• [ مسابقة الماهر بالقرآن ]: هنيئا لأختنا فاطمة عليليش "Tama Aliche" الفوز بالمركز الأول في مسابقة الماهر بالقرآن التي نظمت من قبل إذاعة جيجل الجهوية وتحت إشراف مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية جيجل. ونيابة عن كافة أعضاء وطاقم عمل منتدى اللمة الجزائرية نهنئك بهذا الفوز فألف ألف ألف مليوون مبروك هذا النجاح كما نتمنى لك المزيد من النجاحات والتوفيق وأن يكون هذا الإنجاز إلا بداية لإنجازات أكبر في المستقبل القريب بإذن الله. موضوع التهنئة

بَوَاعِث الْخَلَاص مِنَ الذُّنُوب

البحر الهادي

:: أستاذ ::
أحباب اللمة
إنضم
27 ماي 2016
المشاركات
5,794
نقاط التفاعل
12,821
النقاط
1,716
محل الإقامة
أرض الوطن
الجنس
ذكر
هذا الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله ومعه تعليق للشيخ عبد الرزاق بن عبدالمحسن العباد البدر حفظهما الله تعالى

المقدمة:


الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا لك ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل توبتنا واغسل حوبتنا وثبِّت حجتنا واهدِ قلوبنا وسدِّد ألسنتنا واسلُل سخيمة صدورنا ، ثم أمَّا بعد :


أيها الإخوة الكرام : لن يكون الحديث في هذا اللقاء عن بيان خطر الذنوب وعظم مضرتها على العبد في دنياه وأخراه ، وقد أجاد في هذا الباب كثيرًا وأفاد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم « الجواب الكافي» ، ولن يكون أيضًا الحديث في هذا اللقاء عن التوبة وأهميتها وعظيم مكانتها ووجوب المبادرة إليها وخطورة تسويف التوبة وتأجيلها وأن تأخير التوبة نفسه ذنب ينبغي للعبد أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى منه ، ولكن سيكون الحديث مباشرة فيما عُنون لهذه المحاضرة وهو : «البَوَاعِث عَلَى الْخَلَاصِ مِنَ الذُّنُوب» .


والمراد بالبواعث: أي الأمور والأسباب التي تدفع العبد إلى التوبة وتعينه على المبادرة إليها وتدفعه إلى مجانبة الذنوب والبُعد عنها إذا ما حدَّثت النفسُ صاحبها بارتكاب ذنب أو فعل خطيئة ؛ وهذا باب مهم جدًا نحتاج كثيرًا إلى مدارسته والتأمل فيه ، وذلك أن الإنسان يجد من نفسه ويعلم من حاله وقوعًا في بعض الذنوب وارتكابًا لبعض الخطايا ، ويجد من نفسه رغبةً في تركها إلا أنه لا يزال يرى نفسه مع الأيام تقع في تلك الذنوب ؛ فما هي البواعث والدوافع التي تعين العبد بإذن الله سبحانه وتعالى على الخلاص من الذنوب والبُعد عنها والمسارعة إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى من فعلها وارتكابها ؟


وهو كما ترون موضوع عظيم الأهمية جليلُ القدر ، وثمة بواعث كثيرة تطرَّق لها أهل العلم في بطون الكتب وفي مصنفاتهم النافعة ومؤلفاتهم المفيدة تعين العبد بإذن الله سبحانه وتعالى إذا عرفها وأعملها في حياته على الخلاص من الذنوب والبعد عنها ، ورأيت الإمام العلامة المربي ابن القيم رحمه الله تعالى أجاد في هذا الباب إجادةً عظيمة كما هو رحمه الله تعالى في عموم تصانيفه ومؤلفاته ، فذكر رحمه الله تعالى في كتابه «عِدَةُ الصابرة وذخيرة الشاكرين» في فصلٍ خاص البواعث التي تعين العبد على الخلاص من الذنوب ، وذكر رحمه الله تعالى عشرين باعثًا جمعها جمعًا عجيبًا وأوردها إيرادًا متينًا وبيَّنها رحمه الله تعالى بيانًا نافعًا في هذا الفصل الذي أشرت إليه من كتابه آنف الذكر .


وفي لقائنا هذا عرضٌ لهذه البواعث التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب المتقدِّم مع شيءٍ من التفاصيل سائلًا الله جل وعلا أن يمدَّنا أجمعين بعونه وتوفيقه وهدايته وتسديده ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يرزقنا العلم النافع وأن ينفعنا بما علَّمنا وأن يجعل ما نتعلمه حجةً لنا لا علينا ، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين إنه تبارك وتعالى سميعٌ قريبٌ مجيب .
 
