.. الدرس 3 الجزء -2- الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سهولة خروج روح المؤمن ماهي رَدَّة فعل الروح على هذا الكلام؟ تخرج. كيف تخرج؟ قال: ((تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ)) لو أخذتَ إناءً فيه قطرة ماء، ثم أمَلْتَه كيف تنزلق قطرة الماء على جدار الإناء من الداخل؟ بِكُل يسر وسهولة، هكذا تخرج روح المؤمن منه. إذن خروج سهل ومُيَسَّر وسريع. وإذا قال قائل: ألم يمُرَّ معنا سابقا أن المؤمن يعانِي من النزع؟ يعاني من الشدة، وفي كرب في سكرات الموت؟ ألم نقل إن الموت بعرق الجبين لأن هناك شدة عند الاحتضار؟ فكيف نُوَفِّقُ بين هذا وبين أن خروج الروح سهل وميسور؟ وتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء؟ أجاب العلماء بإجابات ومنها: أن أول الأمر عليه شديد، أول الأمر على المؤمن شديد إذا تغشَّاه الموت، إذا نزلت به السكرات. إذا تغشاه الموت، شُدِّد عليه لكي يُكفَّر الله به من خطاياه ويرفع به من درجته، ويزيد به من أجره؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام، لمَّا نزل به الموت، جعل يكشف الثوب عن وجهه، يرُدُّهُ ويكشف، يقول: ((لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ)) [رواه البخاري: 6510]. فإذًا مرحلة السكرات هذه أول ما ينزل الموت ويتغشَّاه، تشتًدُّ ويمكن أن ينشأ عنها عرق الجبين؛ فإذا انتهت الشدة، خرجت الروح بسهولة. تنفك الأزمة وتنفك الشدة وتخرج الروح بسهولة كما تسيل القطرة من فيّ السقاء.
قال ابن حجر الهيثمي: "ولا ينافي ذلك ما مَرَّ أنَّ المؤمن يُشَدد عليه عند النزع، لأن محلَّه فيما قبل خروج الروح". وقال القاري: "ولا منافاة بين شدة النزع واضطراب الجسد، وسهولة خروج الروح؛ بل قد يكون الأول سببا للثاني". فإذاً ما يحدث للجسد من شدة، سببٌ للسهولة التي ستخرج بها الروح.
"فيأخذُها" فإذًا هي تخرج طواعيةً، تخرج تلقائيا، تخرج بكل يسر وسهولة. ماذا يفعل ملك الموت؟ يستلمها مباشرة ويأخذها، ثم {يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، فإذا خرجت روحه في هذه اللحظة، ماذا سيحدث؟ ((صلَّى علَيْه كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاء))، كم من الملائكة؟ كثير جدا. السماء أكبر أم الأرض؟ السماء أكبر. هل هي واحدة؟ لا، سبع. وقد أخبر أنه ليس هناك موضع أربعة أصابع في السماء، إلَّا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد. إذًا السماء هذه ضخمة جدا، سبع سماوات مليئة بالملائكة، قال: ((أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ)) [أخرجه الترمذي: 2312، وصححه الألباني في السلسلة: 1722]. فهي ترتَجُّ بالملائكة الذين فيها يعبدون الله، قائمين راكعين ساجدين، هؤلاء الملائكة عددهم ضخم جدا، وهناك ملائكة بين السماء والأرض، وملائكة في كل سماء. لحظة خروج روح المؤمن، كل الملائكة هؤلاء يصلون عليه، كلهم، ملايين الملايين من الملائكة يدعون له. قال: ((حتَّى إِذَا خَرَجَتْ رُوحُه، صلَّى علَيْه كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاء، وَفُتِحَتْ لهً أبْوَابُ السَّمَاءِ)) استعدادًا مع المسافة، الآن المسافة بعيدة جدا، لكن هناك استعدادات تجري في العالم العلوي لاستقبال الروح التي في الأرض، لأن هناك صعودا، والاستعداد المسبق يدل على التكريم، والأعداد الهائلة هذه التي تدعو، ليسوا فقط يصلون عليه يستغفرون له ويطلبون له الرحمة، وإنما يسألون الله -ليس من أهل باب لأن السماء لها أبواب- {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]، فالسماء لها أبواب - قال: ((لَيْسَ مِنْ أهْلِ بَابٍ إلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ الله أَنْ يُعَرَجَ بِرُوحِه مِنْ قِبَلِهُمْ)) إذا هذه السماوات لها أبواب، وكل باب موكل به ملائكة وهم يفتحونه وهم يغلقونه، وأهل كل باب يدعون الله أن يكون مخرج أو مصعد الروح هذه مِن عِندِهِم، مِن قِبَلِهِم، لأن فيه رائحة طيبة جدا، والملائكة تحبها ويريدون أن يتنعموا بها، وأن يكون مخرج هذه الروح من عندهم وليس من الباب الآخر. فالملائكة تُريد أن تتشرَّف به، وتريد أن تتَنعَّم بروحه الطيبة.
صعود الروح إلى السماء
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ المُؤْمِنِ تَلَقّاها مَلَكَانِ يُصْعِدانها)) [مسلم:2872]، فهناك مرافقُون، يعني أن هناك استلامًا وتسليمًا، ووضعًا في حريرة وطيب، ووفْدًا مرافقًا. فهناك وفدٌ يستقبلها في الأرض، وهناك وفد يصعد بها وهناك وفْد ينتظرها في السماء لكي يُعرج بها من قِبَلهم، قال حماد راوي الحديث: "فذكرَ مِن طِيبِ ريحِها وذَكَر المِسك" -فالمسك تحديدا من الطيب الذي يكون لهذه الروح- ((ويقولُ أهْلُ السَّماءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جاءَتْ مِن قِبَلِ الأرْضِ)) لأن هذا الطيب جاء من الجنة، لذلك رائحته جميلة جدا فالملائكة تتعجب منه، وهو فواح لدرجة أن أهل السماء يقولون: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، ((صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وعلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ)) هذا دعاء الملائكة، فهذه روح طيبة مؤمنة، مخلصة، صادقة، مخبتة، منيبة، هذه روح تقية نقية، ولذلك يقول الملائكة في الدعاء لها: صلى ﷲ عليك، وليس الدعاء للروح ولكن للجسد أيضًا ((وعلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ))، فيُنطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول الله عز وجل: ((انْطَلِقُوا به إلى آخِرِ الأجَلِ)) وسنعرف ما معنى آخر الأجل، قالَ: ((وإنَّ الكافِرَ إذا خَرَجَتْ رُوحُهُ))، قالَ حَمَّادٌ وذَكَرَ مِن نَتْنِها، وذَكَرَ لَعْنًا، ((ويقولُ أهْلُ السَّماءِ رُوحٌ خَبِيثَةٌ جاءَتْ مِن قِبَلِ الأرْضِ، فيُقالُ: انْطَلِقُوا به إلى آخِرِ الأجَلِ)). قالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَيْطَةً كانَتْ عليه، علَى أنْفِهِ، هَكَذا.
قال النووي في الشرح: "ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل، يعني انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى، والمراد بالثاني -يعني انطلقوا به إلى آخر الأجل- بروح الكفار إلى سجين، فهذا منتهى الأجل". الله يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل، إلى أعلى مكان ستصعد إليه، سدرة المنتهى؛ والكفار أرواحهم إلى سجين.
الدرس-4- حمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين برزخ ونهايته:
وفي شرح ((انْطَلِقُوا به إلى آخِرِ الأجَلِ)) قال القاري: "المراد بالأجل هنا مدة البرزخ". انطلقوا به إلى آخر الأجل إلى نهاية مدة البرزخ، ومتى ينتهي البرزخ؟ بالبعث، إذا قامت الساعة بدأ يوم القيامة وانتهت حياة البرزخ، ثم يحشرون، فقوله: ((انْطَلِقُوا به إلى آخِرِ الأجَلِ)) إلى نهاية مدة البرزخ، فمتى إذا أول مدة البرزخ؟ الموت. وآخر مدة البرزخ؟ البعث. هذه مدة البرزخ، وهذا قول قوي.
لمَّا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، لما ذكر لهم الحديث وأبو هريرة يرويه، وأكَّد لنا أنه سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، وأن النبي عليه الصلاة والسلام، لما أخبرهم عن قول الملائكة: ((رُوحٌ خَبِيثَةٌ جاءَتْ مِن قِبَلِ الأرْضِ))، النبي عليه الصلاة والسلام تأكيدا على خبث هذه الريح، وضَع رِيطَةً -الرِّيطَة هي الثوب الرقيق كانت عليه، ردَّها على أنفه. وحمَلَهُ الطيبي -يعني الشارح- على أن النبي عليه الصلاة والسلام وجَدَ ريح النتَنِ حقيقةً ولذلك أغلق أنفَه، وهذا ظاهر الحديث وهذا هو الأصل.
مرور الروح بمجموعات الملائكة أثناء صعودها قال: ((فإِذَا أخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طرْفَةَ عَيْنٍ))، لم يتركوها في يد ملك الموت، وإنما يستلمها أعوانه، الذين معهم كفن من الجنة، ((فيجعلوها فِي ذَلِكَ الْكَفَن، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوط من الجَنَّة)) وذلك قول الله تعالى: {تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا یُفَرِّطُونَ}، أي لا يزيدون ولا ينقصون، ويُنَفِّذُون بحسب المراسيم الإلهية بدقة، والتوقيت دقيق جدا؛ ((وَيَخْرُجُ مِنْهَا)) في حديث البراء: ((كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مَسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ))، هذا للتمثيل، وإلَّا فهو أطيب من هذا، ((فَيَصْعَدُونَ بِهَا)) أعوان ملك الموت أو ملائكة الرحمة، ((فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى ملإٍ مِنَ الْمَلَاَئِكَةِ)) وهم الجمع العظيم، ((إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحِ الطَّيِّبِ؟)) ما هذه الرائحة الطيبة؟ ((فَيَقُولُونَ فُلَانٌ اِبْن فُلَانٍ)) يذكرون اسمه واسم أبيه، تُعرِّفُه الملائكة وتذكر اسمه للملائكة الأخرى، وهم يمرون عليهم. من هذا؟ فلان ابن فلان، إذن تعريفا به، باسمه وباسم أبيه. وأي اسم؟ لو كان للإنسان أكثر من اسم؟ قال: ((فِي أَحَسَنِ أسْمَائِه الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا))، فإذا كانت له عدة ألقاب وعدة أوصاف وعدة أسماء فيُسمونه بأحسن أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا. فإذن الصاعدون بروح المؤمن، يمُرون على عدة مجموعات من الملائكة في الصعود، هؤلاء ملأ وبعدهم ملأ وبعدهم ملأ، إلى أن ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، ولا زالوا يُعَرِّفُون به ويُشيدون. فلان ابن فلان، من هذا؟ فلان ابن فلان، وهكذا. فالروح صاعدة تمر بأعداد ومجموعات من الملائكة، يتم تعريفهم باسمه.
((فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ)) فهناك استئذان من الملائكة عند القدوم، ((فَيُفْتَحُ لَهُم)) فيَستفتحون يطلبون الفتح، ((فَيُفْتَحُ لَهُم)) إشارة إلى أنهم لا يفارقونه، معناها أن هذا الوفد المرافق، هذا الوفد الملَكي من الملائكة -غير الملِكي نسبة إلى الملِك، المَلَكي نسبة إلى الملَك- هذا الوفد المَلَكي الذي معه، لا يتركونه وإنما يستفتحون له ويصعدون معه، ويستمرون في تلك الرحلة، وحيث أنهم يقدُمون على ملائكة في السماء ويصعدون إلى سماء أخرى، فإن هناك مُشَيعين من الملائكة غير الملائكة الصاعدة، يُشيِّعونه للسماء التي بعدها، ومن هم المشيعون؟ أفضل الملائكة في كل سماء، لأن الملائكة مراتب، والله سبحانه وتعالى يعلم منازلهم ومراتبهم، {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 164-166]، فإذًا كل ملك له منزلة مُعَيَّنة، فمن الذي يشيعه في رحلته؟ المقربون من أهل كل سماء، هؤلاء الذين يشيعونه، بالإضافة للملائكة التي كانت معه أصلا في الرحلة الذين يرافقونه؛ فهناك مرافقُون وهناك مشَيِّعون، وهناك مستقبلون ومرحِّبون، وهناك من يفتح ويرحب ومن يكمل الرحلة ومن يشيع إلى السماء التي بعدها، حتى يُنتَهى به إلى السماء السابعة.
