الأخير ...
فعوضا عن زجرها أو تأنيبها و ردعها... ما إن هربت إلى غرفتها بعد رميي بهاتفه المحمول حتى حثّ الخطى سيرا خلفها هي !
هتف :
" رغد "
و لم تكترث له فتوقف في منتصف الطرق و ضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى غضبا ...
التفت إلى ّ أخيرا و قال :
" لماذا فعلت ِ ذلك ؟؟ أروى ! ماذا أصابك ؟؟ "
تفاجأت من سؤاله، فعوضا عن أن يقف إلى جانبي و يواسيني أراه غاضبا منّي أنا ! إنني أنا من تلقيت تلك الضربة من رغد ... ألم تر َ ذلك جليا يا وليد ؟؟
قلت :
" ماذا فعلت ُ أنا ؟؟ وليد هل رأيت كيف ضربتني ابنة عمّك ؟؟ أليس لديك شيء تقوله من أجلي ؟؟ "
بدا على وليد العصبية أكثر من ذهول المفاجأة... و ظهر كالمستاء من كلامي أكثر من استيائه من فعلة رغد ...
قلت :
" وليد ... تحدّث ! "
التقط وليد نفسا أو اثنين عميقين ، ثم قال و هو يعود أدراجه نحو قلب الصالة :
" كلماتك كانت قاسية و جارحة "
و أذهلني موقفه أكثر و أكثر . ..
قلت بانزعاج :
" أليست هذه هي الحقيقة يا وليد؟؟ ألست تبالغ جدا في تدليل ابنة عمّك و كأنها اليتيمة الوحيدة على وجه الأرض ؟؟ أنا أيضا يتيمة يا وليد ... ولو كان ابن عمّي عمّار حيا و يرعاني كما ترعى أنت ابنة عمّك، لألصقت جبيني في الأرض سجودا و شكرا لله مدى الحياة ! "
و لا أدري لم استفزّت هذه الجملة وليد بشكل مبالغ به فصرخ بوجهي :
" اسكتي "
اعترتني رغبة مباغتة في البكاء لحظتها فآثرت ُ الانسحاب و هرعت إلى المطبخ ، حيث كانت أمي ترتب الملاعق على مائدة الغذاء
خاصمت ُ وليد للساعات التالية و رفضت الذهاب معه إلى المحكمة كما كان يخطط.. يحق لي أن أغضب حين أرى الموقف البارد من خطيبي ...
و يحق لي أن أطالب رغد باعتذار علني أمام وليد... و سوف لن أتخلى عن هذين الحقين هذه المرّة... و سأجعل رغد تفهم أنني المرأة الأولى في حياة وليد... رغما عن قرابتهما و ذكرياتهما السابقة... و رغما عن أي شعور تحمله هي تجاه خطيبي ... و أيا كان !
~~~~~~~~~~~~~
لم أكن أدرك أن الشحنات المتضادة بين رغد و أروى قد كبرت و وصلت إلى هذا الحد ...
أروى كانت قد أخبرتني سابقا بأن رغد لا تبدي أي مودة تجاهها و أنها تغار منها !
أتذكرون العدستين الزرقاوين اللتين وضعتهما رغد على عينيها ذلك اليوم؟؟
هل تغار جميع النساء من بعضهن البعض؟ هذه الحقيقة على ما يبدو !
ألا ّ تحب رغد أروى هو أمر متحمل لا استبعده، فهي حسبما اكتشفتُ لا تتأقلم مع الآخرين بسهولة ...
أما أن تظهر من أروى إشارات تدل على عدم حبّها لرغد أو استيائها منها، فهو أمر جديد لم ألحظ أهميته قبل الآن ....
و بسبب الخلاف، اضطررت لتأجيل زيارتنا للمحكمة حتى اليوم التالي
الصغيرة الغاضبة ظلت حبيسة غرفتها طوال الساعات التالية ... و رفضت الاستجابة لنا حين حاولنا التحدث معها...
أما أروى فقضيت فترة لا بأس بها معها أحاول استرضاءها حتى رضت عني !
حتى و إن بذلتُ الجهود القصوى لإخفائه فإن قلقي بشأن رغد كان مصرا على الظهور !
كان ذلك صباح اليوم التالي حين كنا أنا و أروى هامين بالخروج قاصدين المحكمة لإتمام بعض الإجراءات اللازمة. كنت مشغول البال على الصغيرة التي لم أرها منذ الأمس و لا أعرف كيف قضت ليلتها ... لم أكن لأستطيع المغادرة قبل الاطمئنان عليها أو إبلاغها بأنني سأخرج ...
وقفت عند أعلى درجات السلم بينما أروى هبطت درجات ثلاث قبل أن تستدير إلي مستغربة ...
" لم وقفتَ ؟ "
كان القلق مرسوما على وجهي بشكل لا أظن أروى قد أخطأته !
أعتقد إن أحدا لا يحتاج كمية كبيرة من الذكاء ليعرف السبب !
ضيّقت أروى حدقتيها و قالت :
" رغد مجددا ؟؟ "
و بدا الضيق عليها ... فقلت مسرعا :
" لا أريد أن أخرج دون إعلامها و أسبب لها الإزعاج كالأمس ... "
قاطعتني أروى :
" بربّك وليد ! أوه كم تبالغ ! ألا تدرك أنها تفعل ذلك لمجرّد الدلال لا أكثر؟؟ ألا تعرف هي سبب مجيئنا إلى هنا؟ هيا يا وليد دعنا نمضي و ننجز المهمة في أقصر مدة ممكنة و نعود للمزرعة "
علّقت قدمي بين أعلى درجة و الدرجة التي تليها من السلم ... و بقيت برهة مترددا ...
" وليد ! هيا ! "
و عوضا عن الهبوط بقدمي للأسفل رفعتها للأعلى و أنا أتراجع و أهز رأسي استسلاما و أقول :
" يجب أن أطمئن على الصغيرة أولا "
سرتُ نحو غرفة رغد ... و وقفت عند الباب ... تبعتني أروى في صبر نافذ و أخذت تراقبني و قد كتّفت ذراعيها و رمت برأسها نحو اليمين !
قلت :
" أدخلي و اطمئني عليها "
فتحت أروى ذراعيها و رفعت رأسها مندهشة :
" أنا ؟؟ "
" طبعا ! أم يعقل أن أدخل أنا ؟؟ "
و كانت جملة اعتراض تكاد تنطلق من لسان أروى استنكارا و رفضا و لكن نظرة رجاء من عيني جعلتها تتراجع !
أروى تقدّمت نحو الباب و طرقته طرقا خفيفا ثم فتحته و ولجت الغرفة ... و بقيت أنا في الخارج موليا ظهري لفتحة الباب ...
إنه الصباح الجميل !
يكون المرء في قمة النشاط و الحيوية و الإقبال على الحياة ... بأعصاب مسترخية و نفسية مترابطة و مزاج عال !
آخر شيء يتمنى المرء سماعه من مطلع الصباح هو الصراخ !
" أخرجي من غرفتي فورا "
كانت هذه الصيحة التي خلخلت صفو الصباح منطلقة من حنجرة رغد !
أجبرني صوت رغد على الالتفات للوراء ... و أبصرت ُ أروى و هي تتقدم مسرعة خارجة من الغرفة في ثوان ...
كان وجه أروى الأبيض الناصع شديد الاحمرار كحبة طماطم شديدة النضج...
أما التعبيرات المرسومة عليه فكانت مزيجا من الغضب و الحرج و الندم و اللوم !
حين التقت نظراتنا اندفعت قائلة :
" أ يعجبك هذا ؟؟ لم يهنّي أحد بهذا الشكل ! "
تملّكني الغضب آنذاك ... الغضب من رغد ... فتصرفها كان مشينا ... و كنت على وشك أن أدخل الغرفة لكنني انتبهت لنفسي فتوقّفت ... و قلت بحدّة :
" أنت ِ لا تطاقين يا رغد ! "
و التفت إلى أروى و قلت :
" هيا بنا "
الساعات التالية قضيتها و أروى بين المحكمة و مكتب المحاماة و مكاتب أخرى ... نوقع الوثائق الرسمية و نسجّل العقود و خلافها ...
و بفضل من الله تذللت المصاعب لنا كثيرا ... و أنهينا المهمة...
و بالرغم من ذلك قضينا ساعات النهار حتى زالت الشمس خارج المنزل
بعد ذلك عدنا للمنزل و تناولنا وجبة غذائنا، أنا و أروى و الخالة ليندا.
لا !
لا تعتقدوا أنني نسيت رغد !
إنني غاضب من تصرّفها لكنني قلق بشأنها ... و انتهزتُ أول فرصة سانحة حين غابت أروى بضع دقائق و سألت ُ الخالة ليندا :
" ماذا عن رغد ؟ هل رأيتها ؟ "
" لا أظنها غادرت غرفتها يا بني "
توتّرت ... قلت :
" هل مررت ِ بها ؟ "
" فعلت ُ ذلك و لكن ... لم تتجاوب معي فتراجعت "
غيّرت ُ نبرة صوتي حتّى صارت أقرب إلى الرجاء و قلت :
" هل لا فعلت ِ ذلك الآن يا خالتي ؟ لا بد أنها جائعة ... خذي لها بعض الطعام "
و ابتسمت الخالة و شرعت في تنفيذ الأمر و عادت بعد قليل تحمل الطعام و تقول :
" تقول أنها ستأكل حينما ترغب بذلك "
هممت ُ أنا بالنهوض للذهاب إليها إلا أن الخالة أومأت إلي بألا أفعل ... ثم قالت :
" ليس الآن ... "
و ركزت نظراتها علي و أضافت :
" بني يا وليد... الفتاة بحاجة إلى خالتها... أعدها إليها يرحمك الله"
تعجبتُ ... و قلتُ مسائلا :
" لم تقولين ذلك يا خالتي ؟ "
أجابت :
" أرحها يا بني ... إنها صغيرة و قد عانت الكثير... افهمْ يا وليد أنها بحاجة إلى أم... و هو شيء... لا يمكنك َ أنت مهما فعلت... تقديمه"
و هزت رأسها تأكيدا ... ثم انصرفت ...
أما أنا فبقيت أفكّر في كلماتها لوقت طويل ...
ألم أعد أصلح ... أما لك ِ يا رغد ؟؟
الساعة الحادية عشر مساء ...
كنا أنا و أروى ساهرين نخطط لمستقبلنا و نناقش مستجدات حياتنا و نرسم خطوط الغد ...
" ستتولى أنتَ كل شيء يا وليد ! كل ما هو لي سيكون بين يديك و تحت إشرافك ! "
" لا أعرف يا أروى ما أقول ... الثروة كبيرة جدا ... و علينا أن نكون حذرين ! أمامنا الكثير لنفعله "
كنت أشعر بالقلق ... فثروة أروى ضخمة جدا ... و ليس من السهل أن ينتقل أحدهم من حياة الفلاحة البسيطة فجأة إلى حياة الثراء الفاحش !
لا أعرف ما الذي يتوجب علينا فعله بكل تلك المبالغ المهولة التي تركها أبو عمّار ...
لدى ذكر اسم عمّار ... قفز إلى بالي شيء كنت متقاض ٍ عنه حتى الآن ...
أروى ... لا تعرف حتى الآن أن خطيبها هو الشخص الذي قتل ابن عمّها الذي ستتمتع بثروته ... !
لا أعلم لم َ لم ْ يأت ِ ذكر ٌ لهذه الحقيقة حتى الآن ... لم أتخيّل نفسي أخبرها بأن الـ ( حيوان ) الذي قتله ذات مرّة، و بسببه قضيت الـ (ثمان) سنوات من عمري في السجن و أضعت مستقبلي ... هو عمّار !
عمار ... ابن عمها الوحيد ...
شردت في هذه الفكرة الطارئة ... فلحظت أروى شرودي المفاجئ ...
رفعت يدها إلى رأسي و أخذت تطرق بسبابتها على صدغي بخفة و تبتسم و هي تقول :
" ما الذي يدور في رأس حبيبي الآن ؟؟ "
أدركت أنها لم تكن باللحظة المناسبة لأفجّر مفاجأة من هذا النوع، في وجه أروى الباسمة ...
كانت ... فرحة جدا و تحلم بالمستقبل المشرق و تفكر بما سنفعله في المزرعة ...
و كم هي طيبة و عفوية ...
إنها وضعت ثروتها كلها بين يدي ّ !
ابتسمت ُ و قلت :
" علينا أن نتوقّف عن التفكير و نأوي للنوم ! لقد أرهقنا دماغينا بما يكفي لهذا اليوم "
ابتسمت و هي تحرّك يدها هبوطا من رأسي إلى كتفي إلى يدي فتشد عليها و تقول :
" لم أكن لأعرف كيف أتصرف لو لم تكن معي يا وليد ... الله بعثك لي حتّى تقود أموري إلى الطريق الصحيح ... حمدا لك يا رب "
و زادت ضغطها على يدي و خففت صوتها و أضافت :
" و شكرا لك ... يا حبيبي "
كانت تسير بدلال و هي تبتعد عني مقتربة من الباب ... فتحته و استدارت
تلقي علي نظرة أخيرة باسمة ، فلوّحت ُ لها بيدي و البسمة لا تفارق شفتي ّ ...
و استدارت لتخرج ... وقفت برهة ... ثم عادت و استدارت نحوي !
لكن ... هذه النظرة لم تكن باسمة ! بل كانت متفاجئة !
بعثرتُ الابتسامة التي كانت معلّقة على شفتي و علتني الحيرة !
كنت سأسألها ( ماذا هناك ) إلا أنها عادت و استدارت نحو الخارج ...
حثثت ُ الخطى نحوها و من خلال فتحة الباب أمكنني رؤية ما أجفل أروى
كتاب الله المقدّس ... مصحف شريف ... مضموم ٌ بقوة إلى صدر شاهق لفتاة ملفوفة بالسواد ... تقف على مقربة من الباب ... في حال يخبر الناظر إلى عينيها بمدى الرعب الذي يكتسحها ...
ما إن ظهرت ُ أنا في الصورة حتى استقبلتني عينا رغد استقبالا حارقا ...
شعرت بقلبي يهوي تحت قدمي ّ ... هتفتُ بصوت مخنوق :
" رغد ... !! "
تبادلنا أنا و أروى النظرات المستغربة ...
تخطيت أروى مقتربا من رغد و أنا شديد القلق ... قلت :
" ما بك ؟؟ "
و لو تعلمون ... كم عضضت على أسناني ندما و غضبا من نفسي آنذاك...
لو تعلمون ... كم كرهت نفسي ... و تمنيت لو أن زلزالا قد شق الأرض و ابتلعني فورا ...
صغيرتي ... قالت ... بصوت متهدرج و بكلمات متقطعة مبعثرة ... و بنبرة يأس و قنوط شديدين ... كالنبرة التي يطلقها الجاني و هو يستشعر حبل المشنقة يلف حول عنقه ... قبل الموت... :
" ألم ... تخبرك ... أمي ... أمك ... بأن لدي ... خوف ... رهبة مرضية ... من الغربة و الغرباء ...؟ يمكنك أن تغضب منّي ... تتشاجر معي ... تخاصمني... لكن... لا تدعني وحدي... المكان موحش... أنا لا أحتمل ... لا تفعل هذا بي يا وليد ... "
إنه حبل الوريد ...
ذاك الذي شعرت به يتقطّع فجأة بخنجر حاد مسنن ...
تألّمت ألما كدت ُ معه أن ألطم خدّيّ و أجدع أنفي ... و أقتلع عينَيّ ... لولا أن شللا ما قد ألم ّ بعضلاتي و أعاق حركاتي ...
متسمّرا في مكاني ... كالباب الذي أقف جواره ... طويلا عريضا جامدا أتأرجح في الهواء لو أن دفعة بسيطة من طرف إصبع ما قد سُدّدت إلي ّ
لمّا لاحظت أروى صمتي و سكوني الغير متناسبين و الحال، نظرت إلي ّ باستغراب ...
أحسست بيدي تمتد باتجاه رغد ... و بأصابعي تنثني ... و بشبه كلمة يائسة واهنة تتدحرج من لساني ...
" تعالي ... "
رغد نظرت إلى يدي المشيرة إليها... ثم إلى أروى الواقفة جواري ... ثم إلي ّ ... و ترددت ...
هززت رأسي مشجعا إياها ... و أخيرا تقدّمت نحوي ...
تنحّت أروى جانبا فاسحة المجال للصغيرة لدخول الغرفة... كانت رغد تسير ببطء و تردد وهي محتضنة المصحف الشريف إلى صدرها المرعوب ... و رأسها مطأطئ إلى الأرض ...
عندما دخلت الغرفة، أشرت ُ إلها أن تجلس على المقعد المجاور للباب، ذاك الذي نامت فوقه أول ليلة ...
كعصفور جريح ضعيف و مرعوب ... جلست صغيرتي على المقعد تجاهد الدموع لئلا تنحدر على خديها الكئيبين ...
" هل أنتِ على ما يرام ؟ "
سألتها و أنا شديد القلق عليها و الغضب من نفسي ... لم َ كنت ُ قاسيا على صغيرتي لهذا الحد ؟؟ كيف تركتها دون رعاية ... و دون حتى طمأنة وحيدة منذ الأمس ؟؟ كيف استطاع قلبي تحمّل ذلك ؟؟
" رغد صغيرتي أأنت ِ بخير ؟؟ "
عندما رفعت رغد بصرها و نظرت إلي ّ ... قتلتني !
" لا تفعل هذا بي يا وليد ! إن لم تكن تطقني ... فأعدني إلى خالتي... و لا تدعني أموت ذعرا وحيدة... أنا لم أجبرك على إحضاري إلى هنا... أنت من أرغمني ..."
صحت ُ بسرعة :
" كلا يا رغد ! ليس الأمر هكذا... أنا... أنا آسف عزيزتي لم أقصد شيئا "
استرسلت رغد :
" أعرف أنني لا أطاق ... لكن أمي كانت تعتني بي جيدا... و تحبّني كثيرا... و تتحمّلني بصدر رحب... لم أشعر بالذعر و أنا قريبة منها ... لم تكن لتسمح للذعر بمداهمتي ...كم كنت آمنة و مرتاحة في حضنها ! "
و غطّت وجهها بالمصحف و جعلت تبكي ...
جثوت ُ بدوري قربها و كدت ُ أبكي لبكائها ...
" يكفي يا رغد ... أرجوك ... سامحيني ... لم أقصد تركك وحيدة ... أنا آسف ... "
أزاحت الصغيرة المصحف عن وجهها و نظرت إلي نظرة ملؤها الذعر ... ملؤها العتاب ... ملؤها الضعف ... ملؤها الحاجة للأمان ... ملؤها سهام ثقبت بؤبؤي عيني ّ و أعمتني عن الرؤية ...
" أريد أمّي ! "
نطقت رغد بهذه الجملة التي جعلت ذراعيّ تخرّان أرضا...
" أريد أمّي ... لا أحد ... سيهتم بي مثلها ! ... الله يعلم ذلك ... اسأله أن يعيدها إلي ّ ... أو يأخذني إليها ... "
لا إراديا مددت يدي ّ فأمسكت بيديها بقوّة و أنا أقول :
" كفى يا رغد ... كفى ! كفى "
انفجرت رغد قائلة بانفعال شديد :
" كأنّك لا تعرف ما حدث لي؟ أنت السبب ! بقيتُ أكتم السر في صدري كل هذه السنين ... و يعصف الذعر بقلبي الصغير ... و لا أجرؤ على البوح بما حصل أو حتّى تذكّره ... و أنتَ بعيد لا تعرف ماذا أصابني و ما حلّ بي! ألا تعرف أنني مريضة يا وليد؟ ألا تعرف ذلك؟ ألا تعرف ذلك ؟ "
اعتصرني الألم و قلت متوسلا:
" يكفي يا رغد ... أرجوك توقفي ... لا تزيدي من عذابي كفى ... كفى ... كفى ... "
كنت أستطيع الإحساس بالرجفة تسري بيدي رغد ...
التفت صوب أورى التي كانت قابعة مكانها عند الباب و قلت :
" هل لا أحضرت ِ بعض الماء ؟ "
تأملتنا أروى لبرهة في عجب، ثم امتثلت للطلب ...
كنت لا أزال ممسكا بيدي رغد حينما عادت أروى بقارورة الماء الصغيرة... تناولتها منها ... و أخذت المصحف و قرأت ُ بضع آيات ... ثم دفعت بالقارورة نحو رغد :
" اشربي صغيرتي "
بنفس الرجفة تناولت رغد القارورة الصغيرة من يدي و قرّبت عنقها إلى شفتيها ... و عدت ُ بأنظاري نحو كتاب الله و واصلت ُ تلاوة الآيات و أنا لا أزال جاثيا على الأرض أمام رغد مباشرة ...
كنت أستمع إلى أنفاسها القوية... و التي بدأت تهدأ شيئا فشيئا ... حتى إذا ما اختفت عن مسمعي رفعت بصري نحو الصغيرة فرأيتها تنظر إلي ّ
" هل أنت ِ أفضل الآن ؟ "
هزّت رأسها إيجابا ... فتنهّدت ُ بارتياح ... و قبّلت كتاب الله و وضعته جانبا ...
" الحمد لله "
قلتها مبتسما في وجه الصغيرة المذعورة ... فتنهّدت هي بدورها ...
" رغد ... أنا آسف يا صغيرتي ... أرجوك ِ اغفري لي هذه المرّة ... و أعدك ... بل أقسم لك برب هذا الكتاب المقدّس ... بألا أكررها ثانية ما امتدت بي الحياة ... "
رغد رفعت يدها اعتراضا و قالت :
" لا ... لا داع لأن تقسم على شيء ليس من واجبك القيام به ... يجب أن ... تعيش حياتك الطبيعية ... "
و التفتت نحو أروى ثم إلي و أضافت :
" بعيدا عمّن لا يطاقون ... "
قلت مستغربا :
" رغد ؟؟ "
قالت :
" فقط ... أعدني إلى خالتي ... و سوف لن ... أزعجك بعد ذلك مطلقا ! "
استثارتني جملتها هذه و كدت ُ أثور ... إلا أنني تمالكت نفسي ... فهي ليست باللحظة المناسبة على الإطلاق ...
