كان عدد من الشباب يقف على المنصة منهم المسيحي و منهم المسلم، و قد تعرفت بالفعل على الشاب اللبناني الذي التقيته سابقا في المكتبة
و كعلامة على احترام الرأي المخالف
كان الشاب اللبناني أول المتكلمين! تكلم بطلاقة و هدوء... تحدث عن السلام و حب الآخر، و عن دعوة المسيح إلى الائتلاف... ثم تكلم شاب ثان مسلم عن الإله الواحد و معنى التوحيد في الإسلام و مخالفة المسيحية المحرفة لمعنى الألوهية... و بدأ الحاضرون من الجلوس يطلبون الكلمة، كل يشرح عقيدته و يرد على حجة الطرف الآخر دون تعصب أو غضب...
كنت أنظر إلى إخوتي المتكلمين باسم الإسلام بفخر و اعتزاز لانتمائي إلى هذا الدين و هذه الأمة...
إنني حقا خجلة من نفسي... رغم ما أدعيه من ثقافة دينية و معرفة عميقة للشريعة الإسلامية، فإنني لا أجد الحجة المناسبة في الوقت المناسب!!
بل إنني أتوه عندما يوجه إلي أحد المسحيين سؤالا، فالجواب يبدو لي بديهيا و لا أجد سبيلا إلى إيصال المعلومة التي باتت حقيقة بالنسبة لي لا تقبل النقاش!!!
ربما لأنني لم أهتم يوما بفهم وجهة نظر الطرف المقابل، لا أحاول أن أجيب على أفكاره و قناعاته بقدر ما أعمد على السخرية منها و اعتبارها أقاويل مفروغا من تفاهتها...
لكن ما رأيته في اللقاء من سعة صدر و تفهم و احترام للحجج المخالفة كان درسا بالنسبة إلي حول كيفية الأخذ بزمام الحوار...
خاصة حين تكلم بطلي...
تكلم بهدوء و موضوعية، محاولا إيجاد نقاط الالتقاء بين الآراء التي وقع الإدلاء بها سابقا، ثم متعرضا إلى نقاط الاختلاف الجوهرية و إلى التكملة التي جاء بها الإسلام بالنسبة إلى النصرانية...
و إلى نقاط التحول التارخية التي جمعت الديانتين، مستندا إلى تصريحات بعض المسيحيين الذين أسلموا و ما عرضوه من نقاط ضعف في الدين المسيحي المحرف...
و وجدتني فجأة أطلب الكلمة...
وقفت وسط الحضور و تناولت مكبر الصوت لأتحدث عن ما أعرفه من مطالعاتي و البرامج الثقافية التي أشهادها. تحدثت عن يوسف إيستس Yusuf Estes ، المبشر النصراني الأمريكي الذي أسلم بعد أن اقتنع بهشاشة دعوته، و تفرق مذاهب قومه و بني ديانته السابقة حين اصطدم بمتانة حجة الإسلام و سلامة القرآن من التحريف... و وجدتني أتطوع لنسخ محاضراته و مد كل من يرغب في الاستماع إليها بها...
حين أنهيت كلمتي، كنت ألهث من الانفعال. جلست، فعانقتني راوية في فرح : ـ لقد كنت رائعة يا مرام!! ـ حقا؟!
ـ نعم!!! لقد تكلمت بثقة و اتزان، و كانت العيون مركزة عليك، لقد أحسنت ختم اللقاء! ـ ...
انتهى اللقاء الممتع على أحسن ما يرام، و خرجت رفقة راوية تعلو وجوهنا ابتسامة عريضة... الحمد لله
ـ كانت فرصة مميزة...
ـ نعم، أرجو أن نعيدها مرات و مرات... ـ لاحظت أن عددا من الحاضرين ليسوا من الملتزمين! ـ معظمهم جاء للاستماع و الاستفادة، ربما هداهم الله عبر مثل هاته اللقاءات... ـ بل أن بعض الفتيات اللاتي طلبن الكلمة لسن من المحجبات، و أجدن الحجاج، سبحان الله... اللهم اهدهن إلى الحجاب و نور بصيرتهن... ـ اللهم آمين... ـ هل لاحظت الشاب الذي كان ينظم الحوار و الذي استلم الكلمة في الأخير فأحسن التعبير؟
بوغتت بالسؤال... إنها تتحدث عن بطلي!!
