الزنبقات السود في قلبي و في شفتي ... اللهب من أي غاب جئتي يا كل صلبان الغضب ؟ بايعت أحزاني .. و صافحت التشرد و السغب غضب يدي .. غضب فمي .. و دماء أوردتي عصير من غضب ! يا قارئي ! لا ترج مني الهمس ! لا ترج الطرب هذا عذابي .. ضربة في الرمل طائشة و أخرى في السحب ! حسبي بأني غاضب و النار أولها غضب !
حملتُ صوتكَ في قلبي وأوردتي
فما عليك إذا فارقتَ معركتي
أطعمتُ للريح أبياتي وزخرفها
إن لم تكن كسيوف النار.. قافيتي !
آمنت بالحرفِ.. إما ميتاً عَدَماً
أو ناصباً لعدوّي حبلَ مشنقِة
آمنت بالحرف ناراً... لا يضير إذا
كنتُ الرمادَ أنا ... أو كان طاغيتي !
فإن سقطتُ ... وكفي رافع علمي
سيكتبُ الناس فوق القبر :
((لم يَمُتِ))
**
أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْد .
تُمَشِّطُني بخُصْلَّة شعرها الذَهَبيّ
تبحثُ في ثيابي الداخلّيةِ عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ وَتَرْفُو جَوْريي المقطوعَ .
لم أَكَبْر على يَدِها كما شئنا :
أَنا وَهي , افترقنا عند مُنحَدرِ الرَّخام ... ولوَّحت سُحُبً لنا , ولماعزِ يَرِثُ المَكَانَ .
وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين :
دارجةُ ... ليفهمَهَا
الحمامُ ويحفظَ الذكرى , وفُصْحى ...
كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا !
(2)
***
ما زلتُ حيَّا في خِضَمَّكِ .
لم تَقُول الأُمُّ للوَلَدِ المريضِ مَرِضْتُ من قَمَرِ النحاس على خيامِ البْدوِ .
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ , حَيْثُ نسيتني ونسيتِ كيسَ الخُبْزِ
[ كانَ الخبزُ قمحيَّاً ] ولم أَصرخْ لئلاّ أُوقظَ الحُرَّاسَ حَطَّتْني على كَتِفْيكِ رائحةُ الندى .
يا ظَبْيَةُ فَقَدَتْ هُناكَ كنَاسَها وغزالها ...
عَجَنْت بالحَبَقِ الظهيرةَ كُلَّها .
وَخَبَزْتِ للسُّمَّاقِ عُرْفَ الديك .
أَعرِفُ ما يُخَرَّبُ قلبَك المَثّقُوبَ بالطاووس , مُنْذُ طُرِدْتِ ثانيةً من الفردوس .
عالُنا تَغَيَّر كُّلَّهُ فتغيرتْ أَصواتُنا حتَى التحيَّةُ بَيننا وَقَعَتْ كزرِّ الثَوْبِ فوق قولي أَيَّ شيء لي لتَمنَحني الحياةُ دَلالَها .
****
هي أُختُ هاجَرَ أُختُها من أُمِّها .
تبكي مع النايات مَوْتى لم يموتوا .
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تَنْفَتِحَ السماءُ ولا ترى الصحراءَ خلف أَصابعي لترى حديقَتَها على وَجْه السراب , فيركُض الزَّمَنُ القديمُ بها إلى عَبَثٍ ضروريِّ :
أَبوها طار مثل الشَرْكَسيِّ على حصان العُرسْ
(3)
أَمَّا أُمها فلقد أَعَدَّتْ , دون أن تبكي لِزَوْجَة
زَوْجِها حناءَها , وتفحَّصَتْ خلخالها ...
*****
لا نلتقي إلاَّ وداعاً عند مُفْتَرَقِ الحديث .
تقول لي مثلاً :
تزوجَّ أَيَّةَ امرأة مِنَ الغُرباء , أَجملُ من بنات الحيِّ , لكنْ لا تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سواي .
ولا تُصَدِّقْ ذكرياتِكَ دائماً .
لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ , تلك مِهْنَتُها الجميلةُ.
لا تحنُّ إلى مواعيد الندى .
كُنْ واقعيَّاً كالسماء .
ولا تحنّ إلى عباءة جدِّكَ السوداء , أَو رَشَوَاتِ جدّتك الكثيرةِ وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا .
وكُنْ مَنْ أَنت حيثَ تكون .
واحَملْ عبء قلبِكَ وَحْدَهُ ...وارجع إذا اتسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالهَا ...