قلت :" اهدئي أنت الآن فقط ... و لا تفكّري في أي شيء ... "
نظرت إلي الآن برجاء و قالت :
" لا تتركني وحيدة يا وليد ... أرجوك "
قلت بسرعة :
" ثقي بأنني لن أكررها ... أنا معك صغيرتي فاطمئني "
ربّما الموقف كان غريبا ... ربما يحق لأروى نظرات الاستنكار التي رمقتني بها في صمت ... لكن ... كيف كنتم تنتظرون منّي أن أتصرّف و أنا أرى صغيرتي تصاب بنوبة ذعر ... بهذا الشكل ؟
إنني لا أعرف كم من الوقت ظلّت واقفة خلف الباب ... ترتجف في خوف ... إلى أن فتحته أروى و اكتشفت وجودها ...
إن لم أكن لأقدّم مجرّد الشعور بالأمان لهذه اليتيمة المذعورة ... في هذا البيت الموحش المليء بالذكريات المؤلمة ... إن لم أستطع تقديم الأمان على الأقل ... فما الجدوى من وجودي حيا على وجه الأرض ؟؟
و كطفلة صغيرة ... أعدت ُ صغيرتي إلى سريرها و بقيت جالسا بالقرب منها أتلو المزيد من كلام الله ... حتى نامت...
تركت ُ باب غرفتها نصف مغلق و عدت ُ إلى غرفتي و تهالكت ُ على السرير ... كانت أروى آنذاك جالسة على ذات المقعد المجاور للباب ... و حينما رأتني أمدد أطرافي الأربعة نحو زوايا السرير بتأوّه أقبلت نحوي ...
" وليد "
كنت التفت إليها فرأت التعب ينبع من مقلتي ...
" إذن ... فهي مريضة بالفعل ... كما توقّعت ! "
أغمضت ُ عيني متألما لهذه الحقيقة ...
قالت أروى :
" لقد ... لاحظت ُ عليها بعض التصرفات الغريبة في المزرعة ! سبق و أن أخبرتك بذلك يا وليد ! لكنك لم تعلمني بأنها مريضة بالفعل "
قلت :
" لديها نوع من الرهبة... تنتابها حالات من الذعر إذا شعرت بالوحدة و الغربة ... إنه مرض أصابها منذ الطفولة... لكني لم أعلم به إلا العام الماضي"
" يؤسفني ذلك يا وليد "نظرت إلى عيني أروى فوجدت ُ فيهما الكثير من العطف و التعاطف ...
فبادلتها بنظرة ملؤها الرجاء و الأمل :
" أروى ... أرجوك ِ ... أوقفي دائرة الخلاف بينكما عن الاتساع "
لم تجب أروى مباشرة ... ثم قالت :
" أنا لا أتعمّد فعل شيء لكنها ... إنها ... "
قاطعتها قائلا :
" إنها وحيدة بيننا يا أروى ... أرجوك اكسبي صداقتها "
و أيضا صمتت برهة و كأنها تفكّر في أمر عالق بذهنها ثم قالت :
" ألا ترى ... أن عودتها إلى خالتها ستريحها يا وليد ؟ "
قلت بسرعة حدّة :
" كلا "
" لكن "
قاطعتها قائلا :
" لأريحها سأفعل أي شيء آخر ... عدا عن إبعادها عن رعايتي "
" وليد ! "
تنهّدت و قلت :
" تصبحين على خير يا أروى ... أريد أن أنام "
انسحبت أروى من الغرفة و عند الباب وقفت لإطفاء المصباح و لما همّت بإغلاق الباب من بعدها قلت :
" اتركيه مفتوحا ... "
فلا أريد لصغيرتي أن تأتيني أي ساعة محتاجة للأمان ... ثم تجد بابي مغلقا دونها ....
في صباح اليوم التالي وجدت صغيرتي مستيقظة و بادية على وجهها الصغير أمارات التعب ...
" هل نمت جيدا ؟ "
سألتها فهزت رأسها سلبا ...
أخبرتها بعد ذلك بأنني ذاهب إلى مكتب المحامي و للعجب ... قالت :
" خذني معك "
~~~~~~~~~~~~~
و من أجل عيني رغد كان علي أنا و أمي كذلك الذهاب مع وليد حيثما ذهب !
شعرت بالحماقة ... و لكنني لم استطع إلا مجاراة هذه الصغيرة المدللة ...
في البداية ذهبنا إلى مكتب المحامي أبي سيف الذي سار بسيارته إلى جوارنا ... ثم إلى مكتبين آخرين ... كان وليد يبقينا في السيارة و يرافق المحامي ، ثم يعود إلينا و يذكر المكان التالي و ينطلق نحوه !
في وقت انتظارنا كنا أنا و أمي نتبادل الأحاديث، بينما رغد لائذة بالصمت المغدق ! لم أتعمّد مخاطبتها فأنا لم أنس بعد كيف رمت بالهاتف صوب وجهي و لا كيف طردتني من غرفتها ذاك الصباح ... إلا إنني أشعر الآن بشفقة عليها لا أدرك ما مصدرها !
عاد و ليد و قال :
" سنذهب إلى مكتب إدارة المصنع الآن ! قد يطول مكوثنا هناك ... أأعيدكن إلى البيت ؟ "
و استدار إلى الوراء موجها نظراته و كذا سؤاله إلى رغد !
رغد قالت :
" سنبقى معك "
لا أدري أي متعة تجدها هذه الفتاة في البقاء حبيسة السيارة في انتظار عودة وليد ! وددت أن أعترض إلا أن مبادرة وليد بتشغيل السيارة و من ثم اللحاق بسيارة المحامي جعلتني ألتزم الصمت ...
حين وصلنا إلى المكان المنشود أصابتني الدهشة !
كان مبنى كبيرا مؤلف من عدّة طوابق ... حديث الطراز و يبدو فاخرا !
قال وليد و هو يركن السيارة في أحد المواقف و يبتسم :
" هنا إدارة مصنعك ِ يا أروى ! هذا المبنى كلّه ملكك ! "
دهشت، و ابتسمت في آن واحد ... و راودتني رغبة في إلقاء نظرة شاملة
قلت – و أنا أمد يدي إلى مقبض باب السيارة و افتحه - :
" سألقي نظرة "
و خارج السيارة وقفت أنا و تبعني وليد و جعلت أتأمل المبنى الضخم الذي يفترض أن يكون ملكي !
قلت :
" كل هذا ... لي !؟ "
ابتسم وليد و قال :
" هذا لا شيء ! حين ترين المصنع ستفاجئين ! ... هنيئا لك ! "
شعرت ببهجة كبيرة اجتاحت قلبي ... قلت :
" أتمنى أن أراه من الداخل ! "
فكر وليد قليلا و تردد فقلت :
" ألستُ أنا المالكة ؟ ألا يمكنني إلقاء نظرة سريعة على ممتلكاتي ؟ أرجوك وليد ! "
ابتسم وليد و قال :
" لا أعرف إن كان هناك سيدات في الداخل... ! لم يسبق لي الدخول و لكن ... لا بأس إن كانت هذه رغبتك ! "
فرحت كثيرا و أمسكت بيد خطيبي في امتنان ...
ما الذي سيجعلني أشعر بسعادة أكثر من هذه ؟؟ لدي خطيب رائع يقف إلى جواري ... و أمامي مبنى ضخم هو ملكي و جزء من ثروتي ... لا شك أنني هذه اللحظة أسعد الناس
الحمد لله
وليد أشار على أمي و رغد أن تنزلا ... ثم لحقنا نحن الأربعة بالمحامي و وجدنا في استقبالنا أناس آخرون، رافقونا داخل المبنى إلى المكان المنشود !
و المكان المنشود كان المكتب الرئيسي للمبنى ... مكتب المدير !
ما إن دخلنا حتى وجدنا أناس آخرون في استقبالنا ... أظنهم دهشوا لدى رؤيتنا نحن الثلاث – أنا و أمي و رغد – نسير خلف الموكب ! لكن ذلك لم يمنعهم من الترحيب بنا عامة ...
دُعينا للجلوس في مكان جانبي ... بعيدا عن الآخرين ...
فيما كنّا نعبر الغرفة شاقات طريقنا نحو المقاعد، كانت عيناي لا تتوقفان عن التجول و النظر إلى كل ما حولي ... في دهشة و إعجاب !
كم كان مكتبا فخما و راقيا ! كل أثاثه يشير إلى مدى البذخ الذي كان عمّي رحمه الله يعيش فيه !
استقرّت عيناي أخيرا على الحائط خلف المكتب مباشرة ...
هناك عُلقت صورتان كبيرتان جدا لرجل كهل و شاب صغير... في إطارين أسودين !
إنهما عمّي و ابنه الراحلان، رحمهما الله !
توقّفت برهة أتأمّل الصورتين ... لهذين الشخصين اللذين ما عرفتهما يوما في حياتي ... و ها هي ثروتهما الضخمة تصبح فجأة بين يدي !
" سبحان الله ... أتصدّق يا وليد ؟ "
قلت ذلك و التفت إلى وليد متوقعة منه أن يكرر التسبيح ... و يمنحني ابتسامة عذبة و مطمئنة من شفتيه ... لكن ... لم يبد على وليد أنه سمع شيئا مما قلت ...
وليد كان يحدّق تجاه الصورتين بحدّة و تعبيرات وجهه غاضبة و مكفهرّة
عجبا ! لماذا ينظر وليد إلى هاتين الصورتين بهذا الشكل ؟؟
" وليد ...؟؟ "
رمقني وليد بنظرة غريبة و مخيفة ... و عاد يدقق النظر تجاه الصورتين
أليس هذا غريبا ؟؟
انتظروا... هذا لا شيء أمام ما حصل بعد ذلك !
" عمّار !! "
تصوروا ممن خرجت هذه الكلمة أشبه بالصيحة المباغتة ؟؟
من رغد !
التفت إلى رغد لأتأكد من أن أذني لم تكن تتخيل ... فرأيت رغد تحدّق هي الأخرى تجاه الصورتين و قد علا وجهها الذعر !
و الآن ماذا ؟؟
رغد تلتفت إلى وليد بسرعة ... ثم إلى الصورة ... و تشير بإصبعها نحو صورة عمّار ابن عمّي ... و تعود للهتاف :
" عمّار !! "
ثم تلتفت إلى وليد و تقول بذعر :
" إنه هو ! أليس كذلك ؟ هو ... هو "
وليد يحدّق برغد الآن ... و مزيج من الغضب و التوتر و القلق و تعبيرات أخرى أجهل تفسيرها بادية على وجهه جاعلة منه جمرة ملتهبة !
رغد ألقت علي نظرة سريعة ، ثم على الصورتين ، ثم على وليد الذي كان لا يزال يحدّق بها ... و هتفت :
" وليد ! "
وليد اقترب من رغد و قال :
" أجل ... إنهما عم أروى و ابنه "
بدا الذهول الفظيع على وجه رغد ... و كأنها اكتشفت أمرا خطيرا لم تكن تعرفه ! أما الذهول الذي على وجهي أنا هو لأنني لم أكتشف بعد ماذا يدور من حولي ؟!
رغد أمسكت بذراع وليد و هتفت :
" أخرجني من هنا ! "
تحوّلت نظرات وليد إلى القلق و الخوف الفاضحين و فتح فمه و لكن ما خرج منه كان النفَس خال ٍ من أي كلام !
" أخرجني من هنا بسرعة ... أخرجني فورا "
قالت ذلك رغد و ضعت يدها الأخرى على صدغيها كمن يعاني من صداع شديد... !
" رغد "
ناداها وليد بصوت حنون قلق فلما رفعت بصرها إليه ... مالت بنظراتها نحو الحائط فأغمضت عينيها بسرعة و أخفتهما خلف يدها و صاحت :
" أرجوك.. "
من فوره وليد حثّها على السير متراجعين نحو الباب ... و كانت لا تزال متشبثة بذراعه ... و خاطبنا قائلا :
" هيا بنا "
أنا و أمي و لأننا لم نفهم أي شيء ... تبادلنا النظرات المستغربة المذهولة... و لحقنا بوليد و رغد على عجل ... وسط أنظار الاستغراب من الأشخاص الآخرين !
إن في الأمر سر ما !
ما عساه يكون ؟؟؟
~~~~~~~~~~~~
رغد بين يدي منهارة و مرتبكة...
و أنا مذهول و مأخوذ بالدهشة ... إن من رؤية وجه عمار الخسيس يبتسم تلك الابتسامة الحقيرة ... و التي تستفز حتى أتفه ذرات النفور في جسدي ... أو من تأثّر رغد بالصورة ... و الذعر الذي علاها ... و الذي يؤكد أنها لا تزال تذكر وجه عمّار ... بعد كل تلك السنين
و كيف لوجه مجرم كهذا أن يُنسى ؟؟
طفلتي الصغيرة لا تزال تحتفظ في ذكرياتها بصورة للشاب الحقير الذي تجرأ على اختطافها ذات يوم ...
ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتي ... و حياتها كذلك ...
فتحت باب السيارة الأمامي الأيمن و جعلتها تدخل و تجلس عليه ... و جلست من ثم إلى جوارها ... كانت لا تزال في نوبة المفاجأة و النفور ...
وصلني صوت أروى – و التي جلست خلفي – تقول :
" ماذا هناك ؟؟ "
لم أجب
" وليد ما الأمر ؟ "
قلت بغضب :
" الزمي الصمت يا أروى رجاء ً "
قالت ليندا :
" أخبرانا ما الخطب "
قلت:
" الصمت رجاء "
و أدرت مفتاح السيارة في ذات اللحظة التي ظهر فيها أبو سيف و هو يقول :
" ما المشكلة ؟ "
أخرجت رأسي عبر النافذة و أجبته :
" لنؤجل الأمر للغد "
و انطلقت بالسيارة عائدا إلى المنزل ...
كنت أرى رغد و هي تضع يدها على صدغيها و يعبّر وجهها عن الألم بين الفينة و الأخرى ... فأدرك أنها الذكريات تعود إلى رأسها و تعصرها ألما... فأدوس على مكابح السيارة غيظا ...
عندما وصلنا إلى المنزل أوت رغد إلى غرفتها مباشرة ... هممت باللحاق بها فاستوقفني سؤال أروى :
" ماذا هناك يا وليد ؟ هل لا شرحت لي ؟ "
قلت بسرعة :
" فيما بعد "
و تابعت طريقي إلى غرفة رغد ...
كان الباب مغلقا، طرقته و ناديت رغد فأجابت :
" نعم ؟ "
و كان صوتها متحشرجا مخنوقا ...
قلت :
" أيمكنني الدخول ؟ "
أجابت :
" ماذا تريد ؟ "
قلت :
" أن نتحدّث قليلا "
" دعني و شأني "
آلمني ردها هذا فعدت أقول :
" أريد أن أحدثك يا رغد ... أيكنني الدخول ؟ "
و لم تجب
عدت أسأل :
" أأستطيع أن أدخل يا رغد ؟ أرجوك ؟ "
و لكنها أيضا لم تجب ...
أرجوك يا رغد لا تزيدي عذابا فوق عذابي ...
أخذت أطرق الباب و أناديها حتى قالت أخيرا
" دعني بمفردي يا وليد "
استدرت ُ للخلف في يأس ... فوجدت أروى تراقبني عن بعد ... و لابد أن عشرات الأسئلة تدور في رأسها ... كما تدور عشرات بل مئات الذكريات المريرة في رأسي و تفقده أي قدرة على التفكير السليم ...
استدرت ُ نحو الباب مجددا و قلت مخاطبا رغد :
" لا لن أدعك بمفردك يا رغد ! سأدخل "
و حرّكت مقبض الباب ببطء ... و دفعت الباب قليلا للأمام ...
قلت :
" سأدخل رغد ! "
و لما لم تجب ... واصلت فتح الباب ببطء ... و سمحت لصريره أن يتذبذب في أذني ّ طويلا ...
على سريرها كانت صغيرتي تجلس و عيناها موجهتان نحوي ...
تقدمت خطى نحوها و أنا أقول :
" أيمكنني أن أدخل ؟ "
و أعرف أنني في الداخل و أنني سأدخل من كل بد !
قلت :
" أنا آسف ! "
طأطأت رغد رأسها هاربة من نظراتي...
اقتربت منها أكثر و أكثر و قلت :
" أأنت ِ بخير ؟ "
و استطعت أن أرى دمعة تهوي من عينها لتبلل يديها المضمومتين فوق ركبتيها ...
اقتربت أكثر و أكثر حتى صرب جوارها مباشرة ... و قلت بصوت حنون أجش :
" لم أجد داعيا يدفعني لأن ... أخبرك ... بأن أروى هي ابنة عم عمّار.... و أن الثروة التي حصلت عليها كانت ... لعمّار و أبيه "
رغد رفعت نظرها إلي و صرخت :
" لا تذكر اسمه أمامي "
جفلت ... أخذني الذهول ... و ابتلعت لساني ... رغد رمقتني بنظرة عميقة غصت في جوفها فغرقت ... و لاطمتني أمواج الأفكار و الهواجس ... و لم أدر ِ أين كنت و متى كنت ... و على أية حال قد كنت ...
تعود للإمساك برأسها كمن يحاول جاهدا منع الذكريات من الظهور فيه ...
تتلاعب بي الأفكار و التخيلات حتّى تثير جنوني...
ماذا حصل؟ ماذا لم يحصل؟
أجيبيني يا رغد ...؟؟
و لم تزد حيرتي إلا حيرة ...
بعد صمت قصير طويل في آن معا ...
قلت :
" حسنا يا رغد...
بعد دخولي إلى السجن، تعرّفت إلى نديم، والد أروى رحمه الله... و قد ساعدني كثيرا و أحببته محبة خالصة في الله.. و قبل موته أوصاني بعائلته خيرا... و لم يكن يعرف ... أنني ... "
و لم أكمل، استدرت للخلف لأتأكد من أن أروى على مبعدة و لا تسمعنا... ثم اقتربت من رغد أكثر و أضفت ُ هامسا :
" أنني أنا من قتل ... ذلك الوغد "
بدا التفهم على تعبيرات وجه رغد فقلت ُ مترددا و مخفضا صوتي حد الهمس بل حد السكون :
" وهذا... ما لا تعرفه أروى أيضا "
و تنهّدت بمرارة و حيرة و أضفت :
" و ما أخشى عواقبه ... "
شعرتُ بشيء يسيطر على فكري فجأة... تبدلت تعبيرات وجهي إلى الجدية و الحزم... و تطايرت سهام شريرة من عيني... و شعرت بشياطين رأسي تتعارك في داخله...
كانت رغد تراقبني بقلق و حيرة... و بالتأكيد سمعتني و أنا أعض على أسناني فيما أضيّق فتحتي عيني و أشد على قبضتي بإصرار و أقول :
وجهت ْ إلي ّ سؤالا مباشرا و لكنني تهربت ُ منه ثم وعدت ُ أروى بأن أخبرها بالأمر فيما بعد...
و رغم الحيرة ِ و الشكِ اللذين طغيا عليها طيلة الفترة التالية، لم تصر على معرفة ما علاقة رغد بعمّار...
في صبيحة اليوم التالي عدت إلى مكتب إدارة المصنع الرئيسي... لإتمام المهام المتبقية دون مرافقة من أحد...
يومها وقفت أتأمل صورتـَي عاطف و عمّار قليلا ... و ابتسمتُ ابتسامة النصر...
ها هي يا عمار ثروتك الضخمة... تصبح بين يدي... و المصنع الذي كنت تتباهى به و تطلب منّي العمل فيه ساخرا... أصبحت ُ أنا سيّده...
يا للأقدار...
بعدها أمرت بنزع الصورتين و علّقت عوضا عنهما لوحات ٍ لمناظر طبيعية... و أخذت أتصرّف و كأنني سيّد المكان و مالكه..
و من الخزانة الرئيسية للأموال المتداولة، و ما أكثرها، أخذت ُ مبلغا كبيرا كنا أنا و أروى قد اتفقنا على سحبه لتغطية بعض المصاريف...
أما عن أوّل شيء خطر ببالي آنذاك، فهو إعادة المبلغ الذي استلفته من صديقي سيف قبل عام...
و انطلاقا من هذا اليوم بدأت أتصرف في النقود بتصريح من أروى و أدون و أراجع الحسابات و احتفظ بسجلات المصاريف و أطلعها عليها...
كان لا يزال أمامي وقت طويل حتى أتمكّن من وظيفتي الجديدة و رتّبت الأمور بحيث يظل المصنع تحت إدارة المشرف العام ذاته– السيد أسامة- إلى أن أستلم المنصب بعد بضعة أسابيع...
و السيد أسامة بشهادة من سيف و والده و المحامي يونس المنذر هو رجل أمين نزيه الذمّة... و كان هو الساعي وراء تسليم الثروة للوريثة الوحيدة...
كانت خطّتنا تقتضي العودة بأهلي إلى المزرعة أولا...
أما فكرة أروى فكانت الزواج ثانيا!
أما عن نفسي فأنا أريد تأجيل هذا الأمر... حتى إشعار آخر...
عندما عدت ُ إلى المنزل وقت الزوال... و دخلت من ثم إلى غرفة نومي، دهشت !
لقد كانت نظيفة و مرتبة و منظمة تماما كما كانت أيام الصبا... حين غادرتها ذاهبا إلى السجن...
نظرت من حولي مبتهجا... ثم سمعت صوت أروى مقبلا من ناحية الباب:
" هل أعجبتك ؟ "
التفت ُ إليها فإذا بي أراها مبتسمة مسرورة بما أنجزت...
قلت :
" عظيم ! لكن لابد أنّك أجهدت ِ نفسك كثيرا لإزالة أكوام الغبار ! "
" ساعدتني أمّي و لم تكن مهمّة صعبة ! "
أعدت النظر من حولي مسرورا... كل شيء يبدو نظيفا و منظما... بدأت أشم رائحة الماضي... و استعيد الذكريات...
هذا سريري الوثير... و هذا مكتبي القديم... و هذه مكتبتي الكبيرة... و هذه كتبي الدراسية و الثقافية ... مرصوصة إلى جانب بعضها البعض بكل شموخ... و كأن تسع سنين و أكثر لم تمض ِ على هجرها و إهمالها... ها هي تقف في أرففها معززة مكرمة من جديد !
فجأة... انتبهت ُ إلى شيء مهم...
اقتربت من المكتبة و وزعت نظراتي على جميع أجزائها ... ثم التفت إلى أروى و سألت بقلق :
" أين الصندوق ؟ "
نظرت إلى أروى بعدم فهم :
" أي صندوق ؟؟ "
قلت موضحا :
" صندوق الأماني ... اسطوانة ورقية مغطاة بالطوابع... كانت هنا "
و أشرت إلى الموضع الذي كنت قد تركته فيه ليلة أن أبت رغد فتحه...