تظاهرت بعد الاهتمام و قلت في غير اكتراث :
ـ عن أي شاب تتحدثين؟ كل الشاب الحاضر كانوا مميزين، ما شاء الله...
ـ نعم، نعم أكيد... لكنني أتحدث عن منظم اللقاء، الذي دخل في البداية و وزع الأوراق
يا إلهي! إنها كانت ترقبه منذ البداية هي الأخرى!! معقول؟؟
صحيح أنه شاب مميز، و من الطبيعي أن يلفت انتباه كل الفتيات الملتزمات! يا لحظي!!!
قلت متظاهرة بعدم المبالاة : ـ نعم، أظن أنني عرفت عمن تتحدثين... ما به؟ ـ إنه ابن جيراننا... و أخته صديقتي، و تأتي إلى منزلنا كثيرا... و قد فوجئت حين رأيته يشرف على الحوار و يقود الجلسة! إنه شاب متخلق و مهذب جدا... لا يصافح البنات، و لا يكلمهن إلا في ضرورة... تصوري أنهم جيراننا منذ أكثر من خمس سنوات و لم نتحدث يوما! بل إنه حين يمر بي يكتفي بإلقاء التحية و يغض بصره بسرعة، حتى ظننته من النوع الخجول الذي يستحي من أخذ الكلمة... ففوجئت اليوم بطلاقة لسانه و ثقته العالية بنفسه!
ـ نعم يا حبيبتي راوية... فالشباب اليوم لا يتورعون عن الوقوف طويلا مع الفتيات و مبادلتهن الأحاديث و الدعابات، و يسمع ضحكهم من آخر الساحة... حتى بات الشاب الملتزم يعتبر معقدا... مثلما تعتبر البنت التي تتصرف بحياء معقدة... حتى أصبح الكثيرون يتهكمون و يتفكهون بقولهم : المعقدون للمعقدات، عوض الطيبون للطيبات!!!
قطع علينا حوارنا صوت شاب ينادي برفق من خلفنا : ـ معذرة يا فتيات، هل لي أن أقاطعكن للحظات... تسمرت في مكاني، و استدرت ببطء لأكتشف المتكلم... من يكون يا ترى؟؟ اممم... كان الشاب اللبناني المسيحي! غير معقول... ماذا يريد!؟
لم تنطق إحدانا بكلمة من فرط المفاجأة، فأردف قائلا : ـ آسف على الإزعاج، لكنني سمعتك تقولين في القاعة أنك مستعدة لمد كل من يرغب بأشرطة و خطب المبشر الذي أسلم... فهل لي أن أحصل عليها؟
عقدت الدهشة لساني، لكنني هززت رأسي علامة الموافقة و تمتمت كلمات غير مفهومة
حين انصرف، تبادلت مع راوية نظرة طويلة ذات معنى ثم انفجرنا ضاحكتين...
إنها فترة التمرين، أقضي معظم يومي في المستشفى، أقوم بأعمال الممرضات في أغلب الأحيان...
ماذا أفعل؟ لست بعد في مقام الأطباء... يا رب وفقني و صبرني على السنوات المتبقية!! لم أعد أطيق الانتظار خاصة حين أرى معاملة الأطباء اللاإنسانية للمرضى هنا!! شيء لا يصدق... الأطباء، و الممرضون الذين من المفروض أن يكونوا ملائكة الرحمة، يعاملون المرضى بقسوة و لا مبالاة... قد يقضي المريض يومه بين توجع و أنين دون أن يهتم به أحدهم أو يعيره أدنى اهتمام...