قال القاري في الشرح: "الأظهر أن المراد به نهاية السموات العُلا والاقتراب إلى عرش الرحمن"، يعني يتم تجاوز السماء السابعة اقترابا إلى عرش الرحمن. فيقول الله عز وجل: ((اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عَلِيِّينَ)) أثْبتوه، هو كُتِب من قبل، كُتِب من أهل السعادة، فيُكتب الآن ((أثْبِتُوهُ فِي عَلِيِّينَ)). قال القاري: "معنى اكتبوا كتاب عبدي في عليين أثبتوا"، ((عَبْدِي)) الإضافة هذه للتشريف، ولذلك الكافر لا يقول: ((اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي)) يقول: ((اكتُبُوه)) اكتُبوا كتابه في سجين. ما هو علّيون هذا؟ قال تعالى في كتابه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19-21]، فإذا هذا دفتر أسماء المؤمنين، دفتر أسماء أهل الجنة.
عودة الروح إلى الجسد
بعد أن صعد واستُقبِل وأثنى الله عليه، وأمر بكتابة اسمه، تثبيت اسمه في عليين، بقيت رحلة العودة، فيقول: ((أَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ))، لتَرجع الروح مرة أخرى إلى البدن، فتَتعلق به تعلُّقا آخر غير التعلق الذي كانت متعلقة به في الدنيا، ولكي يتهيأ لجواب السؤال. فإذا هذه الرحلة قبل السؤال، الرجوع إلى الجسد لأجل الإقعاد والسؤال، لماذا العودة هذه؟ ولماذا لا يبقى في مكان آخر؟ قال: ((فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ)) أجساد بني آدم خُلقت من التراب، من الأرض، ((وَفِيهَا أُعيدُهُمْ)) أجسادا وأرواحا، ((وَمِنْهَا أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى)) عند البعث يوم القيامة. فيُرَدُّ إلى الأرض مُكَرَّمًا نازلا مرة أخرى، وتُعاد روحه في جسده، إذًا مرة أخرى تدخل الجسد، سبحان الله.
بعد أن وصفنا خروجها وبلغت الحلقوم، وكيف تم الاستلام والتسليم وسهولة الخروج، لكن هذا الإخراج كان لرحلة عُلوية تعود بعدها الروح إلى الجسد مرة أخرى. لكن عندما تدخل فيه مرة أخرى، لا يكون تعلُّقُها به كتعلُّقها بالجسد قبل الموت، تعلُّق ما بعد الموت غير تعلق ما قبل الموت، مع أنها تدخل مرة ثانية، لقوله: ((وتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ))، إذا هناك دخول مرة أخرى بعد الخروج؛ ومَن قال أنها تعود لبعض البدن، فيحتاج قوله إلى دليل صحيح، فنقول تعود إلى البدن، إلى كل البدن، لكن ليس كهيئته الأولى.
عند هذه العودة الأذن تسمع، قال: ((فإنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرينِ))، إذن الآن دفنوه، وسيتولَّوْن عنه، إذن يمكن للواحد أن يموت ويُدفن بسرعة، يعني يموت ويُغَسل ويُجهَّز ويُكَفَّن وهذا الأصل، بهذه السرعة، ويصلَّى عليه ويدفن. يمكن للعملية أن لا تأخذ إلا وقتا قصيرا، ويمكن ساعات أو أقل، فيقال: وهذه المسافة من الأرض إلى السماء كم تأخذ؟ لكن الله على كل شيء قدير، فهو عز وجل يشاء أن تخرج وتصعد، وتنزل ويسمع قرع نعالهم قبل أن يخرجوا من المقبرة وقبل أن يبتعدوا. قال: ((فإنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أصْحَابِهِ إِذَا وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرينِ))، يعني صوت نعال الناس وهم صادِرون منصرفُون من القبر، منصرفُون من الدفن، يسمع قرع نعالهم، صوت النعال وهي تمشي؛ فإذاً هذا السماع حقيقي، يسمع صوت المنصرفين عنه.
تثبيت الله للمؤمن
((فَيَأْتيه مَلَكَانِ)) منكر ونكير، ((شَدِيدَا الِانْتِهارِ فِينْتَهِرَانِهِ)) ومن الذي يُستثنى من هذا الانتهار؟ الشهيد، والذي يموت يوم الجمعة آمن من فتنة القبر، ((فِينْتَهِرَانِهِ، وَيُجْلِسَانِه)) كيف يُجلسانه؟ جسدا وروحا. ((فَيَقُولَانُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟)) فيجيب. ((مَا دينُكَ؟)) فيجيب. ((مَا هذَا الرَّجُلُ اَلَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟))، ما اعتقادك فيه؟ ((فَيَقُولُ: هوَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ، فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ؟))، من الذي أخبرك بهذا؟ من الذي أخبرك بالله ورسولك ودينك؟ ((فيقول: قرأت كتاب الله)) إذا ما هو مصدر عِلم المسلم؟ من أين تؤخذ العقيدة؟ من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ ما هو مصدر العقيدة؟ ((فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقَتُ)) صدَّقْتُ بالله وبدينه وبكتابه وبنبيه صلى ﷲ علیه وسلم، صدَّقْتُ بما في القرآن، وهي آخر فتنة تُعرض على المؤمن. وهذا التثبيت الذي يُثَبِّت الله به المؤمنين، والتثبيت هو جريان اللسان بالجواب، جريان اللسان بالجواب عن السؤال الذي يُعرض عليه في القبر. قال الشيخ السعدي رحمه الله في هذه الآية والتي فيها تثبيتات قال:" يُخْبِرُ الله تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثْمِرُها، فيُثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على دين الإسلام والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح إذا قيل للميت من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟" وهكذا.
فإذاً التثبيت من الله في الدنيا على الإسلام وعدم الزيغ والإنحراف، وعند الموت بنُطق الشهادة، وعند السؤال في القبر يجيب الجواب، وإذا مرَّ على الصراط على متن جهنم يثبت الله قدميه فلا تزَلُّ ولا يقَع في جهنم. ((أفْرِشُوهُ مِن الجَنَّةِ)) ابسطوا له فراشا من الجنة، ((وَأَلْبِسوهُ مِن الجَنَّةِ)) من ثياب الجنة، ((وَافْتَحوا لَهُ بابًا إِلَى الجَنَّةِ))، إذاً يوجد باب مفتوح مباشر من الجنة إلى القبر، ((فَيَأْتيه مِنْ رُوحِهَا وَطيبِها)) مباشرة نسيم ورائحة الجنة، تأتي إليه في قبره، ((وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ)) يعني يُوسَّع له منتهى بصره. وقد ورد في أحاديث صحيحة أخرى: ((أنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ سَبْعُونَ فِي سبْعِينَ، وأنَّهُ يُمْلَأُ عليْهِ خضِرًا إَلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))، فالآن هذا القبر الفسيح سبعون في سبعين، هذا أمامه مسافة طويلة، فما الذي يراه؟ هل هي أرض جرداء؟ لا، قال يُملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون. هناك باب إلى الجنة ويرى بيته في الجنة وأزواجه وأمواله وأشجاره، يرى النعيم الذي سيؤول إليه إذا دخل الجنة. كل واحد له منزلة في الجنة، أعدها الله له فيرى درجته، ويرى منزلته، وهكذا ينظر إليه ويشتهي أن تقوم الساعة ليدخل، وبعض نعيم الجنة يصل إليه عبر هذا الباب والنافذة المفتوحة، بعض نعيم الجنة يصل إليه، لأنه يأتيه من روحها وريحانها، طبعا هذا يغنيه عن كل طعام وشراب،
الدرس 5
الجزء-1- الحمد لله رب العالمين قبر المؤمن الفسح: التوسعة في القبر، في رواية: ((سَبْعُونَ فِي سبْعِينَ))، وفي الرواية هذه يقول: ((مد بَصَرِهِ)) أنت الآن إذَا وقفت في أرض مستوية ونظرت مد البصر، آخر شيء تدركه ببصرك على بعد كم؟ مسافة كبيرة، وطبعا سبعون هذه من الألفاظ التي تستعملها العرب في المبالغة، فهو شيء كثير ولا شك، فالقبر بالنسبة للمؤمن ليس مترًا بمتر، لا، القبر بالنسبة للمؤمن مد البصر، ويُفْرَشُ له أخضر.
هذا بيت الوحدة -القبر- والوحدة تحتاج إلى إيناس، فمن الذي سيؤْنسه؟ قال: ((يأتيهِ رَجُلٌ حَسَن الوَجْهِ حُسنُ الثّيابِ طَيِّبُ الرّيحِ، فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِاَلَّذي يَسُرُّكَ)) أبشر بما يجعلك مسرورا، ((أَبْشر بِرِضْوانٍ مِنْ اللَّهِ وَجَناتٍ فِيهَا نَعيمٌ مُقيمٌ، هَذَا يَوْمُكَ اَلَّذِي كُنْتَ تَُوعَدُ)) بالنعيم، كنت في الدنيا موعودا أنك إذا عملت وأخلصت واجتهدت فإنك ستحصل على هذا النعيم؛ ها هو جاءك والوعدٌ وتحقق، ((هَذَا يَوْمُكَ اَلَّذِي كُنْتَ تَُوعَدُ)) في الدنيا، ((فَيَقُولُ لَهُ: وَأَنْتَ بَشَّرَكَ اللَّهِ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ؟)) لمَّا سرَّه بالبشارة، قال له: إني لا أعرفك، فمن أنت؟ حتى أجازيك بالثناء والمدح، ((فوجهك الوجه يجيء بالخير)) وجه حسن جميل، قال ((أَنَا عَمَلُكَ الصّالِحُ، فَواللَّه مَا عَلِمْتْكَ إِلَّا كُنْتَ سَرِيعًا فِي طاعَةِ اللَّه)) فإذا أذَّن يذهب للصلاة مباشرة، وإذا جاء وقت الحج إلى الحج، وإذا دُعِيت من قبل الوالدين لبَّيْت مباشرة، وإذا قيل يا أيها الناس تصدقوا، مددت يدك مباشرة، وإذا استُنفِر للجهاد نفرت مباشرة، وإذا قيل هناك علم، جئت إلى الدرس والحلقة، وإذا قيل من يعاون؟ كنتَ المبادر والسبَّاق المتنافس بالخيرات، ((مَا عَلِمْتْكَ إِلَّا كُنْتَ سَرِيعًا فِي طاعَةِ اللَّه، بَطِيئًا عَنْ مَعْصيَةِ اللَّهِ، فَجَزَاك اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِن الجَنَّةِ وَبابٌ مِن النّارِ)) ليرى نعمة الله عليه، كيف نجا منها، يغلق الباب، ويُفتح باب الجنة لكي يكون منشرحا طيلة الوقت فيها، وهو يقول: ((رَبِّي أَقِمِ السّاعَةَ، رَبّي أَقِمِ السّاعَةَ))، تكرار وإلحاح في الدعاء، لأنه يريد أن يأتي منزله الذي في الجنة، الذي يراه، وهو لماذا يكرر الدعاء ويلح ويقول ربي أقم الساعة؟ يقول: ((حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلي وَمالي)) حتى أرجع، فكأن هؤلاء هم الأهل الأصليون، ما المقصود بهم؟ أهلي: الحور العين والخدم، ومالي: القصور، الأشجار والأموال والثياب والأواني، كل ما في الجنة مما أعد له من ألوان النعيم، فهو يريد قيام الساعة بسرعة، لأنه يعلم أن بعد قيام الساعة سيكون دخول للجنة. هذا بالنسبة للمؤمن. أما الكافر يقول: ((رَبِّي لا تُقِمِ الساعةَ)) لأنه يريد أن يهرب مما أعد له، وهو يعلم أنه سيقدم عليه، أما بالنسبة للمؤمن إذا قال: ((رَبِّي أَقِمِ السّاعَةَ، رَبّي أَقِمِ السّاعَةَ..فَيُقَالُ لَهُ اسْكُنْ))، وفي رواية: ((نَمْ نَوْمَةَ العَرُوسِ)) لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، يعني إذا الرجل تزوج ونام في تلك الليلة، من الذي سيوقظه؟ كلمة عروس تطلق على الرجل وعلى المرأة، على المتزوج وعلى المتزوجة، ((نَمْ نَوْمَةَ العَرُوسِ)) يعني الهانئ الهادئ لا يوقظه إلا أحب الناس إليه. فإذًا نوم المؤمن في قبره كنومة العروس.