الأول من هذه البواعث للخلاص من الذنوب : مشهد إجلال الله تبارك وتعالى ؛ أن يشهد المرء في قلبه جلال الله سبحانه وتعالى وعظمته وقد قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13-14] ، قال جل وعلا : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67] ، فإذا ما حدَّثت النفس صاحبها أن يرتكب ذنبًا أو خطيئة عليه أن يشهد بقلبه جلال الله وعظمته سبحانه ، وأن يذكر أن ربه الجليل العظيم سبحانه مطَّلع عليه ، يرى فِعاله ويسمع مقاله، فإذا ما تحرك في القلب هذا الباعث حجز صاحبه ومنعه بإذن الله تبارك وتعالى من ارتكاب الذنوب .
 
الثاني
من هذه البواعث : أن يشهد القلب محبة الله سبحانه وتعالى ، وثمة أمور ذكرها أهل العلم تحرك في القلب هذه المحبة وتُعظِم من مكانتها في قلب العبد ، وإذا شغل المرء قلبه بمحبة الله سبحانه وتعالى صرفه هذا الانشغال عن الوقوع فيما يغضبه جل وعلا ، لأن المحبة الصادقة تدفع صاحبها إلى البعد عما يسخط من يحب ولهذا قيل :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ

لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيــــــعُ
 
الأمر الثالث من هذه البواعث : أن يشهد القلب نعمة الله وإحسانه إلى عبده عليه ؛ فضله على عبده بالصحة والعافية والمال والمسكن والمركب والسمع والبصر والقوى ، فيذكر فضل الله سبحانه وتعالى عليه ، وليحذر العبد أن تكون حاله تلك الحال البئيسة ؛ فضْل الله لا يزال عليه نازل والملائكة صاعدة بأعمال سيئة وأقوال باطلة وأمور محرمة ارتكبها هذا العبد . ومما يُذكر عن بعض أهل العلم أن رجلا من العصاة أتاه ونفسه تحدِّثه في المعصية فقال له كلاما معناه : لا بأس أن تعصي لكن اذهب في مكان لا يراك الله ، قال لا يمكن ذلك ، قال : إذًا لا تستعمل شيئًا من نعم الله عليك في معصيته ، قال وكيف يكون ذلك ؟! فذكَّره بأمرين بنعم الله عليه واطلاعه سبحانه وتعالى له ، هذا معنى كلامه . ولاشك أن العبد عندما يذكر نعمة الله عليه بالصحة والعافية والمال ونحو ذلكم وأن هذا كله من فضل الله عليه سبحانه وتعالى ويذكر في الوقت نفسه خطورة هذه الذنوب فإن ذكره للنعمة والفضل والإحسان يعدُّ من البواعث العظيمة التي تدفع العبد إلى البعد عن الذنوب وارتكابها
 
الأمر الرابع : مشهد الغضب والانتقام ؛ أن الله سبحانه وتعالى يغضب ممن عصاه ، ويسخط ممن ارتكب ما نهى عنه، {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}[الزخرف:55] ، فالله عز وجل يغضب ويسخط وينتقم فليذكر ذلك ، إذا حدثته نفسه بمعصية الله تبارك وتعالى ليذكر غضب الله وأن غضب الله وانتقامه لا يقاومه شيء فكيف بهذا العبد الضعيف !! فذِكر غضب الله سبحانه وتعالى فيه أعظم رادع وزاجر للعبد وحاجزٍ له من ارتكاب الذنوب
 