يا الله، هل سأصبح مثلهم في يوم من الأيام؟؟
يقولون أن الاستماع المستمر إلى الصراخ و الأنين يجعلك لا تسمعه و لا تحس به، كأنه جزء من السنفونية اليومية التي تعزفها الحياة حولك!!
هل التعود على آلام الآخرين يدفع بالقلوب إلى القسوة و التحجر؟؟
حين دخلت للمرة الأولى إلى قسم الأطفال المعاقين، لم أتحمل المشهد...
دمعت عيناي، و تراجعت، لم أستطع أن أحتضن الطفلة التي كانت عند قدمي تمد إلى يديها لأرفعها، لأنها وقعت عن فراشها و هي مشلولة القدمين لا تقوى على الوقوف...
ثم رأيت الممرضة التي رافقتني، تحملها بحركة سريعة، كأنها ترفع صندوقا خشبيا... و تعيدها إلى مكانها في عنف واضح، و تولي عنها دون أن تحاول الكشف عن الأضرار التي لحقتها عند السقوط...
و تعالى بكاء طفل آخر في أقصى القاعة...
أحسست بقشعريرة... هل خلقت فعلا لأكون طبيبة؟؟ أنا لا أتحمل تألم الآخرين أمامي... فكيف سأقوى على تضميد الجراح العميقة و خياطتها؟؟ كيف سأجري العمليات المعقدة و أفتح البطون و أعبث بمحتويات الأجساد؟؟
رمقتني الممرضة و أردفت مبتسمة :
ستتعودين... كلنا كنا مثلك في البداية، لكن بطبيعة العمل ستصبح أشياء عادية بالنسبة إليك. نعم؟؟؟؟ أصبح مثلكم، قاسية القلب، عديمة الرحمة؟؟ شكرا يا حبيبتي!! أفضل أن أبقى على حساسيتي، على أن أفقد أسمى ما في الإنسان : مشاعره الإنسانية!!
خرجت من القاعة بسرعة، حتى لا أفقد أعصابي... و... فجأة اصطدمت بشخص ما، إذ لم أكن مفتوحة العينين تماما... و قد استغرقني التفكير في مستقبلي المهني
التفت مرتبكة لأعتذر من الشخص الذي تسببت في إيقاع دفاتره و بعثرة أوراقه على الأرض... و... انعقد لسان من المفاجأة...
سارع بالانحناء ليجمع أوراقه، قبل أن أهم أنا بجمعها...
انتظرت حتى فرغ من إعادتها إلى مكانها، لأقول بصوت خفيض و متلعثم : ـ آسفة... لم أنظر أمامي...
لكنه قاطعني بابتسامة مؤدبة : ـ لا عليك أختي... ثم قال متفكرا بعد أن استقام في وقفته ـ ألست الأخت التي شاركتنا في لقاء الأديان مند أسبوعين؟
إنه يذكرني!! غير معقول!!
اهتز قلبي من الطرب... سأرقص في مكاني!!
غضضت بصري بسرعة و قلت في حياء : ـ نعم، لقد كان لقاء رائعا، و التنظيم غاية في الإحكام، كما كانت الكلمة الأخيرة مؤثرة بالفعل...
اتسعت ابتسامته و هو يقول : ـ أردت أن أشكرك لأنك بمبادرتك أتحت للجميع فرصة التعبير عن آرائهم، و أنا أولهم، فقد كنت أخطط لمثل ذاك اللقاء منذ فترة لكنني لم أجد الفرصة المناسبة...
صمت للحظات، ريثما همهمت بكلمات غير مفهومة لأنفي عن نفسي أي فضل، ثم أردف قائلا : ـ كما أشكرك جزيل الشكر على الأشرطة التي انتشرت في الكلية، حتى وصلني أحدها، فقد وجدت فيها الكثير من الحجج التي أعجز عن العثور عليها في أي مرجع آخر، لأن الرجل يتكلم من وجهة نظر المسيحي ثم يرد من وجهة نظر المسلم، إنه لشيء رائع حقا...
أحسست أن وقفتنا طالت أكثر مما يجب، و الممرضة توشك على الخروج في إثري.