عيونك شوكة في القلب توجعني ..و أعبدها و أحميها من الريح و أغمدها وراء الليل و الأوجاع.. أغمدها فيشعل جرحها ضوء المصابيح و يجعل حاضري غدها أعزّ عليّ من روحي و أنسى، بعد حين، في لقاء العين بالعين بأنّا مرة كنّا وراء، الباب ،إثنين! كلامك كان أغنية و كنت أحاول الإنشاد و لكن الشقاء أحاط بالشفقة الربيعيّة كلامك ..كالسنونو طار من بيتي فهاجر باب منزلنا ،و عتبتنا الخريفيّة وراءك، حيث شاء الشوق.. و انكسرت مرايانا فصار الحزن ألفين و لملمنا شظايا الصوت! لم نتقن سوى مرثية الوطن سننزعها معا في صدر جيتار وفق سطوح نكبتنا، سنعزفها لأقمار مشوهّة ..و أحجار و لكنيّ نسيت.. نسيت يا مجهولة الصوت: رحيلك أصدأ الجيتار.. أم صمتي؟! رأيتك أمس في الميناء مسافرة بلا أهل .. بلا زاد ركضت إليك كالأيتام، أسأل حكمة الأجداد : لماذا تسحب البيّارة الخضراء إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء و تبقى رغم رحلتها و رغم روائح الأملاح و الأشواق ، تبقى دائما خضراء؟ و أكتب في مفكرتي: أحبّ البرتقال. و أكره الميناء و أردف في مفكرتي : على الميناء وقفت .و كانت الدنيا عيون الشتاء و قشرةالبرتقال لنا. و خلفي كانت الصحراء ! رأيتك في جبال الشوك راعية بلا أغنام مطاردة، و في الأطلال.. و كنت حديقتي، و أنا غريب الدّار أدقّ الباب يا قلبي على قلبي.. يقوم الباب و الشبّاك و الإسمنت و الأحجار ! رأيتك في خوابي الماء و القمح محطّمة .رأيتك في مقاهي الليل خادمة رأيتك في شعاع الدمع و الجرح. و أنت الرئة الأخرى بصدري .. أنت أنت الصوت في شفتي .. و أنت الماء، أنت النار! رأيتك عند باب الكهف.. عند الدار معلّقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك
في الزرائب.. في دم الشمس
رأيتك في أغاني اليتم و البؤس !
رأيتك ملء ملح البحر و الرمل
و كنت جميلة كالأرض.. كالأطفال.. كالفلّ
و أقسم:
من رموش العين سوف أخيط منديلا
و أنقش فوقه لعينيك
و إسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا ..
يمدّ عرائش الأيك ..
سأكتب جملة أغلى من الشهداء و القبّل:
"فلسطينية كانت.. و لم تزل!"
فتحت الباب و الشباك في ليل الأعاصير
على قمر تصلّب في ليالينا
وقلت لليلتي: دوري!
وراء الليل و السور..
فلي وعد مع الكلمات و النور..
و أنت حديقتي العذراء..
ما دامت أغانينا
سيوفا حين نشرعها
و أنت وفية كالقمح ..
ما دامت أغانينا
سمادا حين نزرعها
و أنت كنخلة في البال،
ما انكسرت لعاصفة و حطّاب
وما جزّت ضفائرها
وحوش البيد و الغاب..
و لكني أنا المنفيّ خلف السور و الباب
خذني تحت عينيك
خذيني، أينما كنت
خذيني ،كيفما كنت
أردّ إلي لون الوجه و البدن
وضوء القلب و العين
و ملح الخبز و اللحن
و طعم الأرض و الوطن!
خذيني تحت عينيك
خذيني لوحة زيتّية في كوخ حسرات
خذيني آية من سفر مأساتي
خذيني لعبة.. حجرا من البيت
ليذكر جيلنا الآتي
مساربه إلى البيت!
فلسطينية العينين و الوشم
فلسطينية الإسم
فلسطينية الأحلام و الهم
فلسطينية المنديل و القدمين و الجسم
فلسطينية الكلمات و الصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد و الموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أسفاري
و باسمك صحت في الوديان:
خيول الروم! أعرفها
و إن يتبدل الميدان!
خذوا حذّرا..
من البرق الذي صكّته أغنيتي على الصوّان
أنا زين الشباب ،و فارس الفرسان
أنا. و محطّم الأوثان.
حدود الشام أزرعها
قصائد تطلق العقبان!
و باسمك، صحت بالأعداء:
كلى لحمي إذا ما نمت يا ديدان
فبيض النمل لا يلد النسور..
و بيضة الأفعى ..
يخبىء قشرها ثعبان!
خيول الروم.. أعرفها
و أعرف قبلها أني
أنا زين الشباب، و فارس الفرسان