قال في رواية: ((اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ))، وفي رواية: ((اخْرُجِي حَمِيدَةً)) يعني محمودة مشكورة للثَّناء عليها.
موت الكافر..... وأما بالنسبة للكافر، وقد جاء في رواية: ((الفَاجِرَ))، والفاجر هذا العاصي صاحب الكبائر، هذا الذي يرتكب السيئات، فإذًا عذاب القبر ليس فقط على الكافر، وإنَّما الفاسق العاصي، ((إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَت إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاء مَلائِكَةٌ)) ملائكة العذاب، قال: ((غِلَاظٌ شِدَادٌ، سُودُ الوُجُوهِ))، فإذا التعامل شديد والهيئة مخيفة مرعبة، وجوههم سوداء، غلاظ شداد، والغضب ظاهر عليهم، معهم المُسوح من النار، والمسح هو الثوب الخشن، ((فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مدَّ البَصَر)) فيراهم كلهم بالهيئة المرعبة المخيفة مَد البصر، وملك الموت يجيء عند رأسه قريبا جدا، ((أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ)) يا صاحب الخصال الخبيثة، من كذبٍ ونفاقٍ وخيانة وغدر، خبيث، ((اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وغَضَبٍ)) فتتفرق الروح في الجسد، لماذا تتفرق؟ كراهة العذاب الأليم، وتحاول الروح الاستعصاء، تستعصي على الخروج وترفض الخروج ((فَيَنْتَزِعُهَا)) بالقوة ويستخرجها بالعنف والشدة، ويكون الانتزاع كما شبهه كانتزاع ((السفُّودُ الكَثيرُ الشُّعَب مِن الصُّوفِ المَبْلُولِ)) سيخ الحديد إذا شويت عليه اللحم مدةً ماذا يعلَق به؟ بعد مدة من الاستعمال في الشواء؟ بقايا تعلق في السيخ وتتصلب عليه، فيكون السّيخ به زيادات نتيجة هذه الزوائد من اللحم الذي علق به وتصلب والتصق به، أليست إزالتها صعبة؟ صعب تنظيفه بعد الشواء، لأنها تعلقت به تعلقا شديدا. لو أتيت بصوف مبلول ولففت الصوف على هذا السِّيخ هذا الذي به نتوءات وزيادات وأجسام صلبة عليه، إذا أحكمت عليه اللف وسحبته بقوة ماذا يحصل؟ إنَّ هذه الشعب من القطن تتمزق تمزقا من ربطة القطن، من اللفة، تتمزق وأنت تسحبها، قال: ((فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السفُّودُ الكَثيرُ الشُّعَب مِن الصُّوفِ المَبْلُولِ، فَتُقَطَّعُ مَعَهَا العُرُوقُ وَالعصب)) أحدهم يمكن أن يقول: ما رأينا شيئا يتقطَّع! لكنها تتقطع، هذا عالم الغيب، لا نراه، وأنتم حينئذ تنظرون إلى الميت، لا ترون ملك الموت ولا ترون الملائكة، ولا ترون أحدا؛ ولكن كل شيء يحدث، والعملية قائمة، قوةٌ وشدةٌ وقسوة وعنف في التعامل مع روح هذا الكافر أو الفاجر.
لعنة الملائكة للأرواح الخبيثة.... وعند الخروج ((يَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ)) كم ملَكًا؟ ليس هناك موضع أربعة أصابع في السماء إلا وفيه مَلَك، وفيها حرس شديد، الملائكة كلهم يلعنونه، كم لعنة عليه؟ والمؤمن كم دعوة صالحة؟ قال: ((وَتُغَلَّقُ أبْوَابُ السَّمَاء)) لا أحد من الملائكة يتمنى أن تأتي الروح إليه، ((ليْسَ مِنْ أهْلِ بَابٍ إَلاَّ وَيَدْعُونَ اللهَ ألاَّ تَعْرُجَ رُوحُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَيَأْخُذُها فإِذَا أخَذَهَا)) ملك الموت، أعوانُه ((لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طرْفَةَ عَيْنٍ))، لأن هذا لا بد أن يدخل في مسلسل تعذيب مباشر، وشيء لا ينتهي، فالتَّعذيب يكون عند السحب، وعند الاستلام لتوضع في المسوح من النار، ((وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأنْتَنِ رِيحٍ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ)) ومعلوم أن الناس إذا مروا بقرب الجيف أغلقوا أنوفهم، لأن الرائحة منتنة جدا؛ والنبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رد عليه ريطة -على أنفه- من قبح وبشاعة هذه الرائحة، ((فَيَصْعَدُونَ بِهَا)) ليس صعود تكريم، وإنما صعود فضيحة وبيان أنها مردودة، ولأنها غير قادرة على أن تخترق السماوات، ولذلك قال تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَابُ ٱلسَّمَاۤءِ} [الأعراف:40]، إذًا أثناء الصعود إلى السماء، هناك ملائكة لا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ((مَا هَذَا الرُّوحُ الخَبِيثُ؟ فيقولُون: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ)) يعني فضيحة، تصوروا روح هذا الكافر أو الفاجر، كلما مر على مجموعة من الملائكة، وكم عددها؟ الله أعلم، ويفضح ويقال: هذا فلان ابن فلان في كل مكان، وإذا وصلوا إلى السماء، ليس هناك أي باب مفتوح، ثم قرأ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَابُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ} [الأعراف: 40] لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، وصعدت تريد العروج إلى الله فتستأذن فلا يؤذن لها.
وكذلك فإنها تُرَدُّ ويقول الله: ((اكْتُبوا كِتابَهُ)) ولا يقول ((عَبْدِي)) لأن هذا ليس موضع تشريف، هذا لا يستحق التشريف، بل الإهانة والتعذيب، ((اكْتُبوا كِتابَهُ فِي سِجّينٍ)) ماهو؟ كتاب الفجار في قعر النار، اكتبوا كتابه في سجين، قال: ((فِي الأَرْضِ السُّفْلَى)) يعني السابعة تحت، أسفل شيء، ((أعِيدُوا عَبْدِي إِلَى الأَرْضِ، فَإِنِّي وَعَدتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خلقْتُهُم)) وهكذا تعود روحه في جسده. لكن النزول ليس نزولا تدريجيا ومكرما، بل نزول تعذيب، لأنه يهوي؛ وكم المسافة التي يهوي منها؟ فتُرمى روحه رميا شديدا، وتطرح من السماء إلى الأرض، فكيف يكون شعور الإنسان وهو يهوي هذه المسافة البعيدة؟ قرأ النبي عليه الصلاة والسلام:{فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتَخطَفُهُ ٱلطَّیۡرُ أَوۡ تَهۡوِی بِهِ ٱلرِّیحُ فِی مَكَانٍ سَحِیقٍ} [الحج:31].
جاء في رواية: ((وإذَا كَانَ الرَجُلَ السُّوءِ أوِ السَّوْء))، هذا أيضا إشارة إلى هذا الإنسان صاحب الذنوب والمعاصي والقبائح والكبائر، ((قَالُوا: اخْرُجِي أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ)) كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة مذمومة عند الله وعند خلقه، وهناك قالوا اخرجي حميدة لذلك الرجل الطيب أو الشخص الطيب من ذكر أو انثى، وهنا يقال ذميمة يعني مذمومة ((وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)) فهذه البشارة بالعذاب، الحميم: الماء الحار جدا، والغساق صديد أهل النار، ((وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)) أصناف متعددة يعذبون بها ويخزون، وهناك قراءة: ((وأُخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ))، ((فَلَا يَزَالَ حتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ تَدْخُل هذَا الجَسَدَ)) وفي رواية يقولون: ((لا مرحبًا بالنَّفْسِ الخَبِيثةِ كَانَتْ فِي الجسَدِ الخَبِيثِ، ثُمَّ تَصِيرُ إلى القبْرِ)) عادت الروح إلى الجسد ودخلت فيه، ((فَإنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِ أصحابِه إذا وَلَّوْا عنه)).
((يَأْتِيهِ مَلَكانِ شَدِيدَاوالضرب والرائحة المنتنة والأشياء المخيفة، إلا أنه يقول مع ذلك: ربي لا تُقم الساعة، لأن أمامه بابا مفتوحا إلى النار، يرى من خلاله المصير الأشد الذي ينتظره.
الرس 5 الجزء-2- الحمد لله رب العالمينوصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين هل عذاب القبر يقع على الروح والجسد؟ ((يَأْتِيهِ مَلَكانِ شَدِيدَا الانتهارِ)) فيقعدانه ويُجلسانه، الآن جسدا وروحا، إذا الآن الفتنة والتعذيب ستقع على الاثنين، على الجسد وعلى الروح؛ هذان الملكان المرعبان المُخيفان، إذا أجْلساه وأقْعداه وانتهَراه سيسْألانه بشدة: ((مَن ربُّكَ؟)) إذا كان السؤال أصلا مخيفا والسائل مخيفا، وطريقة السؤال مخيفة، ماذا سيفعل؟ كلام المبهوت المتحير، ((هاه هاه)) هذا كلام المبهوت المتحير، ((لا أَدْرِي)) لا أدري شيئا، ((ما دِينُكَ؟)) نفس الشيء، ((من نبيك؟)) لا يهتدي لاسمه. ((محمد؟)) يقول: ((لا أَدْرِي سَمِعْتُ الناسَ يقولونَ ذاك)). ((فيُقالُ: لا دَرَيْتَ، ولا تَلَوْتَ)) يدعوان عليه. ((ثم يُنادِي مُنَادٍ من السماءِ أن كَذَبَ)) لقد عرف الله وأشرك به، وتبين له الدين ولم يتدين به، وظهرت له رسالة النبي وما أطاعه. فبما أنه ظهر كذبه ((فأَفْرِشُوا له من النارِ، وافْتَحُوا له بابًا إلى النارِ، فيَأْتِيهِ من حَرِّها وسَمُومِها)) السموم: الريح الحارة، فإذًا منتنة حارة، ممزوجة بالنتن والعفونة، فإذًا العذاب الآن حسي ومعنوي، هناك ذم وسب وشتم ودعاء عليه، وهناك لعن، وذكر لعنا كما جاء في الحديث، وتكذيب أي وصفه أنه كذاب، ثم فراش من النار فكيف سيهنأ عليه؟ والاضطجاع عليه إلى يوم يبعثون، وباب من النار يأتيه بسمومها وبِريحها الحارة العفنة النتنة، وما انتهى، سيبقى في عذاب، ((يُضَيَّقُ عليه قَبْرُهُ حتى تَخْتَلِفَ فيه أضلاعُه)) لأن الضغطة إذا كانت شديدة وصار الجنْبان في ضغط شديد، تدْخل العظام بعضها في بعض، هذه عظام الصدر مع الضغط الشديد يدخل بعضها في بعض. ولذلك قال: ((حتى تَخْتَلِفَ فيه أضلاعُه، ويَأْتِيهِ رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ))، فيبشره بالسوء، ((هذا يومُكَ الذي كنتَ تُوعَدُ)) وهو يرد عليه أيضا:((فوجهُك كالوجهُ يَجِيءُ بالشرّ! فيقولُ: أنا عملُكَ الخبيثُ))، ((فجزاك الله شرًّا)) هل انتهى؟ لا مازال في عذاب، ماهو؟ قال: ((ثم يُقَيَّضُ له))، يسلط عليه ويوكل به ((أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ)) كي لا يرحمه، لو استغاث لا يسمعه، لو هناك إشارات لا يراها، ولا يقول أي كلمة على الأقل تُهدئ. ماذا سيفعل به الأعمى الأصم الأبكم؟ سيضربه، ((مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَديدٍ)) والمرزبة: المطرقة الكبيرة، التي يستعملها الحداد في العادة، لكن هذه ليست مطرقة حداد، هذه مطرقة العذاب في القبر لو ضرب بها جبل لكَان ترابا،((فيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فيَصِيرُ ترابًا)) كل ذرات البدن تتزلزل من الضربة حتى يصير فعلا ترابا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، العذاب يتناهى إلى أن الجسد يتفتت فيعود مرة ثانية، ((فيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كلُّ شيءٍ إلا الثَّقَلَيْنِ، ثم يُفْتَحُ له بابٌ من النارِ، ويُمَهَّدُ من فُرُشِ النارِ، فيقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ الساعةَ)) لأنه يعلم ما هو المصير الذي بعد هذا، الآن، العذاب الذي هو في القبر، ينظر منه إلى عذاب النار، له باب إلى النار مفتوح، ويرى مقعده من النار، وماذا يوجد في النار من أنواع العذاب، هو يرى هذا ويعلم ويوقن أن ما سيقدم عليه أشد وأنكى، ولذلك رغم أنه يعذب في قبره كل هذا العذاب من الضغط والضرب والرائحة المنتنة والأشياء المخيفة، إلا أنه يقول مع ذلك: ربي لا تُقم الساعة، لأن أمامه بابا مفتوحا إلى النار، يرى من خلاله المصير الأشد الذي ينتظره.