لاحظ أنني تطلعت ناحية الباب فقال : ـ أنا آسف، لأنني آخذ من وقتك، لكن لم تتح لي الفرصة سابقا لأشكرك... و إنها لفرصة طيبة أن أراك هنا...
يا إلهي... أحس أن لوني تحول إلى الأحمر القاني...
وجهي سينفجر... النجدة!! ـ هذا من لطفك يا أخي...
ـ على العموم، أنا أقوم بتربص لمدة شهرين هنا... إن احتجت إلى أية مساعدة، تجدينني في المكتب المقابل... أعلم أن تجربة التمارين الأولى قد تكون مرهقة... كما أنني أمتلك بعض المراجع التي قد تفيدك... ثم استطرد ضاحكا : ـ على الأقل أكون قد رددت جميلك...
ابتسمت بدوري، ثم حييته باقتضاب و انطلقت إلى غرفة التحاليل... ...
ليس لأنني أترفع عن طلب المساعدة من أحد... لكنه شخص غريب... لا يكفي أننا التقينا مرتين أو ثلاثة قبل الآن لأسمح لنفسي بمبادلته الأحاديث!
لكنها فرصتك يا مرام... من الواضح أنه معجب بك، و قد شكرك بنفسه، و هو يعترف لك بالفضل في قيام الملتقى...
نعم، إنه يشركني على مساهمتي و حسب... لذا لا يجب أن أبحر كثيرا في أوهامي... أو أن أسمح لأحاديثي معه أن تتجاوز حدود اللياقة و الاحترام حادثة اليوم ليست مسوغا لإقامة علاقة صداقة أو أيا كانت!!
أنت هكذا تغلقين الأبواب جميعها... اتركي له الفرصة، لا تعطي المسألة أهمية أكثر مما تستحق، و دعي الأحداث تسير بطبيعتها... على أية حال، أمامك أسبوع كامل تقضينها معه في نفس المستشفى و قد تسنح بعض الفرص لتتحدث فلا تنفري منه!
آخ رأسي!! تعبت من التفكير...
ـ مرام، هلا أتيت إلى هنا... سارعت إلى الطبيبة التي كانت تدخل امرأة قد بدا عليها الإنهاك إلى غرفة الإنتظار ـ قومي بفحصها، ثم خذيها إلى غرفة الأشعة، لتصوير الجمجمة...
اقتربت مسرعة من السيدة و تناولت ذراعها لتتوكأ علي، إذ كانت تتحرك بصعوبة بادرتها و أنا أجس نبضها : ـ ما الذي حصل معك؟ ـ وقعت من أعلى السلم، فأصبت في رأسي...
دقات قلبها ضعيفة... الحال لا تبشر بخير... تحسست موقع الإصابة التي توقفت عن النزيف. ثم سارعت أقيس ضغط دمها... الحالة خطرة بالفعل!! أجلستها على السرير في قاعة الفحوصات ثم انطلقت إلى الطبيبة مسرعة :
ـ دكتورة... حالتها خطرة، لا يجب أن تتحرك، بل يجب أن تخضع إلى عملية في الحال... دقات قلبها ضعيفة جدا و مستوى ضغط الدم ينذر بهبوط حاد... أشك في نزيف داخلي...
قاطعتني الطبيبة في صرامة : ـ قلت لك خذيها لتقوم بصور الأشعة... و لا تحاولي أن تلعبي دور الطبيبة، فما تعلمته في الكلية يبقى مجرد نظريات مقارنة بالتجربة و المعاينة... لذا أطيعي أوامري!
ـ و لكن...
ـ مرام!
عدت إلى قاعة الفحوصات على مضض.
كانت السيدة تشعر بدوار، ساعدتها على الوقوف و أنا أقول محاولة رسم ابتسامة مشجعة على وجهي : ـ سيكون كل شيء على ما يرام، سنذهب معا إلى قاعة التصوير بالأشعة، استندي علي... تفضلي من هنا...