الأمر الخامس : مشهد الفوات ؛ عندما يطاوع نفسه بأن ترتكب الذنب الذي دعته إليه كم سيفوته من الخير؟ كم سيفوته من الفضل؟ كم سيكون لهذه المعصية من الأثر على فوات حظه ونصيبه من تمام الإيمان وكماله؟ انظر هذا المعنى وهذا الفوات في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) ، فكم فوَّت على نفسه هذا الفضل وهذا الخير وهذا الاسم التام الكامل اسم الإيمان ، فإذا كان بهذه المعاصي وبهذه الكبائر لا يصبح أهلًا إلا أن يقال مؤمن فاسق أو مؤمن فاجر أو مؤمن عاصي أو نحو ذلك من الكلمات التي تدل على هذا الأمر الذي ارتكبه ، فيكون بارتكابه للمعاصي فوَّت على نفسه خيرًا عظيما ، فوَّت على نفسه حظه ونصيبه من تمام الإيمان وكماله الواجب وما يترتب على ذلك أيضا من أجور وخيرات ، كم يكون فوَّت على نفسه حظها ونصيبها من قول الله جل وعلا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97] ؟ كم فوَّت نفسه بالمعاصي والآثام من أمور عظيمة وخيرات جليلة في دنياه وأخراه ، فإذا شهد مشهد الفوات وذكَّر نفسه عندما تحدثه بالمعصية ماذا سيفوتني عندما أرتكبها ؟ عندما أفعلها؟ كم سيفوتني من خير ، من فضل، من نعم، من بركة في دنياي وأخراي ؛ فلاشك أن شهود النفس لهذا المشهد العظيم مشهد الفوات فيه نفعٌ عظيم جدا في مجانبة الذنوب والبعد عنها
 
الأمر السادس : مشهد قهر النفس وإرغام الشيطان ؛ والنفس والشيطان هما مصدر الآثام ومنبع الشرور ، فإذا ابتعد عن المعصية والخطيئة التي تدعوه إليها نفسه الأمارة بالسوء ويدعوه إليها الشيطان الرجيم فإنه يكون بذلك قهر نفسه وأرغم الشيطان وذاق حلاوة العزة بطاعة الله واتباع رضاه والبعد عما يسخطه جل في علاه ، قد جاء في الدعاء المأثور الذي يستحب للمسلم أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أوى إلى مضجعه ((اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ)) ، وهذا تعوذٌ من مصدري الشر ومن نتيجتيه ، فإن مصدري الشر هما النفس والشيطان ، ومطلوبٌ منك في هذا الدعاء المبارك أن تتعوذ بالله في اليوم والليلة ثلاث مرات إذا أصبحت وإذا أمسيت وعندما تأوي إلى فراشك من مصري الشر النفس الأمارة بالسوء والشيطان ، وأن تتعوذ من نتيجتيه وهما : أن تقترف سوء في نفسك ، أو أن تجره -أي السوء- إلى غيرك، فإذا ذكرت هذا المعنى وتركت المعصية قهرًا للنفس الأمارة بالسوء وإرغامًا لعدوك الشيطان واعتزازًا بمحافظتك على طاعة الله سبحانه وتعالى فهذه غنيمةٌ أعظم بها من غنيمة
 
الأمر السابع : مشهد العِوَض ؛ عندما تترك المعصية خوفًا من الله وطلبًا لرضاه ورعايةً لإيمانك وطلبًا للفوز برضا ربك سبحانه وتعالى ، هذا الترك الذي هو جزء من إيمانك كم سيعوِّضك الله عليه من لذة القلب وهناءته وسعادته وقرة العين والبركة في الحياة إلى غير ذلك من أنواع الخيرات ، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرًا منه ، فإذا حدَّثت النفس صاحبها بأن يرتكب المعصية ذكَّر نفسه بترك هذا الذي تدعوه إليه نفسه طلبًا للعوض من خيرات الدنيا والآخرة التي يكرم الله سبحانه وتعالى بها عبده المؤمن الذي ترك المعصية خوفًا من ربه ورجاءً لثوابه وأملًا بالفوز بموعوده جل في علاه والترك للمعصية هو نفسه طاعة وقربة لله وجزء من إيمانك الذي تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى قد دلت عليه دلائل وشواهد منها حديث أبي هريرة المتقدم «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
 
الأمر الثامن : مشهد المعيَّة الخاصة ؛ أعني معيَّة الله سبحانه وتعالى التي اختص بها جل وعلا عباده الصابرين المتقين المحسنين ، فإذا دعته النفس إلى المعصية صبر واتقى الله عز وجل وخاف عقابه سبحانه فيفوز بمعية الله الخاصة كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153] ، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:128] ، وهذه معية خاصة تقتضي النصر والحفظ والعون والتأييد والتسديد ، فيشهد هذه المعية ويحرص على أن يكون من أهلها فيصبر عن المعصية التي تدعوه إليها نفسه ويتقي الله سبحانه وتعالى بتجنُّب ما يسخط الله عز وجل ويحسن في عباداته وأعماله ليكون من أهل هذه المعية الخاصة
 