بدا على أروى الفهم فقالت :
" تقصد ذاك الشيء المجعّد البالي ؟ "
" نعم . أين هو ؟؟ "
كانت أروى تنظر إلي باستغراب ثم قالت :
" رميتـُه ! "
دهشت... هتفت بانفعال :
" رميتـِه !! "
" نعم...ظننته قمامة و ... ... "
~~~~~~~
لم أتم جملتي ... إذ أن وليد هتف غاضبا :
" أي قمامة ؟ لم فعلت ِ ذلك ؟؟ "
ثم خرج من الغرفة باحثا عنه و استخرجه من سلة المهملات !
بدا الموقف سخيفا لكنه أثار فضولي و دهشتي... سألته مستغربة :
" لم تحتفظ بشيء كهذا ؟؟ "
أجاب بحنق :
" إياك و لمسه ثانية يا أروى... "
و لما رأى منّي نظرات الاستنكار عاد يقول بحدّة :
" إياك ... أتفهمين ؟ " حقيقة أنا لم أفهم شيئا... لكن فضولي قد تفاقم خصوصا و أنا أراه ينفعل بهذا الشكل... ثم يعيد ذلك الشيء المجعد تماما إلى المكان الذي كان فيه !
استغرب ... ما أهمية علبة ورقية مجعدة مغطاة بطوابع طفولية قديمة ... لرجل في الثامنة و العشرين من عمره... على وشك إدارة أكبر مصنع في هذه المنطقة ؟؟
لابد أن أعرف...
في وقت لاحق، تسللت إلى غرفة وليد خلسة و تناولت تلك العلبة... و تأملتها...
اكتشفت وجود هذه الجملة مكتوبة عليها : ( صندوق الأماني ) ... و اكتشفت أنها تحوي فتحة صغيرة في أحد طرفيها و بأن في داخلها أوراق ما!
تملكني الفضول الشديد لفتح العلبة و معرفة محتواها... و ليتني فعلت!
تذكرت تحذير وليد و احتراما و طاعة لأوامره... تراجعت في آخر لحظة و أعدت العلبة إلى مكانها...
لكن... ألا يتملككم الفضول مثلي لمعرفة... قصّة هذه العلبة ؟؟
و لو علمت قصّتها الآن... لتغيرت أمور كثيرة لم أدركها... إلا بعد زمن طويل...
~~~~~~~~~~
" متى ستتزوج ؟ "
سألني صديقي سيف هذا السؤال بعد تناولنا العشاء في منزله... كان قد دعانا جميعا هو و زوجته للعشاء معهما تلك الليلة
كنت أداعب ابنه الصغير – فادي - بين يدي... و أشعر ببهجة لا توصف!
ما أجمل الأطفال و ما أمتع اللهو معهم ...!
أضاف معقبا :
" و نفرح بأطفالك يا وليد ؟؟ "
ابتسمت ابتسامة واهية... و أنا أرى الفكرة أشبه بالحلم البعيد...
قلت :
" لا يزال الوقت مبكرا ! "
استنكر سيف و قال :
" خير البر عاجله يا رجل... ها قد مضت فترة لا بأس بها على... "
و غض بصره و أضاف بصوت خافت :
" وفاة والديك... رحمهما الله "
انتفضت... و كأنني أسمع نبأ وفاة والدي ّ للمرة الأولى... و نظرت إلى سيف الذي عاد ببصره إلي... تكسوني علامات الحزن المرير...
تنهّدت تنهيدة عميقة... فالذكرى التي لا يمكن أن تمحى... لا تزال تثير في صدري آلاما قاتلة...
الصوت المبهم البريء الذي انطلق من حنجرة الطفل الصغير بين يدي، كان هو ما جعلني أبعثر الذكرى الماضية و أعود للحاضر
" لم يئن الأوان بعد يا سيف... يجب أن أرتب أوضاعي و أوضاع عملي الجديد و حياتي الجديدة... و أوضاع أروى... و رغد "
التزم سيف الصمت لكني كنت أرى التساؤل يكاد ينسكب من عينيه...
قلت :
" تعرف... أصبحت المسؤولية الملقاة على عاتقي... كبيرة ... "
قال :
" ماذا عن شقيقك ؟ "
أجبت ببعض الأسى:
" لا يزال يقيم في الشمال ... و بعد موت والدي ّ و انفصاله عن رغد... أصبحت هي ضمن مسؤولياتي... أما هو... فقد طلب منّي ألا آتي بها لزيارته ثانية..."
و استطرت ُ :
" و أنا... لا يمكن أن أتزوّج و رغد الصغيرة... تحت وصايتي "
ثم مسحت على رأس الصغير و ابتسمت بعذوبة و قلت و كأني أسر إليه:
" و حينما تكبر و تصبح امرأة... سوف أتزوّجها ! "
علت الدهشة وجه سيف و قال فاغرا فاه :
" ماذا ؟؟!! "
ضحكت ضحكة خفيفة و أنا أضم فادي إلى صدري و أقول بمرح :
" إنها قدري يا سيف ! و مهما ابتعدت ستعود إلي ! "
لم يعلّق سيف و لكنّه ظل في حيرة من أمري... و أنا واثق من أن عشرات الأسئلة المبهمة كانت تدور في رأسه آنذاك...
و ربما تدور في رؤوسكم أنتم أيضا !
أما أنا فسأستمر في مداعبة الطفل الرائع... و أتمنّى من الله أن يرزقني طفلا مثله ذات يوم !
سددت لصديقي الديون التي لحقت بي منذ خروجي من السجن... و شكرته كثيرا على الدعوة الممتعة و ودّعته على أمل اللقاء به بعد عودتي من المزرعة ذات يوم...
استعنا بالله و انطلقنا باسمه متوكلين عليه عائدين إلى المزرعة...
و كان مشوار العودة أكثر ابتهاجا و مرحا و راحة من مشوار الحضور... بالطبع... فقد أنجزنا بحمد الله كل شيء و حملنا معنا جزء ً قيما من النقود...
كان في رؤوسنا خطط كثيرة و أفكار عدّة و قطعنا الطريق و نحن نتداولها
أعني بالرؤوس رأسي و رأس أروى و الخالة
أما رأس الصغيرة الجالسة خلفي في صمت مغدق، فالله وحده الأعلم أي أفكار و خطط كانت تدور فيه !
دعوني أخبركم بأن رغد و أروى لا تزالان متخاصمتين منذ رمت الأولى الثانية بهاتفي المحمول ذلك اليوم... و لم تزد حقيقة ُ علاقة أروى بعمّار... رغد َ إلا نفورا منها...
و يبدو أن وضع الخصام ناسبهما جدا و أراحهما من التصادم، و أراح رأسي أنا بالتالي من الصداع !
لكن إلى متى ...؟؟
كما و إن رغد على ما بدا منها قد تنازلت عن جزء من دلالها و أحسنت التصرّف طوال رحلة العودة...
ألا يريبكم تصرفها هذا ؟؟
بقيت هادئة لأنها كانت مطمئنة إلى أنني سأعيدها إلى خالتها... كما وعدتها... و كما نصحتني خالتي ليندا... من أجلها هي...
كانت الأمور تسير بشكل هادئ جدا... و السعادة تغمر قلب أروى...
أما أنا فبالرغم من سعادتي شعرت بقلق قهري...
فالأقدار علّمتني ألا أفرط في الفرح بما بين يدي... خشية مصائب المستقبل...
" دعنا نقيم حفلة كبيرة فور وصولنا يا وليد... أريد أن يشاركني الجميع فرحتي هذه "
قالت أروى... فردّت أمها :
" زادك الله فرحا و نعيما بنيّتي "
ثم أضافت :
" و بلّغني رؤية أبنائك قريبا يا رب "
أروى طأطأت رأسها ببعض الخجل ثم قالت :
" قولي لوليد ! فهو من يؤجل الأمر ! "
كنت ُ أراقب الشارع... و لم أعلّق ... فقالت الخالة ليندا :
" خيرا تفعلان إن تتزوجا مباشرة يا عزيزي... خير البر عاجله يا وليد.. دعنا نتم الفرحة و نحتفل بالزواج ! "
تضايقت من حديثها.. فموعد زواجي مؤجل إلى أجل غير مسمى... كما و إن ذكرى وفاة والدي ّ لم تخمد نارها بعد...
قلت ُ مجاريا :
" سأفكر في الأمر لاحقا "
لماذا يلح علي الجميع بالزواج !؟؟
ألا يوجد رجل خاطب غيري في هذه البلاد ؟؟
و ظل الحديث عن زواجنا أنا و أروى المسيطر على الأجواء لفترة من الزمن... أما رغد الصامتة، فكلّما ألقيت عليها نظرة رأيتها تسبح في بحر من الشرود ...
لقينا بعض العقبات في طريقنا خصوصا مع الشرطة... و كان التفتيش مشددا جدا على بعض الطرق و المداخل... و الوضع الأمني في تدهور مضطرد.. و كثيرا ما تحظر الرحلات إلى و من بعض المدن، جوا أو برا...
و أخيرا... وصلنا إلى المدينة الصناعية المدمّرة...
و أخيرا بدأ وجه رغد يتهلل و الابتسامة ترتسم على شفتيها... وإن اقترنت بوجوم عام للمرأى المحزن...
تعمّدت أن أسلك طريقا بعيدا عن بيتنا المحروق، خشية أن تقفز الذكريات المؤلمة من جديد إلى قلبينا فتدميهما...
عندما وصلت إلى بيت أبي حسام، أوقفت السيارة و بقيت ساكنا لبعض الوقت...
استدرت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ربما بنفاذ صبر...
قالت:
" هل أنزل ؟ "
قلت :
" تفضلي... "
و سرعان ما خرجت من السيارة و اتجهت إلى بوابة المنزل تقرع الجرس...
" كم سنبقى ؟ "
التفت إلى أروى التي طرحت السؤال و قلت :
" بعض الوقت... نلقي التحية و نسأل عن الأخبار "
قالت :
" أرجوك وليد لا تطل المكوث... نحن متعبون و نريد الوصول إلى المزرعة و النوم... "
كان الوقت آنذاك أوّل الليل و لا يزال أمامنا مشوار طويل حتى نصل إلى المزرعة...
عندما خرجنا من السيارة كانت البوابة قد فتحت و ظهر منها أبو حسام و ابنه مرحبـَين...
و رغم ذلك لم تخل ُ نظراتهما إلي ّ من الريبة و الاتهام... و لابد أنكم تذكرون الطريقة التي غادرنا بها هذا المنزل قبل ذهابنا إلى لمدينة الساحلية...
اعتذرنا عن دعوة العشاء التي ألحت علينا عائلة أبي حسام لقبولها... متحججين بطول السفر...
رغد بدت مرتاحة و سعيدة بلقاء أهلها كثيرا... منذ الطفولة و هي تحب خالتها و عائلتها و كانت ستربى في حضنها لولا أن الظروف المادية و العائلية لم تكن تسمح آنذاك...
و أخيرا حانت لحظة الفراق...
كنت أدرك... أنني لم أكن لأتحمّل ذلك و لكنني أردت أن أحقق لرغد رغبتها و أنجز وعدي ... بتركها مع خالتها لبضعة أيام...
قبيل انصرافي طلبت منها مرافقتي لجلب أغراضها من السيارة و كان قصدي أن أتحدّث معها منفردين...
حملت ُ حقيبتـَي سفرها الصغيرتين إلى داخل السور الخارجي لحديقة المنزل و وضعتهما على مقربة و توقفت ... و التفت إلى رغد...
كانت تسير إلى جواري... تسبقني بخطوتين أو ثلاث... حاملة ً كيسا...
ناديتها :
" رغد "
التفتت نحوي و توقفت عن السير...
ترددت ُ قليلا ثم قلت:
" رغد.. تعلمين أنه... أنني ... ما كنت ُ لأتركك لولا إلحاحك الشديد بالبقاء هنا و لو تـُرك الأمر لي ... لأخذتك و عدنا جميعا إلى المزرعة... "
رغد نظرت إلى الأرض...
قلت متعلقا بأمل أخير :
" هل هذه رغبتك فعلا يا رغد ؟؟ "
و هزت رأسها إيجابا... لم يكن باستطاعتي إلا أن أنفّذ هذه الرغبة من أجلها هي...
قلت :
" حسنا... لكن... في أي لحظة تبدلين فيها رأيك و مهما كان أعلميني فورا..."
نظرت إلي نظرة شبه مشككة فقلت :
" و سآتي لأخذك في الحال... أتعدين بذلك ؟ "
كأنها ترددت لكنها أخيرا قالت :
" سأفعل "
قلت مؤكدا :
" اتصلي بي في أي وقت... و متى ما احتجت ِ لأي شيء... سأترك هاتفي المحمول مفتوحا على مدار الساعة... لا تترددي لحظة ... أتعدين بذلك يا رغد ؟؟ "
ارتسمت علامة غريبة المعنى على وجهها ... أهي ابتسامة ؟ أم هو حزن؟ ... أهو رضا ... أم غضب ؟؟ أهي راحة أم ندم ؟؟ لست أدري...
" عديني يا رغد ؟ "
" أعدك... "
شعرت بالطمأنينة لوعدها... ثم قلت :
" سأجلب شيئا... انتظري... "
و حثثت الخطى خارجا إلى السيارة، حيث استخرجت ظرفا يحوي أوراقا مالية كنت قد أعددته من أجل رغد...
عدت إليها فوجدتها لا تزال عند نفس الموضع و على نفس الوضع...
اقتربت ُ منها و مددت ُ إليها بالظرف قائلا:
" احتفظي بهذا لك "
سألتني :
" ما هذا ؟ "
" إنها بعض النقود... انفقي منها كيفما شئت ِ و إذا ما نفذت فابلغيني "
رغد طأطأت برأسها و نظراتها ربما حرجا ... فهي المرة الأولى التي أقدّم فيها إليها ظرفا ماليا...
" تفضلي يا رغد "
و لكنها لم تبادر بأخذه !
قلت مازحا :
" هيا صغيرتي ! لا يجب أن تشعر الفتاة بالخجل من أبيها ! "
هنا نظرت إلي رغد بسرعة و المزيج المرتسم على وجهها حاو ٍ على الدهشة و الضحك و الاستنكار معا !
تشجّعتْ و مدّتْ يدها أخيرا و أخذت الظرف !
ابتسمت ُ مشجعا و قلت :
" اتصلي بي إذا احتجت ِ المزيد ... و لا تنتظري شيئا من الآخرين أو تعتمدي عليهم ... أتعدين بذلك يا رغد ؟ "
هزّت رأسها إيجابا ...
و وضعت الظرف داخل الكيس... و استدارت متابعة طريقها نحو المنزل...
و هي تبتعد... و أنا أشعر بأشياء تتمزّق في داخلي... أشعر بأن حزمة كبيرة من الأعصاب الحسية كانت تربط فيما بيننا... و مع ابتعادها أخذت تتقطع عصبا عصبا ... و تحدث في قلبي ألما فظيعا مهلكا...
كيف أطاعني قلبي...
مددت يدي محاولا الإمساك بذرات الهواء التي تبعتها... و عادت إلي يدي خالية الوفاض...
هتفت :
" رغد ... "
توقفت ْ و استدارت ْ نحوي... فحال الظلام دون رؤية عينيها...
أو ربما حال دون ذلك... عبرة ولدت للتو... من أعماق عيني...
حملت ُ الحقيبتين و أقبلت ُ نحوها فلما صرت ُ قربها قلت :
" اعتني بنفسك جيدا ... يا صغيرتي... "
رغد... ربما تفهمت قلقي و رأت في وجهي ما لم نستطع لا أنا و لا الظلام إن نخفيه...
ابتسمت ْ و قالت مطمئنة:
" اطمئن يا وليد... سأكون بخير... وسط أهلي"
و هبطت ببصرها للأسفل و نظرت إلى الكيس الذي كانت تحمله مشيرة إلى ظرف النقود و أضافت بصوت خافت كالهمس:
" شكرا... بابا وليد !! "
ثم استدارت و أسرعت نحو الداخل !
آه يا رغد !
أتسخرين منّي ؟؟
ليتك تعلمين كيف أشعر تجاهك... !
آه لو تعلمين !
فيما بعد... و نحن نهم ّ بالمغادرة... وجهت كلامي لأم حسام موصيا:
" أرجو أن... تعتنوا برغد جيدا... و إن احتجتم لأي شيء فأبلغوني"
" لا داع لأن توصيني بابنتي يا وليد... سافر مطمئنا في أمان الله "
" شكرا يا خالتي... سأعود قريبا... أرجوك... ارعي الصغيرة جيدا باركك الله "
الجميع بدأ يتبادل النظرات إن سرا أو علنا... إن تضامنا أو استنكارا...
و لكنني واصلت سرد وصاياي حتى آخر لحظة
بعد ذلك... و أنا أغادر البوابة الخارجية ألقيت النظرة الأخيرة على رغد
" أستودعك من لا تضيع ودائعه... "
لم يظهر على وليد أنه عازم أصلا على الرحيل!
و ربما لو ترك الأمر له وحده لجعلنا نبات في ذلك المنزل أو نقضي بضعة أيام في المدينة قرب رغد!
اهتمامه الزائد بها يثير انزعاجي... وقد أصبحت أشعر بها و كأنها شريكة لي في وليد... و هو أمر لا احتمل التفكير به فضلا عن حدوثه...
أخبرني بعد ذلك بأنه قد دفع إليها بجزء من النقود التي أخذها من الخزانة، و بدا و أن رغد ستشاركني أيضا في ثروتي ...
بالنسبة لي فقد أعطيت وليد مطلق الحرية في التصرف بالنقود و الممتلكات...
وليد كان قد أخبرني مسبقا بأنه كان في الماضي يحلم بأن يصبح رجل أعمال مثل والده – رحمه الله - و أن دخوله السجن قد غير مجرى حياته... و الآن... و بقدرة قادر... تحقق الحلم !
لمست ُ تغيرا كبيرا و رائعا على وليد و نفسيته ... أصبح أكثر سعادة و إقبالا على الحياة بروح متفائلة مرحة... و رغم أن الساعات التي صار يقضيها في العمل و الدراسة قد تضاعفت، وجدنا الوقت الكافي و المناسب جدا لنعيش حياتنا و نستمتع بخطوبتنا التي ما كندنا نهنأ بها... في وجود ورغد !
و بالرغم من أنها ابتعدت أخيرا... ظل اسم رغد و ذكرها يتردد على لسان وليد يوميا في المزرعة... و كانت هي من يكدر صفو مزاجه... و يثير قلقه... و ما فتئ يهاتفها هي و أهلها من حين لآخر و يمطرهم بالوصايا حتى بدأت ُ أشعر أنا بالضيق !
لكني مع ذلك أحسست بالفخر... بأن يكون لي زوج يعرف معنى المسؤولية و يقدّرها جل تقدير...
بعد شقائي و عنائي الكبير و حرماني من أبي و قسوة الحياة علي ّ كل تلك السنين... وهبني الله نعمتين عظيمتين يستحيل أن أفرّط بأي ٍ مهما كان السبب...
وليد الحبيب... و الثروة الضخمة...
و لم يبق أمامنا إلا أن نتم زواجنا و نبهج قلوب أهلنا و نواصل معا مشوار الحياة الزوجية السعيدة... بإذن الله
مرت أيام مذ وصلنا إلى المدينة الزراعية الشمالية... و بدأت بتنفيذ الخطط التي رسمتها خلال الأيام الماضية...
وظفت المزيد من العمّال من أجل العناية بالمزرعة و محصولها و نظّمت برنامجا خاصا للإشراف عليها
في كل صباح تقريبا كنت أتصل بمنزل أبي حسام و أتحدّث إلى رغد و أطمئن على أحوالها... و من خلال نبرة صوتها استنتج أنها مرتاحة و بخير...
و بالرغم من ذلك، كنتُ لا أتوقّف عن التفكير فيها ساعة واحدة...
أجرينا بعض الإصلاحات في المنزل الصغير و جددنا بعض الأثاث...
انشغلت كثيرا بأعمال متعددة، ما جعل الأيام تمضي... و الفراق يطول... و الشوق يزداد...
و بدأت أشعر بالحرج من اتصالي المتكرر لمنزل أبي حسام و طالبت رغد بأن تهاتفني كل يومين على الأقل، لكنها لم تكن تفعل إلا قليلا...
أما عن أروى فقد كانت مهووسة بفكرة الزواج التي ما فتئت هي و الخالة ليندا تلاحقاني بها حتى ضقت ذرعا...
و لمرة أخرى أصيبت الخالة بانتكاسة صحية و نقلناها للمستشفى... الأمر الذي أجل سفري لفترة أطول...
ذات يوم، اتصلت بمنزل أبي حسام بعد أن تملكتني الهواجس للحديث مع صغيرتي البعيدة...
إن شمسا تشرق و تغرب دون أن تريني إياها هي ليست شمسا... و إن قمرا يسهر في كبد السماء دون أن يعكس صورتها... هو ليس قمرا...
و إن يوما يمر ... دون أن اطمئن عليها... هو ليس محسوبا من أيام حياتي...
" مرحبا...أنا وليد"
" نعم عرفتك... مرحبا... لكن رغد ليست هنا الآن"
كان هذا حسام، و كان يتحدّث بضيق أشعرني بالخجل من نفسي...
" إلى أين ذهبت؟ "
" لزيارة بعض المعارف فهل تريد أن أبلغها شيئا ؟"
" أبلغها أنني انتظر اتصالها لو سمحت... و عذرا على الإزعاج"
و انتظرت طويلا حتى انتصف الليل، و لم تتصل... فبت ّ أبث ّ للقمر همّي... و أصبحت ّ أعرب للشمس عن نيّتي للذهاب إليها اليوم مهما كان...
نهضت عن فراشي باكرا و خرجت إلى المزرعة راغبا في استنشاق بعض الهواء المنعش... ذاك الذي يطرد من الصدر الهموم المكبوتة...
هناك... وجدت العم إلياس و أروى يحرثان الأرض... اقتربت منهما و هتفت محييا:
" صباح الخير"
التفتا إلي ّ باسمين و ردا التحية ... قلت مستغربا مستنكرا :
" ما الذي تفعلانه ! انتظرا حضور العمّال "
العم إلياس قال :
" في الحركة بركة يا بني "
" الوقت باكر... دعا مهمة حرث الأرض الشاقة عليهم "
و اقتربت من أروى أكثر...