وقفت السيدة مترنحة و بدت ذراعها مرتخية و هي تقول : ـ هل مازال وليد في الخارج؟ طلبت منه أن يحضر لي قطعة من الحلوى لأنني أحس بالضعف... ـ من هو وليد؟ ـ إنه ابني، و قد أحضرني إلى هنا بالسيا...
لم تتم الجملة، بل انقطع صوتها فجأة و ارتخت ذراعها تماما، لتسقط على الأرض بلا حراك
لبثت المرأة مسجاة أمامي، للحظات قبل أن يهرع "فتى المواقف الصعبة"
لنجدتي بعد أن سمع الصرخة المدوية التي أطلقتها...
سارع بحمل السيدة على ذراعيه دون أن ينبس بحرف، تبعته إلى قاعة الفحوصات، حيث قام بمعاينتها بسرعة و خفة قبل أن يهتف في جزع :
ـ نحتاج إلى إنعاش سريع... إنها تموت!!
شهقت في هلع...
كان عدد من الممرضين قد تجمع في القاعة على إثر البلبلة التي حصلت في القسم، و وجدت الطبيبة التي أصرت على قيامها بالصور تقف أمام الباب و قد حاكى و جهها وجوه الموتى من اشتداد الاصفرار...
سارع البعض إلى تجهيز غرفة الإنعاش و صعقات الكهرباء، في حين تابع المنقذ محاولاته اليائسة بالضغط المستمر على صدرها... ثم ما لبث بعد عدة محاولات أن رفع رأسه في أسى، ليواجه العيون المتسائلة في وجوم : ـ فات الأوان... لقد فارقت الحياة...
تملكتني نوبة من البكاء الحاد، لم أستطع السيطرة عليها
أول مرة أرى شخصا يموت أمام عيني... خاصة أنه كان بإمكاني إنقاذها…
كنت أحس بأسى شديد، و قلبي يتقطع من الحزن… يا إلهي… اغفر لي يا رب…
جاء رئيس القسم بسرعة و على وجهه تكشيرة مخيفة، و نادى الطبيبة المشرفة، ثم بعد لحظات عاد ليناديني إلى مكتبه! تبعته في رعب شديد و أنا بالكاد أرى الطريق أمامي بعد أن صارت الرؤية ضبابية بسبب الدموع مررت على الممرضين الواقفين أمام القاعة و سمعت بعضهم يهمس : ـ مسكينة، لم يمض على وجودها في المستشفى أيام قليلة و ها قد تسببت في وفاة إحدى المرضى!
لم أستطع أن أرد، بل ارتفع نحيبي ثانية بعد أن أفلحت في السيطرة عليه بصعوبة شديدة
أنا لم أقتلها… لم أقتلها!! ليس ذنبي، صدقوني!!
جلس رئيس القسم خلف مكتبه و أخذ يلهو بالقلم بين أصابعه في عصبية واضحة، ثم أشار إلى الطبيبة التي كانت تقف إلى جانبي قبالة المكتب… ـ أخبريني إذن، ما الذي حصل بالضبط؟؟
ابتلعت الطبيبة ريقها بصعوبة و قالت : ـ جاءت المصابة في حالة يرثى لها، و قد كان من الواضح أن إصابتها في مستوى الرأس بليغة، لذلك طلبت من الطالبة تحت التمرين… مرام، أن تقوم بمعاينتها و جس نبضها… فأكدت لي أن ضغطها طبيعي و نبضها لا يصل إلى مستوى حرج…
اتسعت عيناي من الذهول… ما الذي تقوله هذه المرأة؟؟
إنه الكذب عينه!! هممت بأن أفتح فمي لأحتج، لأدافع عن نفسي… صحيح أنني مبتدئة، لكنني أطبق ما أتعلمه و أبذل قصارى جهدي… إنها أمانة يا ناس، أمانة يا عالم!! أرواح الناس أمانة بين أيدينا و ليست لعبة!!!
لكن الطبيبة قاطعتني ثانية لتقول :
ـ لا يمكن أن نحاسب طالبة في الصف الثاني على خطأ مماثل… لكن من الضروري أن نضع الطلبة من الآن فصاعدا تحت المراقبة الصارمة، لتجنب أخطاء فظيعة قد تودي بحياة البشر، فأرواح الناس ليست لعبة!!