إذن تبيَّن لنا أن عذاب القبر ونعيم القبر والفتنة والسؤال، تقع على الجسد وعلى الروح، وأن هناك تعلقًا معينا من الروح بالجسد في القبر غير التعلق الذي كان في الدنيا.
الفرق بين الروح والنفس إن هذه الروح شأنها عجيب، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ما الفرق بين الروح والنفس؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الروح المُدبرة للبدن التي تفارقه بالموت، هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت". وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس، واعتقدوا أنهما أمران مختلفان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة، علِمَ أن النفس التي تقبضها الملائكة وتصعد بها إلى السماء، وتعود بها إلى الجسد، وتُسأل وتُنعَّم أو تُعذب، هي هي الروح، شيء واحد. هي الروح التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر، هذه الروح والنفس شيء واحد، النفس المتصلة بالبدن والروح المتصلة بالبدن؛ لكن إذا كانت داخل البدن غالبا تسمى نفسًا، وإذا خرجت فالغالب تسمى روحا. إذا كلمة نفس وكلمة روح شيء واحد، داخل البدن يقولون: هذه نفس منفوسة وخارج البدن غالبا ما يطلق عليها روح.
وقال النبي صلى ﷲ علیه وسلم، مبينا حال هذه الروح أنها تصعد وأنها تهبط، هل الروح جزء من البدن؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "يرى فريق من أهل الكلام المبتدَع، المحدَث من الجهمية والمعتزلة أن الروح جزء من أجزاء البدن، أو صفة من صفاته، وقد تخبط هؤلاء في مقالاتهم في الروح، فإن كلامهم لا دليل عليه والروح غير البدن قطعا". كيف تتعلق بالبدن؟ كيف تُشَغل البدن؟ كيف تدبر البدن؟ الله أعلم، أين تكون في البدن؟ الله أعلم. هي متعلقة بكل البدن ولذلك عند سحبها تيْبس أطراف الميت شيئا فشيئا، تبرد شيئا فشيئا، حتى تخرج تماما. فإذًا سحب الروح هذا من البدن يدل على أنها متعلقة به كله، ليس فقط في الرأس وليس فقط في الرجل، وليس فقط في اليد، تُسحَب من كل البدن، وعندما قال في الكافر: ((يتَقَطَّع مَعَهَا كُلُّ عِرْقٍ وعَصَبٍ))، يعني كل البدن، لأن كل البدن عروق وأعصاب، ولذلك لما تسحب الروح من البدن يتقطع معها كل عرق وعصب، والله سبحانه وتعالى ذكر لنا في كتابه ما يدل على أن الروح غير البدن، غير الجسم، قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} [الأنفال:50]، {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26]، {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]. إذًا الذي يُمْسَك و تتوفَّاه الملائكة، ويبلغ الحلقوم، ويبلغ التراقي، هذا شيء غير الجسد. قال ابن القيم رحمه الله: "وقد سقنا الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، أن ملك الموت يقبض الروح، وأن تلك الملائكة تضع تلك الروح في كفن الجنة أو النار، بحسب فلاحها أو فسادها، وأنه يذهب بها في رحلة علوية سماوية، حيث تفتَّح لها أبواب السماء إن كانت صالحة، وتُغَلَّق دونها إن كانت طالحة، وأنها تعاد إلى الجسد وتسأل، وتعذب أو تنعم، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأرواح المؤمنين طير يعلُقُ شجر الجنة" يعني يأكل منها، "وأن الروح إذا قُبض تبعه البصر، إلى غير ذلك من النصوص الدالة بمجموعها دلالة قاطعة على أن الأرواح شيء آخر غير الأبدان، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن".
كيف تتميز الأرواح بعضها عن بعض إذا فارقت الأبدان؟ ثم قال رحمه الله، في مسألة كيف تتميز الأرواح بعضها عن بعض إذا فارقت الأبدان؟ فقال: "هذه مسألة تكاد لا تجد من تكلم فيها، ولا يظفر فيها بِطائل ولا غير طائل، ولايمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل، أنها -أي الروح- ذاتٌ قائمة بنفسها تصعد وتنزل، وتتَّصل وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مئة دليل قد ذكرناه في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبيَّنَّا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، ومن قال غيرَه لم يعرف نفسه. وقد وصف الله سبحانه وتعالى -وصفها يعني الروح- بالدخول والخروج، والقبض والتوفي والرجوع، وصعودها إلى السماء وفتح الأبواب لها أو الغلق عنها، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، -إذاً الروح تخرج-، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} والنفس هي الروح كما قلنا {ارجعي إلى ربك} إذن الروح ترجع {فادخُلِي فِي عِبَادِي} إذن هي تدخل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، أخبر أنه سَوَّى النفس، كما أخبر أنه سَوَّى البدن. فالله سبحانه وتعالى قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7-8]، هذا على الجسد أم على الروح؟ الجسد. والروح ماذا قال عنها؟ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8]، فهناك تسوية للروح وتسوية للبدن، وتتأثر وتنتقل، ويكتسب البدن الطيب والخبيثَ من طيب النفس وخبثها، فالارتِباط شديد. وكذلك هي تمسَك وترسَل، لأن الله قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال كما وصفها -يعني الروح- بالدخول والخروج والرجوع والتسوية. وأخبر النبي صلى ﷲ علیه وسلم، أن بصر الميت نفسه يتبع نفسَه، إذا قُبضت يعني يتبع روحه، بصر الميت يتبع روحه. وأخبر أن الملَك يقبضها وتأخذها الملائكة من يده، وهكذا نجد أن الروح غير البدن، وأخبر أنها تصعد إلى السماء وتصلي عليها ملائكة السماء وتفتَّح لها أبواب السماء، وتنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل. قال: توقف بين يديه، ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، هذا للمؤمن. والكافر لا تفتح له ويؤمر بكتابه في أهل سجين، ثم تعاد وتُرد إلى الأرض. وأخبر أن روح الكافر تطرح طرحا وتهوي، الروح نفسها غير الجسد ، تهوي.
تساؤلات في عالم الغيب وأخبر أن نفس المؤمن -وهي روحه- طائر يعلُق في شجر الجنة، فتأمل الآن العجب! كيف لروح رجعت للبدن في الأرض وهي تأكل من شجر الجنة؟! وكيف أن أرواح الشهداء مع أنها ترجع وتدخل في أبدانهم في القبر -في البرزخ- وهي في حواصل طير خضر تسرح في الجنة وتأوي إلى العرش؟! هذا لايمكن تخيله بالعقل لأن عالم الغيب فوق العقل.
وأخبر الله أن أرواح قوم فرعون تعرض على النار في الصباح والمساء غدوا وعشيا قبل يوم القيامة، فالأبْدان تمزقت بالنسبة لنا وفنِيت، والعظام صارت بالية، وهذا أكله السمك، وهذا نتفته الطيور الجارحة، وهذا احترق وصار رمادا، ومع ذلك فهناك جسد وهناك روح ترجع إلى الجسد، وروح تعذب وتنعم؛ ومع كونها في الجسد فإن روح الشهداء في حواصل طير خضر، هي في الجسد وهي في حواصل طير خضر، إنه عجب، ومع ذلك فإنه حقيقة واقعة؛ كيف ندرك هذا؟ لايمكن ادراكه. ما وظيفتنا؟ أن نؤمن به.
..الدرس 6 البرزخ وحياة البرزخ هل الموتى يتكلمون؟ هل الموتى يسمعون؟ وهل تتلاقى الأرواح؟ وما هي طبيعة تعلق الأرواح بالأجساد؟
لقد وردت أحاديث أنهم تعاد أرواحهم في أجسادهم، وأحاديث أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ونحو ذلك، فماذا عن حقيقة تعلق الروح بالجسد في القبر؟ ولنبدأ بالكلام عن مسألة كلام الميت.
كلام الميت قبل الدفن
لقد ورد في الأحاديث أن الميت يتكلم قبل أن يدفن، وذلك في ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وإنْ كَانَتْ غيرَ صَالِحَةٍ قالَتْ: يا ويْلَهَا، أيْنَ يَذْهَبُونَ بهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلَّا الإنْسَانَ، ولو سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ))" [رواه البخاري:1380، والنسائي].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله ((إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ)) يحتمل أن يريد بالجنازة نفْس الميت، وبِوضعه جعله في السرير -هذه الخشبة التي يمدد عليها سرير الميت الجنازة، والمراد وضعها على الكتف، والأول أولى لقوله بعد ذلك: ((فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قالَتْ)) فإن المراد به الميت، فهو الذي يتكلم وهو الذي يقول: قدموني قدموني، قال: "ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران، عن أبي هريرة المذكورة بلفظ: ((إذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ عَلَى سَرِيرِهِ يَقُولُ قَدِّمُونِي)) الحديث "وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق"، لأنه بعدما قُبِضت الروح من الجسد، وصار ميتا وأُخِذ للتغسيلِ والتكفين والصلاة ثم الدفن، من الذي يقول قدموني؟ قال: "وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق". وقال ابن بطال: "إنما يقول ذلك الروح"، هذا احتمال آخر، أن الروح هي التي تقول قدموني، الآن انفصلت الروح عن الجسد، وفي الرواية أنه يقول: ((قدِّمُونِي)) فمن الذي يقول قدموني؟ الروح أم الجسد؟ وردَّه ابن المُنَيِّر بأنه لا مانع أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر، وكذا قال غيره. قلت -يعني ابن حجر رحمه الله- وهو بعيد -أن الروح قبل الدفن ترد إلى الجسد- قال: "وهو بعيد ولا حاجة إلى دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن، لأنه يحتاج إلى دليل، فمن الجائز أن يُحدِث الله النطق في الميت إذا شاء، وكلام ابن بطال فيما يظهر لي أصوب" ما هو كلام ابن بطال؟ أن المتكلم الروح.