ابتسمت لي و قالت :
" لا تظن يا وليد أنني سأتخلى عن هذه المزرعة يوما ! لقد ولدت مزارعة و سأعيش مزارعة و إن ملكت كنوز الأرض... "
و مدت ذراعيها إلى جانبيها مشيرة إلى ما حولها قائلة :
" هذه المزرعة هي... حياتي ! "
العم إلياس فرح بقولها و راح يدعو :
" بارك الله فيك يا بنيّتي ... و في ذريتك "
ثم وجه حديثه إلي قائلا :
" هذه الأرض عليها عشنا و من خيراتها كبرنا و لن نترك العمل فيها حتى يحول الموت دون ذلك "
لم أتعجّب كثيرا من كلام العم، فتعلّقه بالمزرعة أشبه بتعلّق السمكة بمياه البحر... أما أروى فعارض كلامها خططي المستقبلية...
قلت :
" أطال الله في عمرك يا عمّي "
قال متما :
" حتى أحمل أطفالكما فوق ذراعي ّ ... تزوجا و أفرحا قلوبنا عاجلا يا عزيزاي "
أروى ابتسمت بخجل، أما أنا فنظرت إلى السماء أراقب سرب عصافير يدور فوق رؤوسنا !
آه لو كنت أستطيع الطيران !
أروى كانت تريد العيش في المزرعة مع والدتها و خالها بقية العمر... أما أنا فقد كنت أخطط للعودة إلى المدينة الساحلية و تجديد منزلنا القديم و العيش فيه... قريبا من مصنع أروى و ممتلكاتها... حتى يتسنى لنا إدارة و مراقبة كل شيء...
و بدا أن الموضوع سيثير صداعا أنا في غنى تام عنه خصوصا و أنني لم أنم جيدا ليلة أمس لكثر ما فكرت في رغد...
قلت مخاطبا أروى و مغيرا منحى الحديث :
" سوف أذهب إلى المدينة الصناعية هذا اليوم... "
و لا أدري لم شعرت بأن جملتي أصابت أروى بخيبة الأمل !
~~~~~~~
نظل ساهرات حتى ساعة متأخرة من الليل، الأمر الذي يجعل نشاطنا و حيويتنا محدودين في النهار التالي...
أنا و ابنتا خالتي نهلة و سارة لا نجد ما نفعله إلا الحديث و مشاهدة التلفاز و قراءة المجلات!
" أوف ! أشعر بالضجر ! نهلة ما رأيك في الذهاب إلى السوق ؟ "
قلت و أنا أزيح المنشفة عن شعري بملل ...
تفكّر نهلة قليلا ثم تقول :
"في هذا الصباح؟؟...إمممم... حسنا... تبدو فكرة جميلة!! "
و تسارع سارة بالقول :
" سأذهب معكما "
و هذه الـ سارة تلازمنا ما لا يكاد يقل عن 24 ساعة في اليوم !
و لم تكد نهلة تنهي جملتها إلا و سارة قد ( طارت ) لتنفيذ الأوامر!
ضحكنا قليلا... ثم باشرت بتسريح شعري أمام المرآة... كنت قد أنهيت حمامي الصباحي قبل قليل و تركت قطرات الماء تنساب من شعري على ظهري بعفوية...
وقفت ابنة خالتي خلفي تراقبني...
" طال شعرك رغد... ألن تقصّيه ؟ "
و قد كنت معتادة على قص شعري كلما طال، فالشعر الطويل لا يروق لي و لا يناسب ملامح وجهي ! هكذا كانت دانة تقول دوما...
" لم يكن بإمكاني ذلك قبل الآن..."
و أضفت :
" آه ... لقد كنت حبيسة الحجاب طوال شهور "
و أنا أسترجع ذكريات عيشي في المزرعة تحت أنظار وليد و العجوز
لقد كان المنزل صغيرا و لم أكن استطيع التجوّل بأرجائه بحرية و لم أكن أغادر غرفة النوم إلا بحجابي و عباءتي ... و جواربي أيضا !
أما هنا... فأنا أتحرّك بحرية في الطابق العلوي بعيدا عن أعين حسام و أبيه...
أما عينا نهلة فلا تزالان تتفحصانني!
قالت :
" و يبدو أنك كذلك نحفت ِ بعض الشيء يا رغد ! أنظري... تظهر ندبتك و كأنها قد كبرت قليلا"
و هي تمسك بذراعي الأيسر مشيرة إلى الندبة القديمة التي تركها الجمر عليها عندما أحرقني قبل سنين...
" مع أنني كنت آكل جيدا في المزرعة ! "
" كيف كانت حياتك في المزرعة ؟ "
تنهّدت تنهيدة طويلة و رفعت رأسي إلى السقف... كم من الوقت مضى و أنا سجينة هناك !
و بالرغم من قربي من وليد، لم أكن أشعر إلا بالضيق من وجود الشقراء الدخيلة... و لم تكن الأيام تمر بسلام...
" آه يا نهلة... حياة بسيطة جدا... ليس فيها أي شيء... هم يعملون في المزرعة و أنا أرسمها!... كانت جميلة و لكن العيش فيها أشبه بالعيش في السجن "
و وصفت لها شيئا من أحوالي هناك و كيف أنني افتقدت الحرية حتى في أبسط الأشياء و عانيت من الغربة و بعض المشاكل مع أروى
و حالما جئت بذكر اسم هذه الأخيرة عبست ُ بوجهي !
لاحظت نهلة ذلك... ثم قالت :
"إنها جميلة جدا! كم هو محظوظ ابن عمّك ! "
و لا أدري إن قالت ذلك عفويا أو عمدا لإزعاجي ! رفعت فرشاة شعري أمام وجهها و هددتها بالضرب !
نهلة ضحكت و ابتعدت بمرح... أما أنا فتملكني الشرود و الحزن، و لما رأت ذلك نهلة أقبلت و أخذت تداعب خصلات شعري المبلل و تربت علي ّ و تقول :
" أنت ِ أيضا جميلة يا رغد... الأعمى من لا يلحظ ذلك !"
قلت :
" لكنها أجمل منّي بكثير... و عندما تتزين تصبح لوحة فنيّة مذهلة... لا يمكن المقارنة بيننا "
قالت:
" و لم أصلا المقارنة بينكما ؟ أنت رغد و هي أروى "
قلت بصوت منكسر :
" نعم... أنا رغد اليتيمة المعدومة... لا أم و لا أب و بيت و لا مال... و هي أروى الحسناء الثرية صاحبة أكبر ثروة في المدينة الساحلية و إحدى أجمل المزارع في المدينة الزراعية... من سيلتفت إلي إزاء ما لديها هي ؟؟ "
و رميت بالفرشاة جانبا في غضب...
نهلة نظرت إلى مطولا ثم قالت :
" و ماذا بعد ذلك؟ هل ستتوقفين عن حب ابن عمّك هذا ؟ "
أتوقف؟
و كأن الأمر بيدي... لا أستطيع ...
أغمضت عيني في إشارة منّي إلى العجز...
" إذن... ماذا ستفعلين؟ الأمر تعقد الآن و الرجل قد تزوج ! "
قلت بسرعة :
" لا لم يتزوج ... خطب فقط... و يمكن أن ينهي علاقته بالشقراء في أي وقت "
و لأن نظرات الاستنكار علت وجه نهلة أضفت :
" فأنا بعد أكثر من أربع سنوات من الخطوبة الحميمة انفصلت عن خطيبي "
نهلة هزت رأسها بأسى... ثم قالت :
" رغد... هل تعتقدين أن هذه الفكرة هي التي تدور برأس ابن عمّك؟ الرجل قد ارتبط بفتاة أخرى و ربما هو يحبها و يعد للزواج منها ! "
قلت بغضب:
" و ماذا عنّي أنا ؟؟ "
نظرت إلى بتمعن و قالت و هي تشير بسبابتها اليمنى :
" أنت أيضا... ستتزوجين رجلا يحبّك و يحترمك كثيرا... وينتظر منك الإشارة "
و هنا أقبلت سارة تقول :
" حسام موافق ! "
اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت...
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك...!
اشتريت العديد من الأشياء...
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات ... و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين... و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي... كبير و مغر ٍ...
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها... و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت...
و حتى بقايا رماد البيت المحروق... لم يكن لي نصيب في ورثها...
بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف
فيما بعد... قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل...
أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب... و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..
كنت قد اخترت من بين ملابسي الجديدة جلابية زرقاء فضفاضة طويلة الكمين، و وشاحا طويلا داكن اللون، و خاتما فيروزيا براقا لأقضي بهم نزهتي داخل حديقة المنزل...
الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة... الشمس قد احمر ذيلها في الأفق... و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين... بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب... مضفية عليه خضرة نضرة...
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية... إنها بدايات الشتاء...
فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث... و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة... و غاية في الحيوية و المرح !
~~~~~~~~~~
عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي...
تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام...
دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه...
هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر...
على بساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة...
جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !
غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية... و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي...
" تفضّل يا وليد... أهلا بك... "
قال حسام :
" تعال شاركنا "
و هو يحثّني على السير نحو البساط... و أضاف :
" كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا "
وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :
" كلا... معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي"
أم حسام قالت مباشرة :
" أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك... تفضّل بني "
" شكرا لك خالتي أم حسام... أدام الله عزك "
كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل...
و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد... و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها... و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !
يا إلهي كم اشتقت إليها !... لا أصدق أنها أمامي أخيرا...
" كيف حالك يا رغد ؟ "
التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!
هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟
ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :
" بخير "
لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟
" كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ "
و ابتسمت ابتسامة أكبر... و قالت :
" بخير ! "
بخير ... بخير !
كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب...
قلت :
" الحمد لله... "
قالت أم حسام :
" تفضّل بالجلوس "
قال حسام :
" سأصطحبه إلى المجلس ... "
و خاطبني :
" تفضّل وليد "
لم أجد بدا من مرافقته ... فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !
في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار ... و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة...
و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم...
الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر...
و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية...
و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم...
فيما بعد... خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد...
و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز...
حسام هتف سائلا :
" من فاقكن ذكاء ؟ "
أجابت شقيقته الصغرى :
" رغد ! إنها ذكية جدا "
ضحك حسام و قال :
" استعيري شيئا منها ! "
و انطلقت ضحكة عفوية من رغد...
حسام قال بمرح :
"... سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي "
قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :
" قبلت التحدّي ! "
حسام ضحك و قال بإصرار :
" سترين أنا عبقريتي... انتظري فقط ! "
و ضحكت رغد بمرح...
كل هذا و أنا... واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا...
~~~~~~~~
" فيم تحدّقين ؟ "
سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة... التي أغلقها حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل...
قلت :
" هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من الأقزام السبعة ! "
تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !
قلت:
" أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته... يستحيل على هذا الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! "
و أخذت سارة تضحك بشدّة !
لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!
وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء العليل... شاعرة بسعادة تغمر قلبي... و برغبة هوسية في معانقة الهواء!
أخذت ُ أدندن بمرح... و أمشي حافية على العشب بخفة... كعصفور على وشك الطيران...
نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت إليها و وجدتها تراقبني باهتمام...
إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي... و متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !
" رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ "
قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها خشنا، فيما تقطب حاجبيها لتقلّد وليد !
و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا... و تثير عجبي!
إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا الساعة !
قلت موضحة :
" إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في ذلك ؟ "
و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :
" رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي "
و سارة لا تزال تضحك !
قلت :
" و لأني يتيمة... فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي اعتباره أبي ! "
و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !
قلت و أنا أولي هاربة :
" أوه... خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا تطاقان ! "
لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا...
أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة... يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له
آه لو تعلمون...
كم في البعد من شوق و كم في القرب من لهفة...
كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟
كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟
و كيف سأتحمّل رحيلك... و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟
بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه...
كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم...
و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل... بينما أنا أراقب عن كثب... تحركات وليد !
كان وليد غاية في الأدب و اللباقة... كان قليل الحديث أو الضحك... مغايرا لحسام المزوح الانفعالي...
و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !
بإدراك أو بدونه... كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه... بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و الهواء يعبث بها ...
" ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ "
قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر... فهي تعرف جيدا ما الذي يثير اهتمامي في قلب الحديقة !
قلت بتحد :
" بابا وليد ! "
كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و كتمت ضحكتها
" اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! "
أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم قالت :
" مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! "
و فتحت ذراعيها أقصاهما... كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و شأني ... هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا... فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و يهتف :
" رغد... تعالي "
تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني...
قال حسام :
" وليد يرغب في الحديث معك "
عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة...
نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :
" هيا يا صغيرتي المطيعة ... اذهبي لأبيك "
و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد في نظراتها و سألتني:
" ما الأمر ؟؟ "
قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :
" لا بد أنه سيغادر الآن... "
نظرت إلي نهلة باستغراب... بالطبع سيغادر... و جميعنا نعلم أنه سيغادر!... ما الجديد في الأمر...؟؟
قلت :
" لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة... لا أحتمل فراقه... أريده أن يبقى معي... و لي وحدي... أتفهمين ؟؟ "
في وسط الحديقة... على العشب المبلل برذاذ الماء... و بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه... و تحت نور باهت منبعث من القمر المتربع بغرور على عرش السماء... وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي...
لأصف لكم مدى لهفتي إليه... سأحتاج وقتا طويلا... و لكن الفرصة ضئيلة أمامي... و العد التنازلي قد بدأ...
حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث بمفردنا... و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه ...؟
نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات خفيفة لكل ما تصادفه
وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :
" يبدو أن الريح ستشتد... إنه إنذار باقتراب الشتاء ! "
" نعم... "
" المكان هنا رائع... "
و هو يشير إلى الحديقة من حوله...
" أجل... "
و نظر إلي و قال :
" و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا... "
هززت رأسي إيجابا...
قال بصوت دافئ حنون :
" هل أنتِ ... مرتاحة ؟ "
قلت بسرعة :
" بالطبع... "
ابتسم برضا ... ثم قال :
" يسرني سماع ذلك... الحمد لله "
هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب... ثم سمعته يقول :
" ألا... تريدين... العودة إلى المزرعة ؟ "
رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي...
وليد قال بصوت خافت :
" لا تقلقي... فأنا لن أجبرك على الذهاب معي... "
ثم أضاف :
" أريد راحتك و سعادتك يا رغد... و سأنفذ ما ترغبين به أنت ِ مهما كان... "
قلت موضحة :
" أنا مرتاحة هنا بين أهلي... "
و كأن الجملة جرحته ... فتكلّم بألم :
" أنا أيضا أهلك يا رغد... "
تداركت مصححة :
" نعم يا وليد و لكن ... و لكن ... "
و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة ...
أتممت :
" ولكنني... سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك... لن يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها... و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة ..."
نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :
" تعنين أروى ...؟ "
فلم أجب، فقال :
" إنها تحبك و كذلك الخالة... و هما تبعثان إليك بالتحيات "
قلت :
" سلّمهما الله... أنا لا أنكر جميلهما و العجوز علي... و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت... لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و معدومة... و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال... "
و هنا توتر وليد و قال باستنكار :
" لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ "
قلت مصرة :
" هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا... أنا في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين... و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب غير خالتي "
و ربما أثرت جملتي به كثيرا... فهو قد لاذ بالصمت لبعض الوقت... ثم نطق أخيرا:
" على كل... لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة بأمور مزعجة... "
ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:
" المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية... "
ابتسمت ممتنة...
قال :
" حسنا... يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر... "
تسارعت ضربات قلبي أكثر... لم أكن أريده أن يرحل... ليته يبقى معنا ليلة واحدة...أرجوك لا تذهب يا وليد...
قال :
" أتأمرين بأي شيء ؟ "
ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !
قلت :
" شكرا لك "
كرر سؤاله :
" ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي شيء؟؟ "
" كلا... "
" لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي... أرجوك رغد... "
ابتسمت و قلت :
" شكرا لك... "
وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !
كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !
و للعجب... وليد قدّم هاتفه إلي ّ !
" ابقي هذا معك... اتصلي بي في المزرعة متى احتجت لأي شيء..."
نظرت إليه باندهاش فقال :
" هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك كلما لزم الأمر دون حرج"
بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة ...
" و ... لكن ... !! "
صدر التلكين منّي فقال وليد :
" لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا... يمكنني الاستغناء عنه الآن ... خذيه "
و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة يدي بتمعن !
قال :
" لا تنسي... اتصلي بي في أي وقت... "
" حسنا... شكرا لك "
وليد ابتسم بارتياح... ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :
" سأنصرف الآن و لكن... "
و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود قوله... تكلمت أنا مشجعة :
" لكن ماذا وليد ؟؟ "
أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء القمر و المصابيح الليلية الباهتة...
وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم إلى العشب... و قال:
" ارتدي عباءتك حينما يكون حسام أو أبوه حاضرين "
ذهلت... و كاد قلبي يتوقف... و حملقت في وليد باندهاش ...
وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :
" و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما... "
الدماء تفجرت في وجهي ... طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في حرج شديد... توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و وشاحي الطويل... في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي اليمنى ...
توالت الأيام، و الأسابيع ... و أنا منغمس في العمل ...
و اقتضى مني الأمر السفر إلى المدينة الساحلية من جديد... و لأن أروى لم تشأ مرافقتي، لم استطع أخذ رغد معي و السفر بمفردنا... و رغم أن الأمر كان غاية في الصعوبة إلا أنني دست على مشاعري و قلقي و تركت رغد دون رعايتي و سافرت بعيدا...
قبل سفري اتصلت بشقيقي سامر و طلبت منه أن يبقى على مقربة و اتصال دائمين من رغد و قد تعذّر بانشغاله في عمله و لكنه وعد بفعل ما يمكن...
أما أنا فقد اقتنيت هاتفا محمولا جديدا لرغد أعطيتها إياه حين مررت منها قبل سفري و استعدت هاتفي، و طلبت منها أن تبقى على اتصال بي شبه يومي...
و أنا أعيش في المنزل الكبير هناك في المدينة الساحلية، شعرت بوحدة قاتلة و تقلبت علي الكثير من المواجع... و صممت على أن أعيد لهذا البيت الحياة و النشاط عما قريب...
حصلت على إذن من شقيقي ّ للتصرف المطلق بالمنزل، و الذي أصبح ملكا مشتركا لنا نحن الثلاثة، بعد وفاة والدي رحمه الله...
وكلت عمّال شركة متخصصة لتنظيفه كليا، و من ثم أعدت صبغه و جددت أثاثه و أجريت الكثير من التعديلات فيه... غير أنني تركت غرف نوم والديّ – رحمهما الله - و سامر و دانة و كذلك الحديقة الخلفية كما هي... و ركنت ُ في الحديقة بعض الأشياء القديمة إلى جوار أدوات الشواء... التي تعرفون...
كنت معتزما على الانتقال للعيش الدائم في المنزل، و إليه سأضم رغد و سامر... و أروى مستقبلا...
و حين تعود دانة من الخارج، فلا أجمل من أن تنضم إلينا...
كنت أريد أن ألملم شمل العائلة المشتتة... و أن نعود للحياة معا كما كنا قبل أن تفرّقنا الحرب و ظروفها التعيسة...
و لأنني أصبحت أدير أحد أكبر و أهم مصانع المدينة، فإن نفوذي قد اتسع كثيرا و سلطتي قد ارتفعت لحد كبير...
و مع ذلك... لم تخل ُ المسألة من الهمز و اللمز... و النظرات الماكرة و الهمسات الغادرة ممن عرفوا بأنني قاتل عمّار... و استقال السيد أسامة من منصبة للأسف... إثر هذا الخبر... ولاء ً لصديقه الراحل عاطف... و انتشرت شائعات مختلفة حولي و حول زواجي من أروى... و وجدت نفسي أكثر وحدة و حاجة للدعم المعنوي و الفعلي ممن أثق بهم...
ألححت على سامر لترك عمله في تلك المدينة و عرضت عليه العمل معي في المصنع، و هيّأت ُ له منصبا مرموقا مغريا و لكن سامر كان مترددا جدا
أعربت له عن رغبتي في لم شمل العائلة من جديد... شرحت له بتفصيل دقيق ظروف عملي الحالي و كيف أن الحياة تبدلت معي كثيرا... و أنني الآن محتاج إليه أكثر... غير أن سامر على ما بدا منه كان لا يزال في حداد على والدي ّ لم يفق منه...
و بالنسبة لرغد فقد خططت لإلحاقها بإحدى الجامعات و خصصت ُ جزء ً من دخلي الخاص من إدارة المصنع لتغطية تكاليف الدراسة...
أما المنزل المحترق، فقد أبقيناه على حاله حتى إشعار آخر... و تنازلت عن نصيبي فيه وسجلته باسمها أيضا...
أما عن أوضاع البلاد... فلا تزال الفوضى تعم العديد من المدن و تقتحم المزيد... و السجون قد امتلأت و فاضت بالمعتقلين عدلا أو ظلما...
عندما عدت ُ إلى المدينة الصناعية في المرة التالية، كانت رغد خارج المنزل و استقبلتني أم حسام استقبالا كريما
رغد كانت قد أعلمتني عن رغبتها في قضاء بعض المشاوير الضرورية ذلك اليوم – وهي تعلمني عن تحركاتها دائما، و قد لاحظت ُ تكرر ذلك مؤخرا - و رغم انزعاجي من الأمر تركتها تخرج مع ابن خالتها مطمئنا إلى وجود ابنتي خالتها معها
و عندما علمت بعد ذلك أنهما لم ترافقاها أصبت بنوبة غضب ...
" و هل هي معتادة على أن يوصلها حسام إلى حيث تريد، بمفردهما ؟"
وجهت سؤالي المستنكر إلى أم حسام ففهمت استهجاني و أجابت:
" في مرات قليلة ... "
قلت حانقا :
" و لكن لماذا لم ترافقها إحدى ابنتيك يا خالتي ؟ "
قالت:
" نهلة منهمكة في تعليم سارة دروسها الصعبة... و لكن لم كل هذا الانزعاج يا بني؟ إنه ابن خالتها و أقرب الناس إليها "
و لم تعجبني هذه الكلمة... فالتزمت الصمت.