تملكني إحساس فظيع بالضياع…
أحسست بأنني وحيدة، و مستضعفة، و مظلومة… يا الله رحمتك! استندت على الحائط حتى لا أسقط…
لم أسمع بقية ما قيل، بل استيقظت على صوت رئيس القسم الأجش يأمرني بالانصراف…
كانت الجموع لا تزال في الخارج، ينتظرون خروج الشاة الذبيحة لتكتمل فرجتهم المسلية. لبثت عيونهم معلقة بي، و أنا لا أقوى على الحراك... يتهامسون و يتمتمون دون أن يوجه أحدهم لي الكلمة ألم شديد في رأسي و صدري رحمتك يا رب...
ثم سمعت صوت باب المكتب يفتح ثانية، ثم صوت الطبيبة بجفافها المعتاد :
ـ مرام، اتبعيني! رفعت رأسي بصعوبة، ثم تبعتها بخطوات يائسة إلى مكتبها...
دخلت، فأغلقت الباب خلفي و دعتني لأستريح على كرسي...
تمنيت أن أتهالك على الكرسي، لكنني تجلدت و رفضت شفقتها، و هي التي اتهمتني زورا و بهتانا...
لم تعر رفضي للجلوس اهتماما بل أنشأت تقول : ـ اسمعيني يا مرام، مثل هذه الحادثة كان من الممكن أن تودي بمستقبلي المهني... و لا أظنك ترضين لي ذلك... ثم أنت يا صغيرتي لازلت طالبة تحت التمرين، و لا تؤاخذين كثيرا بأخطائك، و لن تتحملي أية مسؤولية لأنك لست مؤهلة بعد للعب دور الطبيبة...
و أرواح الناس؟؟ من يتحمل مسؤوليتها أمام رب العالمين؟؟
لا أصدق أن الدناءة قد تصل بالإنسان تجاه أخيه الإنسان إلى هاته الدرجة...
كيف يسمحون لمثل هاته الوحوش القاسية بالقيام بدور ملائكة الرحمة!!
أين الضمير المهني؟؟ بل أين المشاعر الإنسانية؟؟ حسبي الله و نعم الوكيل... يبدو أنها استشهدت منذ زمن في المستشفيات على أيدي عديمي الشفقة، فلم يبق لها أثر...
كانت هاته الخواطر تمر بذهني، دون أن أنطق فأنا أعلم أنه لا فائدة من كلامي...
فمن مات قلبه فلم يعد يتأثر بموت البشر أمامه، هل سيتأثر ببضع كلمات لوم و تأنيب؟؟ تابعت الطبيعة بعد استراحة صغيرة ريثما أستوعب كلماتها : ـ أظنك متعبة من كل ما حصل اليوم، لذلك يمكنك المغادرة... و لا داعي للعودة في الغد... سأسعى لنقلك إلى مستشفى ثانية في أقرب فرصة حتى تنهي تمرينك دون أن تعكر ذكرى حادثة اليوم مشوارك...
نعم بالطبع، يجب أن أختفي فوجودي يهددها... إنها تخشى أن أحدث أحدا بحقيقة ما حصل...
مدت يدها لتصافحني في برود : ـ شكرا لتفهمك، و بالتوفيق...
خرجت من مكتبها و أنا بالكاد أحافظ على هدوئي حتى لا أنفجر... عدت إلى قاعة الفحوصات حيث أخذت أجمع أوراقي و أدواتي بسرعة و عصبية... تطلعت إلى الخارج عبر النافذة. إنها تمطر بشدة، و البرق يمزق رداء السماء...
رحمتك يا رب...