وقال ابن بزيزة "قوله في آخر الحديث أنه يسمع صوتها كل شيء: دالٌّ على أن ذلك بلسان المقال لا بلسان الحال.." يعني لو قال شخص: هل كلام الجنازة هذا بلسان الحال؟ يعني لا تتكلم حقيقة لكن حالها أنها لو تكلمت قالت: قدموني؟ قال: لا، لأن الحديث فيه يسمع صوتها، معنى ذلك أن هناك صوتا مسموعا، ويسمعه كل شيء إلا الإنسان، أي البهائم تسمع، بل وظاهر هذا أن الجن تسمع، لأن الحديث الآخر الذي فيه يسمعه كل شيء إلا الثقلين، هذا متى؟ داخل القبر، أما الآن نحن نتكلم عن صوت الجنازة وهي تقول قدموني. فهل يقوله الجسد الميت أو تقوله الروح؟ هذا أقوال العلماء، ورجح ابن حجر أنه كلام الروح لكن كلام حقيقي بصوت مسموع يسمعه كل شيء، قال: ((يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلَّا الإنْسَانَ، ولو سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ)) [البخاري:1380] يعني من هول الكلام، "وإن كانت غير ذلك في الحديث، -يعني غير صالحة- قالت لأهلها، لأجل أهلها، إظهارا لوقوعه في الهلكة، وكل من وقع في الهلكَة دعا بالويل، فما معنى قوله إن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها! يعني هو يقول: يا ويلي! ومعنى الدعاء بالويل هنا: يا حزني. وأضاف الويل إلى ضمير الغائب، يا ويلها حملا على المعنى كراهية أن يضيف الويل إلى نفسه، يعني حتى لا يقول الراوي: يا ويلي والميت هو الذي يقول يا ويلي؛ فالراوي يُعبِّر ويقول: يا ويلها كراهية أن يقول الكلام عن نفسه. وجاء في رواية أبي هريرة قال: ((يَا وَيلَتَاهُ أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي؟)) [سنن أبو داود: 2806] فدل على أن ذلك من تصرف الرواة، يعني الحديث الأصْلي: يا ويْلي أو يَا ويلتاه، لكن الرَّواي تصرف حتى لا يقول عن نفسه. قال: "فتقول: ويلها أين يذهبون بها" وهي تقول: ويلي يا ويلي أين تذهبون بي! لو سمعها الإنسان لصعق، يعني لغُشي عليه من شدة ما يسمعه.
هل الكلام الذي لو سمعه لصعق، خاص بالصوت الذي يقول: يا ويلي -غير الصالحة- أم يشمل أيضا الصالحة؟ قال ابن بزيزة: "هو مختص بالميت الذي هو غير صالح، هذا الذي صوته لو سمعه الإنسان لصعق، وأما الصالح فمن شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق مِن سَمَاع كلامه، ويحتمِل أن يحصل الصعق من سماع كلام الصالح لكونه غير مألوف" وليس لكونه مرعوبا أو مخيفا، لا.
والصَّيْحة التي يصِيحها المضروب في قبره غير مألوفة لا للإنس ولا للجن، ولذلك قال: ((يسمَعُهُ كُلُّ شيءِ إلاَّ الثَّقّلّيْنِ)) [رواه أحمد: 30/578، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب ": 3/219]، أما حديث الجنازة وصوت الفزع، فإنه غير مألوف عند الإنس لكن يمكن أن يكون مسموعا للجن، واستدل بالحديث: "على أن كلام الميت يسمعه كل حيوان ناطق وغير ناطق إلا الإنسان كما هو ظاهر الخبر، وإنما استُثني الإنسان من سماع ذلك إبقاءً عليه"، أي لو قال أحد: ولِمَ لا يُسمِع اللهُ الناسَ هذا ليتعظوا؟ فالجواب: لو سمعوا لماتوا، يعني الأحياء لن يتحملوا هذا الصوت، لا يتحملونه، فيمكن أن يموت منهم كثير بسبب سماع الصوت، ولذلك قال: "وإنما استثُنِيَ الإنسان من سماع ذلك إبقاءً عليه". وهذا طبعا من رحمة الله.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والرجل إذا مات فإنَّ روحه تقول: -وهذا يعني أن الشيخ يرجح أنَّ قدموني من كلام الروح- تقول: إذا كان صالحا قدموني قدموني، أي قدموني إلى موضع الثواب، لأن الإنسان في قبره يُفْتَحُ له في الجنة، وإن كانت سوى ذلك فإنها تقول يا ويلها أين تذهبون بها؛ وإذا كان الميت يقول: قدموني قدموني فإن الأولى بنا أن نقوم ببِرِّهِ ونقوم بالإحسان إليه، وأنْ نُسرع إلى تجهيزه حتى يصل إلى ثوابه مما يأتيه في قبره من جنات النعيم، من الروح والريحان وهو في القبر، فبادِروا رحمكم الله بتجهيز الأموات ولا تُؤَخِّرُوها إلا أن يكون هناك سبب، مثل أن يموت في الضحى ويُخشى من المشقة على مُشيعيه في صلاة الظهر مثلا، فإنه يؤُخَّر لصَلاة العصر ولا بأس فى ذلك -يعنى تلافيا لشدة الحر- لأنَّه لو دُفن في الظهر في شدة الحر، شَقَّ ذلك على الناس مشقة شديدة، لذلك نَقُول إذا مات في الضحى وكان فى دفنه بعد صلاة الظهر مشقة، فإنَّه لا بأس أن يُؤخر إلى وقت صلاة العصر حيث تبرد الشمس والجو، وهذا تأخير أرجو الله أن لا يكون فيه ضرر على الميت ولا على مشيعيه". لكنَّ العتب واللوم على من؟ أنَّ بعض الناس يؤخرون ميتهم لأسباب واهية، ربما يقول: ننْتظر أن يأتي ابن عمه من مصر! وابن الخال يأتي من الجنوب! وبقي فلان! هو يقول: قدموني قدموني، لماذا تؤخرونَه؟ وإذا كان صالحا فخير تقدمونه إليه، فلماذا يحرم من هذا الخير؟ وإن كان طالحا فشر تضعونه عن أعناقكم. ولذلك قال: "أسرعوا في الجنازة، أسرعوا بها فإما خيرا تُقدمونه إليه وإما شرًّا تضعونه عن أعناقكم".
نأتي الآن إلى مسألة سماع الأموات. دُفِن الميت، وحصلت فتنة القبر كما مرَّ معنا وعرفنا أنه يتكلم، وثبتَ الكلام.
هل الموتى يسمعون أولا يسمعون؟
بقيت قضية السماع وهذه مسألة شائكة، هل الموتى يسمعون أولا يسمعون؟ هل يعلمون بمن يزورهم أم لا يعلمون؟ هل تتلاقى أرواحهم مع أرواح الآخرين أم ماذا؟ اختلف العلماء في مسألة سماع الموتى، فذهب بعضهم إلى أن الموتى لا يسمعون، وبعكسه قال الآخرون.
وممن عرض هذه المسألة عرضا وافيا، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، قال: "اعلم أن الذي يقتضي الدليلُ رجحانَه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم، وأن قول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها أنهم لا يسمعون استدلالا بقوله تعالى: {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى}[النمل:80]، وما جاء بمعناه من الآيات غلط منها رضي الله عنها وممن تبعها، وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين: الأولى منهما أن سماع الموتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت، والمقدمة الثانية هي: أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى، لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة لا يجب الرجوع إليه، لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا تُرد النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتأوُّل بعض الصحابة بعض الآيات، وسنُوَضِّحُ هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض صريح، عُلِم بذلك رُجحان ما ذكرنا أن الدليل يقتضي رُجحانه".
طبعا هنا يجب أن ننبه إلى مسألة مهمة جدا؛ لو ترجَّح سماع الأموات، هل يُفهم من ذلك أن الموتى يرُدُّون على من كلَّمَهم؟ هل يُفهم من ذلك أنه يشرع تلقين الميت في القبر، ويقال له إذا جاءك الملك وسأّلك من ربك، فقل: ربي الله، وإذا جاءك وسأَلك...؟ أبدا. هل يُفهَم من ذلك جواز الطلب من الأموات قضاء الحاجات؟ أبدا. هل يُفْهَم من ذلك مشروعية إبلاغ الميت سلام قريبه، فيقال: فلان يُبَلِّغك السلام! إذا جاء إلى قبره من سفر، هل يجوز أن يُقال هذا؟ أبدا. إذا هناك فرق بين قضية سماع الميت وبين أن الميت يرُدُّ، وأن الحي يطلب منه أشياء، وأنَّه يُلقِّنه، هذه قضايا أخرى لاعلاقة لها بالموضوع، ولا يلزم من إثبات هذا التوصل إلى هذا. فإنَّ بعض العلماء قالوا: "الموتى لا يسمعون"، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 80] وقالوا: هناك فقط أحوال مخصوصة؛ يسمع قرع نعالهم فقط، هذا الذي ثبت به الدليل، يُستَثْنى. وحديث قتلى بدر من الكفار، أنَّ الله أسمعهم سماعا مخصوصا وأعاد أرواحهم إليهم ليسمعوا الكلام، تبْكيتًا وإحزانًا وخِزيا عليهم. غير ذلك ليس هناك سماع.
وهؤلاء بالتالي، مثلا لو جاء أحدهم وقال: نُلَقِّنُه، يقول: لا يسمع! لو قال أحدهم: هل أبلغه سلام الآخرين؟ يقول: لا يسمع! لو قال: نطلبُ من الميت شيئا؟! يقول: لا يسمع! انتهت المسألة من هذه الجهة. لكن نحن الآن يجب أن نفهم الموضوع من الناحية العلمية، وحتى القول الآخر الذي يقولون بالسماع أن الميت يسمع، هل يترتب عليه أشياء من هذا؟ حتى لو قلنا يسمع كما نصره الشنقيطي رحمه الله وغيره وقالوا أنهم يسمعون، هل يسمع؟ وسيتبيَّن إن شاء الله.
...الدرس-7- الحمد لله رب العالمينوصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هل يسمع الميت كل شيء الأحاديث تثبت أصل السماع، لكن هل يسمع كل شيء؟ وهل يستطيع أن يرُدَّ؟ هذه قضايا أخرى، يجب عدم الخلط، وإلا صارت مصيبة، وإلا فإن أيَّ شخص يقول: أنا أذهب إلى ميِّتي وأتحدث في الليل معه وأُونِسُه وأُخبره بأننا بخير، وأولادك بخير، والحمد لله فلان كبر، وفلان صار كذا، وفلانة تزوجت وأنجبت ولدا! فهذا الكلام أو هذه البدع بالأحرى شيء، وقضية إثبات الأصل -سماع الأموات- شيء آخر. وهذا البحث الآن في إثبات أصل السماع للميت، يعني أن الميت يسمع، لكن ماذا يسمع؟ ومتى يسمع؟ هذه قضية أخرى. فالبَحث الآن في إثبات أصل السماع للميت، أنه يسمع متى؟ كيف؟ ماذا؟ هذه مسألة أخرى. وأيضا لو أثبتنا السماع، لا يعني جواز نداء الميت من بعيد، لأن بعض الناس يفهم إذا أثبتنا السماع، يجوز أن نقول له: وا فلانَاه، ويا فلان أغِثْني، يا فلان كذا، يا فلان من بعيد، أو من قريب، هذه بدعة عظيمة، وإلا فاذْهبْ إلى قبر الصالح وقبر النبي، استَنْجِدْ! فبعض الذين قالوا لا يسمع إلا هذه الأشياء المخصوصة أيضا حذِرُوا من مسألة الشرك المنتشر. فنقول وإنْ ثَبَتَ سماع الميت، فلا يجوز الاستِنْجاد به، ولا للبدع التي فيها قضية التلقين وقضية المؤانسة بالكلام إذا ذهب إليه ليُخْبرَه عن أحوال الأحياء، ونحو ذلك من البدع.