و يبدو أن أم حسام وجدتها فرصة ملائمة لطرح موضوع ما فتئ يشغل تفكيرها و ربما تفكيرنا جميعا ...
" وليد يا بني... ألا ترى أن الأوان قد حان... حتى نربط بينهما شرعيا ؟ "
كنت أخشى أن تفتح الموضوع خصوصا و أنا في وضعي الراهن...
قلت مباشرة :
" إنه ليس بالوقت المناسب "
قالت :
" لماذا ؟ يهديك الله ... أليس ذلك أفضل لنا جميعا؟ ها هما يعيشان في بيت واحد و تعرف كيف هي الأمور... "
قلت بغضب :
" كلا يا خالتي. يستحيل أن أزوّج رغد بالطريقة التي زوّجها والدي بها... لن أجعلها ضحية للأمر المفروض ثانية... "
أم حسام قالت معترضة :
" أي ضحية يا بني ؟ إنه زواج مقدّس... و حسام يلح عليّ لعرض الأمر لكنني رأيت تأجيله لحين عودتك... بصفتك الوصي الرسمي عليها "
نفذ صبري فقلت بفظاظة :
" أرجوك يا أم حسام... أجلي الموضوع لما بعد "
" لأي وقت ؟؟ "
قلت :
" على الأقل ... إلى أن تحصل على شهادة جامعية و تكبر بضع سنين... "
تعجبت أم حسام... لكنني تابعت :
" و يكبر حسام و يصبح رجلا راشدا مسؤولا "
" و هل تراه صبيا الآن !؟ "
لم أتردد في الإجابة ... قلت مباشرة :
" نعم ! "
و لأنها استاءت و هزت رأسها استنكارا أضفت :
" يا خالتي... أنا اعتبر الاثنين مجرد مراهقين... فالفرق بينهما لا يبلغ العامين... و إذا كان في وجودها هنا حرج على أحد فأنا سآخذها معي و أدبر أمورها بشكل أو بآخر... "
عند هذا الحد انتهى حوارنا إذ أن البوابة قد فتحت و أقبل الاثنان يسيران جنبا إلى جنب...
الناظر إليهما يفكر في أنهما خطيبان منسجمان متلائمان مع بعضهما البعض... و كان يبدو عليهما المرح و البسمة لم تفارق شفاههما منذ أطلا من البوابة...
هذا المنظر أوجعني كثيرا... لو تعلمون...
أقبل الاثنان يرحبان بي بمرح... و كان جليا عليهما السرور... و لا أظن أن السرور كان بسبب قدومي... بل بسبب آخر أجهله للأسف...
رغد كانت مبتهجة جدا... و كانت فترة طويلة قد مضت مذ قابلتها آخر مرة... و فيما أنا هناك أتحرق شوقا إليها و قلقا عليها، تقضي هي الوقت في المرح مع ابن خالتها هذا...
و شتان بين البهجة التي أراها منفتحة على وجهها الآن و بين الكآبة و الضيق اللذين لطالما رافقاها و هي تحت رعايتي... الشهور الماضية...
" تبدين في حالة ممتازة... واضح أن خالتك و عائلتها يعتنون بك جيدا "
قلت متظاهرا بالبرود و العدم الاكتراث
ابتسمت هي و قالت :
" بالطبع "
أما حسام فضحك و قال :
" و ندللها كثيرا و نضع رغباتها نصب أعيننا ! إنها سيدة هذا المنزل ! "
رغد نظرت إليه و قالت بمرح :
" لا تبالغ ! "
قال مؤكدا :
" بل أنت ِ كذلك و ستظلين دائما كذلك ! "
فيما بعد... تناولت القهوة مع حسام في المجلس... و رأيتها فرصة متاحة أمامي فسألته عن خططه المستقبلية و تطلعاته للغد... فوجدته للحق شابا طموحا متحمسا متفائلا بالرغم من طبعه المرح....
كنت حريصا على أن أعرف... إلى أي مدى كانت فكرة الزواج من رغد... لا تزال تسكن رأسه...
سألته :
" و ... ماذا بشأن الزواج ؟ "
حسام ابتسم و قال :
" إنه أول ما أطمح إليه... و آمل تحقيقه "
قلت :
" و ... هل أنت مستعد له ؟ "
تهللت أسارير حسام و كأنه فهم منّي إشارة إلى موضوعه القديم... فقال فرحا:
" للخطوبة على الأقل... لا شيء يمنع ذلك "
و انتظر منّي التأييد أو حتى الاعتراض، غير أنني بقيت صامتا دون أي تعليق... مما أثار فضول حسام الملح و دفعه للسؤال المباشر:
" ألديك مانع ؟ "
قلت متظاهرا بعدم الاكتراث :
" عن أي شيء؟ "
" عن... الخطوبة... في الوقت الراهن...؟ "
إذن... فأنت متلهّف للزواج من ابنة عمّي ؟؟
تجاهلت سؤاله وأنا أحترق في داخلي... و أفكر في الرسالة الهامة التي يجب أن تصل إلى هذا الشاب المندفع حتى يتوقف عن التفكير برغد...
حسام لما رأى صمتي قد طال عاد يسأل :
" هل توافق على خطوبتنا الآن ؟ "
نظرت إليه بحدقتين ضيقتين ضيق صدري المثقل بشتى الهموم... ثم هززت رأسي اعتراضا...
شيء من الحيرة و الضيق علا وجه حسام الذي قال:
" لماذا؟ "
الجد طغى على وجهي و أنا أقول أخيرا :
" اسمعني يا حسام... فكرة الزواج التي تدور في رأسك هذه استبعدها نهائيا خلال السنوات المقبلة... لأنني لن أوافق على تزويج ابنة عمي قبل أن ألحقها بإحدى الجامعات... و تحصل على شهادة جامعية... لا تطرح الموضوع ثانية... قبل ذلك... هل هذا واضح ؟؟ "
سألته و نحن نسير باتجاه البوابة و هو في طريقه للمغادرة بعد زيارته القصيرة لنا... بالرغم من طول الزمن الذي قضاه بعيدا عني...
وليد كان منزعجا جدا أو ربما متعبا من السفر... لم يكن على سجيته هذا اليوم...
" إنني مرهق جدا و بحاجة للراحة الآن... لكني سأعود قريبا يا رغد "
قلت بشيء من التردد :
" لم لا تقضي الليلة هنا ؟ سيرحب الجميع بذلك "
" لا شك عندي في كرم العائلة و لكني لا أريد أن أثقل عليهم ... ألا يكفي أنهم يعتنون بك منذ زمن ؟؟ "
" لا تظن أن العناية بي تضايقهم يا وليد... إنهم يحبونني كثيرا "
" أعر ف ذلك "
وليد ألقى علي نظرة مبهمة المعنى ثم أضاف :
" و أنت ِ مرتاحة لوجودك بينهم ... "
قلت متأكدة :
" لأقصى حد "
وليد تنهّد بضيق و قال :
" لكن الفترة طالت يا رغد... أما اكتفيت ِ ؟؟ "
نظرت إليه بتعجب ... جاهلة ما المقصود من كلامه... فأوضح :
" تعرفين أنني أبقيتك هنا بناء على رغبتك و إصرارك... من أجل راحتك أنتِ ... لكنني غير مرتاح لهذا يا رغد... "
و بدا عليه الأسى و قلة الحيلة...
" لماذا ؟ "
سألته فأجاب :
" أنا لا أشعر بالراحة عندما لا تكونين تحت رعايتي مباشرة... إنني المسؤول عنك و أريد أن أتحمّل مسؤوليتي كاملة... يجب أن تكوني معي أنا... ولي أمرك "
قلت مباشرة :
" لكنني لا أريد العودة إلى المزرعة... أرجوك يا وليد لا ترغمني على ذلك "
و يظهر أن جملتي هذه أزعجته بالقدر الذي جعله يتوقف بعصبية يزداد ضيقا و يقول :
" أنا أرغمك ؟ رغد ماذا تظنينني؟ عندما أخذتك للمزرعة لم يكن لدي المال لأوفر لك سكنا يناسبك... و عندما أخذتك للمدينة الساحلية لم أكن أعلم كم من الوقت سأمضي هناك و لم أشأ تركك بعيدة عني... و ها أنا قد تركتك بعيدة كل هذا الوقت تنفيذا لرغبتك أنت... و تقديرا لشعورك أنت ِ ... فهل لا قدرت شعوري أنا بالمسؤولية و لو لبعض الوقت ؟؟ "
الطريقة التي كان يخاطبني بها دقت في رأسي أجراس التنبيه... وليد لم يتحدّث معي كهذا مسبقا... بقيت كلماته ترن في رأسي لفترة
بعدها قلت برجاء :
" لا أريد العودة إلى المزرعة ... أرجوك... افهمني "
تنهد وليد تنهيدة تعب و قال :
" لن آخذك إليها ما لم ترغبي في ذلك... و لكن... عندما أعود إلى المدينة الساحلية... يجب أن تأتي معي "
نظرت إلى الأرض مذعنة ... دون أن أتحدّث...
" اتفقنا ؟ "
قلت باستسلام :
" نعم "
تنهّد وليد بارتياح هذه المرة... و قال :
" هذا جيّد "
ألقيت نظرة عليه فرأيت في عينيه بعض الامتنان... لكن التعب كان طاغ ٍ على قسمات وجهه... و مزيج من الضيق و القلق كان يتسلل من بؤبؤيه...
تنفس بعمق ثم قال :
" و مرة أخرى يا رغد... إذا احتجت ِ لأي شيء فأبلغيني أنا... و ... رجاء يا رغد... رجاء... لا تخرجي ثانية مع حسام بمفردكما "
أثارتني الجملة و تعلّقت عيناي بعينيه في استغراب... ما الذي يظنه وليد و ما الذي يفكر به ؟؟
قلت مبررة :
" لقد أوصلني إلى الصالون و... "
بترت جملتي ثم قلت :
" لماذا ؟ "
وليد قال بضيق شديد :
" أرجوك يا رغد... حتى و إن كان ابن خالتك المقرّب... يبقى رجلا غير محرم لك... لا أريدك أن تتحدثي أو تضحكي أو تخرجي معه بهذه الحرية... "
كنت متعبا لذا فإني فور وصولي إلى المزرعة أويت للفراش...
و حقيقة ً منعتني صورة رغد و حسام و هما يقفان جنبا إلى جنب مبتسمين... من النوم المريح
لم يعد باستطاعتي أن أتحمّل فكرة بقائها معه في بيت واحد... أكثر من هذا...
في الصباح التالي أخبرت أروى عن تفاصيل سفري و ما أنجزته في العمل و المنزل طرحت عليها فكرة الانتقال للعيش في منزلنا الكبير لنبقى على مقربة من أملاكها... خصوصا بعد استقالة السيد أسامة...
" لا أحبذ ذلك يا وليد... أحب هذه المزرعة و أريد العيش فيها للأبد "
" و لكن يا أروى... سيشق علي أمر رعاية و إدارة أملاكك هكذا... لا أجد من يمكنني الاعتماد عليه الآن "
أروى فكرت قليلا ثم قالت :
" نسافر أنا و أنت ؟ "
قلت :
" و رغد و الخالة أيضا "
ردت بسرعة :
" أمي لن تأتي معنا... لن توافق على ذلك... لا تريد ترك المزرعة أو خالي هكذا "
تنهّدت في حيرة من أمري... كيف لي أن ألملم شمل العائلة و أضم أهلي جميعا في منزل واحد ؟؟
قالت أروى بعد تفكير قصير :
" لكن إذا تزوجنا يا وليد... فسيسهل الأمر "
نظرت إليها فرأيت الفكرة تنبعث من عينيها بقوة... و قد كان الجميع من حولي يلح علي بالزواج و يراه الوقت المناسب... و ربما كان بالفعل الوقت الناسب عند كل شيء... إلا قلبي...
قلت :
" لا يمكننا أن نتزوج الآن يا أروى "
" لماذا يا وليد ؟ عـُد... كم من الشهور مضت... "
قلت بضيق :
" أعرف ... لكني سبق و أن أخبرتك بأنني لن أتزوج قبل أن أزوّج رغد "
قالت أروى :
" ماذا يمنعك من تزويجها الآن ؟ ألم يعد ابن خالتها يرغب بذلك ؟ "
و كأنها كانت الشرارة التي أشعلت البنزين ! لا أنقصك ِ أنت ِ أيضا يا أروى...
قلت بعصبية :
" أروى أرجوك... لا تناقشي هذا الأمر معي مجددا... فهو لا يعنيك "
و يبدو أنني كنت قاسيا إذ أن أروى أشاحت بوجهها في حزن... شعرت بالندم فقلت مسترضيا:
" دعيني أدبّر أمور الصغيرة بنفسي... إنها تحت وصايتي أنا و لا يمكنني أن أولي مسؤوليتها لأي كان قبل بضع سنين..."
أروى استدارت إلي و قالت :
" ألست تبالغ يا وليد؟ إنها امرأة بالغة كما ترى و ليست طفلة... فلماذا تصر على اعتبارها صغيرة لهذا الحد؟ "
نظرت إليها بعمق و لا أدري إن كنت أخاطبها أم أخاطب نفسي... أم أخاطب رغد... أم أخاطب حسام ...
أمام مرآي صورة رغد و هي تسير جوار ابن خالتها و كأنها أصبحت شيئا يخصّه...
هل أتنازل عنها بهذه السهولة ؟؟
قلت :
" أنت لا تعرفين شيئا يا أروى... حاولي أن تفهميني ... "
و أطلقت تنهيدة أسى و تابعت :
" رغد هذه... طفلتي منذ سنين... لقد ربيتها على ذراعي... "
رفعت ذراعي في الهواء قليلا...
" حملتها بيدي هاتين و هي طفلة صغيرة... "
و ضممت ذراعي إلى صدري ...
" و نوّمتها في حضني هاهنا... "
و أغمضت عيني ّ ...
" لسبع سنين متواصلة... هنا في حضني... أقرب إلي من أي شيء آخر... "
و أحسست بحرارة في جفوني... أظن أن دموعا حزينة مكبوتة كانت تنذر بالانهمار...
إنه ذلك المنظر... يصهر دموعي...
كيف تميلين يا رغد إلى رجل غيري؟ كيف تفسحين المجال لحسام لأن يفكر بالزواج منك؟ كيف تسمحين له بأن يقترب منك؟ و كيف تريدين منّي تركك ِ معه و أنا أراه يوشك على الاستحواذ عليك؟ كلا ... لن أسمح لك يا رغد ... بأن تكوني لغيري...
فتحت عيني و أنا أحدّق في اللاشيء... من ذكريات الماضي المدفونة في أعماق صدري ...
" وليد ! "
انتبهت لصوت أروى فنظرت إليها بألم ...
" ماذا دهاك ؟؟ "
فلا بد أنها لحظت شرودي و حزني... و لو أنها قلبت جفوني لرأت ذلك المنظر مطبوعا عليها...
قلت :
" لا يمكنني التخلي عن رغد بهذه السهولة يا أروى... و لتعلمي ... أنها ستظل أمانة مربوطة في عنقي... و صغيرة أظللها تحت جناحي ّ ... و تابعة مقترنة بوليد حتى الموت... "
~~~~~~~
" هذه أوامر بابا وليد ! "
قلت ذلك و أنا أعتذر عن الذهاب معها إلى الصالة و مشاركة بقية أفراد العائلة الجلسة و الحديث...
نهلة تأملتني باستنكار و قالت :
" و هل طلب منك ألا تخرجي من الغرفة ؟ "
قلت :
" لا . لكنه نهاني عن الحديث أو الضحك مع أو أمام والدك و شقيقك ! "
نهلة ضحكت بسخرية ثم قالت :
" و هل يخشى عليك من أبي ؟؟ بربّك إنه في عمر والدك ! أما حسام فهو حسام ! ما الذي جد في الأمر ؟؟ "
قلت بإصرار :
" لن آتي معك يعني لن آتي معك ! "
وضعت نهلة يديها على خصريها و تأففت !
" ممنوع لبس الحلي... ممنوع لبس الأوشحة الملونة... ممنوع خلع العباءة... ممنوع الخروج مع حسام ... ممنوع الضحك... ممنوع الكلام! ثم ماذا يا رغد؟ هل سيمنعك من التنفس أيضا ؟ "
نظرت إلى السقف متجاهلة تعليقها... فعادت تقول:
" لماذا يفعل ذلك ؟ "
لم تفارق عيناي السقف...
قالت بمكر :
" يغار عليك ِ ؟ "
نظرت إليها بسرعة ثم قلت :
" أي غيرة ؟ إنه مسألة آداب و حدود شرعية ! ابن عمّي ملتزم جدا "
ابتسمت هي بمكر و كأن كلامي يناقض بعضه البعض... و قالت :
" ألم يكن هو بنفسه يتحدث معك و يضحك و يصطحبك وحدكما إلى أي مكان؟ أنت من كان يخبرني بذلك ! "
علتني حمرة بسيطة فقالت نهلة :
" إنه يغار عليك ِ ! "
قلت معترضة – و إن تمنّيت لو كان كلامها صحيحا :
" أوه أنت ِ لا تفهمين شيئا ! إنه يعاملني كابنته ! لا يرى في ّ إلا طفلة صغيرة بحاجة للرعاية و النصح .. أما حسام ... فتعرفين ! "
رمتني نهلة بنظرة خبيثة ذات مغزى من طرف عينيها ثم غادرت الغرفة تاركة إياي في حمرتي و أمنيتي الوهمية...
حتى و لو شعر بالغيرة علي فهذا من ضمن شعوره بالمسؤولية نحوي، و ليس بالحب...
و راودتني آنذاك فكرة بأن أتصل به ! لم يكن لدي أي حاجة لذلك غير أنني رغبت في الحديث معه و الإحساس بقربه... و الاطمئنان عليه...
تناولت الهاتف المحمول الذي أهداني إياه قبل فترة و اتصلت بهاتفه...
" مرحبا "
أتعرفون صوت من كان؟؟ إنها أروى !
للوهلة الأولى كدت أنهي المكالمة غير أنني سيطرت على نفسي و تكلّمت :
" مرحبا أروى "
" كيف حالك يا رغد ؟ "
" أنا بخير "
" مضت فترة طويلة ... ! "
قلت في نفسي : ( لا أظنك اشتقت ِ إلي ! )
" نعم... كيف الخالة ؟ "
" بخير و الحمد لله "
" أيمكنني التحدث إلى وليد ؟ "
سألتها مباشرة دون المماطلة في الحديث معها... فأجابت :
" إنه نائم الآن... "
" نائم ؟ في هذا الوقت ؟ "
و قد كانت السادسة مساء
" نعم. شعر بالتعب ثم خلد للنوم... هل تريدينه في أمر ضروري الآن ؟ "
قلت :
" كلا كلا... لكن هل هو بخير ؟ "
فقد أقلقتني جملتها الأخيرة...
" نعم، كل ما هنالك أنه مجهد من العمل و السفر و كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه...المزرعة...المعهد...المصنع...المنزل...و أنا و أنت ِ ! "
أنا و أنت ِ؟؟ ما الذي قصدته أروى ؟
هل تريد القول ... أنني أشكل عبئا إضافيا على وليد؟؟
إنني اخترت البقاء في بيت خالتي لأخلصه من مشاكلي و أتخلص من مشاحناتي مع أروى...
قلت بتردد :
" هل اشتكى من شيء ؟ "
قالت :
" وليد لا يشتكي... إنه يحمل الهم على صدره دون الشكوى... يريد أن نستقر في حياتنا لولا أن الظروف تحول دون ذلك "
قلت بتخوف :
" تستقران يعني... تتزوجان ؟ "
أجابت أروى :
" نعم... نخطط للزواج و من ثم السفر للاستقرار في المدينة الساحلية حيث أملاكي... لكن... سيشق على وليد رعايتك عن كل ذلك البعد "
و صمتت قليلا ثم تابعت :
" إنه لا يريد أن نتزوّج قبل أن تتزوجي أنت ِ يا رغد... حتى ينقل ولاية أمرك و مسؤوليتك لرجل آخر... "
ربما لم أدرك أن الرسالة التي كانت أروى تود إيصالها إلي هي : ( زولي عن عاتق وليد ) إلا بعد تفكير عميق أسود...
كنت أدرك أنني أشكل عبئا إضافيا على أكتاف الجميع... و أن رحيل والدي عني تركني عالة على الغير... لكني لم أدرك إلى أي حد قد أثقلت كاهل ابن عمّي حتى هذا اليوم... و لم أدرك أنني كنت العقبة في سبيل زواجه و استقراره مع الحسناء بهذا الشكل...
شعرت بالذل و الهوان بعد مكالمتي القصيرة مع أروى... و شعرت بألم شديد في صدري... و بالندم على كل ما سببته لوليد من تعاسة بسبب وجودي في حياته و تحت مسؤوليته
و تذكرت الضيق الذي كان يعيشه أيام سفر والدي إلى الحج... حينما اضطر لرعايتنا أنا و دانة... و نفاذ صبره في انتظار عودتهما... و هما للأسف لم يعودا
و لأشد الأسف... لن يعودا...
و تذكرت لقائي الأخير به و كيف بدا مرهقا ضجرا... و كأن جبلا حديديا يقف على كتفيه... و كيف أنه غادر عاجلا... ناشدا الراحة...
تريد أن تتزوج يا وليد؟
تريد أن تتخلص مني؟؟
حسنا
سأريحك من همّي
و ليفعل كل منا ما يريد !
بعد ذلك انضممت إلى أفراد عائلة خالتي و أخذت أشاركهم الأحاديث و الضحك ضاربة بعرض الحائط أي توصيات من وليد... !
مرت بضعة أيام قاطعت فيها وليد و أبقيت هاتفي المحمول مغلقا و تهربت من اتصالاته بهاتف المنزل... و لم ألتزم بلبس العباءة داخل المنزل كما طلب منّي ، بل اكتفيت بالأوشحة الطويلة الساترة كما و أوصلني حسام مرتين أو ثلاث بمفردنا إلى أماكن متفرقة...و عمدت مؤخرا إلى التلميح له عن قبولي فكرة الزواج منه... مبدئيا
حسام كان مسرورا جدا و يكاد يطير بي فرحا... و عاملني بلطف مضاعف و اهتمام مكثف بعد ذلك...