لبست معطفي و خرجت... الحمد لله أنني جئت بسيارة أمي اليوم، و إلا لما تمكنت من العودة، فمحطة الحافلة على مسافة ليست بالقصيرة عن المستشفى، و مع الأمطار الغزيرة كنت سأصاب بنزلة برد حادة. قطعت المسافة حتى الموقف راكضة تحت المطر... ركبت السيارة، أدرت المحرك و انطلقت. كان المستشفى في منطقة شبه نائية، أقيم زمن الاستعمار. المحيط جبلي، و الطريق وعرة قبل الوصول إلى الطريق السيارة. ارتجفت و أنا أستمع إلى صوت الرعد الذي هز أرجاء المكان... سبحان الذي يسبح الرعد بحمد و الملائكة من خيفته...
كانت الطريق خالية و مخيفة،
لمحت في المرآة العاكسة سيارة أخرى تسير خلفي... إنها قادمة من المستشفى أكيد... فلا يوجد أي مظهر من مظاهر الحياة في الاتجاه الذي أتيت منه. مع أن الدوام لم ينته بعد، من يكون غادر المستشفى في مثل هذا الوقت؟ تابعت سيري بسرعة منخفضة لأن الطريق أصبحت زلقة... فجأة ارتفع صوت منبه السيارة التي تتبعني... يبدو أنني أعطل حركة المرور... زدت في السرعة قليلا، لأصل بسرعة إلى الطريق السيارة... لكن السائق عاد ليرفع صوت منبهه ثانية هل سرعتي لا تزال غير كافية؟؟ دست مجددا على مزود السرعة... فأحسست بأن السيارة تفقد توازنها... ضغطت على الفرامل قليلا... ثم فجأة أحسست بأن السيارة تغوص إلى الأسفل!! و المحرك يتوقف بعد أن ارتجت السيارة بي ارتجاجا شديدا... لقد وقعت في حفرة!!! حاولت إدارة المحرك من جديد، و ضغطت على مزود السرعة في محاولة يائسة للخروج من الحفرة، لكن بدون فائدة... كدت أن أنفجر باكية، لولا أنني في نفس اللحظة سمعت صوت طرق على باب السيارة! كانت الرؤية قليلة الوضوح... لكنني تبينت ملامحه و قد تبلل شعره و تساقطت قطرات صغيرة على وجهه! ...
إنه هو، نعم هو! دائما يظهر لست أدري من أين، ليخرجني من أشد المواقف صعوبة...
كان يطلب مني أن أفتح الباب... كنت في مأزق و لم أقدر إلا أن أنصاع إلى أومره... فتحت الباب بعد تردد قصير، لم ينظر إلي لكنه أفسح لي المجال و هو يقول في حزم : ـ انزلي!
أنزل؟؟ ماذا يريد مني؟؟
كنت أنظر إليه في دهشة دون أن أقوى على النطق، فوجدته يمدني بمفاتيح سيارة، و هو يشير إلى سيارته التي توقفت خلف سيارتي : ـ خذي سيارتي و عودي إلى المستشفى!
آخذ سيارته؟
لم يبد عليه أنه يمزح... دائما بنفس الحزم و الجدية و العملية.
مددت يدي لألتقط المفاتيح، ثم نزلت من سيارتي و أنا أرتجف... كنت أنفذ أوامره بدون نقاش، كأنه ولي أمري!
ركضت إلى سيارته، فتحت الباب و جلست أمام المقود. كان لا يزال يتابعني بعينيه و أشار إلي بأن أنطلق عائدة إلى المستشفى. أدرت المحرك و انطلقت بالفعل... كان يجب أن أنتبه إلى الحفرة، فقد تفطنت إليها ساعة قدومي إلى المستشفى و تجنبتها... لكنني لم أكن مركزة جدا عند مغادرتي كما أن حالة الطقس جعلت الرؤية غير واضحة، فوجدت نفسي في قعر الحفرة تماما! ماذا سيقول عني؟ أنني متهورة و قليلة الانتباه!
إحساس غريب انتابني. إنني أقود سيارته!!
ما الذي يحصل معي؟ كنت أجول بعيني داخل السيارة، كأنني في مكان عجيب... إنها سيارة ككل السيارات، لكنها سيارته... و أنا أقودها!!