الأمر التاسع :من هذه المشاهد التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى : مشهد معاجلة الأجل ، والله سبحانه وتعالى يقول: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}[الرعد:38] ، ولا يدري الإنسان متى تفجؤه المنية ومتى يحضر أجله ، وربما ظن في نفسه ولاسيما في قوته وشبابه أنه يعيش إلى ما بعد الستين وما علِم أنه ربما يموت غدًا ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:34] ، فمشهد معاجلة الأجل ومباغتته للعبد مشهدٌ عظيم إذا ذكره العبد ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ)) لأن هذا التذكر ينفع العبد باتقاء الذنوب ومجانبتها والبعد عنها ، وإذا حدثته نفسه مثلًا أن ينطلق إلى مكان كذا وكذا سواءً بسفر أو بدون سفر مكان قريب أو بعيد يقول لنفسه : "هبِ يا نفس أنك متِّ في الطريق أو متِّ في هذا السفر " ، فعلًا هذا حصل خرج إنسان من بلده وسافر ولم يكن له من نية في سفره إلا ارتكاب بعض المعاصي ومات في الطريق ، فشهود هذا المعنى وتخويف النفس به وتذكيرها له وأن الأجل قد يفاجئ الإنسان قد يأتيه بغتة ثم والعياذ بالله يخرج من هذه الدنيا وكانت همته متجهة إلى المعصية وإلى ارتكاب الذنب هذا جد أمر خطير ولا يحب إنسان عاقل لنفسه أن يموت وهو في هذه الوِجهة وأن يهلك وهو في هذا السبيل والعياذ بالله ؛ فهذا مشهد مهم إذا أحضره الإنسان في نفسه وتفكر فيه كان بإذن الله سبحانه وتعالى حاجزًا له ومانعًا من ارتكاب الذنب
 
ª الأمر العاشر: مشهد البلاء والعافية ؛ وهذا أيضًا من المشاهد العظيمة التي إذا شهدها المرء بقلبه وأعمل ذهنه في التفكر فيها أعانه ذلك إلى مجاهدة النفس على البعد عن معصية الله تبارك وتعالى ، البلاء والعافية ، والذنوب هي أعظم البلاء ، والعافية هي الطاعة طاعة الله سبحانه وتعالى ، فأهل الطاعة هم أهل المعافاة ، وأهل الذنوب هم أهل البلاء ، فالبلاء في الذنوب ، والعافية في طاعة الله سبحانه وتعالى . وقد يكون الإنسان مصابًا في بدنه لكنه في أتم ما يكون عافيةً في دينه وأحسن ما يكون عافيةً في دينه ، وقد يكون الإنسان على العكس من ذلك صحيحًا في بدنه وليس معافى في دينه ، أعطاه الله قوة وجسم وصحة ومال ولكنه ليس في عافية في أمر الدين ، أهلكته الذنوب وأوبقته ؛ فيتفكر في هذا المقام فإن فيه بإذن الله سبحانه وتعالى نفعًا عظيمًا له
 
الأمر الحادي عشر: مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : أن يعوِّد الباعث الديني معارضة داعي الهوى على التدريج ؛ بمعنى أن يعوِّد نفسه على المجاهدة ، والله سبحانه وتعالى يقول : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69] ، والمسلم فيه باعث ديني بل بواعث كما تقدم ، وفيه دواعي للشر ونوازع للشر تأتي من هنا وهناك ، فيحتاج أن يعالج ويدافع ويصارع تلك البواعث التي تدعوه إلى الشر بالباعث الديني وهو ما يسمى بالمجاهدة ، مجاهدة : المقاومة ، مقاومة تلك البواعث التي تحرك في نفسه الشر وتدعوه إليه
 
الأمر الثاني عشر مما ذكره رحمه الله تعالى : كف الباطل عن حديث النفس ؛ لأن المعصية أول ما تبدأ في العبد غالبًا تبدأ خاطرة في نفسه ، ثم تصبح أمنية ، ثم تتحول إلى هم يتحرك في قلب العبد ، ثم تتحول هذا الهم إلى إرادة سيئة ، ثم يتحول بعد ذلك إلى عزم يقارن الفعل ؛ فمن الخير للإنسان أن يقطع هذه الخواطر السيئة في أولها ، لأنها إن لم يحرص على قطعها في أولها تزايدت وتحولت من شيء إلى آخر كما سبق بيانه ، فمن السهل عليه أن يدفعها عن نفسه وأن يقوِّمها وهي مجرد خاطرة قبل أن تزيد وتتنامى في نفسه إلى أن تصبح همًّا قويًا أو إرادةً سيئة أو عزمًا على ارتكاب الذنب وفعله
 