كنت أعرف أنه يحبني كثيرا... و مندفع بعواطفه تجاهي بكل صدق و إخلاص... و أنه ينتظر مني الإشارة حتى يتحول مشروع خطبتنا المستقبلي إلى حاضر و واقع...
و هو واقع... لا مفر لي منه... بطبيعة الحال...
علمت من حسام أنه فتح الموضوع مجددا أمام وليد في زيارته الأخيرة... و أن وليد أغلقه... و لكن تأييدي سيحدث و لا شك تغييرا...
لماذا يعارض وليد زواجي ؟ أليس في هذا حل لمشاكلنا جميعا؟؟
أصبح موضوع زواجنا أنا و حسام هو الحديث الشاغل لأفراد العائلة طوال الوقت و كان الجميع مسرورين به و بدؤوا يرسمون الخطط لتنفيذه...
ذات يوم، و كان يوما ماطرا من فصل الشتاء... و كنا نجلس جميعا حول مدفئة كهربائية نستمد منها الحرارة و الحيوية... و كنت ألبس ملابس شتوية ثقيلة و ألف شعري بلحاف صوفي ملون... أتانا زائر على غير موعد...
لم يكن ذلك الزائر غير وليد !
كان أسبوعان قد مضيا على زيارته الأخيرة لي... سمعنا أبو حسام يقول و هو يقف عند المدخل بصوت عال ٍ :
" هذا وليد ... "
فقامت خالتي و ابنتاها منصرفات، ثم عادت خالتي بالحجاب...
ثم فتح الباب سامحا لوليد بالدخول و مرحبا به...
رافقت وليد رياح قوية اندفعت داخلة إلى المنزل جعلت أطرافي ترتجف رغم أنني كنت أجلس قرب المدفئة...
" تفضل يا بني... أهلا بك "
قالت ذلك خالتي مرحبة به و قام حسام ليصافحه و هو يبتسم و يقول :
" كيف استطعت السير في هذا الجو ؟؟ "
" ببعض الصعوبات "
من خلال صوته المخشوشن أدركت أن وليد مصاب بالزكام !
كان وليد يلبس معطفا شتويا طويلا يظهر أنه تبلل بقطرات المطر...
" اقترب من المدفئة ! و أنت يا رغد حضّري بعض الشاي لابن عمّك "
قالت ذلك خالتي فأذعنت للأمر...
عندما عدت بقدح الشاي إلى وليد وجدته يجلس قرب المدفئة مادا يديه إليها... ناولته القدح فأخذه و لم يشكرني... بل إنه لم حتى ينظر إلي !
أما أنا فقد تأمّلت وجهه و رأيت أنفه المعقوف شديد الاحمرار و عينيه متورمتين بعض الشيء...
تحدث وليد و كان صوته مبحوحا جدا أثار شفقتي... مسكين وليد ! هل تتمكن الجراثيم منك أنت أيضا ؟؟
و الآن وجه خطابه إلي :
" لماذا لم تردي على اتصالاتي يا رغد؟ ماذا حدث للهاتف؟ "
لم يجد ِ التهرب من الإجابة، قلت :
" لا شيء ! "
صاد صمت قصير ... ثم قال وليد :
" كنت أود إبلاغك عن قدومي و عن أمر السفر إلى المدينة الساحلية كي تستعدي"
نظرت إليه ثم إلى خالتي و حسام، و عدت إليه قائلة :
" استعد ؟ "
قال :
" نعم، سترافقينني هذه المرة "
لم أتجاوب أول وهلة... ثم هززت رأسي و أنا أقول :
" لكنني ... لكنني ... لا أريد السفر "
و تدخلت خالتي قائلة :
" و لماذا ترافقك يا بني ؟؟ "
قال وليد :
" لأنني سأطيل البقاء بضعة أشهر... من أجل العمل "
قالت خالتي :
" و ماذا في ذلك؟؟ لماذا تريد أخذها معك ؟؟ "
التفت وليد نحو خالتي و قال :
" ليتسنى لي رعاية أمورها بنفسي كل هذه الشهور "
ساد الصمت القصير مرة أخرى ثم قالت خالتي :
" اطمئن من هذه الناحية "
و أضاف حسام :
" سافر مطمئنا فكل شيء يسير على ما يرام هنا "
وليد التفت إلى حسام و قد بدت عليه علامات الغضب ! ثم قال محاولا تقوية صوته المبحوح قدر الإمكان :
" سآخذها معي والأمر مفروغ منه "
و استدار إلي و تابع :
" استعدّي "
هذه المرّة يبدو وليد خشنا فظا... هل للزكام علاقة بذلك ؟؟
قلت :
" هل ستذهب الشقراء معك ؟ "
قال :
" نعم "
قلت مباشرة و بانفعال :
" لن أذهب "
و امتلأ الجو بالشحنات المتضادة ... و تولدت في الغرفة حرارة ليس مصدرها المدفئة فقط..
وليد قال بصبر نافذ :
" ستأتين يا رغد... كما اتفقنا سابقا... فأنا لن أتركك بعيدا كل تلك الشهور... قد يمتد الأمر إلى سبعة أو حتى عشرة أشهر... لن أتمكن من المجيء إلى هنا بين الفينة و الأخرى... الأمر شاق علي "
قلت :
" و لماذا تكلّف نفسك هذا العناء ؟ أنا بخير هنا فسافر مطمئنا جدا... "
و التفت مشيرة إلى خالتي و حسام و مضيفة :
" الجميع هنا يهتم بأموري فلا تشغل بالا "
لم يعجب وليد حديثي و ازداد احمرار أنفه و وجهه عامة ... ثم تحدّث إلى أبي حسام قائلا :
" هل لي بالحديث معها وحدها... إن سمحتم ؟ "
حسام و خالتي تبادلا النظرات المتشككة ثم انصرفا برفقة أبي حسام... و بقينا أنا و وليد و الحرارة المنبعثة من المدفئة و الشرر المتطاير من عينيه ... و الجو المشحون المضطرب ... سويا في غرفة واحدة !
كنت أجلس على طرف أحد المقاعد، بينما وليد على يجلس على مقعد بعيد بعض الشيء...
بمجرد أن خرج الثلاثة... وقف وليد منتفضا... و أقبل نحوي...
وجهه كان مخيفا... يتنفس من فمه ... ربما بسبب الزكام أو ربما بسبب الحالة المنفعلة التي كان عليها ...
نظرت إليه بتخوف و ازدردت ريقي !
قال فجأة :
" هل لي أن أعرف أولا... يا ابنة عمّي... لماذا لا ترتدين عباءتك ؟ "
فاجأني سؤاله الذي جاء في غير موقعه... و دون توقعه... تلعثمت و لم أعرف بم أجيب !
لقد كنت أرتدي ملابس شتوية ثقيلة و محتشمة و فضفاضة، و داكنة الألوان... و حتى وشاحي الصوفي الطويل كان معتما... اعتقد أن مظهري كان محتشما للغاية... فهل يجب أن أرتدي فوق كل هذه الأكوام عباءة سوداء ؟!
لما وجد وليد مني التردد و قلة الحيلة قال :
" ألم أطلب منك ... أن تضعي عباءتك كلما تواجد حسام أو أبوه معك ؟ "
قلت متحججة :
" لكنهما متواجدان معي دوما "
قال بغضب :
" إذن ارتدي العباءة دوما... "
لم أعلّق لأن طريقته كانت فظة جدا ... ألجمت لساني...
" و شيء آخر... إلى أين كنت ِ تذهبين؟ كلما اتصلت أخبروني بأنك غير موجودة... و هل كنت ِ تخرجين مع حسام وحدكما ؟ "
قلت مستغربة و منزعجة :
" وليد ... ؟ "
قال بحدة :
" أجيبيني يا رغد ؟؟ "
وقفت بعصبية و استياء و استدرت هامة بالمغادرة... كيف يجرؤ !؟
إلا أن وليد أمسك بذراعي و حال دون هروبي...
قلت:
" دعني و شأني "
قال و هو يعضّ على أسنانه :
" لن أدعك تفعلين ما يحلو لك... يجب أن تدركي أنك لست ِ طفلة بل امرأة و أن ابن خالتك الشاب المندفع هذا يطمح إليك "
جذبت ذراعي من قبضته و أنا في دهشة فائقة... وليد قال :
" أنا لا اسمح له بأن ينظر إليك و أنت هكذا ... "
ازددت دهشة ... ما الذي يجول بخاطر وليد ؟؟ و كيف يفكّر ؟؟
قلت :
" وليد !! ماذا أصابك ؟؟ ابن خالتي شاب مهذّب و هو يرغب في الزواج منّي .. و الجميع يعرف ذلك بما فيهم أنت "
و لم تزده جملتي إلا ثورة !
قال بغضب :
" و أنا قلت لك... و له... و للجميع... بأنني لن أوافق على مثل هذا الزواج و لن أسمح بأن يتم قبل سنين... أسمعتِ يا رغد ؟ "
صرخت :
" لماذا ؟ "
قال :
" لأنني لا أريد ذلك... أنا الوصي عليك و أنا من يقرر متى و ممن أزوّجك... و إن ألح أحد علي بهذه الفكرة مجددا فسأحذفها من رأسي نهائيا "
ذهلت لكلامه و لم أصدق أذني ّ... حملقت فيه و لم يقو َ لساني على النطق...
التفت َ وليد يمنة و يسرة في تشتت كأنه يبحث عن الكلمات الضائعة... و أخذ يضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى بغضب... ثم حدّق بي فرأيت عضلات فكه تنقبض و هو يضغط على أسنانه بانفعال كمن يمزّق لقمة صلبة بين فكيه...
وليد صرخ بصوته المبحوح و هو في قمة الغضب و التهيّج :
" و تريدين منّي أن أتركك هنا؟ كيف أكون مطمئنا إلى ما يدور بعيدا عن ناظري؟ لماذا لا تلتزمين بما طلبته منك؟ حتى و إن كان أقرب الناس إليك لا أسمح لك بالظهور أمامه بلا عباءة... إن حدث و تزوجته يوما فاعلي ما يحلو لك ِ و لكن و أنت ِ تحت وصايتي أنا فعليك التقيد بما أطلبه منك أنا يا رغد... أنا و أنا فقط ... و أنا أحذرك من تكرارها ثانية... هل هذا مفهوم ؟ "
يكاد قلبي يتوقف من الخوف... و وليد يتحرك شعرت و كأن قبضته اليمنى على وشك أن تضربني أنا الآن !... أحملق فيه بدهشة و ذعر فيرد علي بصرخة تصفع وجهي قبل أن تثقب طبلتي أذني :
" هل هذا مفهوم أم أعيد كلامي ؟ أجيبي ؟؟ "
ينتفض بدني و تصدر منه ارتجافة و أهز رأسي إيجابا...
وليد هدأ بعض الشيء و أخذ يمر بأصابعه على شعره الكثيف و يتنهد بضجر... و يبتعد عنّي
شعرت بالغيظ... بالقهر... بالذل ...
كيف يجرؤ وليد على التحكم في حياتي بهذا الشكل؟؟
و كيف يصرخ بوجهي بهذه الطريقة الفظة ؟
بل كيف يخاطبني بهذا الأسلوب الخشن؟
إن أحدا لم يصرخ بوجهي هكذا من قبل...
تملكتني رغبة في الهجوم... في الدفاع... أو حتى في التوسل ! قلت و أنا متعلقة بأمل أن يكون ما سمعت وهما :
" وليد... هل ... تعني... "
و قبل أن أتم كلامي كان قد صرخ مجددا :
" أنا أعني ما أقول يا رغد... و ما دمت ِ تحت مسؤوليتي فنفّذي ما أقوله و لا تزيديني أكثر مما أنا فيه"
كالخنجر طعنتني كلماته الحادة القاسية فقلت و أنا على وشك الانهيار :
" لماذا تفعل هذا بي؟؟ إن كنت تراني هما على صدرك... لم لا تزوجني منه الآن و تتخلص منّي و ترتاح و تريحني منك ؟؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "
و انفجرت باكية...
جلست على المقعد و أسندت مرفقي إلى رجلي، و وجهي إلى راحتي يدي ّ و سكبت العبر...
حل الصمت المرعب على الأجواء...
فجأة... تخلخلت الرياح الباردة ملابسي و دقت عظامي... رفعت رأسي فإذا بها تصفعني و تطير بدموعي بعيدا... نظرت إلى الباب فرأيته مفتوحا و وليد يستقبل الأعاصير...
وقفت و ناديته بسرعة :
" وليد "
التفت إلي و خصلات شعره تتطاير في كل اتجاه من شدة الريح...
" إلى أين ستذهب ؟ "
قلت و أنا في خوف منه و عليه... فالجو كان مرعبا و لا يصلح للمشاوير الطويلة... خصوصا و هو مريض...
وليد قال :
" سأعود لاصطحابك غدا... اجمعي أشياءك "
و استدار منصرفا مغلقا الباب من بعده...
أسرعت إلى الباب و فتحته و تلقيت الريح بوجهي... هتفت :
" وليد ... وليد انتظر "
وقف موليا إلي ظهره و الهواء يعبث بشعره و معطفه ...
قلت :
" لا تذهب الآن... انتظر حتى تهدأ العاصفة قليلا "
لكنه تابع طريقه مبتعدا... متجاهلا نداءاتي...
عندما عدت... وجدت الجميع يقفون في الداخل ينظرون إلي ...
شعرت و كأن نظراتهم تخترقني... أملت رأسي إلى الأسفل و هممت ُ بالانصراف...
استوقفني صوت حسام و هو يقول :
" هل يخاطبك دائما بهذا الشكل ؟ "
رفعت بصري إليه فوجدته غاضبا مقطب الحاجبين... و أعين الجميع تنتظر جوابي...
هززت رأسي نفيا و أنا أقول :
" لا ... كلا ... "
و لم أكن أتوقع أن يكون صراخ وليد بصوته المبحوح قد أصاب آذانهم ...
خالتي قالت :
" سأتحدّث معه حينما يعود "
قال حسام منفعلا :
" و أنا سأوقفه عند حدّه "
أبو حسام قال :
" لا تتدخل أنت... سأحدّثه أنا بنفسي "
صاح حسام :
" يا له من متعجرف فظ ... من يظن نفسه؟؟ ليتك بقيت ِ تحت وصاية سامر... فعلى الأقل ذلك المشوّه ليّن و متفهّم و لا يستخدم يده في التعامل مع الآخرين "
قالت خالتي :
" لا أعرف من أين أتى بكل هذه الغلظة... إنه يختلف عن سامر و شاكر تماما "
قال أبو حسام :
" إنها الغربة يا أم حسام... "
قالت خالتي :
" لن أسكت على هذا... لسوف أطلب من سامر و دانة التدخل و إيجاد حل لنا مع هذا الوليد "
وقفت بعصبية و استياء و استدرت هامة بالمغادرة... كيف يجرؤ !؟
إلا أن وليد أمسك بذراعي و حال دون هروبي...
قلت:
" دعني و شأني "
قال و هو يعضّ على أسنانه :
" لن أدعك تفعلين ما يحلو لك... يجب أن تدركي أنك لست ِ طفلة بل امرأة و أن ابن خالتك الشاب المندفع هذا يطمح إليك "
جذبت ذراعي من قبضته و أنا في دهشة فائقة... وليد قال :
" أنا لا اسمح له بأن ينظر إليك و أنت هكذا ... "
ازددت دهشة ... ما الذي يجول بخاطر وليد ؟؟ و كيف يفكّر ؟؟
قلت :
" وليد !! ماذا أصابك ؟؟ ابن خالتي شاب مهذّب و هو يرغب في الزواج منّي .. و الجميع يعرف ذلك بما فيهم أنت "
و لم تزده جملتي إلا ثورة !
قال بغضب :
" و أنا قلت لك... و له... و للجميع... بأنني لن أوافق على مثل هذا الزواج و لن أسمح بأن يتم قبل سنين... أسمعتِ يا رغد ؟ "
صرخت :
" لماذا ؟ "
قال :
" لأنني لا أريد ذلك... أنا الوصي عليك و أنا من يقرر متى و ممن أزوّجك... و إن ألح أحد علي بهذه الفكرة مجددا فسأحذفها من رأسي نهائيا "
ذهلت لكلامه و لم أصدق أذني ّ... حملقت فيه و لم يقو َ لساني على النطق...
التفت َ وليد يمنة و يسرة في تشتت كأنه يبحث عن الكلمات الضائعة... و أخذ يضرب راحته اليسرى بقبضته اليمنى بغضب... ثم حدّق بي فرأيت عضلات فكه تنقبض و هو يضغط على أسنانه بانفعال كمن يمزّق لقمة صلبة بين فكيه...
وليد صرخ بصوته المبحوح و هو في قمة الغضب و التهيّج :
" و تريدين منّي أن أتركك هنا؟ كيف أكون مطمئنا إلى ما يدور بعيدا عن ناظري؟ لماذا لا تلتزمين بما طلبته منك؟ حتى و إن كان أقرب الناس إليك لا أسمح لك بالظهور أمامه بلا عباءة... إن حدث و تزوجته يوما فاعلي ما يحلو لك ِ و لكن و أنت ِ تحت وصايتي أنا فعليك التقيد بما أطلبه منك أنا يا رغد... أنا و أنا فقط ... و أنا أحذرك من تكرارها ثانية... هل هذا مفهوم ؟ "
يكاد قلبي يتوقف من الخوف... و وليد يتحرك شعرت و كأن قبضته اليمنى على وشك أن تضربني أنا الآن !... أحملق فيه بدهشة و ذعر فيرد علي بصرخة تصفع وجهي قبل أن تثقب طبلتي أذني :
" هل هذا مفهوم أم أعيد كلامي ؟ أجيبي ؟؟ "
ينتفض بدني و تصدر منه ارتجافة و أهز رأسي إيجابا...
وليد هدأ بعض الشيء و أخذ يمر بأصابعه على شعره الكثيف و يتنهد بضجر... و يبتعد عنّي
شعرت بالغيظ... بالقهر... بالذل ...
كيف يجرؤ وليد على التحكم في حياتي بهذا الشكل؟؟
و كيف يصرخ بوجهي بهذه الطريقة الفظة ؟
بل كيف يخاطبني بهذا الأسلوب الخشن؟
إن أحدا لم يصرخ بوجهي هكذا من قبل...
تملكتني رغبة في الهجوم... في الدفاع... أو حتى في التوسل ! قلت و أنا متعلقة بأمل أن يكون ما سمعت وهما :
" وليد... هل ... تعني... "
و قبل أن أتم كلامي كان قد صرخ مجددا :
" أنا أعني ما أقول يا رغد... و ما دمت ِ تحت مسؤوليتي فنفّذي ما أقوله و لا تزيديني أكثر مما أنا فيه"
كالخنجر طعنتني كلماته الحادة القاسية فقلت و أنا على وشك الانهيار :
" لماذا تفعل هذا بي؟؟ إن كنت تراني هما على صدرك... لم لا تزوجني منه الآن و تتخلص منّي و ترتاح و تريحني منك ؟؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "
و انفجرت باكية...
جلست على المقعد و أسندت مرفقي إلى رجلي، و وجهي إلى راحتي يدي ّ و سكبت العبر...
حل الصمت المرعب على الأجواء...
فجأة... تخلخلت الرياح الباردة ملابسي و دقت عظامي... رفعت رأسي فإذا بها تصفعني و تطير بدموعي بعيدا... نظرت إلى الباب فرأيته مفتوحا و وليد يستقبل الأعاصير...
وقفت و ناديته بسرعة :
" وليد "
التفت إلي و خصلات شعره تتطاير في كل اتجاه من شدة الريح...
" إلى أين ستذهب ؟ "
قلت و أنا في خوف منه و عليه... فالجو كان مرعبا و لا يصلح للمشاوير الطويلة... خصوصا و هو مريض...
وليد قال :
" سأعود لاصطحابك غدا... اجمعي أشياءك "
و استدار منصرفا مغلقا الباب من بعده...
أسرعت إلى الباب و فتحته و تلقيت الريح بوجهي... هتفت :
" وليد ... وليد انتظر "
وقف موليا إلي ظهره و الهواء يعبث بشعره و معطفه ...
قلت :
" لا تذهب الآن... انتظر حتى تهدأ العاصفة قليلا "
لكنه تابع طريقه مبتعدا... متجاهلا نداءاتي...
عندما عدت... وجدت الجميع يقفون في الداخل ينظرون إلي ...
شعرت و كأن نظراتهم تخترقني... أملت رأسي إلى الأسفل و هممت ُ بالانصراف...
استوقفني صوت حسام و هو يقول :
" هل يخاطبك دائما بهذا الشكل ؟ "
رفعت بصري إليه فوجدته غاضبا مقطب الحاجبين... و أعين الجميع تنتظر جوابي...
هززت رأسي نفيا و أنا أقول :
" لا ... كلا ... "
و لم أكن أتوقع أن يكون صراخ وليد بصوته المبحوح قد أصاب آذانهم ...
خالتي قالت :
" سأتحدّث معه حينما يعود "
قال حسام منفعلا :
" و أنا سأوقفه عند حدّه "
أبو حسام قال :
" لا تتدخل أنت... سأحدّثه أنا بنفسي "
صاح حسام :
" يا له من متعجرف فظ ... من يظن نفسه؟؟ ليتك بقيت ِ تحت وصاية سامر... فعلى الأقل ذلك المشوّه ليّن و متفهّم و لا يستخدم يده في التعامل مع الآخرين "
قالت خالتي :
" لا أعرف من أين أتى بكل هذه الغلظة... إنه يختلف عن سامر و شاكر تماما "
قال أبو حسام :
" إنها الغربة يا أم حسام... "
قالت خالتي :
" لن أسكت على هذا... لسوف أطلب من سامر و دانة التدخل و إيجاد حل لنا مع هذا الوليد "
~~~~~~~~~~
أشعر بالدوار...
أتنفس بصعوبة بالغة... و رغم برودة الجو يتصبب مني العرق...
إنني مصاب بنزلة بردية شديدة أرهقت قواي منذ أيام...
و القرحة التي عالجتها منذ زمن، عادت آلامها تسيطر على معدتي من جديد...
بصعوبة بالغة نهضت عن السرير الدافئ في غرفتي التي استأجرتها للمبيت لليلة واحدة في هذا الفندق... و ما أسوأها من ليلة...
إنني لم أنم... و لم يهدأ دماغي عن التفكير ساعة واحدة...
لماذا يا رغد...؟ لماذا...؟
و لماذا أيها القدر القاسي...
أتركها أمانة بين أيديهم... فيخططون لسرقتها منـّي؟؟
أبدا... يستحيل أن أدعها معهم يوما واحدا بعد... هيا انهض... يا وليد...
كان لا يزال أمامي عدة مسافات علي قطعها... و أنا غاية في التعب... و المرض...
لملمت حاجياتي بعناء... و غادرت الفندق قاصدا بيت أبي حسام...
حتى و إن كانت رغد ترغبين في الزواج منه أو كانت هذه أمنيتك ِ الأولى... فأنا لن أنفذها لك... و يجب عليك خلال السنين المقبلة... أن تنسيه ...
أنا لن أتقبـّـل منك ِ الخيانة مرتين... لن أسمح لك !
عندما وصلت إلى بيت أبي حسام هو و زوجته و قاداني إلى المجلس...
هناك بدءا يحدثاني بهدوء عن وضع رغد ... و من ثم تطرقا إلى موضوع الزواج من جديد...
لا أدري إن كنت ُ أسمعهما أم لا... أو أعي ما يقولان... كنت مجهدا حد العمى و الصمم ... حد الخرس و الشلل...
اعتقد أنهما كانا يخاطباني بعقلانية و كلامهما كان سيبدو منطقيا جدا لأي مستمع... أما أنا فلم أركز في حديثهما الطويل... و ربما لم تظهر عليّ إلا أمارات البلادة و البرود... حتى أنني لو فكّرت في الغضب... لم أكن لأجد عصبا واحدا في ّ قادرا على الاشتعال...
أنا مرهق... أرجوكما اعتقاني الآن...
و رغم كل ما قالاه... عارضت فكرة الزواج تلك و رفضت ترك رغد معهم و ألححت عليهما لاستدعائها... و شرحت لهما خطّتي في إلحاقها بإحدى الجامعات...
بعد ذلك أتت رغد... و كنا أنا و هي نتحاشى النظر إلى بعضنا البعض... فلقاؤنا يوم أمس كان سيئا...
هدرت هي المزيد من الوقت و الجهد غير أنني لم أغيّر رأيي... و كلّما ألحّت ازددت إصرارا...
أم حسام قالت أخيرا :
" لن ينتهي الموضوع هنا يا وليد... سنعرف كيف ندبّر حلا "
و كان في كلامها شيء من التهديد... لم أجبها بل التفت نحو رغد و قلت معلنا نهاية الحوار :
" هيا بنا يا رغد "
لم تكن رغد قد حزمت حقائبها لكن الوقت كان يداهمنا و الصداع يتفاقم في رأسي ... أعطيتها فرصة قصيرة لجمع ما أمكن و من ثم لتودع أقاربها و أحسست بآلامها و هي تبكي في حضن خالتها...
بدوت فظا قاسيا في نظر الجميع... و لكنني لن أتراجع...
حملت رغد حقيبة يدها فيما حملت أنا حقيبة أغراضها و سرت و هي تسير خلفي مكرهة... مستسلمة...
و نحن نخرج من البوابة ألقت رغد النظرة الأخيرة على أفراد عائلة خالتها و قالت بأسى :
" مع السلامة "
تمزق قلبي معها... و عذبني ضميري أيما عذاب... سامحيني يا رغد... أعدك بأن أعوّضك عن كل هذا ... سامحيني...
أم حسام قالت و هي تغلق البوابة بعد خروجنا أنا و رغد ... و حسام و أبيه :
" الله الله... في اليتيمة يا وليد... أمامك حساب لا يخطئ... "
ما أشعرني بأنني... أرتكب كبيرة من كبائر الذنوب...
نظرت إلى رغد... ثم أغمضت عيني ّ و وضعت ُ يدي على جبيني و ضغطت بشدّة... عل ّ الألم يرحم رأسي قليلا...
ما الذي تظنونه عنّي؟؟ أي فكرة قد جعلتهم يتعقدون بها يا رغد ؟؟
هل أنا وحشي و مجرم لهذا الحد؟؟
حينما ركبنا السيارة وقف حسام بجوارنا و قال :
" إذا أساء أحد معاملتك فابلغيني يا رغد "
و وجه خطابه إلي مهددا :
" حذار أن تقسو على ابنة خالتي يا وليد... ستدفع الثمن غاليا... "
و ابتلعت جملته و لم أعقب... و سرنا تشيعنا أعين حسام و أبيه و تتبعنا أفئدة العائلة أجمع ...
و كلما ابتعدنا أحسست بالألم يزداد... بينما لا تزال كلماتهم الأخيرة ترن في رأسي بحدة...
و لما نظرت إلى رغد... رأيتها غارقة في حزن يتفطر منه قبل الحجر...
فكيف بقلبي ؟
هل كنت ُ قاسيا لهذا الحد؟؟
هل أنا مخطئ في تصرفي؟
هل كان علي ّ تركها بعيدة عن ناظري... قريبة من ناظر حسام ؟؟
ألا يحق لي أن أخاف عليها من كل عين و كل شر...؟
أليست هذه صغيرتي أغلى ما لدي في هذا الكون؟؟
ألست ُ أنا ولي أمرها و المسؤول عنها كليا... أمام الله ؟؟
اللهم و أنت الشاهد العالم بالنوايا... تعرف أنني ما أردت لها و مذ أدخلتـَها في حياتي قبل سنين طويلة... إلا خيرا...
اللهم و أنت المطّلع على الأفئدة و المقلب للقلوب... ارحم قلبي و اعف ُ عن خطاياه...
مر زمن طويل و نحن في صمت أصم ٍ أخرس ٍ ... وشرود كبير متشتت... و زادنا الطريق البري وحشة و غربة... و لم يكن يسلك دربنا إلا القليل من السيارات ... في مثل هذا الجو المضطرب...
الأفكار ظلت تعبث برأسي المتصدّع وضاعفت مرضي و حرارة جسدي...
الصداع و الدوار ... و الأفكار الحائرة المتناثرة... و كلمات حسام و أمّه الأخيرة ... و قطرات المطر الكثيفة الهاجمة على زجاج السيارة... و دموع رغد التي أراها من حين لآخر عبر المرآة... و آلام صدري و معـِدتي و أطرافي ... كلها اجتمعت سوية و أفقدتني القدرة على التركيز...
و فيما أنا منطلق بالسيارة فجأة انحرفت ُ عن مساري و اصطدمت بأحد أعمدة النور بقوّة...
و أظلمت الدنيا في عيني...
الحلقة التاسعة و الثلاثون
صرخت فجأة و نحن ننحرف عن مسارنا و نصطدم بقوة بعمود إنارة ... ارتطم جسمي بمقعد وليد و لكني لم أصب بأذى...
توقفت السيارة عن الحركة و رفعت رأسي فرأيت رأس وليد على المقود...
شعرت بالفزع و صرخت :
" وليد... "
و لكنه لم يتحرّك ...
مددت يدي نحو كتفه و أخذت أضربه و أنا مستمرة في نداءاتي لكنه لم يستجب...
حركت يدي نحو رأسه و ضربت بقوة أكبر...
" وليد... أجبني أرجوك.... وليد أرجوك... "
صدرت أنة من حنجرته و تحرك قليلا...
" وليد أجبني... أتسمعني ؟؟ أرجوك رد علي "
أصابني الهلع الشديد... خرجت من السيارة مسرعة فتدفق الهواء بعنف إلى الداخل... كان الجو عاصفا باردا ماطرا... أقبلت إلى الباب الأمامي الأيمن و أردت فتحه فوجدته موصدا...
عدت إلى الداخل عبر الباب الذي خرجت منه و فتحت قفل الباب الأمامي، ثم خرجت و دخلت عبر الباب الأمامي... و جلست قرب وليد... مبللة... بردى... مرعوبة... مفزوعة... أرتجف...
مددت يدي و رفعت رأسه عن المقود فرأيت سيل من الدماء يتدفق من أنفه المعقوف فصعقت... و أطلقت صيحة شاهقة... أسندت رأسه إلى الوراء ثم رحت أضرب خديه في ذعر... و ما بي ذرة واحدة من القوة...
و بصوت أشك أنه خرج من حنجرتي أصلا هتفت :
" وليد... وليد أجبني... أرجوك وليد... أجبني "
وليد فتح عينيه أخيرا و تأوه... ثم رفع يده اليسرى و وضعها على جبينه و قطب حاجبيه بألم...
قلت بلهفة:
" وليد... هل أنت بخير ؟؟ "
و لا أعرف إن كان سمعني أم لا...
تلفت يمنة و يسرة ببطء و ناداني بصوت متحشرج :
" رغد... "
قلت بسرعة :
" وليد أنا هنا... "
و حركت يدي لأمسك بيده اليمنى... لأشعره بوجودي... فشد هو ضغطه على يدي و أغمض عينيه يعصرهما عصرا... و يئن...
هتفت فزعة:
" وليد... وليد ... كلّمني "
فتح عينيه و نظر إلي و أخذ يلتقط بعض الأنفاس المخنوقة ثم قال :
" أأنت بخير ؟ "
لم استطع الرد من شدة الفزع
وليد شد ّ الضغط على يدي و تأوه ثم قال :
" أنا مرهق جدا ... سأرتاح قليلا..."
و حرر يدي و حرك يده نحو المقود و أوقف محرك السيارة فيما رأسه لا يزال ملتصقا بمسند المقعد دون حراك... ثم أغمض عينيه و هوت يده مرتطمة بأي شيء... و استقرت قرب يدي... تحركت أصابعه و أمسكت بيدي مجددا ... ثم سكن عن الحركة و بدا لي و كأنه... فقد وعيه...
قلت بهلع:
" وليد... أأنت بخير ؟ "
لم يستجب... هززت يده و كررت :
" وليد... رد علي ! "
فأطلق أنّه خفيفة ضعيفة... أحسست بها تخرج من أعماق صدره...
" وليد... كلمني أرجوك... "
تكلم وليد من طرف لسانه دون حتى أن يحرك شفتيه :
" لا تخافي... رغد "
و شد على يدي... ثم سكن عن الكلام و الحركة...
راقبته فرأيت صدره يلهث بأنفاس قوية تتحرك عبر فمه... يكاد بخارها يغشي زجاج السيارة ... أما أنفه فقد كان لا يزال ينزف... و قطرات الدم تقطر من أسفل فكّه لتتلقاها ملابسه و تشربها بشراهة...
منظر أفزعني حد الموت...
هتفت بما كان قد تبقى لحبالي الصوتية من قدرة على النطق :
" وليد... أنفك... ينزف ... "
لم يجب...
" وليد... "
و لم يرد
" وليد... رد علي ... أرجوك "
و أحسست بيده تضغط علي قليلا... ثم تسترخي...
كانت دافئة جدا... و رطبة...
تناولت بعض المناديل و قرّبتها من وجهه... و توقفت برهة مترددة ... أنظر إلى مجرى الدماء ينسكب من أنفه... إلى شفتيه المفتوحتين... إلى ذقنه... تكاد قطرات منها تتسلل إلى فمه ممتزجة مع الأنفاس الساخنة... دون أن يشعر بها أو ينتبه إليها...
قربت المناديل من سيل الدم و مسحته بخفة... و وليد لم يشعر بشيء... و لم يفعل أي شيء...
لم أعد أسمع غير صوت الرياح الماطرة تصفع زجاج السيارة مثيرة في نفسي رعبا منقطع النظير...
الغيوم السوداء الكثيفة تلبدت في السماء و حجبت أشعة الشمس...
قطرات المطر تزاحمت على نوافذ السيارة... و أوهمتني بالشعور بالغرق حتى أصبحت التقط أنفاسي التقاطا... و أعصر يدي ببعضهما عصرا...
أخذت أراقب كل شيء من حولي... أنفاس وليد القوية... أرواق الأشجار المتراقصة في مهب الريح... سيول المطر المنزلقة على النوافذ... و عقارب ساعة يدي تدور ببطء و سكون... و السيارات المعدودة التي مرّت بطريقنا الموحش و ربّما لسوء الطقس تجاهلتنا...
شعرت برجفة تسري في جسدي... اقتربت أكثر نحو وليد و حركت يديّ و أمسكت بذراعه ناشدة الأمان... و جفلت لحرارتها...
لم يحس وليد بي... لقد كان غارقا في النوم ...
تأملت وجهه... كان شاحبا كالعشب الجاف... جليا عليه المرض... عيناه وارمتان و تحيط بهما هالتان من السواد... و بعض زخات العرق تبرق على جبينه العريض... و آثار الدم الممسوح تظهر على أنفه المعقوف و ذقنه الملتحي... و الهواء الساخن يتدفق من فمه مندفعا بقوة...
وليد قلبي... مريض...
نعم مريض !
و مريض جدا...
آنذاك... تمنيت... و ليت الأماني تتحقق فور تمنيها... تمنيت لو كان باستطاعتي... أن أمسح على رأسه أو أربت على كتفيه...
تمنيت... لو أستطيع أن أبلسم جرحه الدامي أو أنشف جبينه المتعرق ...
تمنّيت ... لو كنت هواء ً يمتزج بأنفاسه و يقتحم صدره... و يلامس دفأه ...
تمنيت لو أعود طفلة و أرتمي بحضه... و أبكي على صدره...
لطالما كان يعتني بي حين أمرض... لطالما عالج جروحي ... و سكّن آلامي... و هدّأ روعي... لطالما ربت على كتفي و مسح دموعي... و رسم الابتسامة بين خدي ّ...
لطالما حمل همومي الصغيرة... و حملني ضئيلة على ذراعيه...
تشبثت بذراعه بلا شعور مني.. و لا شعور منه...
إنْ حنينا ً إلى الماضي... أو خوفا ً من الحاضر... أو أملا ً في الغد...
تعلقت بتلك الذراع تعلق الغريق بطوق النجاة... و كأنها آخر ما تبقّى لي... من وليد قلبي...
بعد قليل... رأيت سيارة تتوقف أمامنا ... فزعت ... اشتد قبضي على ذراع وليد ... هززتها بقوة و هتفت بانفعال :
" وليد انهض "
لم يفق ... تسارعت ضربات قلبي و اصطدمت ببعضها البعض... غرست أظافري في ذراع وليد و أنا أرى باب تلك السيارة ينفتح و صرخت بقوّة :
" وليد ... انهض أرجوك... أرجوك "
أحس وليد بشيء يعصر ذراعه... و أصدر صوت أنين مخنوق ...
ثم بدأ يتحرك و أخيرا فتح عينيه...
التفت إلي ّ بجهد بالغ ... دون أن يبعد رأسه عن المسند ... و لما التقت نظراتنا رأيت المرض مستحوذا عليه... أيما استحواذ... رأيت القلق و الألم ينبعان من أعماق عينيه...
قلت و الفزع يصرخ في حنجرتي :
" وليد... أفق أرجوك... إنهم قادمون "
مشيرة نحو السيارة...
وليد نظر إلى السيارة و قطب جبينه ثم قال بصوت شديد البحة بالكاد يسمع و يفهم:
" اتصلي بسامر "
حملقت به غير مستوعبة للجملة... و كررت لأتأكد :
" سامر ؟؟ "
وليد أغمض عينيه في ألم و قال :
" سامر... هيا يا رغد ... "
هتفت :
" وليد.... "
في فزع و قلق شديدين...
لكنه لم يجب... لا بالكلام، و لا بالأنين، و لا حتى بطرفة عين...
هاتف وليد كان موضوعا في أحد الأرفف أمامي مباشرة، و بسرعة تناولته و اتصلت بسامر...
فور وصولي إليهما، تفاقم الذعر الذي كان قد أصابني مذ سمعت رغد تقول " الحق... يا سامر... وليد متعب جدا "
المشوار استغرق منّي حوالي العشرين دقيقة و أنا طائر بالسيارة على الطريق البري...
الطقس في ذاك اليوم كان سيئا للغاية و مررت بأكثر من حادث مروري أثناء سيري...
سيارة وليد كانت مصطدمة بأحد المصابيح الضوئية و من الضرر الظاهر عليها يتضح أن وليد لم يكن مسرعا جدا ...
أوقفت سيارتي على مقربة و خرجت مباشرة مهرولا ... الجو كان عاصفا، باردا و ممطرا... و الشارع خال ٍ من السيارات...
رأيت رأس وليد مسندا إلى المقعد... و عينيه مغمضتين ... و كان ساكنا عن الحراك...
أما رغد فقد كانت جالسة على المقعد المجاور له و متشبثة بذراعه... في وضع يوحي للناظر إليها أنها مفزوعة جدا
اقتربت من باب وليد و لما هممت بفتحه وجدته مغلقا... طرقت النافذة و أنا أقول :
" افتح الباب "
و شقيقي لم يحرّك ساكنا. هتفت مخاطبا رغد و التي كانت آنذاك تراقبني في وجل :
" افتحي الباب يا رغد "
و لم تفعل ذلك مباشرة... بل استغرقت بعض الوقت تحملق بي
ألم تستوعب بعد أنني سامر ؟؟
بمجرد أن فتحـَت هي القفل فتحتُ أنا الباب و أطللت برأسي إلى الداخل:
" وليد... أأنت بخير ؟"
و هالني أن أرى بعض الدماء تلوث أنفه و شفتيه و فكه السفلي... و حتى ملابسه...
وليد التفت نحوي ببطء و حذر و فتح عينيه ثم قال :
" أنا متعب... "
ثم رفع يده اليسرى و وضعها على رأسه إشارة منه إلى مصدر التعب... لابد أن رأسه أصيب في الحادث... لطفك يا رب...
قلت و أنا أمد يدي إليه لمساعدته على النهوض :
" أتستطيع النهوض ؟ قم معي... "
وليد أزاح يده عن رأسه و أشار إلى رغد و هو يخاطبها دون أن يلتفت إليها :
" تعالي رغد "
حينما نظرت إليها رأيت الذعر يملأ قسمات وجهها و الرجفة تسري في جسدها ربما من الخوف أو من برودة الهواء المندفع بقوة عبر الباب، حاملا معه قطرات المطر...
و كانت تمسك بذراع وليد تكاد تعانقها...
إن شهورا طويلة قد مضت على لقائنا الأخير... و هذه ليست باللحظة المناسبة لأسرد لكم كيف أشعر... و لا حتى لأسمح لنفسي بأن أشعر...
ساعدت شقيقي على النهوض، و بمجرد أن وقف استند إلي، ثم فجأة تركتي و جثا أرضا و جعل يتقيأ
و أيضا رأيت الدماء تنسكب من جوفه على الأرض... ما جعلني أزداد فزعا... و ما جعل رغد تقبل نحونا مسرعة و تشهق بقوّة...
شقيقي بدا مريضا جدا... و الواضح أنه مصاب بدوار شديد لا يستطيع معه تحريك رأسه ...
لا شك أن الإصابة قد شملت دماغه...
يا رب... خيب شكوكي...
بعد ذلك، أسندته إلي ّ مجددا و سرنا مترنحين نحو سيارتي... تلفحنا الرياح و يغسلنا المطر... و يقرصنا البرد... و كان وليد رغم حالته الفظيعة تلك و صوته المبحوح ذاك لا يفتأ ينادي :
" تعالي يا رغد "
أما هذه الأخيرة فقد كانت تسير إلى جانبنا ضامّة ذراعيها إلى صدرها يعلوها الذعر... و تنساب قطرات لامعة على وجهها لا أستطيع الجزم ما إذا كانت من ماء السماء أو ماء العين...
جعلت أخي يضطجع على طول المقاعد الخلفية مثنيا ركبتيه، وقلت مخاطبا رغد :
" اركبي "
و قد كانت لا تزال واقفة إلى جواري عند الباب الخلفي تنظر إلى وليد بهلع
و الأخير قال مؤكدا :
" اركبي يا رغد "
عدت إلى سيارة شقيقي لإغلاقها و جلب المفاتيح و أقبلت ُ مسرعا... و فور جلوسي على المقعد نزعت نظارتي المبللة و فركت يدي ّ الباردتين ببعضهما البعض ثم التفت نحو رغد الجالسة إلى جانبي و سألتها للمرة الأولى :
" هل أنت بخير ؟؟ "
و لكم أن تتصوروا مدى الدهشة التي تملكتها و هي تنظر إلي... !
سألتني مذهولة :
" ماذا فعلت بوجهك ؟؟ "
" لا يهم... ماذا حصل معكما ؟؟ "
أخبرتني رغد بأن وليد كان مريضا و لكنه قدم إلى المدينة الصناعية ليصطحبها إلى مزرعة أروى و من ثم ينطلقون إلى المدينة الساحلية من أجل العمل... و أنه كان يقود بسرعة معتدلة و بدا متعبا ثم انحرف في سيره و اصطدم بعمود المصباح... و فقد وعيه...
و أن إحدى السيارات قد توقفت للمساعدة لكن وليد صرف راكبيها و لم يسمح له بتقديم العون...
و هي تتحدث كانت تتوقف لالتقاط أنفاسها أو لإلقاء نظرة على وليد... و لم يخف َ علي مدى القلق و الهلع الذين كانت تعانيهما آنذاك...
ذهبنا مباشرة إلى إحدى المستشفيات و حضر فريق طبي و حمل وليد إلى غرفة الطوارئ و بدؤوا بفحصه و علاجه...
و الطبيب يفتح قميصه ليفحصه هالني منظر رهيب...
الكثير من الندب و آثار جروح قديمة مختلفة مبعثرة على جدعه... لم يسبق لي ملاحظتها قبل اليوم...
أما الطبيب فقد تبادل هو من معه النظرات الغريبة... و علامات التساؤل...
أمر الطبيب بعدها بإجراء فحوصات ضرورية ليتأكد من الحادث لم يؤثر على رأس وليد... و جعلتنا شكوكه ندور في دوامة الجحيم ... إلى أن ظهرت النتائج مطمئنة و الحمد لله...
ثم أمر بإبقائه في غرفة الملاحظة إلى أن يعيد تقييم حالته، و رجح أن يستلزم الأمر إدخاله للمستشفى...
غرفة الملاحظة تلك كانت تحوي مجموعة من الأسرة لا تفصل بينها أي ستائر... و هي خاصة بالرجال فقط...
" يمكنك ِ الانتظار هناك "
قال الممرض مخاطبا رغد و مشيرا إلى غرفة الانتظار الخاصة بالسيدات لكن رغد لم تتزحزح قيد أنملة و بقيت واقفة معي إلى جوار وليد
و لأن الغرفة كانت تخص الرجال و ممتلئة بهم فقد شعرت بحرج الموقف و قلت مخاطبا وليد الممدد على السرير بين اليقظة و النوم :
" سننتظر في الخارج... سآتي لتفقدك بعد قليل "
وليد فتح عينيه و خاطبني :
" انتبه لها "
ثم وجه نظره إلى رغد ... رغد سألته مباشرة و بلهفة :
" هل أنت بخير ؟ "
وليد قال و هو يغمض عينيه :
" سأنام قليلا... "
و يبدو أنه نام فورا ....
لم يكن بحاجة لتوصيتي على رغد... هل نسى أنها قبل شهور و إن طالت... كانت خطيبتي ؟
أم هل نسى أنها... و منذ ولدت كانت و لا تزال ابنة عمّي ؟ و أنها و منذ الطفولة... رفيقة عمري؟؟؟
خرجنا من غرفة الملاحظة تلك... و وقفنا في الممر لبعض الوقت...
رغد سألتني آنذاك:
" هل سيكون بخير ؟ "
كنت حينها أنظر إلى أرضية الممر الملساء... و أستمع إلى خطوات المارة حين تدوس عليها...
و أضرب أخماسا بأسداس ... في مخاوفي و توجساتي...
رفعت رأسي و نظرت إليها... لم يزل الهلع مرسوما لا بل محفورا على قسمات وجهها...
كانت تضم يديها إلى بعضهما البعض و تعبث بأصابعها بتوتر شديد... و الله الأعلم... من منّا أكثر قلقا و أحوج إلى المواساة...
قلت مجيبا عن سؤالها :
" نعم، إن شاء الله "
قالت بانفعال :
" و ماذا عن الدماء التي خرجت من جوفه ؟ "
قلت :
" تعرفين أنه مصاب بقرحة في معدته منذ العام الماضي... ربما عاودت النزيف "
امتقع وجه رغد و احتقنت الدماء فيه فغدا أشبه ببركان على وشك الانفجار... و قالت :
" و هل رأسه سليم حقا ؟؟ هل الطبيب واثق من ذلك؟؟ لماذا نزف أنفه إذن ؟؟ لماذا لا يسترد وعيه كاملا ؟؟ "
و هو السؤال الذي يدور في رأسي و يضاعف مخاوفي... و ما من جواب...
رغد لما رأت صمتي تفاقم هلعها و هتفت و هي بالكاد تزفر أنفاسها :
" إن أصابه شيء فأنا سأموت "
و جاءت كلماتها و كأنها تهديد أكثر من كونها قلقا... كأنها تهددني أنا بأن تموت هي لو أصاب وليد شيء لا قدّر الله... و كأنني المسؤول عمّا أصابه... و كأنني أملك تغيير القدر...
وكأنني جدار مصنوع من الفولاذ... يمكنه تلقي أقسى الطعنات من أعز الأحباب... دون حتى أن يخدش
رفعت رغد يدها إلى وجهها تداري ما لا تجدي مداراته أمام مرآي...
" يا رب... أرجوك... أبقه لي ... يكفي من أخذت... أرجوك... أرجوك ... أرجوك... "
تفطّر قلبي بسببها و لأجلها... و أوشكت على النحيب معها...
و تذكّرت الحالة التي اعترتها بعد وفاة والدي ّ ... و التي خشينا أن تلحق بهما بسببها لولا لطف الله و رحمته...
تركتها تبكي لبعض الوقت... فقد كانت بحاجة لذلك... ثم قلت مشجعا وأنا المنهار المكسور :
" اطمئني يا رغد... سيتعافى بإذن الله "
بعد هذا ذهبنا إلى السيارة و بقينا في داخلها نعد الثواني و الدقائق و الساعات... و قلبانا لهجان بالدعاء و التضرع إلى الله...
و كنت أمر لتفقّد شقيقي بين فترة و أخرى و أراه لا يزال نائما ... و أرى كيسا يحوي مجروش الثلج يوضع على رأسه من حين لآخر...
في آخر مرة... و أنا أتأمل شقيقي عن كثب، و هو بهذه الحال السيئة... و وجهه شديد الشحوب و شعره قد طال و تبعثر فوق جبينه و الجليد ينصهر في الكيس الموضوع عليه... و الدماء متخثرة في أنفه المعقوف... و بعض آثارها تختبئ بين شعيرات ذقنه النابتة عشوائيا...
و الأنفاس الشاهقة الساخنة تنطلق عبر فمه و الندب القديمة تغطي جسده فيما السائل الوريدي يتدفّق إلى عروقه بسرعة... و أنا أتأمل كل هذا و ذلك ... شعرتُ بأسى شديد عليه...
كم بدا لي... مريضا ضعيفا عاجزا... و هو ذلك الجبل القوي الذي لم يتزعزع لدخوله السجن أو لكارثة تدمير مدينتنا أو لوداع شقيقتنا... أو لفاجعة موت والدي ّ ...
حقيقة كان هو الأقوى و الأصلب من بيننا جميعا... و كان الجدار الذي استندنا عليه للنهوض من جديد ...
لم أكن قد قابلته منذ شهور... كان يحرص على الاتصال بي من حين لآخر... و يخبرني بتطورات ما حصل معه... و يلح علي للانتقال إلى المدينة الساحلية و العمل و العيش معه في رغبة كبيرة منه لم شمل العائلة المشتت...
و لكن... هل بإمكاني العيش في مكان تعيش فيه رغد... أو تحت ظل سقف ضم والدي ّ إليه ذات يوم ...؟
آه يا والداي... و آه لما حل بنا... بعد رحيلكما...
أمسكت بيد شقيقي و قد اعتصرني الألم... و كلما اعتصرني أكثر ضغطت عليها أكثر... حتى انتبه وليد و أفاق من النوم...
نظر وليد إلي و ربما لمح بقايا اعتصار قلبي بادية على وجهي... ثم نظر من حولي ثم قال :
" أين رغد ؟ "
و ليته سأل عن أي شي آخر سواها...
ليته سأل... عن جثتي والدي ّ و عن الجروح التي كانت تغطيهما كلية...
ليته سأل عن الهول الذي أصابني و أنا أدقق النظر في جثمانيهما و بملء إرادتي... لا أكاد أميّزهما...
ما حييت ... لن أنسى تلك الصورة البشعة... أبدا...
و ربما كانت رؤية الندب على جسد شقيقي و الدماء المتخثرة في أنفه هي ما أثار في نفسي هذه اللحظة تلك الذكرى الفظيعة المفجعة...
" أين رغد يا سامر ؟ "
عاد شقيقي يسأل و قد علاه القلق، أجبت مطمئنا :
" في السيارة "
قال معترضا :
" تركتها وحدها ؟ "
قلت :
" كنت معها، أتيت لأتفقدك دقيقة "
قال :
" أهي بخير ؟ "
أجبت :
" نعم، الحمد لله لم تصب بأي أذى... أنت فقط جرحت أنفك "
و تبادلنا النظرات الدافئة...
قلت :
" سلامتك يا وليد "
و أنا أشدد الضغط مجددا على يده، وليد تنهد و رد بصوته الخافت :
" سلمك الله "
قلت :
" كيف تشعر الآن ؟ "
" الحمد لله.. أظنني تحسنت "
نقل وليد نظره من عيني إلى الساعة المعلقة على الجدار و التي كانت تشير إلى الرابعة عصرا
اعترضت و طلبت منه أن يبقى حتى يأذن الطبيب بانصرافه لكن وليد أصر على مغادرة المستشفى تلك الساعة و لم أجد بدا من تنفيذ رغبته...
عندما لمحتنا رغد نقترب من السيارة خرجت منها مسرعة و على وجهها مزيج متناقض من الراحة و القلق... ثم سألت موجهة الخطاب نحو وليد :
" هل أنت بخير ؟ هل تعافيت ؟ "
وليد هز رأسه إيجابا ... و إن كان جليا عليه التعب و الإعياء
ركبنا أنا و هو في مقدمة السيارة و جلست رغد خلفنا...
لمح وليد مفاتيح سيارته موضوعة على رف أمامي فسأل :
" أين هاتفي ؟ "
أجابت رغد الجالسة خلفنا :
" تركتـُه في مكانه "
قال وليد :
" اتصلي بالمزرعة... لابد أنهم قلقون الآن ... أخبريهم بأننا بخير و سنقضي الليلة عند سامر"
و لما لم يصدر من رغد أي شيء يدل على أنها سمعت أو فهمت ما قال ، ناداها وليد
" رغد ؟؟ "
فقالت مباشرة :
" حاضر "
و بادرت بالاتصال عبر هاتف محمول تحمله في حقيبتها... ظننته هاتف وليد ثم اكتشفت لاحقا أنه يخص رغد...
قال وليد :
" لا تأتي بذكر الحادث "
قالت رغد :
" حاضر "
و بعد جمل قصيرة دفعت رغد بالهاتف إلى وليد الذي راح يكرر أنهما بخير و أنهما سيأتيان لاحقا و أنهما سيقضيان هذه الليلة ... في شقتي أنا !
الشقة التي أخذنا سامر إليها كانت جديدة... و يبدو أن سامر قد انتقل إليها قبل بضعة أشهر... و هي شقة صغيرة لا تحوي غير غرفة نوم واحدة و غرفة معيشة صغيرة و حمام واحد !
فور وصولنا قاد سامر وليد إلى السرير الوحيد في ذلك المكان فاضطجع وليد عليه و التقط بعض الأنفاس ثم قال :
" أنا آسف... لكنني متعب للغاية "
سامر قال مباشرة :
" لا عليك... عد للنوم يا عزيزي "
وليد نظر إلي و كأنه يطلب الإذن مني ! قلت :
" ارتح وليد ... خذ كفايتك "
وليد نظر إلى سامر ثم قال :
" اعتنيا بنفسيكما "
ثم أغمض عينيه و استسلم للنوم !
أجلس ُ أنا و سامر في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز و لا يجرؤ أحدنا على النبس ببنت شفة ! لكم أن تتصوروا حرج الموقف... فالرجل الذي يجلس معي هنا كان قبل فترة خطيبي... خطيبي الذي عشت و ربيت معه... و وعيت لهذه الدنيا و أنا في صحبته... و هو و منذ أن أبلغني بأنه أطلق سراحي... ذلك اليوم ... و نحن في المزرعة... لم يعد له وجود في حياتي...
الشهور توالت بسرعة و توقفنا عن تبادل الزيارات و حتى المكالمات... لا أعرف تحديدا أي أفكار تدور برأس سامر هذه الساعة إلا إنني متأكدة من أنه أبعد ما يكون عن التركيز في البرنامج المعروض على الشاشة...
عندما حان موعد الصلاة أخيرا تكلّم...
" سوف أذهب لأداء الصلاة و من ثم سأمر بأحد المطاعم "
قال ذلك و هو ينظر إلى ساعة يده، ثم تابع :
" لن أتأخر... تصرفي في الشقة بحرية "
و نهض و سار نحو الباب...
لم أجرؤ على قول شيء... ماذا عساي أن أقول و أنا في موقف كهذا؟؟ و كيف يخرج و يتركنا وحدنا و وليد مريض جدا ؟؟
قبل أن يغلق الباب و هو في الخارج سمعته يقول :
" أتأمرين بأي شيء ؟ "
رفعت بصري إليه ... كنت أريده أن يستشف من نظراتي اعتراضي على ذهابه... لكنه غض بصره مباشرة و أشاح بوجهه جانبا...
شعرت بألم...
ليتكم تشعرون بما أشعر... بل لا أذاقكم الله شعورا مماثلا...
سامر... كان رفيق طفولتي و صباي و شبابي... كان أقرب الناس إلي... كان مسخرا وقته و كل ما باستطاعته من أجلي أنا... كان يحبني حبا جما... كثيرا جدا... و لم يكن أبدا... أبدا... يشيح بوجهه عنّي أو يتحاشى النظر إلي... لقد كنت خطيبته و لم يكن شيء أحب إليه من النظر إلي و الجلوس بقربي...
و الآن ... ؟؟
طأطأت رأسي في أسى و حسرة... و كيف لا أتحسّر و آسف على فقد إنسان عنى لي مثل ما عناه سامر طوال تلك السنين ...؟؟ إنه ... لم يفقد أحد ذويه مثلما فقدت ُ أنا... و مثل من فقدت أنا...
لما لم يجد سامر مني الجواب، انصرف مغلقا الباب بالمفتاح...
حينها لم أتمالك نفسي و جعلت أبكي...
بعد ما يقرب من النصف ساعة توهمت سماع صوت منبعث من غرفة النوم... و بدأ الوهم يتضح أكثر فأكثر... حتى تيقنت من أنه وليد...
ذهبت إلى الغرفة و أنا أسير بحذر... و ناديت بصوت خافت :
" أهذا أنت ... وليد ؟ "
كانت الغرفة مظلمة إذ أن سامر كان قد أطفأ المصابيح عندما غادرناها...
وليد قال بصوته الشبه معدوم :
" رغد ؟ ... "
" نعم... هل أنت بخير ؟ "
وليد بدأ يسعل بشدة سعالا استمر لفترة... أفزعني سعاله... فتشت عن مكابس الإنارة و أضأت الغرفة...
كان لا يزال في نوبة سعال لم تنه...
" هل أنت بخير ؟؟ "
لم يكن يستطيع التوقف... تفاقم قلقي و نظرت من حولي ثم خرجت إلى غرفة المعيشة بحثا عن بعض الماء...
عدت إليه مسرعة و قدمته إليه... و بعدما شربه انتهت النوبة و ارتمى على السرير مجددا... و أخذ يتنفس بعمق من فمه و يسعل أحيانا...
هدأ قليلا ثم سألني :
" أين سامر ؟ "
قلت :
" ذهب ليصلي... "
قال :
" اتصلي به "
وقفت مأخوذة بالهلع... و سألت :
" اتصل به ؟؟ "
قال :
" نعم... أنا متعب "
و شعرت بأعصابي تنهار... و ما عادت ساقاي بقادرتين على حملي... كنت أقف بجوار وليد و أرى بوضح علامات التعب و المرض ثائرة على وجهه
قلت بصوت متبعثر متفكك :
" ما بك يا وليد ؟ طمئني أرجوك ... "
و اجتاحتني رغبة عارمة في البكاء... وليد نظر إلي و مد يده و أمسك بأصابعي ... و شعرت بحرارته الشديدة تنتقل إلي... ثم قال :
" لا تقلقي... أنا بخير "
قلت بانفعال :
" لا لست بخير ! أنت مريض جدا ... أرجوك أخبرني ... هل قال الطبيب شيئا ؟ "
وليد أطال النظر في عيني ... و كأنه يبحث عن شيء مختبئ خلف بؤبؤيهما... ثم قال بحنان :
" هل... تخافين علي ؟ "
أخاف عليك؟ بل أكاد أموت من الفزع عليك... ألا ترى أن ساقي ّ... ترتجفان ؟ ألا تشعر بأنني... سأهوي أرضا ؟ ألم تحس برعشة يدي و برودتها ؟ لقد جفّت دمائي فزعا عليك يا وليد... و القلب الذي ينبض بداخلي... يضخ فراغا... وليد ... ألم تفهم ؟؟
قلت بصوت متقطّع واهن :
" وليد... أنا... إنني ... "
و هنا عادت نوبة السعال إليه مجددا... أقوى و أعنف...
لم أحتمل ذلك ... كادت روحي تخرج مع سعلاته ... أسرعت أجر ساقي ّ جرا ... إلى هاتفي و اتصلت بهاتف سامر...
" من معي ؟ "
" أنا رغد... "
" رغد ؟؟ "
" نعم... سامر عد بسرعة أرجوك "
" ماذا حدث ؟ "
" وليد مريض جدا ... أنا سأنتهي... "
و انهارت ساقاي أخيرا و هويت أرضا... و أخذت أبكي بل أصرخ ... لا أعرف ما قال سامر... لم أسمع أو لم أع ِ شيئا... و لم أقو َ بعدها على النهوض...
ربما كان سامر على بعد أمتار من الشقة لأنه حضر بسرعة و ما إن دخل الشقة حتى هتفت :
" أرجوك افعل شيئا ... لا تدعه يموت ... "
كنت جاثية على الأرض في عجز تام... سامر لم يطل النظر إلي ّ ... بل ألقى بالأكياس التي كان يحملها جانبا و أسرع نحو الغرفة...
وليد كان يسعل بشدة و بالكاد يجذب أنفاسه... و كان العرق يتصبب من جبينه بينما يشتعل جسده حرارة... لدى رؤيته بهذا الشكل، أصبت بالروع ... و قررت إعادته إلى المستشفى فورا...
رغد الأخرى كانت بحالة سيئة و بصعوبة تمكنت من النهوض و مرافقتنا...
هناك شخـّص الطبيب حالته على أنها التهاب رئوي حاد... و أمر بإدخاله إلى المستشفى مباشرة... لكن وليد رفض ذلك تماما و اكتفى بقضاء بضع ساعات تحت العلاج...
أمر الطبيب بحقنه بعدة أدوية... و أبقى قناع الأوكسجين على أنفه طوال الوقت... و ظل يتلقى العلاج حتى انخفضت حرارته و تحسن وضعه العام قليلا...
أما رغد فقد كانت منهارة و مشتتة للغاية... و ما فتئت تطلب مني أن :
" لا تدعه يموت ... أرجوك "
و كـأن الموت بيدي أو أملك لمنعه سبيلا...
أظن أن وفاة والدي ّ اللذين كانت هي متعلقة بهما كثيرا... و بحاجة إلى رعايتهما... جعلها تتصور الموت يحيط بها و تخشى حدوثه...
و ربما أيضا كان للمأساة التي عاشتها ليلة القصف على المدينة... أثرها العظيم ...
و بالتأكيد... فإن حبّها لوليد جعلها في هوس على صحته... و حياته...
لا زلت أذكر كيف استقبلته في ليلة زواج دانة... و كيف تدهورت صحتها و نفسيتها بعدما علمت بأمر ارتباطه بأروى...
و كيف كانت تراقبهما بغيظ في المزرعة... فيما أنا أتفرج عليها... و أقف كالشجرة... بلا حول و لا قوّة...
و ها أنا الآن أقف كالشجرة... أمام شقيقي و خطيبتي السابقة... بلا حول... و لا قوّة...
تمر الساعات بطيئة ثقيلة داكنة... خرساء عن أن كلمة أو إشارة... و كلّما أن ّ وليد اخترق خنجر صدي... و كلّما تأوه مزقت سكين أحشائي... و كلّما أفاق استقبلته أنظارنا بلهفة... فيقول :
" أنا بخير "
و كلما أغمض عينيه رفعت عيني إلى السماء داعيا الله أن يجعله بخير...
كان وقتا عصيبا... اكتشفت فيه أنني أحب شقيقي هذا أكثر مما كنت أعتقد... و بالرغم من كل شيء أو أي شيء...
مع مرور الوقت تحسنت حالته و استرد بعضا من قوّته و طلب منّي إعادته إلى الشقة...
" و لكن يا عزيزي... الطبيب ينصح ببقائك "
فرد :
" أنا بخير الآن... لنعد يا سامر... لابد أنكما متعبين... و خصوصا رغد "
و فهمت ما يرمي إليه...
رغد قالت معترضة :
" أنا بخير "
فقال وليد :
" و أنا كذلك "
و نظر إلي ّ ... فقلت :
" حسنا... هيا بنا "
و في الواقع لم يكن هناك حل أفضل من العودة في تلك الساعة المتأخرة من الليل...
في الشقة بدا شقيقي أفضل حالا بعض الشيء و لكنه لم يستطع مشاركتنا الطعام لشعوره بألم في معدته. الطعام كان مجموعة من الشطائر و العصائر... كنت قد جلبتها من أحد المطاعم أول الليل.. تناولناها أنا و رغد و نحن نراقب وليد... في غرفة النوم...
السكون التي ساد وليد جعلنا نستنتج أنه نام مجددا...
خاطبتني رغد سائلة :
" إنه أفضل... سيتحسن... أليس كذلك ؟ "
قلت :
" إن شاء الله... "
رغد قالت برجاء شديد :
" أرجوك... اعتن ِ به جيدا... افعل أي شيء لعلاجه "
أجبرتني جملتها على النظر إليها ثوان ثم بعثرت نظراتي بعيدا...
و هل تظنين يا رغد... أنني سأقف متفرجا على شقيقي و هو مريض بهذا الشكل ؟؟
أم تظنين أنني سأقصّر في العناية به انتقاما لما فعله بي في السابق ؟؟
أم تعتقدين أن هروبك منّي إليه سينسيني دماء الأخوة التي تجري في عروقي و عروقه؟؟
قالت رغد :
" يوم الغد... سأطلب من خالتي الحضور لأخذي معها... و بالتالي يتسنى لك نقله للمستشفى و معالجته "
و كلنا يدرك أن وليد رفض دخول المستشفى بسبب وجود رغد... إذ لم يكن من اللائق إدخاله إلى المستشفى و عودتنا وحيدين إلى الشقة...
تابعت رغد:
" سأتصل بها باكرا لتأتي سريعا... لا يجب أن نتأخر أكثر من ذلك... "
و لم أعقّب على حديثها بل كنت ألهي نفسي بشرب بقايا عصير الفراولة من كأسي الورقي... علها تطفئ شيئا من لهيب صدري...
قالت رغد :
" أنا آسفة لأنني عطّلت الأمر ... "
جملتها هذه أثارت اهتمامي... لكني تظاهرت باللامبالاة...
استرسلت رغد :
" لطالما كنت... و سأظل عقبة في طريقكم جميعا... لطالما سبب و سيسبب وجودي لكم التعطيل و الضيق... أنا آسفة... لقد طلبت منه أن يتركني في بيت خالتي لكنه من أصر على أخذي معه... سأبقى عبئا و عالة عليكم رغما عني... لكن... ماذا أفعل ؟ فأنا لا والدين لي ... "
و كصفعة قوية تلقيت كلمات رغد... صفعة لم تدر وجهي نحوها فقط بل جعلتني أحملق فيها بذهول...
رغد من فورها خرجت مسرعة من الغرفة... لتخبئ دموعها خلف الجدران...
لم استطع أن أحرك ساكنا... أحسست بالمرارة في داخلي بل و في عصير الفراولة على لساني...
و تركتها تبكي و أنا في عجز تام عن تقديم شيء من المواساة... أو تلقي شيئا منها...