قال الشيخ: "أما المقدمة الأولى وهي ثبوت سماع الموتى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري ومسلم، عن أبي طلحة رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقُذِفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر، خبيثٍ مُخْبِثٍ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثا" -يعني أقام في ميدان المعركة إذا انتصر 3 أيام إظهارا للقوة والتحدي، ورسالة لمن يريد أن يرجع أننا موجودون، هذا من هدي النبي عليه الصلاة والسلام إذا انتصر على قوم أقام بأرض المعركة ثلاثا، "فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشُدَّ عليها رحلها -الآن يتأهب للمغادرة- ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شَفَة الرَّكِي -على حافة البئر الذي دفن فيها القتلى قتلى الكفار- فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء أبائهم، ((يا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، ويَا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسولَهُ؟)) -أوليس لو أطعتم الله ورسوله كان خيرا لكم من أن تموتوا، وتقتلوا هذا القتل على الشرك والكفر محادين لله ورسوله؟- ((أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسولَهُ، فإنَّا قدْ وجَدْنَا ما وعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)) فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّمُ من أجساد لا أرواح لها؟" إذًا استقر عند عمر أنهم لا يسمعون، وهذا من أدلة الذين يقولون إنَّهم لا يسمعون، وأن هذا السماع مخصوص، وأنه مستقر عند الصحابة أن الموتى لا يسمعون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنَ له أنه سماع مخصوص، "فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، ما أنتُمْ بأَسْمع لِما أقُولُ منهمْ))" هذا إثبات السماع لهم، كما أنتم يا أيها الصحابة سمِعتُم كلامي، هم سمعوه أيضا، ما أنتم بأسمع منهم وهم سمعوا الكلام أيضا بوضوح.
"قال قتادة: -راوي الحديث- أحياهم الله حتى أسمعهم قولَهُ، توبيخًا وتصغيرًا ونقيمَةً وحسرةً وندمًا" [صحيح البخاري:3976]. إذا يقول هذا إحياء خاصٌّ بهؤلاء، ولفظ مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: ((يَا أبا جَهْل ابنَ هِشامِ، يَا أُمَيَّةُ ابنَ خَلَف، يَا عُتبةُ ابنَ رَبيعةَ، يَا شَيبةُ ابنَ رَبيعةَ، أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟)) فسمع عمر قول النبي صل الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يَسْمَعُوا وأنَّى يجيبًوا وقَدْ جَيَّفُوا؟ قال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا))". وهذا فيه إثبات أن الميت ولو سمِع، لا يقدر أن يجيب، فمن قال لك: إنني كلَّمت الميت وردَّ عليَّ، وإنِّي ذهبت إلى قبر النبي بالمدينة، وقلت له انظُر ماذا تفعل أُمَّتًك، قال: افعلوا كذا كذا، فاعلم أنه كذاب، "قال: ((وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا)). ثم أمر بهم فسُحِبُوا، فأُلْقُوا في قَليبِ بدْرٍ." [مسلم:2874].
ولما بلغ عائشة رضي الله عنها هذا الحديث عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، قالت: "غفر الله لأبي عبد الرحمن إنَّه وَهَنَ" يعني أخطأ، "إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم حق)) قبل أن يموتوا، ثم قرأت: {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 80] {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]" رواه البخاري ومسلم وأحمد. فهذا يُبين أيضا رأي المذهب الذي يقول بعدم السماع، واحتج الذين يقولون به بالسَّماع أيضا، ومعنى وهَنَ: غلط ونسِي.
أوتي بأربعة وعشرين رجلا من الصناديد: جمع صنديد وهو السيد الشجاع. وقتْلى بدر من الكفار: كانوا سبعين، والذين طُرحوا كانوا الرؤساء منهم، وهم الذين خُصُّوا بالمخاطبة والتوبيخ لمَا كانوا عليه من العناد الشديد، وطُرِح بقية القتلى في أماكن أخرى. قال الحافظ: "وأمية ابن خلف لم يكن في القليب، لأنه كان ضخما فانتفخ فألقوا عليه -لأنهم إذا سحبوه يتَفَسَّخ، تذهب اليد في جهة، والقدم والرجل في جهة لأنه انتفخ- "فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيَّبَهُ"، وهذا يدل على دفن قتلى الكفار، يعني سأل سائل: هل ندفن الكافر؟ نقول: نعم ندفنه. وقد أخرج ذلك ابن إسحاق من حديث عائشة: "لكن يُجْمَعُ بينهما أنه كان قريبا من القليب، فنُودِيَ في مَنْ نُودِيَ، فالذين في القليب دخلوا فى النداء، وهذا بجانبهم دخل فى النداء، لكونه من جملة رؤَسائهم".
في بعض الروايات التي جاءت بهذا الحديث، عند ابن إسحاق: "حدَّثَني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ))" هؤلاء الأنصار صدقوني وأنتم قومي كذبتموني.
قال البيهقي رحمه الله في بيان أن ما استدلت به عائشة رضي الله عنها لا يدل على نفي سماع الموتى: "العِلْمُ لا يمنع من السماع، والجواب عن الآية، أنَّهُ لا يُسمِعُهُم وهم موتى"، ما معنى أنك لا تُسمع الموتى؟ أي في حال الموت لا يسمعون، لكن إذا أحياهم الله سمعوا، إذا أراد الله أن يُسْمِعهم سمعوا؛ قال: "العلم لا يمنع من السماع، والجواب عن الآية أنه لايسمعهم وهم موتى، ولكن الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة". فإذن يُفهم من كلام البيهقي أنه يؤيد أنه سماع مخصوص. قال: "ولم ينفرد عمر ولا ابنه بحكاية ذلك، بل وافَقهما أبو طلحة كما تقدم، وللطَّبراني من حديث ابن مسعود مثله، حديث بإسناد صحيح". قال الإسماعيلي: "كان عند عائشة من الفهم والذكاء، وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلاَّ بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؟ لأن قوله تعالى: {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم أنَّهم الآن يسمعون، لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المُسْمِع في أذُنِ السَّامع. فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك"، يعني لو أنه عليه الصلاة والسلام نطق وحده بدون أن يسمعهم الله ما سمعوا، لو نطق بدون أن يتولى الله إسماعهم بهذا السماع المخصوص ما سمعوا. "وأما جوابها بأنه إنما قال أنهم لا يعلمون، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية يسمعون بل يؤيدها"، قال الحافظ: "وقد اختلف أهل التأويل -المفسرون- في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} وكذلك المراد بمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا، احتاجت معه إلى تأويل قوله: ((ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ)) وهذا قول الأكثر"، أي أن هذه الآية محمولة على الحقيقة، يعني لا تُسمع الموتى. {إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} هذا عام، والحديث هذا خاص بقدرة الله، لغرض معين وهو إخْزاء هؤلاء، وجعل هؤلاء يصابون بالنَّدامة والحسرة فوق العذاب الذي يأتيهم في القبر. "وقيل هو مَجاز، والمراد بالموتى وبمن في القبور الكفار، شُبِّهُوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر" وهذا قد يكون بعيداً، لأن الأصل إجراء الآيات على ظاهرها، فالموتى يعني الموتَى، والميت نعرف من هو.
قال الشنقيطي رحمه الله: "فهذا الحديث الصحيح، أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم تخصيصاً، وقول قتادة اجتهاد منه" هذا رأي الشنقيطي.
وقال البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: ((هلْ وجَدْتُمْ مَا وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)) وذكر الحديث، [صحيح البخاري: 3976].
انتهينا من حديث قليب بدر، فالذين يقولون أنهم يسمعون، يقولون هذا من أدلتنا أنهم يسمعون؛ والذين يقولون أنهم لا يسمعون، يقولون هذا سماع خاص. والقاعدة موجودة، وكونه وُجِد شيءٌ خاص لا ينسِفُ الشيء العام، لا ينسف القاعدة؛ الأصل أنهم لا يسمعون.
الآن هذا دليل آخر، الحديث الثاني روى البخاري ومسلم، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العَبْدُ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وتُوُلِّيَ وذَهَبَ أصْحَابُهُ حتَّى إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ..)) [البخاري:1338، ومسلم:2870 بنحوه]، هذا الحديث المعروف في عذاب القبر، في حياة البرزخ. قال الشنقيطي رحمه الله: "وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي صلى الله عليه وسلم، بأن الميت في قبره يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجَعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل من دفن وتُوُلِّيَ عنه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصًا". إذًا الذين يقولون بعدم السماع ماذا سيقولون؟ هذا استثناء آخر، خاص في سماع قرع النعال إذا توَلَّوْا، وليس معنى ذلك أنه بعدها يستمر في السماع وإلى آخر الدنيا، يستمر في السماع، لا.
الحديث الثالث، وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ، وأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ))" [مسلم:1683].
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ)) يعني: يا دار قوم مؤمنين، منصوب على النداء، ((وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ)) هذا امتثال لقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف:23-24]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ)) فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام على عليكم، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم: (عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحمه). فكانوا في الجاهلية إذا أرادوا السلام على ميت يقولون: "عليك السلام". والحديث فيه إثبات أن (السلام عليكم) تحية الأحياء وتحية الأموات، لأنه قال: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ)).
وقد نقل النووي رحمه الله عن القاضي عياض: "يُحمَل سماعهم على ما يُحَملُ عليه.." يعني حديث ما أنتم بأسمع "..على ما يُحْمَل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنته، التي لا مدفع لها، وذلك بإحيَائهم أو إحياء جزء منهم يعقِلون به، ويسمعون، في الوقت الذي يريده الله". ثم قال النووي رحمه الله: "هذا كلام القاضي وهو الظاهر المختار الذي يقتضيه أحاديث السلام على القبور". فإذًا إحياؤُهم أو إحياء جزءٍ منهم يعقِلُون به ويسمعون، هذا إحياء خاص وسماع خاص. قال ابن القيم رحمه الله: "وثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أن الميت يسمع قرع نعال المشعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرَع النبي صلى عليه وسلم لأمته إذا سلَّموا على أهل القبور، أن يُسلِّموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا". قال الشنقيطي رحمه الله: "وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور، بقوله: )((لسَّلامُ عَلَيْكُمْ)، وقوله: ((وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ))، ونحو ذلك يدُلُّ دلالة واضحة على أنهم يسمعون كلامه، لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدا صدوره منه صلى الله عليه وسلم".
إذا من كلام ابن قيم رحمه الله، وكلام الشنقيطي رحمه الله أن الموتى يسمعون السلام، وأولئك يقولون الموتى لا يسمعون إلا في أحوال مخصوصة.
طيب وماهي الأحوال المخصوصة؟ قالوا: منها السلام على أهل المقابر؛ الذين يقولون أنهم لا يسمعون، يقولون: ليست لدينا مشكلة، حتى في هذا الحديث، كيفَ؟ يقولون: يسمعون قرع النعال، يسمعون السلام عليهم في المقبرة؛ أما نفتح السماع هكذا مطلقًا، ونقول يسمعون كل شيء وما يجري على الأرض من الأحداث، ويسمعون ما يكون في بيتي وبيتك وفي المقبرة، وإذا كانت المقبرة بجانب الورشة يسمعون أصوات الورش.. هذا يتعارض مع قوله:{إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]. إذا وهذه الأحاديث؟ يقولون: هذه الاستثناءات، عندنا أصل وعندنا استثناءات.
وغيرهم قد يقول: إن هذه الاستثناءات كثيرة معناها أنهم يسمعون. والعامل والقاسم المشترك بين القولين، إثبات أصل السماع للميت؛ أن هناك سماعاً. متى؟ هذا شأن آخر.
وقد تُعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من رجُلٍ يمرُّ بقبرِ الرَّجلِ كانَ يعرفُهُ في الدُّنيا فيسلِّمُ عليْهِ إلَّا ردَّ اللَّهُ عليْهِ روحَهُ حتَّى يردَّ عليْهِ السَّلامَ)) فإذاً هنا يوجد رد روح مخصوص، لأجل رد السلام، لأنه يتبين من النصوص، أن الميت إذا وضع في القبر، روحه تصعد إلى السماء في الرحلة العلوية التي ذكرناها سابقا، ثم تعاد روحه في جسده، ويقع الإقعاد والسؤال والفتنة والتعذيب أو التنعيم.
الدرس-8- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
عودة الروح إلى البدن في القبر. الروح ماذا يحدث لها بعد ما سبق ذكره الدرس الماضي؟
ممكن تصعد مرة أخرى، تذهب إلى أعلى عليين، تذهب تسرح في الجنة، تأكل من شجر الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، تتلاقى مع أرواح أخرى؛ ويمكن أن تذهب في سجّين، في سجن أرواح الكفار في الأرض السفلى، وادي برهوت في حضرموت له علاقة وسيأتي الكلام عنه في قضية مكان أرواح الكفار في سجّين، في الأرض السفلى في ذلك المكان.