الأمر الثالث عشر مما ذكره رحمه الله تعالى : قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى بصرف هواه فيما يحبه الله ، وذلك أن ثمة أسباب عديدة وكثيرة تحرك في قلب الإنسان الهوى في الباطل والإثم والحرام ، فيحرص على قطع هذه العلائق والأسباب التي تحرك في قلبه داعي المعصية ، وذلك ليس بصرف الهوى عن نفسه مطلقًا وإنما بجعل هواه فيما يحبه الله ، كما في الحديث المروي من حديث أنس : ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ))
 
الأمر الرابع عشر : صرف الفكر إلى عجائب آيات الله سبحانه وتعالى المتلوَّة التي هي كلامه سبحانه وتعالى القرآن العظيم ، وآياته المجْلُوة في التفكر في آيات الله سبحانه وتعالى الكونية { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[آل عمران:190-191] ، ولاشك أن شَغْل القلب بهذا التفكر يفتح للعبد من أبواب الإقبال على الخير والبعد عن الباطل واللهو والضلال ، وتأمل هذا المعنى في قول أولي الألباب: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} ؛ فأحْدث هذا التفكر وحسن النظر والتأمل هذا الإيمان القوي { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} ؛ مما يدل على أن تفكر العبد في آيات الله العظيمة يقوِّي إيمانه ويزيد من صلته بالله سبحانه وتعالى ويكون طاردًا للوساوس الرديئة ، فهذا أيضًا من الأمور العظيمة النافعة في هذا الباب
 
الأمر الخامس عشر مما ذكره رحمه الله تعالى : التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وأنها دار ابتلاء وامتحان وأنها دار الغرور {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } [الحديد:20] ، وفي القرآن آيات عديدة في بيان مثل هذه الحياة الدنيا وكذلك في أحاديث الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ، والله يقول: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20] أي المتاع الزائل الفاني ، فإذا تفكر في سرعة زوال هذه الدنيا وسرعة انقضائها وأن الحياة إنما هي الحياة الأخروية {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}[العنكبوت:64] ، أما هذه الحياة فهي حياة سريعٌ انقضاؤها سريعٌ زوالها ، لو تفكرت في هذا الباب في اليوم الذي يقفه الناس بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة في انتظار بدء الحساب ؛ كم يقفون ؟ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:14] ماذا يقارن خمسين ألف سنة بالمدة التي عاشها الإنسان في الحياة الدنيا؟ كم عمر الإنسان ؟ ((أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ)) ، نفرض أن شخصًا ما عمره ستين سنة ، إذا حذفت منها خمسة عشر أو دونها قبل البلوغ ، وإذا حذفت منها ثلُثها كاملة في النوم ، لأن من عاش ستين سنة وهو ينام في اليوم والليلة ثمان ساعات يكون في خلال ستين سنة نام ما يعادل عشرين سنة ، فالذي صفى لك من العمر قليل جدًا ، ماذا يقارن هذا القليل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فإذا تفكر في سرعة زوال الدنيا وسرعة انقضائها كان ذلك أيضا باعثًا عظيما له للبعد عن الذنب ، وانظر هذا المعنى في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ))
 
الأمر السادس عشر مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : تعرض العبد إلى مَن القلوب بين أصبعين من أصابعه ، ومَن أزمَّة الأمور بيده ، ومَن العباد طوع تدبيره وتسخيره سبحانه وتعالى ؛ فعندما تتعرض القلوب إلى من هذا شأنه سبحانه التجاءً إليه وتوكلًا عليه واعتصامًا به {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[آل عمران:101] ، وإلحاحا عليه بأن يعينك ، أن يعيذك ، أن يقيك أن يعافيك ، وفي هذا المعنى دعوات كثيرة مأثورة عن نبينا عليه الصلاة والسلام ، ومن أعطي الدعاء وصِدق الالتجاء أعطي الإجابة ، قال الله سبحانه وتعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }[البقرة:186] ، ولهذا شُرع لك في كل مرة تخرج من بيتك أن تستعيذ بالله «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» ، فهذا باب عظيم جدًا ومن وُفق لهذا الأمر وصدق في التجائه إلى الله سبحانه وتعالى أعاذه ربه وعافاه ووقاه ، وإذا قال كما جاء في الحديث ((إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟)) ، وهذا يبين لنا مكانة الأوراد الشرعية والأذكار المأثورة وحسن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الباب العظيم باب الوقاية من الذنوب والمجانبة لها
 