تنبهت إلى القلادة التي تدلى من المرآة الأمامية و عليها دعاء السفر فابتسمت...
سقطت عيناي على كتاب كان موضوعا قريبا من المقود : كيف تنمي روح المبادرة... إنه يهتم بالتنمية البشرية أيضا!! عدد من الأشرطة : كن إيجابيا للدكتور صلاح الراشد... يا إلهي، إنني أعشق هاته السلسلة!
وصلت إلى المستشفى بسرعة، لبثت في السيارة لبضع دقائق. هل أدخل ثانية؟ ستراني الطبيبة و ستعنفني... ستحاصرني النظرات الفضولية...
لكن هل من المعقول أن أبقى في السيارة... في سيارته؟
وجدت الحل... نزلت من السيارة و ركضت إلى مدخل المستشفى. المكان مغطى بحيث يحميني من المطر، لكنني لن أضطر إلى مواجهة الأشخاص الذين في الداخل من جديد...
وقفت هنالك أتأمل السماء و الطبيعة المبتلة حولي، و المطر لا يتوقف... مرت الدقائق ثقيلة على قلبي... خمس دقائق مرت، عشر دقائق، ربع ساعة... و أنا أرقب الباب الخارجي للمستشفى... أنتظر عودته بفارغ الصبر ترى هل السيارة بخير؟ أمي لن تكون جد مسرورة بحماقتي! و ما أهمية السيارة الآن! أرجو أن يكون الشاب بخير... فقد تأخر! انتابني قلق شديد... مرت نصف ساعة، ثلاثة أرباع الساعة...
رحت أذرع الممشى جيئة و ذهابا... و أخيرا، ظهرت سيارة أمي في مدخل موقف السيارات. ركضت إليها متلهفة... إلى السيارة طبعا، كي أطمئن على حالها!
كانت الأمطار قد خفت بعض الشيء. نزل من السيارة و سلمني المفاتيح مبتسما : ـ لم أكن لأستطيع إخراجها بمفردي فقد غاصت العجلات في الوحل، فانتظرت مرور سيارة أخرى فيها بعض الشبان، فساعدوني... آسف إن كنت تأخرت عليك...
و يتأسف على التأخير أيضا! سلمته مفاتيحه بدوري... ـ لست أدري كيف أشكرك على ما فعلته معي... الحمد لله أنك عدت سالما، فقد بدأت أقلق بالفعل...
مراااااام!! ما الذي تقولينه؟؟
لم أستطع السيطرة على لساني، يا ويلي!!!!
احمرت وجوهنا معا و لم يكن ينقصنا سوى موسيقى رومانسية لنرقص تحت المطر
ـ ستتبللين تحت المطر... و لا أريد تعطيلك أكثر من هذا... لكن كوني حذرة هذه المرة... سيري على مهل. المطر لم يعد غزيرا و ستكون الرؤية أمامك أوضح... أعلم أن وفاة السيدة أمامك أثرت فيك كثيرا... و حين رأيتك تخرجين على تلك الحالة، تذكرت مباشرة الحفرة و توقعت أن تسقطي فيها، فخرجت على إثرك لأنبهك، لكنك كنت تسرعين فلم ألحقك في الوقت المناسب...
اشتعل وجهي ثانية، من الخجل من نفسي
... هل يبدو علي أنني متهورة!؟ ـ أقسم أنها لم تكن غلطتي... لقد...
وجدته يهز رأسه مؤيدا، لم يلق علي باللوم! بل قاطعني مطمئنا : ـ أعرف الدكتورة سعاد منذ مدة، و أعرف لامبالاتها و تكبرها... ليس غريبا أن تلقي عليك باللوم و تتهمك بأخطائها!
كنت في غاية السعادة... إنه لا يعتقد أنني المذنبة! الحمد لله...
ـ انتبهي إلى الطريق، و صحبتك السلامة... صعدت إلى السيارة و ابتسامة تعلو شفتي، ابتسامة مسحت عني كل آلام ذاك اليوم و مصائبه...