إذاً، فارقته عند الموت، وصعدت إلى الأسفل، ونزلت في القبر، دخلت في الجسد، ثم خرجت إلى أماكن أخرى، وإذا جاء أحد وسلم رد الله عليه الروح ليرد السلام، وقد ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه ما من أحد يسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، ليرد عليه السلام.
وسيأتي كلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في ذكر نقد تصحيح الحديث أو ملاحظة على تصحيح الحديث الذي صححه ابن عبد البر رحمه الله.
وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس ابن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأَكثِروا عليَّ منَ الصَّلاةِ يومِ الجمعةِ وليلةِ الجمعةِ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ، قالوا يا رسول الله كيفَ تعرضُ صلاتنا عليْكَ وقد أرَّمتَ، قالَ إنَّ اللَّهَ حرَّمَ على الأرضِ أن تأْكلَ أجسادَ الأنبياءِ)) [صحيح أبي داود:1047]، "وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه مما يبين أن الأبدان... -وهذا كلام ابن تيمية في الفتاوى وهو يقول- قد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة"، هذا تابع لهذه الجملة الكلام تابع لهذه الجملة، يعنى غير وقت المسألة التي هي (من ربك، ما دينك، من نبيك).
هل هذه هي الحالة الوحيدة التي تعاد فيها الروح إلى الجسد في القبر؟ لا، هناك حالات أخرى، ذكر منها الحديث الذي صححه ابن عبد البر، الرجل الذي يعرف صاحبه ويمر عليه ويسلم وأن الله يرد عليه روحه حتى يرد السلام على صاحبه، قال الشيخ عبد العزيز في إسناده نظر وصححه ابن عبد البر؛ حديث النبي عليه الصلاة والسلام ثابت يقيني أن الله يرد عليه روحه ليرد السلام، فإذاً الروح تذهب وترجع، تذهب وترجع، تصعد وتنزل.
قال ابن تيمية: "وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار مايضيق هذا الوقت عن استقصائه -باب عودة الروح إلى البدن في القبر في عدة مناسبات- مما يبين أن الأبدان التي في القبور تُنَعم وتُعَذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة ومعذبة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه، إذا زاروا القبور أن يقولوا (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لاتحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)".
قال شيخ الإسلام: "وقد انكشف لكثير من الناس ذلك -أن هناك نعيما وعذابا في القبر، من الأحياء من كشف الله لهم ذلك- حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم، في آثار كثيرة معروفة"، ومن الذى مر معنا قصة الرجل التي نقلها ابن القيم رحمه الله عن صاحبه، يثق به ونقل عنه، أنه جاء إلى المقبرة فقعد فرأى قبراً يتوهج مثل الجمرة، وأنه سأل عنه بعد ذلك قالوا مكاس مات في ذلك اليوم، صاحب مكس يأخذ الضرائب، ظلما للعباد؛ فرأى قبره على تلك الحالة، أي قد يكشف الله لبعض الأحياء صورا وأمثلة ونماذج من عذاب القبر أو نعيمه، قد يكشف الله لهم ذلك.
قال شيخ الإسلام: "وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم -هي استثناءات وإلا فلو سمع كل الناس ما هنأ أحد بعيشه ولا نام ولا أكل ولا شرب، ولا نكح ولا تلذذ بالنساء، ولا بالفرش؛ لو نحن في الدنيا نسمع أصوات المعذبين في القبور، لا يمكن أن نعيش، بالتأكيد.
إذا كان صوت الميت قبل الدفن (قدموني) هذا إذا سمعه الإنسان صُعق، كيف لو سمع ضربة الأصم الأبكم الذي يضربه؟ الأعمى، بالمرزبة التي يحيله تراباً، كيف لو سمع هذا الصوت؟ بالتأكيد ما يهنأ أحد بعيشه، ولا اشتغلنا ولاعمرنا ولا تزوجنا ولا نكحنا ولا أنجبنا ولا توظفنا ولا درسنا ولا قرأنا، ما يمكن العيش إذا كنا سنسمع ما يحدث في القبور، لا يمكن أن يهنأ أحد بعيشه؛ لكن قد يكشف الله لبعض الأحياء بعض ما يدور في القبر، شيئاً يسيراً مما يدور.
قال: ولكن لا يجب أن يكون ذلك دائما على البدن في كل وقت بل يجوز أن يكون في حال دون حال، وذكر حديث القليب السابق، ثم قال ابن تيمية: وأهل العلم بالحديث والسنة، اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدراً، فإن أنس روى ذلك عن أبي طلحة وأبو طلحة شهد بدراً، وعائشة تأولت فيما ذكرته، كما تأولت أمثال ذلك، والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره، وليس في القرآن ماينفي ذلك، فإن قول {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ} [الروم:52] إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه.
هذه عبارة مهمة جدا في فهم الآية، إذاً ما هو رأي ابن تيمية في قوله {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ}، ما هو السماع المنفي؟ السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه. وهذا يمكن أن نرد به على من يقول بالتلقين: اذهب للميت أول ما يدفن، وقل إذا قالوا لك كذا قل كذا؛ نقول فات الأوان، هذا السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه منفي بقوله تعالى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ} [الروم:52].
قال: "فإن هذا مثلٌ ضُرِب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماعَ قبولٍ بفقهٍ واتباع، كما قال تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، يسمع صوتا لكن لا يفقه، يسمع الكلام لكن لا يتأثر، قال: "فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن يُنفى عنهم جميع السماع المعتاد، أنواع السماع -لاحظ لا ينفي عنهم كل السماع لأن هناك نصوصًا وردت أنهم يسمعون في أحوال مخصوصة على الأقل- كما لم يُنفَ ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماعٌ آخر -مثل سماع توبيخ أو خزي وندامة، وحسرة، ممكن يصل إليهم، وممكن يسمعونه- فلا يُنفى عنهم". إذا ما المنفي عنهم؟ سماع الانتفاع، وهذا لا يعني أن سماعات أخرى لا يمكن أن تصل إليهم.
وقال: "وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين، فهذا موافق لهذا فكيف يدفع ذلك، ومن العلماء من قال إن الميت في قبره، لايسمع ما دام ميتا كما قالت عائشة واستدلت به من القرآن، وأما إذا أحياه الله، فإنه يسمع كما قال قتادة، أحياهم الله له، وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها، كما نحن لا نرى الملائكة والجن، ولا نعلم مايحس به الميت في منامه، وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر، وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه الله عليه"، انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال الشنقيطي رحمه الله وإذا علمت أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور، علمت أنه ثابت بنص صحيح من غير معارض.
هذا إذاً، بالنسبة لمسألة سماع الأموات وبعض ما ورد في ذلك
تم بحول الله
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي
الدرس-8- بسم الله الرحملن الرحيم وصلى الله على نبينل محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم؟ نأتي الآن إلى قضية هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟
هذه المعرفة أعم من قضية السماع، يمكن للميت أن يعرف بدون أن يسمع، يمكن للأصم أن يعرف دون أن يسمع، يعرفُ أشياءَ دون أن يسمع، ويحس بأشياء دون أن يسمع، الآن هذه مسألة أشمل، هل تعرف الأموات زيارة الأحياء؟
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: "والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميتَ يعرف زيارةَ الحي له ويستبشر به، وقد استُدِلَّ على أن الميت يعرف زيارة الحي وسلامه عليه بأدلة كثيرة"، سيذكر ابن القيم رحمه الله، وسنأتي على قول بعض أهل العلم الذين توقفوا في المسألة؛ قالوا يعرف أو لا يعرف، لا ننفي ولا نثبت.
مسألتنا الآن، هل الميت يعرف من زاره؟ هل يحس به إذا زاره؟ أنا أبي مات، أريد أن أزور قبره، هل سيحس بي إذا أنا زرته أني أنا ولده فلان جئت زرته؟
من العلماء من يقول لا نثبت ولا ننفي لأنه لم يثبت الدليل في النفي أو الإثبات.
ومنهم من قال بل يعرف ويحس، ولهم أدلة على ذلك. إذا قولان.
هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلام الأحياء أم لا؟
قال ابن القيم رحمه الله: "وَالسَّلفُ مجمِعونَ على هذا، وقد تواتَرَت الآثارُ عنهم، بأنَّ الميتَ يعرفُ زيارةَ الحيِّ له ويستبشرُ به، وقد استُدِلَّ على أن الميتَ يعرفُ بزيارةِ الحي وسلامِهِ عليه بأدلة كثيرة؛ من هذه الأدلة: قال ابن عبد البر، ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِن مُسلِمٍ يَمُرُّ عَلى قَبرِ أَخِيهِ كَانَ يَعرِفُهُ في الدُّنيَا فَيُسَلمُ عليهِ إلا رَدَّ اللهُ عَلَيهِ رُوحَهُ حتى يَرُدَّ عليهِ السَّلامَ))، [صححه عبد الحق الإشبيلي والشوكاني في نيل الأوطار]". وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يعرف الميت من يزوره؟ فأجاب: "جاء في بعض الأحاديث إذا كان يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، ولكن في إسناده نظر، وقد صححه ابن عبد البر رحمه الله".
في الحديث هذا، متى عرف أنه زاره، لما رد الله عليه روحه، إذاً هذا الحديث فيه كلام في قضية ثبوته، فصححه بعضهم، وضعّفه بعضهم؛ لكن لو ثبت، ماذا فيه؟ أن الميت إذا زاره صديق، صاحب، وسلم عليه، رد الله الروح إلى الميت، ليرد السلام على المُسَلِّم فقط.
"وفِي الصحِيحَين عنهُ صَلى الله عليه وسلم أنه أمَرَ بِقَتلَى بَدرٍ.." وذكر حديث قتلى بدر وفيه سماعهم، ذلك السماع المخصوص، لأن الله رد إليهم أرواحهم ليسمعوا كلامه ويُصابوا بالخزي والحسرة.
الثالث: "وثَبتَ عنه صَلى اللهُ عليهَ وسَلمَ أن المَيتَ يسمَعُ قَرعَ نِعالَ المُشيعِينَ لَه، إذا انصَرَفُوا عَنهُ"، وهذه في قضية سماع خاص، سماع قرع النعال.
الرابع: وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا ((السَّلامُ عليْكم أَهلَ الدِّيارِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقونَ..)) [صحيح النسائي:2039] الحديث؛ قال ابن القيم: "وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل.." يعني يريد أن يستدل ابن القيم بالحديث على أن الأموات إذا سلمت عليهم يسمعون سلامك، وليس في أكثر من هذا، مثلا كيف حالك وأن يرد عليه، هذا شيء آخر.
واحتج الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في هذا الباب بما رواه أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((ما مِن أحدٍ يسلِّمُ عليَّ إلَّا ردَّ اللَّهُ عليَّ روحي حتَّى أردَّ علَيهِ السَّلامَ))[أبو داود:2041]، هذا رواه أبو داود، حديث حسن؛ لكن هذا لمن؟ للنبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث الذي رواه ابن أبي الدنيا ((ما من رجُلٍ يزورُ قبرَ أخيه ويجلسُ عندَه، إلا استأنسَ به ورَدَّ عليه حتى يقومَ)) إسناده ضعيف في عبد الله بن سمعان؛ والحديث لا يعتمد عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إذا مَرَّ الرجلُ بقبرِ أخِيهِ يعرِفُه فسَلَّمَ عِليه رَدَّ عليهِ السَّلامَ وعَرَفه، وإذا مَرَّ بقبرٍ لا يعرِفُهُ فسَلَّمَ عليه رَدَّ عَليه السَّلامَ))، قال ابن الجوزي لا يصح؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة. فإذا أيضا لا يُعتمدُ عليه.