الأمر السابع عشر مما ذكره رحمه الله تعالى : أن يعلم العبد أن فيه جاذبين متضادين : جاذب إلى الرفيق الأعلى ، وجاذب إلى أسفل سافلين والعياذ بالله ؛ فهو يتنازعه هذان الجاذبان جاذب إلى الرفيق الأعلى في الطاعة لأن الطاعة هي التي تُعلي العبد وترفع شأنه ومقامه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10] ، وجاذب آخر إلى أسفل سافلين وهو جذب النفس الأمارة بالسوء له ، والشيطان ، خلطاء الشر وقرناء الفساد ، فإن كان مع جاذب الخير سعِد وأفلح ونجا ، وإن كان والعياذ بالله مع جاذب الشر هلك عياذًا بالله . فهذا أيضًا جانب إذا استحضره العبد وتفكر فيه وأنه بين جاذبين ينظر في داعي الشر ويذكر نفسه أن هذا مما يجذبه إلى أسفل سافلين فينأى بنفسه ويربأ بها عن أن يسلك مسلكا يحطه أو يجعله في الحطيط والعياذ بالله
 
الأمر الثامن عشر : أن يعلم أن تفريغ المحل شرطٌ لنزول غيث الرحمة ، وتنقيته من الدرن شرطٌ لكمال الرزع، فمتى تم ذلك -أي تفريغ المحل وتنقيته- صار مهيئًا لنزول الرحمة والخير والبركة ، وخذ مثالًا ألمح إليه رحمه الله تعالى بحال الزرع ؛ إذا لم يتعاهده صاحبه بإبعاد النباتات المؤذية التي تزاحم الزرع على الماء وربما شربت أكثر الماء الذي للشجر ، وربما كانت نباتات ضارة ، وربما كان أيضًا حشرات تؤثِّر على الشجر وتنخر فيه وتسبِّب موته ومرضه ، فيحتاج هذا الزرع حتى يقوم وينهض على أتم ما يكون يحتاج أن يُنقَّى من ذلك وأن يُبعد عنه الدغل النباتات الغريبة والأشياء التي تؤذيه وتزاحمه ، بعد ذلك إذا وضع فيه الماء كان له الأثر الكبير في حياته ونباته ونمائه وقوته ، ومثل المؤمن مثل الشجر كما في القرآن الكريم { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:24-25] أي أن هذا مثل محسوس مرئي مشاهد وهو الأشجار لمعرفة حقيقة الإيمان وأن مثله مثل الشجرة
 
الأمر التاسع عشر مما ذكره رحمه الله تعالى : أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلَقه لبقاءٍ لا فناء له ، ولعزٍ لا ذل له ، ولأمنٍ لا خوف معه ، ولغنى لا فقر معه ؛ وذلك في الدار الآخرة { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:112] خلقه الله سبحانه وتعالى لذلك لكن امتحنه في هذه الدار بأمور وأشياء ربما فتنَتْه أو فتنت كثيرًا من الناس عن الحياة الحقيقية والعز الحقيقي والغنى الحقيقي واللذة الحقيقية إلى غير ذلك من النعم نعم الآخرة التي لا تزول ولا تحول . فتذكير النفس بذلك بما في الآخرة من عزٍ وغنًى ولذةٍ ونعمةٍ وأمنٍ وغير ذلك وأن هذه المعاصي ستكون سببًا للإضرار به في تحصيل تلك المقامات العلية الرفيعة فيعمل على مقاومة النفس ومجاهدتها ليفوز بلذة الآخرة وهناءتها وأمنها وخير الآخرة وبركاتها ، والمعاصي لها أثرها على العبد يوم يلقى الله سبحانه وتعالى ، بخلاف من أكرمه الله عز وجل برعاية إيمانه والإقبال على ربه جل وعلا فيكون من أهل الجنة الذين يدخلونها يوم القيامة بلا حساب ولا عقاب ، ومن كان سوى ذلك فإنه عرضة للحساب وعرضة للعقاب وعرضة لدخول النار ، وإن كان من أهل الإيمان فإنه إذا دخل النار فإنه لا يخلد فيها ، لأن الخلود إنما هو للكفار المشركين لكنه بمعاصيه وآثامه خاطر بنفسه مخاطرة عظيمة وجعلها عرضةً لمثل ذلك في قبره وحشره ويوم يلقى ربه سبحانه وتعالى
 
العودة
Top