هنا حديث صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه رواه مسلم عن ابن شيماسة المهري قال: حَضَرْنا عَمْرَو بنَ العاصِ، وهو في سِياقَةِ المَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وحَوَّلَ وجْهَهُ إلى الجِدارِ.. ثم ذكر الحديث الطويل وفيه أنه قال لهم: "فإذا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرابَ شَنًّا، ثُمَّ أقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ ما تُنْحَرُ جَزُورٌ ويُقْسَمُ لَحْمُها -يعني صدقة لله- حتَّى أسْتَأْنِسَ بكُمْ، وأَنْظُرَ ماذا أُراجِعُ به رُسُلَ رَبِّي"، فقوله حتى أستانس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي، يقول النووي: "فيه فوائد منها إثبات فتنة القبر، وسؤال الملكين -وهو مذهب أهل الحق، وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر"، فهذا السماع المخصوص بمن هم حول القبر وليس أنه يسمع إلى آخر الدنيا، لا.
قالوا أيضاً: إن تسمية المُسَلِّمِ زائراً فيه إن المزور يعلم بأن هذا زاره، وإلا ماصار زائراً.
وبعض الآثار جاءت أن بعض الأحياء سَمِعَ شيئاً من القبر، أو أن أحدهم اتكأ على قبر فسمع المقبور يقول: إليك عني لاتؤذني.
أما بالنسبة لقضية أن الموتى يمكن أن يتأذوا بهذه الأشياء؟ نعم؛ القعود على القبر، والمشي على القبر، والاتكاء على القبر، كل هذا ورد النهي عنه، فهذا فيه إيذاء للمقبورين، وكذلك الاعتداء على القبور، جعلها مكان القمامة، أو مثلا البناء فوقها، وبعضهم لا يراعي حرمة الأموات، وإذا اشترى أرضا وتبين له أنها مقبرة لم يهتم، ووضع الأساسات وبنى البيت عليها.
إذا كون الموتى يتأذون بأشياء نعم، ممكن يتأذى الميت بالجلوس عليه والوطء على قبره والاتكاء على قبره، يتأذى منه، يعني وجود إحساس من الميت بأشياء ليس ممنوعا.
مسألة السماع تقدم الكلام فيها، وأن هناك سماعًا خاصًا بأحوال معينة، منها السلام وقرع النعال.
استئناس الميت بمن حوله وتأذيه ببكاء أهله عليه
هل يستأنس الميت بمن حوله؟ هل إذا زاروه أحس بهم؟ هذه أثبتها بعض العلماء ونفاها بعضهم. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سؤالا فيه فقرات كثيرة: هل الميت يسمع كلام زائره ويرى شخصه؟ وهل تعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت؟ أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟ وهل تصل إليه القراءة والصدقة سواء كان من المال الموروث عنه وغيره؟ وهل تُجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله سواء كان مدفونا قريبا منهم أو بعيدا؟ وهل تنقل روحه الى جسده فى ذلك الوقت؟ أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها؟ وهل يتأذى ببكاء أهله عليه؟
والمسؤل من أهل العلم رضي الله عنهم جاوب عن هذه الفصول فصلا فصلا جوابا واضحاً مستوعباً، أجاب: "الحمد لله رب العالمين. نعم، يسمع الميت في الجملة -أي عموماً هناك سماع- كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((..يسمَعُ خَفْقَ نعالِهم حينَ يولُّونَ عنه)) -وذكر حديث القليب- وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول ((قُولُوا السَّلامُ عليْكم أَهلَ الدِّيارِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقونَ وييرحمُ اللهُ المستقدمينَ منَّا ومنكم والمستأخرينَ نسأل الله لنا ولكم العافية.. اللَّهُمَّ لا تَحرِمْنا أجْرَهم، ولا تَفتِنَّا بعدَهم واغفر لنا ولهم))"، قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذا خطاب لهم" أي السلام عليكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، قال: "فهذا خطابٌ لهم، وإنما يُخاطب من يسمع" العادة أن تتكلم مع من؟ إذا خاطبت تخاطب من يسمعك، وقلنا في الذين مَنعوا السماع أنهم قالوا: ليس لدينا إشكال، هذه من الاستثناءات، يسمع من يسلم عليه.
"وروى ابن عبد البر.." وذكر الحديث ((ما من رجُلٍ يمرُّ بقبرِ الرَّجلِ كانَ يعرفُهُ في الدُّنيا..))، وذكر حديث "كَيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أرِمتَ.."، وحديث ((إن الله وكَّلَ بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام)) وهذا ثابت في عدة روايات، أن الله عز وجل خصص مَلكًا أعطاه أسماء العِباد، أي هذا الملك يسمع ما يقول الناس في العالم، وكلم اسلم أحدٌ على محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الملك للنبي عليه الصلاة والسلام: فلان ابن فلان من أمتك يسلم عليك، ويرد الله روح نبينا إلى جسده ليرد السلام.
وبعض أهل الباطل زعموا قالوا كم مليون واحد في العالم يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام صباحاً ومساءاً! قالوا إذاً الروح دائما في قبره، إذاً هو حيٌ مثلنا، إذاً يجوز أن نتكلم معه؛ هذا باطل؛ نقول أنت تقيس حياة البرزخ وحياة الغيب على حياة الواقع الشهود وعلى حياة الدنيا؟ إذا كانت الروح في أعلى عليين تُرد إلى الجسد في لحظة وكم شخص في العالم يسلم عليه فى اللحظة الواحدة، إذاً لا يمكن أن نتصور قضية الدخول والخروج، وبأية سرعة، وكيف يحصل هذا، هذا عالم غيبي؛ هذا ليس كحال الدنيا أبداً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة -عموماً وليس كل شيء، هناك سماعٌ لكلامِ الحي- ولا يجب أن يكون السمع له دائما"؛ فإذا كان الميت يسمع كلام المُسَلِّمِ عليه فهذا لا يعني أنه يسمع كلامه دائما، ولو أنت زرت القبر، ثم رجعت إلى بيتك الميت يسمعك، ولو أنك تكلمت مع زوجتك الميت يسمعك، ولو ذهبت إلى العمل الميت يسمعك، لا؛ اللي نثبته فقط هو سماع السلام. قال: "بل قد يسمع في حالٍ دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارضٍ يعرض له"، وذكر أن هذا لا يعارض قوله تعالى {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ} [الروم:52]، قال: "فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال"، أي الميت الآن لا يسمع سماعاً ينتفع به، والمنفي في الآية -لأنها ضُرِبت مثلاً لمن يُعرض عن الحق ولا يجيب، بأنه لا فائدة من هؤلاء، ومهما تكلمت معهم لن يهتدوا، مثل الكفار، مثل أهل القبور، لا يسمعون؛ كذلك هؤلاء الكفار، مهما نصحتهم ومهما دعوتهم، لن يستجيبوا.
قال: "فإن الله تعالى جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى. فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي وامتثال ما أمره به أو نهاه عنه، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى، كما قال الله تعالى {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23]"، ما معنى لأسمعهم؟ المقصود هنا سماع انقياد واستجابة، سماع هداية وقبول.
وسئُل الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين رحمه الله: هل الميت يسمع السلام والكلام ويشعر بما يُفعَلُ لديه؟ فأجاب: "هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، والسنة قد بينت بعض الأشياء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا وضع في قبره وانصرف الناس عنه فإنه يسمع قرع نعالهم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما من مسلم يمر بقبر مسلم فيُسلم عليه وهو يعرفه في الدنيا..، وهذا الحديث صححه ابن عبد البر وذكره ابن القيم في كتابه الروح ولم يتعقبه، وربما يؤيد هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى المقابر قال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين؛ وعلى كل تقدير، مهما قلنا بأن الميت يسمع، فإن الميت لا ينفع غيره ولو سمعه". وهذا كلام مهم جدا لأجل انحرافات الصوفية والمشركين وعباد القبور وأهل الباطل والذين يذهبون إلى الميت في القبر ويقولون: يا بدوي، يا عبد القادر، يا جيلاني، يا أبا العباس، ياعيدروس، يا حسين، يافلان يافلان؛ نقول لو كانوا يسمعون لا ينفعونك بشيء، لو كانوا يسمعون نداءك لايمكن أن يقدموا لك شيئا. هذا هو المهم جداً، قضية أن الميت يسمع أم لا يسمع ليست قضية خطيرة، الخطير هو أن تعتقد أن الميت يمكن أن يفعل لك شيئا! هذه هي المصيبة! الذين يذهبون إلى القبور ويقولون: اشفِ مريضي، وأعطيني ولداً، وارزقني، واشفع لي يوم القيامة، وثقل ميزاني، وأنا ورطان؛ والمشكلة بعض الناس عندهم سذاجة وغفلة ممكن يقبل أي قصة. في أحد النقاشات مع أحد هؤلاء الذين يقولون أن نداء الأموات مفيد، ويمكن للميت أن ينفعك، وإذا كان وليا، وإذا كان نبيا، قال: أنا كانت إقامتي منتهية والجوازات لم يقبلوا أن يجددوا الإقامة، ومتورط، وسأضطرُ للخروج النهائي، وفي مصيبة، وذهبت للرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد النبوي، وقلت: يا رسول الله، الحقني! وفي اليوم التالي تجددت الإقامة! لا إله إلا الله! ألا يمكن أن تكون صادفت من المحسنين من ساعدك؟ الله يسرها، أباعتقادِك ورأيك أنه سمعك وأنه تدخل عند الجوازات؟! ما هذه العقلية! والمشكلة أن الناس يصدقونه في المجلس ويقولون: اللهم صل وسلم عليه، نحن من البداية نقول هذا، فعلاً فعلاً، وهذا الدليل في الجوازات، يا أخي أين عقولكم؟! ولذلك هذه هي النقطة الخطيرة هنا؛ هل الميت يسمع أم لا يسمع، ليست هذه القضية كبيرة؛ لكن المشكلة -بناء عليها- أنه إذا كان يسمع يعني أنه ينفع، هذه المصيبة هنا، التوصل من يسمع إلى ينفع. وهذا ما يجب التأكيد والتحذير منه وبيان الحكم فيه، لأن بعض الناس يتوصلون هكذا من يسمع إلى ينفع.
ولذلك تشديد بعض العلماء أن الموتى لايسمعون، وهذه أحوال مخصوصة جداً، فقط ما ثبت فيه الدليل - قرع النعال والسلام عليه في المقبرة- فقط لأجل ما رأوه من هذه الأشياء الفظيعة التي يفعلها بعض المشركين.
قال الشيخ ابن عثيمين: "وعلى كل تقدير، مهما قلنا بأن الميت يسمع، فإن الميت لا ينفع غيره ولو سمعه، يعني أنه لا يمكن أن ينفعك الميت إذا دعوت الله عند قبره - لأن بعض الناس يقولون نحن لا ندعو الميت لكن نريد أن ندعو الله عند القبر لأن الدعاء عند القبر آكد في الاستجابة، نذهب ونقول عند القبر (اللهم اشفِ مريضي)، لماذا عند القبر؟ قال هنا الدعاء أرجى للإجابة، لماذا؟ الدعاء لمن؟ أليس لله؟ الله يسمع دعاءك، فما الفرق بين الدعاء عند قبر الميت أو في بيتك؟ ولماذا عند القبر الدعاء آكد بالإجابة؟ وما هو الدليل على ذلك؟ ومن الذى قال ذلك؟ ألا يفضي هذا إلى تعظيم المقبورين؟ ألا يفتح الباب للوقوع في الغلو بالأموات؟ ولماذا عند الميت بالذات الدعاء مستجاب؟ هذه هى المصيبة؛ قال: "يعني أنه لا يمكن أن ينفعك الميت إذا دعوت الله عند قبره، كما أنه لا ينفعك إذا دعوته نفسه، ودعاؤك الله عند قبره معتقداً لذلك مزية بدعة من البدع، ودُعاؤك إياه -يعني المقبور- شركٌ أكبر مخرجٌ من الملة". فانظر ماذا يحدث عند القبور من المصائب.
وسئُلت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وعضوية الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله -هذه إجابة الشيخين- هل صح حديث إن أهل البرزخ يرى بعضهم بعضاً أم لا، ويتحدث بعضهم مع بعض؟ الجواب: لا نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة حديثاً يُعتمد عليه
تم بحول الله
اللهم اعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي