الدرس -10- ارواح الشهداء بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحيه اجمعين
المرتبة الثانية أرواح الشهداء ذكرنا في الدرس السابق أن أعلى الأرواح في عليين هي أرواح الأنبياء؛ المرتبة التي تليها أرواح الشهداء. قال بعض المفسرين الشهداء هم العلماء، وقال بعضهم قتلى المعارك، وأما تسمية العلماء بالشهداء لأنهم يشهدون لله بالوحدانية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فهم شهداء لله على شرعه وعلى دينه، وهم الموقعون عن رب العالمين.
والشهداء قتلى المعارك في سبيل الله، ثبتت تسميتهم بذلك، فلا شك أنهم اشتهروا باسم الشهداء. هؤلاء المرتبة التي تليها بعد الأنبياء، {وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَاتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ} [آل عمران:161]، وفي صحيح مسلم عن مسروق، قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية قال: "أما إنا قد سألنا عن ذلك" أي عن أرواحهم، لأي كيف أحياء يرزقون؟ يرزقون بماذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟)) شهداء المعارك في سبيل الله -كقتلى أُحُد- جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة وتأكل من أشجار الجنة، وبعد ما تنتهي من هذه الرحلة في الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، ومعروف أن عرش الرحمن سقف جنة الفردوس، فبعدما تنتهي من رحلتها في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، ((فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا -وماذا نريد أكثر من ذلك- فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا)) فإنه قد قضى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا.
طبعا من الفروق بيننا وبين أهل البدع كالمعتزلة، أننا نؤمن بأن الجنة موجودة الآن، وأن الأرواح تُنَعم فيها الآن، أي نحن الآن في الدنيا وهناك أرواحٌ تُنَعم في جنات النعيم؛ أما أولئك المبتدعة يرون أن الجنة غير مخلوقة، وأنها لن تُخلَقَ إلا يوم القيامة، بينما الجنة خلقت منذ زمن، وفيها أرواح تنعم، هذه الجنة التي أُخرج منها آدم أصلًا.
وفي هذا الحديث إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة، وفي الحديث أن الأرواح باقية لا تفنى، فينّعم المحسن ويعذب المُسيئ. والذي يظن أن الميت إذا مات ماتت روحه معه، هذا مسكينٌ جاهلٌ أو ضال، فإن الروح لا تموت باقية، وتشعر وتعذب وتنعم، موجودة تخرج من الجسد وتعود بعلاقة خاصة تختلف عن علاقتها به في الدنيا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنَّمَا نَسَمَةٌ المُؤمِن..)) والنسمة تطلق على الجسد والروح، وتطلق على الروح فقط وهو المراد بها في الحديث هنا نسمة المؤمن أخبر أنها تَعلُقُ من شجر الجنة أي تأكل، النسم هذه أرواح المؤمنين؛ حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة. وقال تعالى عن آل فرعون بعد الموت وبعد الغرق {ٱلنَّارُ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا غُدُوّا وَعَشِیّاۚ} [غافر:46]، فمعنى ذلك أن أرواحهم تعذب، وأنهم يعرضون على النار غدوا وعشيًا، في الصباح والمساء.
إذًا الروح تنعم وتعذب الآن في البرزخ، هل يستثنى من تنعيم أرواح الشهداء أحد؟
قال ابن القيم رحمه الله عن ارواح الشهداء: "ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم؛ بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَامَ فيهم، فَذَكَرَ لهمْ أنَّ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ، وَالإِيمَانَ باللَّهِ أَفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ((نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ))، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ((كيفَ قُلْتَ؟)) قالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ((نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلَّا الدَّيْنَ، فإنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ قالَ لي ذلكَ))، إذا أخبرني به آنفا، جاءنا خبر من جبريل أن الدَّين مستثنى، إذاً أرواح الشهداء تُنَعم، في حواصل طير خضر، لكن ليست كلها كذلك، لأن منهم من هو محبوسٌ بدينه؛ فدل ذلك على الفضيلة العظيمة للمجاهدين وعلى خطورة حقوق العباد، وأن حقوق الآدميين عند الله مصانة، وحتى الشهيد.
وقوله في الحديث (مقبلٍ غير مدبر) احترازًا ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت، والمحتسب هو المخلص لله عز وجل، فلا يدخل في ذلك من قتل لعصبية، ولا من قاتل لغَنيمة، أو من قاتل لصيت ولذكرٍ، وليقال فلان شجاع وجرئ، فليس له هذا الثواب. وقوله إلا الدّين فيه دليل على أن الاستشهاد في سبيل الله لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر التقصير في حقوق الله تعالى. وقوله ((إلَّا الدَّيْنَ، فإنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ قالَ لي ذلكَ))، أوحي إليه في ذلك الحال، وهناك من الشهداء من يكون محبوسًا على باب الجنة لحديث ((رَأيتُ صَاحِبَكم مَحبُوساً عَلى بَابِ الجَنَّةِ))؛ ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، لكن هذا ارتكب معصية فقد قتل في سبيل الله لكن كان قد غلَّ من الغنيمة، خرج في سبيل الله، ورماه العدو بسهم فقتل، لكنه كان قد غل من الغنيمة فتسبب هذا الغلول في أسره في قبره.
وفي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً، إِلَّا الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلاَمًا، يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي القُرَى، حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي القُرَى، بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ -السهم العائر الذي لا يُدرى من راميه، وقيل الذي حاد عن قصده- فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)) أخذها بغير حق قبل قسمة الغنائم أي للمقاتلين فيها نصيب، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ - أَوْ شِرَاكَيْنِ - إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ - أَوْ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ))، ما هو الشِراك؟ سير النعل الذي يكون على ظهر القدم، قطعة الجلد، لما سمع الرجل الموعظة في الشملة جاء بشراكين فوضعهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهما من نار؛ قد يكون المعنى يعذب بهما وهما من نار، وقد يكون أنهما سبب لعذاب النار. هذا الحديث يدل على أن الغَلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل إذا قتل.
ومن الشهداء من يكون مقره باب الجنة كما في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشُّهداءُ علَى بارقِ، نَهَرٍ ببابِ الجنَّةِ، في قُبَّةٍ خضراءَ، يخرجُ علَيهِم رزقُهُم من الجنَّةِ بُكْرةً وعشيًّا)) [حديث حسن] بارق هذا اسم النهر، ليس داخل الجنة بل خارج الجنة، أين هو عند الباب؟ لعله الموضع الذي يظهر منه النهر ويبرق، يخرج عليهم رزقهم أي رزق أرواحهم ويصل إليهم. كما تعرض النار على آل فرعون غدوًا وعشيًا فيصل إليهم الوجع، كذلك يُعرض نعيم الجنة على هؤلاء فيأتيهم الروح والريحان. قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء".
إذًا تأمل الآن مراتب الشهداء؛ جعفر يطير بجناحين في الجنة، وشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح، وشهداء يأكلون من ثمر الجنة، وشهداء على باب الجنة، وشهداء في القبر محبوسون بأسباب؛ فهم على مراتب.
هذه أرواح أهل الإيمان، وهناك أرواح أهل الكفر وهناك أرواح أهل الفجور والعصيان، ومنهم من يكون محبوسًا في الأرض، لم تعلُ روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية، أي لا تجتمع معها، ليست بمنزلتها؛ والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها والأنس به، وذكره، والتقرب إليه، ومحبته ورجائه، والخوف منه، هي نفس سفلية لا تستحق أن تكون مع الأرواح العلوية، والمرء مع من أحب؛ والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، يعني يجمع أرواح بعضهم إلى بعض {وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} [التكوير:7]، زوجت الأرواح بالأبدان، أو جُعل كل واحد مع نظيره ومن هو على شاكلته. ولذلك يكون الزناة مع الزناة، وشراب الخمور مع شراب الخمور، عُباد الكواكب مع عُباد الكواكب، اليهود مع بعض، النصارى مع بعض، وأهل السرقة مع بعض، وأهل الرشوة مع بعض؛ كذلك يكون أهل الدعوة مع بعض، وأهل العلم مع بعض وأهل الجهاد مع بعض، {وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} [التكوير:7].
قال: "والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ، ويوم المعاد، ويجعل روح المؤمن مع النسم الطيب -أي الأرواح المشاكلة لها- أرواحهم في عليين، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك"، فتأمل مثلًا أهل الحديث أبو هريرة، ابن عمر، ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، سعيد بن المسيب وسفيان وشعبة وأحمد بن معين والبخاري والترمذي ومسلم والطبراني والبيهقي،
أهل الحديث هؤلاء الذين أفنَوا أعمارهم فيه ولقوا ربهم عليه هم مع من على شاكلتهم، وأهل الفقه وأهل الجهاد وأهل الدعوة، أهل الصدقات، أهل المعروف وأعمال البر والخير؛ الأرواح تتجمع وتكون مع من هم على شاكلتهم.
في مسألة الشهداء وأنهم في حواصل طير خضر، حاول بعض المبتدعة من الكفرة القائلين بتناسخ الأرواح أن يقولوا: هذا هو الذي يدل على صحة عقيدتنا موجود عندكم، فنقول: هيهات هيهات، البون شاسع بين ما تقولونه وما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهم يقولون إن الميت إذا مات روحه تتحول إلى حيوان بحسب عمله، فإن كان خيِّرا صارت روح طائر، وإن كان شريرا صارت روح كلب أو خنزير مثلا، يعتقدون تناسخ الأرواح، ولهم تفصيلات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، كفر عظيم. أين هذا الكلام من قول النبي عليه الصلاة والسلام أن أرواح الشهداء تكون في حواصل طير خضر، هي داخل الحواصل تسرح بها في الجنة فيكون الطائر كالمركب الذي يحمل الروح ويطير بها فتنعم، فأين هذا من هذا؟ أقالَ أن الروح تصبح طائرًا؟ ترجع إلى الدنيا على شكل طائر، وتموت وترجع مرة ثانية وطائر ثاني وطائر ثالث، أو تكون كلبا أو خنزيراً، وإذا مات الكلب ترجع مرة ثانية إذا مات الكلب يرجع كلب ثاني وثالث! شتان شتان. طبعا هؤلاء ليس لديهم يوم بعثٍ ونشور، العملية دوارة من روح حيوان إلى حيوان إلى حيوان، بلا نهاية، وهو من أبطل الأقوال وأخبثها ويليه في البطلان من قال إن الروح تموت وينتهي كل شئ، ما بعد ذلك شيء، وأن الموت هو نهاية العالم، لا شيء بعده، وأن الروح تموت والجسد يموت فحسب، ومنهم الذين يقولون {نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ} [الجاثية:24]، قالوا أرحام تدفع وأرض تبلع وهكذا. ومن أباطيلهم أنهم يقولون إن الدنيا تعود كما كانت، كل ستٍ وثلاثين ألف سنة، يرجع آدم مرة ثانية وتتكرر الأمور.. وهكذا بدون نهاية. أقوال سخيفة مضحكة شتان بين هذا وبين هذه الأدلة من الكتاب والسنة
تم بحول الله
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي
الدرس -11- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
المنزلة الثالثة أرواح المؤمنين الصالحين.... الثالثة في المنزلة أرواح المؤمنين الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حُضِرَ المؤمنُ؛ أَتَت ملائكةُ الرحمةِ بحَرِيرةٍ بيضاءَ، فيقولون: اخرُجِي راضيةً مَرْضِيًّا عنكِ إلى رَوْحِ اللهِ ورَيْحانٍ، وربٍّ غيرِ غضبانَ، فتخرجُ كأَطْيَبِ رِيحِ المِسْكِ، حتى إنه لَيُناوِلُهُ بعضُهم بعضًا، حتى يأتوا به أبوابَ السماءِ، فيقولون: ما أَطْيَبَ هذه الرِّيحَ التي جاءتكم من الأرضِ! فيأتون به أرواحَ المؤمنينَ، فلَهُم أَشَدُّ فرحًا به من أحدِكم بغائبه يَقْدُمُ عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلانٌ؟! ماذا فعل فلانٌ؟! فيقولون: دَعُوهُ؛ فإنه كان في غَمِّ الدنيا، فإذا قال: أَمَا أتاكم؟! قالوا: ذُهِبَ به إلى أُمِّهِ الهاويةِ)) إذن روح المؤمن بعد الموت تجتمع مع أرواح المؤمنين، ولو أن إنسانا مسافرا من أحبابك وأقاربك سفرًا بعيدًا، ثم جاء بعد طول غياب، كيف فرحك به؟ فرح المؤمنين وهم يتلقون روح أخيهم الذي قدم حديثًا من الدنيا -ومات وخرجت روحه إليهم، الملائكة تأتي به أرواح المؤمنين في عليين، فيفرح المؤمنين لملاقاة أخيهم، ويستقبلونه ويسألونه، ((فيسألونه: ماذا فعل فلانٌ؟! ماذا فعل فلانٌ؟!)) وهذا يدل على أن الأموات لا يعلمون ماذا يحدث في الدنيا وما يفعله الأحياء، كما يقول بعض الناس، وربما يسألون هل الأموات يعلمون ماذا يدور عندنا؟ هل الأموات يعلمون ماذا يفعل أقاربهم من بعدهم؟ وفلان تزوج فلان ولد له ولد فلان حصل كذا سافر هل يعلمون؟ طبعا نحن لا نثبت ولا ننفي إلا بدليل، هذه قاعدتنا في عالم الغيب، في الغيب لا بد من دليل ((فيسألونه: ماذا فعل فلانٌ؟! ماذا فعل فلانٌ؟! فيقولون: دَعُوهُ؛ فإنه كان في غَمِّ الدنيا))، بعضهم يقولون نحن نكثر عليه الأسئلة، وقد جاء من الدنيا ومن غمها، دعوه يستريح، لأن المؤمن مستريح إذا مات، مستريح لأن الدنيا مليئة بالغموم، والهموم والأوجاع والأحزان، والأمراض والأكدار والضغوط النفسية، فلما يموت المرء، إذا كان مؤمنا يستريح، ((فإذا قال: أَمَا أتاكم؟!)) فلان مات قبلي، أما جاءكم؟ ((فيقولون: قد ذُهِبَ به إلى أُمِّهِ الهاويةِ)) فهو ليس معنا؛ فقوله بحَريرة بيضاء التي تلف فيها الروح ترفع إلى السماء، وهذا الكفن الذي تحضره الملائكة من الجنة، وإلى روح الله والريحان، الروح الراحة من التعب والنصب، وريحان ما يشم ورزق الله الذي يأتي به من الجنة لهذا العبد، وقوله "حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا" عن روح المؤمن، يتناوبون عليه، والملائكة يصعدون به من يد إلى يد تكريما وتعظيما وتشريفا، لا كسلاً ولا تعبًا، فإنها لا تكسل ولا تتعب، ولا يعجز الواحد من الملائكة أن يحمله كل الطريق، لكن من الإكرام أن ملائكة تسلم ملائكة، وملائكة تسلم ملائكة، وهو صاعد في رحلته العلوية، يأتون به أرواح المؤمنين، يقول بعضهم لبعض دعوا القادم فإنه كان في غم الدنيا، حديث عهد بتعب الدنيا، دعوه يستريح. فإذا سألوه عن شخص يقول: ما آتاكم؟ مات، قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية، يعني الأرواح التي تسأل القادم، إذا أخبرهم أن المسؤول عنه مات، وليس معهم في منازل المؤمنين، يعلمون من ذلك أنه قد مات وأنه ذُهب به إلى أمه الهاوية، يسألونه عن شخص يظنونه كان في الدنيا، يسألون الميت حديثا عن شخص معلوماتهم أنه في الدنيا، فهذا الميت حديثا يقول: تسألوني عن فلان؟ مات، ما جاءكم؟ فيعرفون أنه ذهب به إلى أمه الهاوية، لأنهم كانوا يظنونه حيا، فلما أخبرهم أنه مات -هم لا يعلمون الغيب إذن هم لا يعلمون كل ما يحدث إلا ما أطلعهم الله عليه- فكونُهم يسألون عن شخص ولا يعلمون أنه مات والميت حديثا يخبرهم أنه مات، فإذا كان ليس عندهم فأين هو؟ في أمه الهاوية مع أرواح أهل النار، إما انتكس أو ارتد أو كان منافقًا، كانوا يرجون أن يتوب فمات بغير توبة؛ والهاوية من أسماء النار، لأنها مأوى صاحبها فهو يلازمها وتلازمُه ملازمة الأم للولد، {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] يعني لازما لا مفر منه ولا انفكاك عنه.
هذا الحديث الذي رواه النسائي يوضح شيئا مما يحدث في قضية تلاقي أرواح المؤمنين من الميتين حديثا مع من ماتوا قديما ومن ماتوا في أوقات متقاربة أيضاً، كونهم يعرفون فلانا ويسألون عنه معناه أنهم من جيل واحد، لكنهم ماتوا قبل هذا الميت حديثا مع الشخص الذي كان معهم في الدنيا. وقد ثبت ما يدل على أن أرواح المؤمنين تكون طيرًا تعلق يعني تأكل من شجر الجنة كما في مسند أحمد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: قالت أم مبشر لكعب بن مالك -أم مبشر صحابية، ابنها مبشر مات شهيدا من الصحابة. كعب بن مالك لما صار على فراش المرض جاءته أم مبشر، وكانت كل ما سمعت بواحد على وشك الموت أو على فراش المرض تأتيه، لتطلب منه أن يسلم على ابنها لِما كان فيها من لوعة على ابنها الذي قتل؛ فكانت كلما سمعت بأحد على فراش الموت أو على فراش المرض جاءته تقول بلغ ابني السلام. فوجدت كعب بن مالك مريضا، فجاءته، فقالت: اقرأ على ابني السلام -تعني مبشرا، فقال: يغفر الله لك يا أم مبشر، أولم تسمعي ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة))؟ قالت صدقت فأستغفر الله. [قال الألباني إسناده صحيح على شرط الشيخين]، لعله لامها على جذعها على الولد وأنها استغفرت من جزعها على ابنها، وأنه كان يكفيها الاطمئنان من الحديث النبوي الذي أخبرهم به عليه الصلاة والسلام.
قوله إنما نسمة المسلم، النسمة هي الروح؛ نسمة المسلم تكون طيرا تعلق: طبعا الطير جمع طائر ويطلق على المفرد أيضا، يقال هذا طير على المفرد ويقال على الطيور؛ طير جمع طائر، خضر جمع أخضر، تعلق أي ترعى وتأكل من أعالي شجر الجنة، من ثمر الجنة أو من شجر الجنة. وفي حديث ابن مسعود عند مسلم ((أَرْوَاحُهُمْ في أجوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلكَ القَنَادِيلِ))، فمن هم هؤلاء الذين أرواحهم تكون طيرا تأكل من أعالي شجر الجنة؟
قال ابن عبد البر: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال منهم قائلون أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دَين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم وبالرحمة لهم، فهؤلاء تتحول أرواحهم، تكون أرواحهم طيورا تأكل من شجر الجنة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أحَدَكُمْ إذا ماتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَداةِ والْعَشِيِّ، إنْ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ، فيُقالُ: هذا مَقْعَدُكَ، حتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إلَيْهِ يَومَ القِيامَةِ))، والحديث يثبت عذاب القبر، ويثبت نعيم القبر، وأن الروح لا تفنى، وأن الأرواح موجودة. قال ابن عبد البر: يُستدل به على أن الأرواح على أفنية القبور، والمعنى أنها قد تكون على أفنية قبورها لا أنها لا تفارق الأفنية. وتقدم أنها تصعد، تطير، تكون في الجنة، وتنزل، ولها تعلق بالبدن في الأرض، ثم تصعد وهناك أرواح في أعلى عليين، وأرواح في القناديل، في الطيور، وتأكل، وعند باب الجنة، وأرواح محبوسة في الأرض.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك، أنَّ أمَّ الرَّبيعِ بنتَ البراءِ وَهيَ أمُّ حارثةَ بنِ سُراقةَ أتتِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت يا نبيَّ اللَّهِ ألا تحدِّثني عن حارثةَ بنِ سراقةَ وَكانَ قُتلَ يومَ بدرٍ -شاب صغير قتل يوم بدر، أمه جاءت تريد عزاء وشيئا يبرد حر المصيبة- أصابَه سَهمٌ غرْبٌ -لا يدرى من راميه- فإن كانَ في الجنَّةِ صبرتُ وإن كانَ غيرَ ذلِك اجتَهدتُ عليهِ في البكاء، قَالَ: ((يا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى)) [البخاري:2809].
وجاء عن عبدالله بن عمرو أن ((أرواحُ الشُّهداءِ في طَيرٍ كالزَرازِيرِ يتَعَارَفونَ ويُرزَقُونَ مِن ثَمَرِ الجَنةِ)). وذهب ابن القيم رحمه الله إلى أنه لا تنافي بين قوله ((نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة)) وبين قوله ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بين الغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار)) لأن المعارضة التي يمكن أن تتوهم مثلا أن يُقال كيف هو في قبره يرى مقعده من الجنة؟ وكيف الأحاديث الأخرى التي فيها أن الأرواح تدخل الجنة، وتأكل من شجر الجنة؟ فهل هو في القبر يرى مقعده رؤية فقط؟ أم يدخل الجنة ويعاين ويأكل؟ فابن القيم رحمه الله يقول أنه لا تعارض، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة يتناول الشهيد وغيره. ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي تَرد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها؛ يقول لا مانع، لا يتعارض أن يكون في القبر يرى مقعده من خلال النافذة المفتوحة -الباب الذي يفتح- يرى مقعده من الجنة وروحه تصعد إلى الجنة وتأكل من ثمارها، لا يتعارض هذا مع هذا. وأما المقعد الخاص به والبيت الذي أعد له فإنما يدخله يوم القيامة -جسدا وروحا، فإذاً هو في قبره يرى مقعده من الجنة، وروحه يمكن أن تصعد وتدخل حسب المنزلة. ناس محبوسون في القبر، ناس على باب الجنة، ناس أرواحهم تدخل الجنة وتأكل منها، وناس تأوي إلى قناديل تحت العرش؛ فإذاً هم درجات ومراتب.
لكن متى يدخل المكان الذي هُيئ له في الجنة؟ مقعده في الجنة، بيته أو قصره في الجنة، متى يدخله جسدا وروحا؟ هذا لا يكون إلا يوم القيامة. أما في القبر، في عالم البرزخ، فهو يرى مقعده من الجنة، والنعيم للجسد والروح، الروح يمكن أن تصعد وتأكل من شجر الجنة، لا مانع؛ لكن الجسد والروح والدخول التام والمقعد والتمتع بما أعد الله له استمتاعا تاما جسدا وروحا لا يكون إلا بعد يوم القيامة، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك، هذا كلام ابن القيم رحمه الله.
الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك، منزلة أقل، لا شك أن استمتاع الروح فقط أقل من استمتاع الجسد والروح معا، ونظير هذا أهل الشقاء تُعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا، فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ؛ فرعون وجنوده ومن هو على شاكلتهم، ماذا يحدث لهم الآن في البرزخ؟ يُعرَضون على النار، هل يصيبهم من عذابها؟ نعم، ويشعرون بذلك، أرواحهم تعذب، يرون مقعدهم من النار؛ متى يكون دخولهم النار الدخول الكلي الذي يعذبون عليه جسدا وروحا في مقعدِهم في النار؟ غير الوهج واللهب والحرارة التي تلفحهم وهم خارج النار في القبر، في البرزخ تلفحهم {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] هذا العرض فيه لفحٌ من النار، يأتيهم من سمومها ويحمومها، لكن الدخول الذي يكونون فيه في غمرات العذاب في وسط جهنم، يكون بعد يوم القيامة.
قال: "فتَنَعُّم الأرواح بالجنة في البرزخ شيء، وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شيءٌ آخر، فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث -مستوى أقل- ولهذا قال تعلق في شجر الجنة أي تأكل العلق وتمام الأكل والشرب واللبس والتمتع إنما يكون إذا ردت إلى الأجساد يوم القيامة". فالأكل الآن أكل خفيف بالنسبة للذي سيكون فيما بعد، الأرواح تأكل من الشجر تعلق، العُلقة من الطعام شيء يسير، هذا أكل خفيف؛ لكن عندما يأكل الجسد والروح، عندما يستمتع الجسد والروح يوم القيامة بالجنة دخولا وأكلاً فإنه شيء فوق هذا، وأعلى منه وأكمل منه وأتم منه.
فإذاً بهذا يتبين أنه لا تعارض بين حصول شيء من الاستمتاع في عالم البرزخ، وشيء من العذاب في عالم البرزخ، وبين ما سيحدث يوم الدين. وقد أراد بعض العلماء أن يقول أن الأرواح التي تأكل من ثمر الجنة وتعلق من شجر الجنة هم من الشهداء، هي أرواح الشهداء، والذين في حواصل طير خضر أرواح الشهداء، والذين على باب الجنة أرواح الشهداء؛ وأن الذين ليسوا بشهداء ليس لهم هذا. ولكن عموم الحديث ((إن نسمة المؤمن طير تعلق من شجر الجنة)) يشمل الشهداء وغير الشهداء. ورد ابن القيم رحمه الله بقوة في المسألة وقال: إن هناك طبقة أعلى من الشهداء وهم الصديقون، فهل تقولون إن أرواح الشهداء تعلق من شجر الجنة ومن هو أعلى منهم كأبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وغيرهم من الذين لم يُقتلوا في سبيل الله -ماتوا ميتة عادية- لا تدخل الجنة ولا تعلق من شجر الجنة؟ قال هذا لا يمكن.
إذاً، يريد أن يقول رحمه الله أن أرواح الشهداء التي في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وأرواح المؤمنين ((نسمة المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة)) أن المؤمنين يشتركون مع الشهداء في هذا وإن كان بعض الشهداء أعلى من بعض المؤمنين، ولذلك فإن أرواح هؤلاء الشهداء في حواصل طير خضر، وهى التي تسرح بهم وهي التي تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش. وقد جاء في حديث رواه الطبراني وحسن إسناده الهيثمي والألباني ((افتَحُوا له بَاباً إلى الجَنةِ فيُفتح له فيُقالُ هَذا مَنزِلُك ومَا أعَدَّهُ اللهُ لَك فيزدادُ غِبطةً وسُرورا فَيُعَادُ الجِلدُ إلى ما بَدا مِنه ويُجعَل رُوحُه في نَسمِ طَيرٍ يَعلَق في شَجَرِ الجَنَّةِ)). فإذاً لا يمنع أن تكون أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح وتأوي إلى قناديل، وأرواح المؤمنين من الذين ليسوا بشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة، ولكن لا تتنقل في أرجائها وتأوي إلى قناديل كأرواح الشهداء، ميزةً للشهداءِ. فأين أرواح العصاة؟ سيأتي في حديث سمُرة بن جندب في البخاري في عذاب القبر، عذاب الزناة وأكلة الربا والكذابين وكذلك من عذاب الذين يغتابون الناس ونحوهم، وأيضا الذي يضيع الصلاة عن وقتها. سيأتي نماذج لعذابِ العصاة في البرزخ.
تم بحول الله
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي
..الدرس-12- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
أين أرواح الكفار؟ أين أرواح الكفار؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ الكّافِرَ إِذَا اُحْتُضِرَ أتَتْهُ مَلاَئكَةُ العَذَابِ بِمِسْحٍ)) المسح في اللغة ثوب من الشعر غليظ، لكن هنا هذه المُسوح من النار، ((فَيَقُولُونَ أُخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ، إِلَى عَذَابِ الله، فتَخْرُجُ كأنْتَنِ رِيحٍ جِيفَةٍ، حتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأرْضِ فيَقُولُونَ: مَا أنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ، حتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الكُفَّارِ)) [السلسلة الصحيحة: 3/294].
أرواح الكفار أين هي؟ في سجين. أين؟ في الأرض السفلى؛ إذًا هناك مستودع لأرواح الكفار تُلْقى فيه أرواحهم. قال: ((يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأرْضِ)) إذًا يجمَع الله هؤلاء بعضَهُم إلى بعض، وقد جاءت بعض الأحاديث مثل ما أشار إليه عبد الله بن مندرة رحمه الله: "قالت طائفة من الصحابة والتابعين إنَّ أرواح المؤمنين بالجابية"، الجابية اسم بلد معروف في بلاد الشام، ناحية من نواحي الجولان، شمالي حوران، قريب من دمشق، "..وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت". هذا الذي قاله بن مندة، وأشار إليه، فيه حديث مرفوع: ((أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَابِيَتِيْنِ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ تُجْمَعُ بِبُرْهُوتَ)) حديث ضعفه الألباني رحمه الله.
نعود إلى كلام ابن مندة: "قال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنْفُسِ المؤمنين مُجتَمَعٌ؟ قال: إن الأرض التي يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث، وقال هي الأرض التي يورِثُها الله المؤمنين في الدنيا".
وقال كعب: "أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة"، وقالت طائفة أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت؛ ورده ابن القيم رحمه الله قال: "لا دليل عليه في الكتاب والسنة، ولا قول صاحبٍ يوثَقُ به؛ وأما أرواح الكفار فلم يرد فيها حديث مرفوع، وإنَّما هي آثار موقوفة ساقَها ابن القيم وهي ضعيفة الأسانيد".[1] وُملَخَّصُها أنَّ أرواح الكفار في بِئْر برهوت في حضرموت، بئر برهوت موجودة ومعروفة في حضرموت، وجاء فيها حديث صحيح: ((خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ؛ ... وَشَرُّ مَاءٍ على وجهِ الأرضِ ماءٌ بوادي بَرْهُوتَ..)) [صحيح الجامع: 3322] فهو ماء مُنْتِنٌ، رائحتُه كريهة، والبئر معروفة وموجودة، معروفة عند أهل حضرموت.
ورَدَ أنَّ أرواح الكفار في سِجِّينٍ في هذا الموضع، في هذا البئر، لكن لم يثبت النص بهذا، بأَنَّ هذا مستودع أرواح الكفار، لكن جاء الحديث الصحيح أنَّهُ شر ماء على وجه الأرض الذي هو ماء بئر برهوت، كما أن ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض؛ أما القول أن أرواح المؤمنين في زمزم وأرواح الكفار في برهوت، فهذا يحتاج إلى إثبات دليل، لأن هذا من عالم الغيب؛ لأنه إذا ثبت لديك فيجب أن تعتقد به، وأن يكُون لقلبك عمل وهو الاعتقاد والتصديق، فإذا لم يثْبُت فلن تعتقد به.
وقال سلمان الفارسي: "أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين". وعلَّقه ابن القيم عن سلمان فلم يسُقْ إسنادَه.
لكن كون أرواح الكفار في سجين، فهذه قد جاءت فيها أحاديث، ومنها إذا وضع الميت في قبره قال في شأن الكافر: ((وَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ الله عزَّ وَجَلَّ {مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]))، قال: ((وَتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي سِجِّينٍ)) هذا الحديث موجود في مصنف عبد الرزاق موقوفا عن أبي هريرة وسنده حسن، ملخصه أن أرواح الكفار في سجين.[2]
هذا اللفظ ورد في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]، سِجِّين: مكان ضيق، أمر عظيم وسِجن مُقيم وعذاب أليم. قال قائلون: هو تحت الأرض السابعة، وجاء في حديث البراء: ((يَقول الله عز وجل في روح الكافر: اكْتُبوا كِتابَهُ فِي سِجّينٍ)) [رواه أحمد: 18534، وصححه الألباني في أحكام الجنائز: 1630]. قال الشُراح: "سجين تحت الأرض السابعة".[3] وفي تفسير ابن كثير، ذكر رحمه الله: "والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيْق، فإنَّ المخلوقات كلُّ ما تسافَلَ منها ضاق، وكل ما تَعالَى منها اتَّسَعَ فإنَّ الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرَضُون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز، في وسط الأرض السابعة"، وهو في المركز في وسط الأرض السابعة. "ولمَّا كان مصير الفُجَّار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:5-6]".[4]
الخلاصة إذن أن أرواح المؤمنين في عليين، وأنها طليقة تسرح، وهي مراتب في دخولها الجنة والأكل منها؛ وأن أرواح الكفار محبوسة في ضيق في سِجين، في الأرض السفلى، تُعرَض على النار ويُصيبها ما يصيبها من عذابها، ولا تعارض بين النصوص التي تدل على أن الأرواح تُعاد إلى الأبدان ثُمَّ تُسْأَل، وبعدها يُنَعَّم المؤمن ويُعذَّب الكافر، وبين النصوص التي تُبيِّن أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأرواح المؤمنين في الجنة وإن كانت مع ذلك قد تُعاد إلى البدن، كما أنها قد تكون في البدن ويُعرَج بها إلى السماء كما في حال النوم؛ أما كونها في الجنة ففيه أحاديث عامة، وقد نصَّ على ذلك أحمد وغيره من العلماء، وكما دلت عليه النصوص، فالروح كما تدل عليه الأحاديث تُعاد إلى الجسد بعد الرحلة إلى السماء، ثم تُسأل، ثُمَّ تكون طيرًا يعلق في شجر الجنة إلى أن يُبعث العباد؛ ومع كونها في الجنة، فإنَّه يبقى لها تعلُّقٌ بالجسد كحال الإنسان في النوم، فإنها تَجُول في ملكوت السماوات والأرض، مع أن لها تعلُّقًا بالجسد، وذلك أن الروح وأحوالها مخالِفةٌ للجسد، فهي في مستقرِّها إما في الجنة أو في النار على ما مضى بيانُه، ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى".[5] إذاً أرواح المؤمنين تسرح وتذهب للجنة وتتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، ومِنْ ضِمْنِ الاتصالات ما يحدث من عودتها إلى البدن لكي تُسأل، فيُقعد الإنسان ويُسْأَلُ جسدًا ورُوحًا عند السؤال، من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيُسْأَل جسدا وروحا، ويُسأَل ورُوحُه في جسده، حتى لو احترق، حتى لو أكلَتْهُ السِّباع وتخطَّفتْه الطير، يجمعه الله ويدخل الروح في البدن في القبر ويُسأل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وهي في تلك اللحظة بمنزلة مرور الملَك وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم".[6]
عذاب الميت بما نيح عليه
نأتي الآن إلى مسألة من المسائل المتعلقة أيضا بحياة البرزخ وما يكون في القبر، وهي عذاب الميت بما نِيحَ عليه. فكثير من الأموات إذا ماتوا، ناحَ أهلهُم عليهِم ولَطموا، يا ويلي! يا خرابي! وا حُزْناه! وا سندَاهُ! وا عضُداه! وا ثُكْلَيَاهُ! إلى آخره.
النياحة والصياح والزعيق، شق الثياب ونتف الشعر ولطم الوجه، والدعاء بالويل والثبور والخراب، هل هذا له تأثير على الميت أم لا؟ هذا ما سنحاول الوقوف عليه.
روى البخاري عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ)) [رواه البخاري:1291]. وعند مسلم، عن علي بن ربيعة: أول من نيح عليه بالكوفة قرضة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ نِيحَ عَليْهِ فَإنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ علَيْهِ يَوْمَ الْقِيامةِ)) [رواه مسلم:933]. وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ)) [رواه البخاري: 1292، ومسلم: 927]. قال النووي: "وفي رواية بإثبات (في قبره)، وفي رواية بحذفه"،[7] أي الميت يُعذَّب بما نيح عليه، ورواية الميت يعذَّب في قبره بما نيح عليه.
وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي مُليكة قال: "توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة، وجئنا لنَشْهَدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وإنِّي لجالس بينهما، فإذا صوت من الدار -صياح- فقال عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما لعَمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟" يعني البكاءُ من بيتكم على أختك، إذهبْ وانْهَهُم عن البكاء والصياح- "فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)) فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك، ثُم حدَّث قال: لمَّا أُصيب عُمر، دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علَيَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))؟ قال: فأما عبد الله فأرسلها مرسلةً، وأما عمر فقال ببعض" [رواه البخاري: 1288، ومسلم: 929]. يعني حديث عبد الله: ((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)) وحديث عمر: ((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فلما مات عمر رضي الله عنه، ذكرتُ ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: رحم الله عمرَ، والله ما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))؛ وقالت: حسبُكُم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}" [الأنعام: 164]- حسبُكُم القرآن: يعني يكفيكم؛ "قال ابن أبي مُليكة: والله ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئا" -يعني لم يعلِّق على كلام عائشة- "ولمَّا بلغ عائشة قول عمر وابن عمر، قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذِبَيْنِ ولا مُكَذِّبَيْنِ، ولكن السمع يُخْطىء" [رواه البخاري: 1288، ومسلم: 929].
الآن النقاش من عدة جهات، هناك نصوص عامة: الميت يُعذَّب بما نيح عليه، أو ببعض بكاء أهله عليه. هل الميت هذا، هل هو المؤمن أم الكافر؟ من هو هذا الميت؟ عائشة أرادت أن تقول أنَّ هذا الحديث غير موجود أصلا فهو يعارض القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، يعني ما ذنب الميت ليعذَّب؟ فقالت عائشة، هذا الحديث خطأ، أي أن ابن عمر أخطأ، ابن عمر سكتَ ولم يرُدَّ على كلام عائشة رضي الله عنها، فلماذا سكت؟ هل لأنه لاح له الحق فسكت مُذعِنًا؟ أم لأنه كره المجادلة؟ ابن عمر يعرف أنه سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، إذن يعلم أنَّهُ حقٌّ، لكنه ما أراد أن يجادل عائشة، وعائشة أم المؤمنين هي بمنزلة أمِّهِ، فاحتِرامًا وتوقيرًا ما أراد أن يجادل.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله، فقال: ((قَدْ قَضَى؟))، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، قال: ((أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ الله لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيِنِ، وَلَا بِحُزْنِ القَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا)) وأشار إلى لسانه ((أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ)) [رواه البخاري: 1304]. وكان عمر رضي الله عنه يضرِبُ فِيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحْثِي بالتراب، ما معنى الحديث؟ ذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليعود سعد بن عبادة في مرضه، فوجده في غاشية من أهله، -يعني أهله يغشونه للخدمة، يعني النساء- دخلوا عليه، ويُحتمل أن يكون المقصود غاشية الكرب، والغاشية هي الداهية والشر من مرض ومكروه، والمراد ما يتغشاه من الكرب والوجع، وليس أنه مات، لأن هذا المرض لم يمت فيه، وجده في غاشية فقال: ((أَلَا تَسْمَعُونَ…)) وذكر لهم الحديث.
هذا الحديث يشبه حديثا آخر، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أرسلت ابنة له إليه: "إِنَّ ابنًا لي قُبِضَ فاتِنَا، فأَرْسل يُقْرِئُ السلام ويقول: ((إِنَّ لِلَّـهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً... فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)) فأرسلت إليه تُقْسِمُ عليه ليأتينَّهَا، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فَرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، ونفسُه تَتَقعقع كأنها شَنٌّ -القعقعة صوت الشيء اليابس إذا حُرِّكَ، والشن القربة الخرقة اليابسة، فكأنه شبَّه النفس بالجلد وصوته- ففاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ أتبكي؟ وفي رواية: أو لم تَنْهَ عن البكاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ)) [أخرجه البخاري: 7377، ومسلم: 923]. وقوله: ((إن الله يُعَذِّبُ بِهَذَا)) يعني اللسان إذا قال سوءا أو يرحم به إذا قال خيرا. وحديث عبد الله بن عمر أن حفصة بكت على عمر رضي الله عنهم، فقال: مهلا يا بنية، ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ ببُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))؟
فهذه الأحاديث عن عمر وابن عمر والمغيرة، فيها إثبات تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وعمر كان إذا سمع صياحًا على ميت يضرب الصائح بالعصا، ويمكن أن يدخل على نساء في نياحة ويضْربهُنَّ أو يحثو التراب عليهن، أو على من ينوح. وكذلك فإنه ورد أنه كان يرميهم بالحجارة.
هل هذا الحديث ثابت أم غير ثابت؟ عائشة نفتْه طبعا، والصحيح أنه ثابت، وأنه قد رواه صحابة معتبَرون لا يتطرق الشك إليهم أبدا، ولا يمكن أن يقال أصلا أفهامهُم قاصرة. يعني عمر وابن عمر والمغيرة، كل الذين رَوَوْا، أكُلُّهُم وَهِموا؟ لا يمكن، إذا الحديث ثابت.
تم بحول الله
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي
الدرس -13- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
هل كل البكاء سبب للتعذيب؟ ما هو البكاء الذي يكون سببا للتعذيب؟ ومن هو الميت الذي يُعذَّب؟ إذا انجلت هاتان النقطتان، انْجلت القضية، لأن الإشكال هو كيف يُعذَّبُ الميت بشيء لم يفعله؟ كيف يعذب الميت بشيء فعله غيره؟ ألم يقل الله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فما هو ذنب الميت لكي يُعذَّبَ وغيره الذي فعل المنكر؟ وهل البكاء العادي سببٌ لتعذيبِ الميت؟
النبي عليه الصلاة والسلام بكى بكاءً عاديًا، الجمع بين الأحاديث أن نقول: ((إِنَّ الله لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيِنِ)) هذه مُسَلَّمة لأنه نص عليها؛ والبكاء العادي الذي ليس فيه صياح، ولا زعيق، ولا اعتراض على القضاء والقدر، ولا تسَخُّطٌ على ما أمر الله وقدَّر، هذا البكاء ودمع العين ليس سببا لعذاب لا لِحَيٍّ ولا لميت، وأنَّه شيء في الطبيعة البشرية، وأن النفس أحيانا ترتاح بالبكاء. بعض الناس يبكون ليرتاحوا، وإذا صارَ في مصيبة مثل هذه، فبكاؤُه يُريحُه، لكن ما هو البكاء الذي يعذَّبُ صاحبُه ويعذَّبُ الميت بسببه؟ ومتى يُعذَّب الميت بسببه؟ هو الصياح والزعيق الذي فيه التسخط على القضاء والقدر، والعويل المصحوب بكلمات من النياحة، وَا ثُكلياه! وا خراب الدهر! وا سنَداه! وا عضُداه! وا ويلاه! وا ثبُوراه! طبعا لكل عصر ومصر ألفاظه، في الجاهلية يقولون: وا ثُكلياه! واثبُوراه! وا ويلاه! وا عضداه! الآن يقولون: يا ويلي! يا خرابي! إذاً كل بلد وله ألفاظه. الزعيق والصياح المصحوب بهذه الكلمات، وربما يكون مصحوبا بلطم الوجه وشدِّ الشعر وشقِّ الثياب، كل هذا نياحة، صاحبتُها تُلبَس دِرعًا يوم القيامة، تُلبَس من قطران، نحاس مذاب، درع من جَرب، وسِربال من قَطِران، تُعذَّب يوم القيامة نتيجة تلك النياحة التي فيها اعتراض على القضاء والقدر، لأنها ما رضيت بأمر الله، ولا رضي هذا النائح أو النائحة بقضاء الله.
هذا بالنسبة للحي؛ إذا كان دمعَ عين، أو بكاءً عاديًا وهو راضٍ بالقضاء، لا شيء عليه؛ وإذا كان زعيقًا وصياحًا ولطمًا وشقًّا ونتفًا، وكل تلك العبارات، وبعضهم يتعدى ويقول: لماذا أخذته؟ ماذا فعل لك؟ والعياذ بالله، يعترضون على الله في أفعاله، وربما يقولون هذا صغير، لو أخذتَ فلانا هذا الذي نحن متورطون معه في تنظيفه وحمله! واضح أن هؤلاء لا يفقهون، ليس عندهم فقه، ما معنى إنا لله وإنا إليه راجعون؟ ما معنى إنا لله؟ هاتان الكلمتان: إنَّا لله، اللام لام الملك، إنا لله، يعني نحنُ مُلْكٌ لله، يأخذ من يشاء ويَترك من يشاء، يمهل من يشاء يعجل بمن يشاء. ولذلك تقال في المصيبة، لكي لا يعترض المرء، ويقول لِمَاذا هذا مات؟! ولماذا أخذه؟! {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. إذا البكاء العادي ودمع العين للحي، لا شيء عليه وهو مباح. فإذا تحوَّل الى نياحة وسخط وزعيق وصياح وكلام واعتراضات، هذا يعذَّب عليه.
وماذا عن الميت؟ طبعا كلام عائشة، لمَّا قالت: إنَّه لم يقل إن المؤمن يُعذَّب، صحيح هناك حالات، ليس المؤمن مسؤولا ولا يعذب؛ وقولُها إنَّ الكافر يعذَّب ويُزاد عذابا بالنياحة صحيح، لكن لو كان مسلمًا ماتَ ممكن أن يعذَّب، وهذا الكلام الذي ردَّتْه عائشة رضي الله عنها اجتهاد منها، وقد ذكر العلماء رحمهم الله، أن عائشة أخطأت في ردها هذا -في هذه النقطة، وأن هناك من يعذب في قبره بما نيح عليه.
متى يعذب الميت على نياحة الحي؟
متى يعذب في قبره؟ فقال بعض العلماء، وهذه طريقة البخاري: "إنَّه يُعذَّب إذا كانت سُنَّتُهُ وطريقته -يعني واحد أصلا ينوح ثم مات- فيُعذَّب على النياحة، وإذا كانت ليست النياحة من عادته ولا من منهجه ولا طريقته فإنه لا يعذب". قال بعضهم: "إذا أقرَّ أهلَه في حياته على النياحة إذا مات يعذَّب، لأنه كان يرى المنكر في أهله ولا يُنكِر". فإذًا لو كان من عادة أهله النياحة، مثلا: زوجته لما مات أخوها ناحت، وأمه لما مات زوجها ما أنكر عليها، قالت: يا خرابي! يا ويلي! لطم وشق، شد الشعر، صياح، زعيق، وما أنكر، لم يُنْكِر، هذا إذا مات ممكن أن يعذَّب بما نيح عليه، لأنه كان يرى المنكر في حياته وما أنكره وأقرَّهم عليه وما نبههم ولا علَّمهم، وسكت. وإذا كان أصلا يشترك معهم في حياتهم، يكون أسوأ عليه في القبر. معنى ذلك، إذَا كان ينكر عليهم في حياته ويقول لهم اتَّقوا الله، ولا اعتراض على قضاء الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، حرام عليكم هذا اتقوا الله، كُفُّوا عنه، البكاء عادي ودمع العين، أمَّا هذا اتركوه؛ إذا كان يُنكِر عليهم، لو مات لا عذاب عليه.
ومنهم من قال - ونسبه النووي إلى الجمهور- أنَّه يُعذَّب الميت إذا أوصى أهله بالنياحة عليه. وقد كان أهل الجاهلية يوصون أهاليهم بالنياحة عليهم إذا ماتوا، كما قال طرفة بن العبد:
إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهلُه *** وشُقِّي علَيَّ الجيب يا ابنة مَعْبَدِ[1]
يقول لزوجته: إذا مت فانعيني -والنعي هو ذِكْرُ مفاخِر الميت ورفع الصوت، إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهلُه، وشُقِّي علي الجيب يا ابنة معبد. هذا لم يكن فقط يُقِرُّهُم، بل أوصى قبل الموت بالنياحة عليه، فهذا أهلٌ للتعذيب في القبر إذا ناحوا عليه. فإذا أوصى بهما أو أقرَّهُما ولم ينكر، أو أقَرَّ أهْله على النياحة ولم يُنكر عليهم، فيُمكن أن يعذَّب في القبر إذا ناحوا عليه. وإذا أنكر ذلك في حياته وأوصى بعكسه، وكتَب في الوصية: أُوصِي أهلي بعدم النياحة، فهذا بريء ولا يصِلُه شيء إن شاء الله في قبره، لأنه أنكر، بل أوصى بعدم النياحة وعلَّم أهله الرضا بالقدر.
ما يفعله النعي بالميت
وكان في النعي في الجاهلية تعديدٌ لشمائِل ومحَاسن الميت، وكانوا يقِفُون صفوفًا وهؤلاء يرُدُّون وهؤلاء يرُدُّون، ويجتمع النساء، وكانت هناك فرق للنياحة. الآن في بعض الأماكن يستأجرون النوَّاحة؛ مثلما يستأجرون الطقاقات (مغنيات المناسبات) في العرس، يستأجرون النواحات في المصيبة، ويجتمع النساء والتي تصرخ أعلى، هذه هي التي قامت معهم في المصيبة، وقامت بالواجب! ربما يشكرونها في آخر حفلة النياحة، ويشكرُونها وتَقولُ: لا هذا واجبنا! سبحان الله النياحة واجبنا؟! فإذًا الذين يفعلون هذه الأفعال أهلٌ للتعذيب في القبر.
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: ((المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ إِذَا قَالُوا: وا عضُداه، وا كاسِيَاهُ، وا نَاصِرَاهُ، وا جَبَلَاهُ، يُتَعْتَعُ -المَيِّتُ يعني يُزْعَج بشدة ويُجَرُّ- ويُقَالُ لَهُ: أنْتَ كَذَلِكَ، أنْتَ كَذَلِكَ)) [رواه ابن ماجة: 1594، وحسنه الألباني في الترغيب والترهيب: 3523]. هُمْ يصيحون في الدنيا ويصيحون في البيت، وهُوَ يُعذَّب في القبر، كلَّما قالوا كلمة في البيت، في القبر يُلْهَزُ ((أنْتَ كَذَلِكَ))، إذا قالوا: وا عضُداه ((أنْتَ كَذَلِكَ)) وا سَنداه ((أنْتَ كَذَلِكَ)) الملائكة تُلْهِزُه في قبره وتزعجه. فهذا الذي يَرضَى أو يُوصِي.
وروى الترمذي بلفظ: ((ما مِنْ مَيِّتٍ يموتُ فيقومُ باكِيه فيقولُ: واجبلاه واسيِّداهُ، أوْ نحوَ ذلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ ملَكانِ يلْهَزانِهِ: أهكَذا كنتَ؟))يلْهَزانِهِ: يضربانه ويدفعانه. وحسنه الألباني [أخرجه الترمذي: 1003 باختلاف يسير، وابن ماجه: 1594، وأحمد: 19716 بنحوه]. ويشهد له ما روى البخاري عن النعمان البشير رضي الله عنه، قال عن النعمان: "أُغمِي على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه عَمْرَة تبكي وتقول: وا جَبلاه، وا كذا وا كذا -تُعَدِّدُ عليه- فقال حين أفاق -يعني هذه كانت غشية الموت، فقال لأخته- ما قُلْتِ شيئا إلَّا قيل لي: أنت كذلك؟" الغَشْيَةُ هذه غشية الموت، قال: أنتِ مَا قُلْتِ شيئا بجانبِي إلَّا وأنَا في غشية الموت إلَّا قيل لي: أنت كذلك. فلمَّا مات لم تبكِ عليه" يعني اتعظت من هذا الموقف، فلم تَبْكِ عليه. ولذلك كان الصحابة يوصون قبل موتهم: لا تتبعوني بنار، ولا تنوحُ علَيَّ نائحة.
وجاء في حديث حسن، أن قَيْلة بنت مخرمة، نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن البكاء على ابنها، وقال: ((أيُغلَبُ أحدُكم أن يُصاحِبَ صُوَيحِبَهُ فِي الدُّنيَا مَعْرُوفًا، وإذا مَاتَ اسْترْجَعَ)) يعني لِم لا يصَاحِبُ المرء قريبَه مثلا الزوج، ابن الأخ، يصاحِبُه في الدنيا معروفا، وإذا ماتَ استرجع؟ ((فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيدِهِ إنَّ أحَدَكُم ليَبكيَ فيَسْتَعبِرَ إليهِ صُويْحِبَهُ، فيَا عِبادَ اللهِ لا تُعذِّبُوا مَوْتَاكُمْ)) قال الحافظ إسناده حسن. [فتح الباري لابن حجر: 3/185].
وروى أبو هريرة أنَّ أعمال العباد تُعرَض على أقربائِهم من موتاهُم، ثُمَّ ساقه بإسناد صحيح إليه. قال الحافظ: "ويحتمل أن يُجمَع بين هذه التوجيهات، فَيُنَزَّل على اختلاف الأشخاص، بأن يُقالَ مثلا: من كانت طريقتُه النوح فمشى أهله على طريقتِه أو بالغ بذلك، عُذِّب بصُنْعه. ومن كان ظالمًا فنُدِبَ بأفعاله الجائرة عُذِّبَ بما نُدِب عليه. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإنْ كان راضيا بذلك التحق بالأول، وإنْ كان غير راض عُذِّبَ بالتوبيخ كيف أهمل النهي. ومن سلِمَ من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألُّمُه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقْدامهم على معصية ربهم".[2]
إذن آخر واحد هو الذي ينهى أهله ويُعَلِّمُهم عدم النياحة، وإذا مات ناحوا فهو لا يعذَّب لأنه نهاهم؛ لكن إذا عُرض عليه عملهم تألم للمخالفة، كيف هو ربَّاهم ونهَاهُم وعلَّمهم ثم يخالفونَهُ. فإذن كيف يكون تألمه في قبره؟ لمخالفتهم له، وليس تعذيبا له لأنه لا ذنب له.
ضغطة القبر وفتنة القبر
المراد بضغطة القبر ضمَّتُه والتقاء جانبي القبر على جسد الميت. ضمة القبر هذه التي تضم وينضم طرفا القبر على جسد الميت عامة للمؤمنين والكافرين.
فأما بالنسبة للكافر فقد جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((فيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَأفْرِشُواَ لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ)) [رواه أبو داود: 4753، وأحمد: 4/287، 18557. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): 3/50 هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح]. والأضلاع: عظام الجنب، أي يدخل بعضها في بعض من شدة التضييق والضغطة.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ حتى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ له مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟.. فَأَمَّا المُؤْمِن فَيَقُولُ: أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ الله ورَسُولُهُ، فيُقَالُ: أنظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّار فَقَدْ أبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا فِي الجَنَّة)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا)) مقعده الذي في النار ومقعده الذي في الجنة، ليعرف نعمة الله عليه وتعظُم هذه النعمة في عينِه، لأنه يرى لو دخل المقعد الآخر ماذا سيكون عذابه، قال: ((وَأَمَّا الْكَافِرُ، أَوِ الْمُنَافِقُ، فَيُقالُ له: مَا كُنتَ تَقُولُ فِي هَذا الرجُل؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ له: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَاقْ مِنْ حَدِيدٍ ضربة بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً فيَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غيرَ الثَّقَلَيْنِ ويضيقُ عليْهِ قبرُهُ حتَّى تختلِفَ أضلاعُهُ)) [رواه أحمد: 12271، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1930].
من الذين تشملهم ضمة القبر
هل أولياء الله تعالى، هل المؤمنون تشْمَلُهم ضمة القبر وضغطته أم لا؟ لقد دلت النصوص أنَّ ضغطة القبر لا ينجو منها حتى المؤمن، وحتى الولي من أولياء الله، والدليل على ذلك: عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ)) [رواه أحمد: 24283، وقال الذهبي في السير: إسناده قوي. سير أعلام النبلاء: 1/291، وصححه الألباني قال: "وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب" [سلسلة الأحاديث الصحيحة: 4/271].
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((لَوْ نَجَا أحَدٌ مِن ضمَّةِ القبرِ، لنَجَا سَعْدُ بنُ معاذٍ، ولقدْ ضُمَّ ضمَّةً، ثُمَّ رُوخِيَ عنه)) [رواه الطبراني: 6593، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5306].
قال الذهبي في السير: "وقد تواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن العرش اهتز لموت سعد فرحا به"،[3] والعرش خلْقٌ للهِ مُسَخَّرٌ إذا شاء أن يهتَزَّ اهتز بمشيئة الله، وجعل فيه شعورا لحب سعد، كما جعل تعالى شعورا في جبل أحد بحبه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10]، أي الجبال تتجاوب مع الذِّكر الذي يذكره داوود عليه السلام. وقال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ} [الإسراء: 44]، السماوات تُسَبِّحُ، والأرض مع أنَّها جمادٌ تُسَبِّحُ، ثم عمَّمَ فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وهذا حق.
وفي صحيح البخاري، قول ابن مسعود: "كُنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل" [رواه البخاري: 3579]، وهذا من باب واسع سبيله الإيمان.
فالذهبي يقول: العرش يحب و يهتز فرحا، وجبل أحد يحب والسموات تسبح، والجبال تسبح، وهذه جمادات. نقول إذا شاء الله أن يخلق فيها الشعور سيَخلقه فيها، ولا طريق إلا الإيمان والتسليم. كيف تعلل هذا؟ الله أعلم، الطريق هو الإيمان والتسليم.
وروى البيهقي في دلائل النبوة، عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سعد".[4]
إذًا لَمَّا جاء جبريل، ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدري أنَّ سعدا مات، لكن لما جاءه الخبر من جبريل أن عبدا صالحًا فُتحت له أبواب السماء، خرج يبحث من الذي مات من أصحابه، من هو هذا العبد الصالح؟ فإذًا هو سعد، قد انفجر كَلْمه ومات. قال: "فجلس على قبره... "الحديث.[5]
وروى النسائي عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا الذي تَحَرَّكَ لهُ العرْشُ)) يعني سعد بن معاذ رضي الله عنه ((وفُتِحَتْ لهُ أبوابُ السماءِ، وشهِدَهُ سبْعونَ ألْفًا من الملائِكةِ)) كل هذه الميزات قال: ((لقدْ ضُمَّ ضَمَّةً، ثمَّ فُرِّجَ عنْهُ)) صححه الألباني في صحيح النسائي. [رواه النسائي: 136، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: 2055]. إذًا الضمة حاصلة على الجميع. وهذا مما يستسلم فيه المؤمن لأمر الله.
وقد جاءت روايات ضعيفة في سبب ضم القبر لسعد بن معاذ، لكنها لا تثْبُت، بل قال الألباني عن بعضها منكرة، لأن فيها ما لا يليق بالصحابي سعد رضي الله عنه.
ففي بعض الروايات: أنها بسبب أنه كان يُقَصِّر في الاستنزاه من البول، ومثل سعد على جلالة قدره لا يمكن أن يُفَرِّط في مثل هذا وهو من الأنصار، وكانوا يُحسنون التطهر بالماء، وقد قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ونَزلت في أهل قباء، لأنهم يحسنون الطهارة.
إذًا ((لَوْ نَجَا أحَدٌ..لنَجَا سَعْدُ)) الذي ضحَّى بمكانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تنازل عن مُلكِه لرَسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أميرا على قومه وجاهد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، واليهود كانوا حُلفَاءَه، ضحَّى بهم وأفتى بقتل رجالهم واسترقاق نسائهم وأطفالهم، ووافق حكم الله من فوق سبع سموات. هذا الذي اهتز العرش فرَحًا باستقباله لما مات، هذا الذي شيعه سبعون ألفا من الملائكة، هذا الذي فُتحت له أبواب السماء، ضُمَّ في القبر لَمَّا وُضِع، ولو نجا أحدٌ لنجا سعد.
الحكمة من ضمة القبر إذَا كان الأمر كذلك، فما الحكمة من ضمة القبر؟ فأما بالنسبة للكافر فإنها تكون عذابا، وأما بالنسبة للمؤمن فإنها تطهير له وكفارة، ورفع لدرجاته.
قال العلماء: جميع ما يحصل للمؤمن من أنواع البلايا، حتى في أول منازل الآخرة وهو القبر وعذابه وأهواله، هو مما اقتضته الحكمة الإلهية من التطهيرات ورفع الدرجات، ولا ينافي ضم القبر لسعد رضي الله عنه اهتزاز العرش فرحًا بموته، لأن دون البعث زلازل وأهوال، لا يسْلَمُ منها ولي ولا غيره، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72].
قال الذهبي رحمه الله في السير، تعليقا على حديث سعد رضي الله عنه: "هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء -بالنسبة للمؤمن- بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه -كما قلنا عند الاحتضار إذا خرجت النفس هناك سكرات، والسكرات فيها شدة- وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار ونحو ذلك. فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه، فنسأل الله تعالى العفو واللطف الخفي، ومع هذه الهزات -يقول الذهبي- فسعدٌ ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء رضي الله عنهم، كأنك يا هذا تظن أنَّ الفائز لا ينالُه هول في الدارين ولا روع ولا ألم ولا خوف، سَلْ ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد" انتهى كلامه رحمه الله.[6]
إذًا ضمة القبر للمؤمن مثل ألم المرض، وألم فقد الولد، والسكرات من جملة ما يصيبه من المصائب. هل يستفيد منها؟ نعم يستفيد، رفع الدرجات وتكفير السيئات. هل الله عز وجل يرفق به؟ هذا كلام الذهبي رحمه الله.
وما الفرق بين المؤمن والكافر؟
المؤمن: ضمة ثم يُرَاخَى القبر؛ أمَّا الكافر: ضمَّةٌ ثم يزداد شدة.
وضمة القبر ليست خاصة بالكافر أو الفاسق، وإنما هي لجميع الناس، غير أن المؤمن الكامل ينضم عليه ثم ينفرج عنه سريعًا، والضمة حاصلة، لكنها عن المؤمن تنفرج بسرعة، والمؤمن العاصي يطول ضمُّه ثم يراخي عنه بعد ذلك؛ والكافر يدوم ضمُّه أو يكاد يدوم، قاله المناوي في فيض القدير: "فالقبر ينضم على المؤمن فتدركه الرحمة، وعلى قدر مجيئِها يتخلص من الضمة، فإن كان محسِنًا فإن رحمة الله قريبٌ من المحسنين".[7]
هل يستثنى أحد من ضمة القبر؟
هل يضغط الصبي في قبره؟ لو مات الطفل هل يُضغط؟
روى الطبراني عن أبي أيوب رضي الله عنه، أن صبيا دُفِن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لَأَفْلَتَ هَذَا الصَبِيُّ)) قال الهيثمي: رواه الطبراني والكبير ورجال الصحيح وصححه الألباني في سلسلته.[مجمع الزوائد: 3/47]، وصححه الألباني في سلسلته [سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2164].
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على صبي أو صبية فقال: ((لَوْ كَانَ أَحَدٌ نجا مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لَنَجَا هَذَا الصَبِيُّ)) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون وصححه الألباني. [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 3/47]. وصححه الألباني [السلسلة الصحيحة: 2164].
وذكر بعضهم أنَّ الأولياء يُسْتثنون، ولكن كلامه مردود بحديث سعد، فإن سعدًا من أولياء الله ولا شك، ومع ذلك لم يُستثنَ.
ورد حديث في استثناء فاطمة بنت أسد، أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهذا الحديث رواه الطبراني عن ابن عباس: لمَّا ماتت فاطمة أم علي، خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، وألبسها إياه ونزل في قبرها عليه أفضل الصلاة والسلام، قال: فلمَّا سوَّى عليها التراب، قال بعض الصحابة: يا رسول الله رأيناك تَصنَع شيئا لم تصنعه بأَحد، قال: ((إنِّي أَلْبَسْتُهَا قَمِيصِي لِتَلْبِسَ مِنْ ثِيَابِ الجَنَّةِ)) ثم قال في سبب نزوله في القبر معها، قال: ((لأُخَفِّفَ عَنْهَا مِنْ ضَغْطَة القَبْرِ، إنَهَا كَانَتْ أحْسَنَ خَلْقِ اللهِ صَنِيعًا إلِي بَعْدَ أبِي طَالِبٍ)). لكن الهيثمي قال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.[8]
وكذلك ورد حديث ضعيف في الوقاية من ضغطة القبر، بل قال الألباني في سلسلته: موضوع؛ وهو حديث عبد الله بن الشخير مرفوعا: ((مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، لَمْ يُفْتَنْ فِي قَبْرِهِ، وَأَمِنَ مِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ، وَحَمَلَتْهُ المَلَائِكَةُ يَومَ القِيَامَةِ بأكُفِّها حتَّى تُجِيزَهُ مِن الصِّرَاطِ إلَى الجَنَّةِ)) [رواه الطبراني في الأوسط: 5785، والأصبهاني في الحلية: 5785، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: موضوع: 301].
بعض أهل العلم حاول أن يقول: إنَّ ضغطة القبر هذه بالنسبة للمؤمنين، مثل ضم الأم وليدها. قال النسفي: "يقال إنَّ ضمة القبر إنما أصْلُها أنها أُمُّهُم -يعني الأرض- ومنها خلقوا فغَابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رُدُّوا إليها ضمتهم ضمة الوالدة، غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن كان لله مطيعا ضمته برأفه ورفق، ومن كان عاصيا ضمَّته بعنف سخطًا منها عليه لربها". قال النسفي هذا الكلام، ولكن يخالف ظاهر حديث سعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشفَقَ عليه من ضمة القبر، والله عز وجل يرفق بمن يشاء ويرحم من يشاء. ولكن هذه الضغطة ثابتة وظاهرها أنها على الجميع ((لَوْ نَجَا أحَدٌ..لنَجَا سَعْدُ)).
تم بحول الله اللهم نسالك السداد والتوفيق
عن زادي للتعلم الشرعي
...الدرس-14- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين مشاهد من فتنة القبر روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ)) -لأن الله ثبَّته، أمَّا الأصل أن منظر الملَك مخيف، فسَيخاف ويحار ويفزع وينعقد لسانه ولا يجيب بشيء، الإنسان الفزِع لا يستطيع أن يتكلم ، فلولا أن ثبته الله بما كان عليه في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، مَا استطاع أن يجيب- ((ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ)) -لأنه إذا رأى ما له من الجنة، اشتاق مباشرة أن يدخل من هذا الباب إلى الجنة- ((وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولَ: لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَيَقُولُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا اهْتَدَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا)) -لتعظُم الحسرة، لماذا يرى مقعده من الجنة لو آمن؟ ليعلم ما حُرِم منه فتعظُم الحسرة- ((وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ)) قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلا هَبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ! أي من الذي يثبت ليجيب- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت}))" [إبراهيم: 27] [رواه أحمد: 11000، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3394]. ((مَلَكَانِ)) وفي رواية ((مَلَكٌ)) ومعه مطراق، والمِطراق آلة الطرق. وفي حديث آخر حديث البراء ((مرزبّة))، ومعنى هَبِلَ: أي فقد عقله من شدة الخوف والفزع.
قال الشيخ ابن عثيمين: "وما أعظمها من فتنة، لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عنه، إلَّا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح"،[1] فيثبت الله المؤمن ولو كان ضعيف البنية، ولو كانت امرأة في الدنيا سريعة الفزع؛ لكنها إذا كانت من أهل الإيمان والدين، وكان هذا الرجل من أهل الإيمان والدين سيُثبتهم الله.
ولذلك عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله تُبتلى هذه الأمَّة في قبورها؟ فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟" -يعني إذا كان الرجل يخاف ويفزع، فكيف بي أنا المرأة؟- فقال عليه الصلاة والسلام: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ})) [إبراهيم: 27] [مجمع الزوائد: 3/53، وصححه الألباني في صحيح الترهيب: صحيح الترغيب: 3556].
ولأجل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من هول هذه الفتنة، فزع الصحابة، فَكما في البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، تَقُولُ: "قَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ الَّتي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذلكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً"؛ وفي رواية النسائي: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الفتنة التي يُفتن بها المرء في قبره، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجةً، حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالصحابة رضي الله عنهم لم يتَحمَّلوا لمَّا سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري: "ولَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصارِ، فانْكَفَأْتُ إلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ، فَقُلتُ لِعائِشَةَ: ما قالَ؟ قالَتْ: قالَ: ((ما مِن شيءٍ لَمْ أكُنْ أُرِيتُهُ إلَّا قدْ رَأَيْتُهُ في مَقامِي هذا، حتَّى الجَنَّةَ والنَّارَ، وإنَّه قدْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ في القُبُورِ)) [رواه البخاري: 922].
الاستعاذة من فتنة القبر لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرّها حتى إنَّه كان يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) [رواه البخاري: 6368]، من الاثنين، من فتنة القبر وعذاب القبر. فالفتنة: سؤال الملكين، والعذاب: عرفناه.
ومن هولُها كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن يُعيذ من مات من أصحابه منها. فروى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: "سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، صلّى علَى جِنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِن دُعَائِهِ وَهو يقولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ له وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عنْه، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِن دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِن أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ))". قالَ عوف لما سمع هذه الدعاء: "فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لو كُنْتُ أَنَا المَيِّتَ، لِدُعَاءِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ علَى ذلكَ المَيِّتِ" [رواه مسلم: 963].
وجاء أيضا عن واثلة بن الأسقع قال: "صلَّى بِنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ على رجلٍ منَ المسلمينَ، فسمعتُهُ يقولُ: ((اللَّهمَّ إنَّ فلانَ بنَ فلانٍ في ذمَّتِكَ وحبْلِ جِوَارِكَ، فقهِ من فتنةَ القبرِ وعذابِ النَّارِ، وأنتَ أهلُ الوفاءِ والحمدِ، اللَّهمَّ فاغفر لهُ وارحمهُ إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ)) [رواه أبو داود: 3202، وصححه الألباني في صحيح أبي داود]؛ ((في ذمَّتِكَ)) يعني أمانِك، ((وحبْلِ جِوَارِكَ))العهد والحفظ، ((وفِي سبِيلِ قُرْبِكَ)) وهو الإيمان، وقيل المعنى أنه متعلق ومتمسك بالقرآن كما قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، والمراد بالجِوار: الأمان، وهذا الحبل الذي يورث الاعتصام به الأمن والأمان والإسلام، وقولُه: ((من فتنةَ القبرِ))يعني السؤال والامتحان،((وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) ما يكون فيه من الظلمة والمجيء من النار بما يأتي منها، و قوله: ((أنتَ أهلُ الوفاءِ)) يعني بالوعد((الحَقِّ)) يعني أنت أهل الحق، ((أنتَ الغفورُ)) للسيئات،((الرَّحيمُ)) كثير الرحمة.
تم بحول الله
اللهم انا نعوذ بك من عذاب في القبر وعذاب في النار وفتنة المسيح الدجال
عن زادي للتعلم الشرعي
بارك الله فيك
وجزاك خيرا الاخ الكريم
ونفعنا واياك
مشكور على الدعم المتواصل والتشجيع
" فمنا احيا نفسا فكانما احيا الناس جميعا"
طمنا على الوالدة ان شاء الله بخير سلامي لها
الدرس-15- بسم الله الرحمان الرحيم مشاهد من فتنة القبر روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ)) -لأن الله ثبَّته، أمَّا الأصل أن منظر الملَك مخيف، فسَيخاف ويحار ويفزع وينعقد لسانه ولا يجيب بشيء، الإنسان الفزِع لا يستطيع أن يتكلم ، فلولا أن ثبته الله بما كان عليه في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، مَا استطاع أن يجيب- ((ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ)) -لأنه إذا رأى ما له من الجنة، اشتاق مباشرة أن يدخل من هذا الباب إلى الجنة- ((وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولَ: لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَيَقُولُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا اهْتَدَيْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا)) -لتعظُم الحسرة، لماذا يرى مقعده من الجنة لو آمن؟ ليعلم ما حُرِم منه فتعظُم الحسرة- ((وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ)) قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلا هَبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ! أي من الذي يثبت ليجيب- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت}))" [إبراهيم: 27] [رواه أحمد: 11000، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 3394]. ((مَلَكَانِ)) وفي رواية ((مَلَكٌ)) ومعه مطراق، والمِطراق آلة الطرق. وفي حديث آخر حديث البراء ((مرزبّة))، ومعنى هَبِلَ: أي فقد عقله من شدة الخوف والفزع.
قال الشيخ ابن عثيمين: "وما أعظمها من فتنة، لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عنه، إلَّا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح"،[1] فيثبت الله المؤمن ولو كان ضعيف البنية، ولو كانت امرأة في الدنيا سريعة الفزع؛ لكنها إذا كانت من أهل الإيمان والدين، وكان هذا الرجل من أهل الإيمان والدين سيُثبتهم الله.
ولذلك عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله تُبتلى هذه الأمَّة في قبورها؟ فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟" -يعني إذا كان الرجل يخاف ويفزع، فكيف بي أنا المرأة؟- فقال عليه الصلاة والسلام: (({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ})) [إبراهيم: 27] [مجمع الزوائد: 3/53، وصححه الألباني في صحيح الترهيب: صحيح الترغيب: 3556].
ولأجل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من هول هذه الفتنة، فزع الصحابة، فَكما في البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، تَقُولُ: "قَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ الَّتي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذلكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً"؛ وفي رواية النسائي: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الفتنة التي يُفتن بها المرء في قبره، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجةً، حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالصحابة رضي الله عنهم لم يتَحمَّلوا لمَّا سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري: "ولَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصارِ، فانْكَفَأْتُ إلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ، فَقُلتُ لِعائِشَةَ: ما قالَ؟ قالَتْ: قالَ: ((ما مِن شيءٍ لَمْ أكُنْ أُرِيتُهُ إلَّا قدْ رَأَيْتُهُ في مَقامِي هذا، حتَّى الجَنَّةَ والنَّارَ، وإنَّه قدْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ في القُبُورِ)) [رواه البخاري: 922].
الاستعاذة من فتنة القبر لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرّها حتى إنَّه كان يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) [رواه البخاري: 6368]، من الاثنين، من فتنة القبر وعذاب القبر. فالفتنة: سؤال الملكين، والعذاب: عرفناه.
ومن هولُها كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن يُعيذ من مات من أصحابه منها. فروى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: "سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، صلّى علَى جِنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِن دُعَائِهِ وَهو يقولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ له وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عنْه، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِن دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِن أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ))". قالَ عوف لما سمع هذه الدعاء: "فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لو كُنْتُ أَنَا المَيِّتَ، لِدُعَاءِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ علَى ذلكَ المَيِّتِ" [رواه مسلم: 963].
وجاء أيضا عن واثلة بن الأسقع قال: "صلَّى بِنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ على رجلٍ منَ المسلمينَ، فسمعتُهُ يقولُ: ((اللَّهمَّ إنَّ فلانَ بنَ فلانٍ في ذمَّتِكَ وحبْلِ جِوَارِكَ، فقهِ من فتنةَ القبرِ وعذابِ النَّارِ، وأنتَ أهلُ الوفاءِ والحمدِ، اللَّهمَّ فاغفر لهُ وارحمهُ إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ)) [رواه أبو داود: 3202، وصححه الألباني في صحيح أبي داود]؛ ((في ذمَّتِكَ)) يعني أمانِك، ((وحبْلِ جِوَارِكَ)) العهد والحفظ، ((وفِي سبِيلِ قُرْبِكَ)) وهو الإيمان، وقيل المعنى أنه متعلق ومتمسك بالقرآن كما قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران:103]، والمراد بالجِوار: الأمان، وهذا الحبل الذي يورث الاعتصام به الأمن والأمان والإسلام، وقولُه: ((من فتنةَ القبرِ)) يعني السؤال والامتحان، ((وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) ما يكون فيه من الظلمة والمجيء من النار بما يأتي منها، و قوله: ((أنتَ أهلُ الوفاءِ)) يعني بالوعد ((الحَقِّ)) يعني أنت أهل الحق، ((أنتَ الغفورُ)) للسيئات، ((الرَّحيمُ)) كثير الرحمة
تم بحول الله اللهم اعنا على دكر وشكرك عن زادي للتعلم الشرعي
الدرس-16-
الجزء-1- بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين ينجو من فتنة القبر؟ هل هناك أحد ينجو من فتنة القبر ولا يُسْأَل؟
روى مسلم عَن سَلمَان رضي الله عنه قَال: "سَمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقول: ((رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)) -أربعة وعشرون ساعة مرابط في سبيل الله في الثغر بين المسلمين والكفار، على الحدود بين بلاد المسلمين والكفار، في المناطق الخطرة التي لو أراد الكفار الهجوم على بلاد المسلمين منها، هؤلاء الذين على الثغور أول من سيكون في المواجَهة، فَهُمْ خط المقدمة، الرباط هنا على حدود المسلمين الملاصقة للكفار- ((رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيرٌ مِنْ صِيامِ شَهْرٍ وقِيامِهِ)) -لاَنَّهم يحرسون البلاد، يحرسون المسلمين في البلد كله من شر الكفار، لأنهم يتلَقَّوْن الهجمة أول ما تحدث، فوضعهم خطير أهل الرباط- قال:((وَإنْ ماتَ فيهِ جَرَى عَلَيْهِ عمَلُهُ الَّذي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزقُهُ، وأمِنَ الفَتَّانَ)) [رواهُ مسلمٌ: 1913].
قال النووي رحمه الله: "هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريانُ عملِه بعد موته فضيلةٌ مختصّةٌ به، لا يشاركه فيها أحد. وقد جاء صريحا في غير مسلم: ((كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَملِهِ، إلاَّ المُرابِطَ فَإنَّهُ يُنَمَّى لهُ عَمَلُهُ إِلَى يوْمِ القِيامَةِ))" [رواه الحاكم في المستدرك: 2417، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه]. لأن هناك خوفًا، هذا الذي يحرس مع الخوف الشديد ثابت. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزقُهُ)) موافق لقول الله سبحانه وتعالى في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. [آل عمران: 169].
وقوله ((مَنْ رابَطَ)) أي لازم الثغر للجهاد، جرى له مثل ذلك، يعني لو انقطع عمله، هذا فضل من الله تعالى، لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله. وهذا فدى بنفسه المسلمين، وكان شوكة في حلوق الكافرين، وكان حارسًا يقظًا لأهل الإسلام، ولذلك يقيه الله الفُتّان أو الفَتّان؛ الفُتّان: جمع فاتن والفَتّان صيغة مبالغة، والمراد المنكر والنكير، فإنهما لا يأتيان إليه للسُّؤال، بل موتُه مرابطًا في سبيل الله يكفي شاهدًا على صحة إيمانه، فلا يأتيانه. وقيل: إذا أتياه لا يضُرانه ولا يُزعجانه.
وفي رواية الترمذي: عَنْ فضَالةَ بن عُبيد رضي الله عنه أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَملِهِ إلاَّ الذي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبيلِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يُنْمَى لهُ عَمَلُهُ إِلَى يوْمِ القِيامَةِ، ويَأْمَنُ من فِتْنةِ القَبرِ)) [رواه الترمذي: 1621، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4562]. ربط نفسه وسجنها وصيّرها جيشًا لله لمحاربة أعدائه، فإذا مات على هذا فقد ظهر صدقه، فَوُقِي فتنة القبر.
نقل السيوطي عن ابن حجر: "أن الميت بالطاعون لا يُسأل، لأنه نظير المقتول في المعركة، وبأن الصابر بالطاعون محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إذا مات فيه حتى بغير الطاعون لا يفتَن، لأنه نظير المرابط". وقال القرطبي في التذكرة: "واذا كان الشهيد لا يفتن، فالصدّيق أجلُّ خطرا" -يعني أعلى في الشأن- "أو أعظم أجرًا، فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدَّم ذكره في التنزيل على الشهداء في قوله تعالى: {فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69]. وقد جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهداء أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه وهو الشهيد، فكيف بمن هو أعلى مرتبة منهما وهو الصِّديق، فكيف بمن هو أعلى من الجميع وهم الأنبياء". وكيف لا يأمن الشهيد الفتنة في القبر، ولمعان السيوف يخطف بصره؟
روى النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسولَ اللَّهِ، ما بالُ المؤمنينَ يُفتَنونَ في قبورِهِم إلَّا الشَّهيد؟ قالَ عليه الصلاة والسلام: ((كفَى ببارقةِ السُّيوفِ علَى رأسِهِ فتنةً))" [رواه النسائي: 2053، وصححه الألباني في صحيح الصغير: 4483]. يُفتَنونَ: يُمتحنون بسؤال الملكين في القبور، ((كفَى ببارقةِ السُّيوفِ))اللمعان، كفى بثباتهم عند السُّيوفِ التي تلمع في المعركة، كفى بذلهم لأرواحهم في سبيل الله. يُفْتنون: أهل القبور، وهؤلاء أهل السيوف المجاهدون في سبيل الله، طبعا السيوف أو ما يقوم مقامها، والمقصود أنهم ثابتون في المعركة، والسلاح فوق رؤوسهم، ولعْلعته وصوته؛ بل إنَّ أصوات الأسلحة الآن أعظم من أصوات السيوف في القديم، يعني الآن الخوف أكبر، لأن ضجيج القنابل والانفجارات ليس مثل ضرب السيوف، فقد يكون الذي يثبت الآن في المعركة في سبيل الله من هذه جهة الصمود في وقت الخوف والفزع- يكون من جهة الثواب والأجر قد يكون أكثر؛ لأن صوت أسلحة اليوم أشدُّ فزعا من صوت السيوف ولمعانها، ((كفَى ببارقةِ السُّيوفِ علَى رأسِهِ فتنةً)) لو كان هؤلاء من المنافقين، ما ثبتوا عند التقاء الزحفين، ولفرّوا إذا برقت السيوف، ولكنهم لا يَرُوغون ولا ينهزمون، ولذلك كما ثبتوا في المعركة، فإنَّ ذلك دال على إيمانهم القوي الثابت، فلا حاجة لفتنتهم في القبر.
من أيضا يمكن أن يوقى فتنة القبر؟ مَنْ يُنْعِمُ الله عليه بالموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، هذا الموت في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، هذه نعمة بحد ذاتها.
روى الإمام أحمد والترمذي، عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ القَبْرِ)) [رواه الترمذي: 1074، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز: 21].
قال العلامة المباركفوري شارح الترمذي: "يوم الجمعة أو ليلة الجمعة للتنويع لا للشك".[1] أي هذه الميزة تحصل سواء مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، ليلة الجمعة في الليل قبل نهار الجمعة، أو في النهار قبل المغرب إذا غربت الشمس دخل ليلة السبت. فإذًا من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، الليلة تسبق اليوم، الليلة قبل النهار، ((وَقَاهُ اللهُ)) يعني حفِظه، وهذا يدل على شرف الزمان وأن له تأثيرا، كما أنَّ فضل المكان له أثر جسيم.
قال القرطبي رحمه الله: "هذه الأحاديث" -أي التي تدل على نفي سؤال القبر- "لا تعارض أحاديث السؤال السابقة، بل تخصصها وتُبيِّن من لا يُسأل في قبره ولا يفتن فيه، وتبين من يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المصدوق".[2]
لو قال قائل: ولِمَ لا ينطبق هذا على الذي يموت يوم السبت؟ أو الأحد؟ أو الإثنين؟ بل ينطبق فقط على من يموت الجمعة ويوقى؟! لا مجال في الأمر للاعتراض والتشكيك، المسألة استسلامٌ وخبرٌ بالوحي يجب التصديق به.
هل يفتن غير العاقل وغير المكلف السؤال الآخر، يا ترى غير المكلفين من الصبيان والمجانين الذين يموتون وهم صغار مثلا، هل يُسألون و يفتنون في قبورهم؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول، وقد نسبه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى إلى أكثر أهل السنة، أنهم يُسألون. واحتجوا بما يلي: أولا، أنه يشرع الصلاة عليهم والدعاء لهم، لو كان طفلا ولو كان مجنونا، ألا تُصلى عليه إذا مات صلاة الجنازة؟! ألا يدعى له؟ وسؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر، كما رواه مالك في الموطأ: "عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه على صبيٍّ لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر"، أبو هريرة إمام يصلي على صبي صغير، يقول: اللهم أعِذْهُ من عذاب القبر؛ قالوا: "يَحتَمِلُ أن يكون أبو هريرة اعتقده لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّ عذاب القبر عامٌّ في الصغير والكبير، وأنَّ الفتنة فيه لا تسقط عن الصغير لعدم التكليف في الدنيا" يعني أن عدم التكليف في الدنيا لا يُسقط الفتنة، لا يُسقط السؤال، كونُه غير مكلَّف لمَّا كان حيًّا لا يعني أنَّه بعد الموت لا يُسأل. واحتجُّوا بأنَّه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن الصبي يُضَمُّ في قبره، قالوا: "فإذا كان يُضم فما المانع من سؤاله؟".
روى الطبراني عن أبي أيوب رضي الله عنه: أنَّ صبيًا دُفنَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لأَفْلَتَ هَذَا الصَبِيُّ)) [رواه الطبراني في الكبير: 3858، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2164]. وعن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّه مُرَّ عليها بجنازة صبيٍّ صغيرٍ، فبكت، فقيلَ لها: ما يُبكيك يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: "هذا الصبيُّ، بكيت له شفقةً عليه من ضمةِ القبرِ" ولكن إسناده ضعيف.
احتج أيضا الذين يقولون بأنهم يُسألون بالأحاديث التي ورد فيها أن أطفال المشركين يُمتحنون في الآخرة، أن الله يَمتحنهم في الآخرة.
القول الثاني أنَّهم لا يُسألون. ما هي أدلة هؤلاء الذين قالوا: "إنهم لا يسألون؟"، قالوا: السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسِل، فيُسأل هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه، فكيف يقال له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولو رُدَّ إليه عقله في القبر فإنَّه لا يُسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به في الدنيا قبل أن يموت". قالوا: ولا فائدة في هذا السؤال. وأما قولكم: إنَّه يُمتحن في الآخرة؟ -طبعا هذا ورد في أطفال الكفار أنهم يمتحنون في الآخرة- الكافر الذي مات ولده، ما مصير الولد هذا؟ اختلف العلماء في ذلك، ومن أقوى الأقوال أنَّهم يُمتحنون، أنَّ الله يعطيهم يوم القيامة القدرة والقوة والعقل، ويأخذ عليهم العهد والميثاق ليَطِيعُنّه، ثم يرسِل إليهم رسولا فيَأمرهم أن يقعوا في النار، فمن وقع فيها كانت عليه بردًا وسلاما إلى جنات النعيم، ومَنْ أبى سُحب إليها". هذا هو الامتحان يوم القيامة، وهذا هو السؤال، هذا الطلب وهذا الرسول وهذه النهاية.
قالوا: كوْن الأطفال -أطفال الكفار مثلا- يُمتحنون يوم القيامة، لا يعني أنهم يُسألون في القبور. يُمكن أن يمتحنوا في الآخرة، لكن لا يسألون في القبر. كيف يُسأل عن شيء في الدنيا، ما كان يعقِله، ليس لديه تمييز، فكيف يسأل في القبر عن شيء لم يكن في الدنيا عنده عقل أصلا، لكي يؤمن به، أو يقتنع أو يُصدّق وينعقد قلبه على التصديق بالرسول والإيمان به؟
وامتحان الآخرة قضية أخرى غير سؤال القبر. قالوا: أما حديث أبي هريرة ودعاؤُه للصبي أن يقيه الله عذاب القبر، فليس المراد به عذاب القبر عقوبةَ الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية قطعا، فإن الله لا يعذب أحدًا بلا ذنب عمله. والمقصود من قول أبي هريرة لمَّا قال في الدعاء للصبي: اللهم أعذه من عذاب القبر، قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، مثل النياحة: ((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ))" [رواه البخاري:1304، ومسلم:927]، أي يتألم بذلك ويتوجع له، لا أنه يعاقب عليه، لأنه ليس من فعله، والولد الصغير ليس له ذنب أصلا، ولا هو الذي ناح، وإنما هو يتألم كيف أن أهله هؤلاء الذين ينوحون عليه الآن في الدنيا مخالفون للدليل والنقل وعُصَاٌة.
قالوا: "هذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب)) [أخرجه البخاري: 1804، ومسلم: 1927] فالعَذاب أعم من العقوبة، يعني كلمة عذاب أعم من كلمة عقوبة، فليس كل عذاب عقوبة". قالوا: ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألَّمُ به، ولذلك فإن المصلي على الطفل لو قال: قِهِ فتنة القبر وعذاب القبر لها وجه". وهذا ملخص ما ذكره ابن القيم في كتاب (الروح).[3]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أطفال الكفار أصح الأقوال فيهم: الله أعلم بما كانوا عاملين كما أجاب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم"، وطائفة قالوا: إنهم كلهم في النار. وهذا غلط على أحمد؛ يعني الذي نسبه إلى أحمد لم يُصِب في تلك النسبة. وطائفة جزموا أنهم كلهم في الجنة، حتى أن بعضهم قالوا: هم من الولدان المخلدين الذين يخدمون أهل الجنة، والصواب أن يُقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ولا نحكم لمعين منهم بجنة ولا نار. الله أعلم لو كبروا ماذا سيعْملون، الله أعلم بما كانوا عاملين، الله أعلم لو أنهم لم يموتوا -أطفال المشركين- وبقوا في الحياة وكبروا وبلَغوا، كيف كانوا سيعمَلون؟ الله يعلم هذا. "وأما في عرصات يوم القيامة، فيُمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فيقال لأحدهم من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟". إذًا الأطفال وحتى المجانين يمكن أن يُسْألوا في القبر ويُمتحنُون في الآخرة.
تم بحول الله
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
عن زادي للتعلم الشرعي
الدرس-16-
الجزء -2- والاخير يسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله غلى سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
هل وقعت فتنة القبر على الأمم السابقة؟ هل فتنة القبر خاصة بهذه الأمة؟ أو إنَّها تقع على الأموات في الأمم مِن قبلنا؟
قال ابن القيم رحمه الله: "هذا موضع تكلَّم فيه الناس، قال أبو عبد الله الترمذي: إنَّما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة، لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم، فإذا أبَوْا كفّت الرسل واعتزلوهم وعُوجِلُوا بالعذاب، وهذه الأُمَّة أُمسِك عنها العذاب وأُمِر المؤمنون بجهاد الكفار".[4]
وردَّ ذلك بعض أهل العلم وقالوا: إنَّ فتنة القبر وعذاب القبر أيضا على الأمم السابقة إذا وُضِعوا في قبورهم وماتوا، وقال عبد الحق الإشبيلي والقرطبي: السؤال لهذه الأمة ولغيرها، ومال إليه ابن القيم واختاره السفاريني، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد قال في (الواسطية): "فأمَّا الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم"،[5] هذا معناه أن الأمم السابقة يشملهم ذلك. وتوقف آخرون في هذه المسألة ومنهم أبو عمر ابن عبد البر.
والحديث الصحيح ((إنَّ هَذْهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا))، مفهومه هذه الأمة، لكن هناك أحاديث أخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام عن اليهود، أنهم يفتنون في قبورهم ((إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ)).
أما قضية ماذا سيقال للأموات من الأمم من قبلنا؟ نقول كما أنَّ هذه الأمة تُسأل عن نبيها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكل ميت من الأمم السابقة يُسأل عن نبيه. فالميت الذي يموت من قوم موسى يُسأل عن موسى، والميت الذي يموت من قوم عيسى يُسأل عن عيسى، وهكذا.
وتعليلُهم بأنَّ الكفار في الأمم السابقة كان ينزل عليهم عذاب من الله بعد انتهاء المواجهة بينهم وبين الرسل، فيهلك الله الكفار (صيحة، حجارة، صاعقة، ريح شديدة، غرق) فينتهون وأن الجهاد في هذه الأمة؛ فيقال: قد صح أيضا في الأمم السابقة، أنه كان هنالك جهاد عندهم، وأنه قد أُمِر مؤمنوهم بجهاد الكافرين؛ وكان العذاب ينزل على المكذبين من الله تعالى فيأخذهم جميعا. فكُفار قوم نوح أخذهم الله جميعا، كفار قوم عاد، قوم ثمود، قوم لوط، قوم شعيب، أُخِذوا جميعا؛ بعد ذلك نزل الحكم بجهاد المؤمنين للكافرين، فما صارت العقوبة تنزل على المكذبين عامة، وإنما تكون بأيدي المؤمنين جهادًا في سبيل الله. فمثلا: في شرع موسى عليه السلام، أُمِروا بالجهاد، صارت كل المواجهات بعد إهلاك فرعون، أي إذا كفر الناس وكذبوا الأنبياء، لا يجتاحهم عذاب من الله ويستأصلون كلهم، وإنَّما أُمِر المؤمنون بجهاد الكافرين، فصار عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين، وليس بشيء ينزل من السماء فيستأصِلهم. أما قبل، فقد كان العذاب يستأصِل الكافرين، فلا تنتهي القضية بمواجهة بين جيش المسلم من قوم نوح مع الكفار، جيش مسلم من قوم صالح مع الكفار، جيش مسلم من قوم هود مع الكفار، جيش مسلم من قوم شعيب مع الكفار؛ لم يكن هذا الجهاد. بعد انتهاء عملية التكذيب وفتنة المؤمنين والمواجهة، ينزل عذاب الله يستأصل الكفار كلهم وانتهت القضية. بعد ذلك أوحي إلى المؤمنين بجهاد الكافرين وتوقفت قضية نزول عذاب شامل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة، لم يهلك الله تعالى مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعُمُّهُم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أُمِر المؤمنون بجهاد الكفار، كما أُمِر بنو إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة".[6] إذًا يُمكن أن نقول أنه بنزول التوراة شُرع الجهاد وتوقف الاستئصال العام للمكذبين، وصار عذاب المكذبين بأيدي المؤمنين، قبل نزول التوراة كان الاستئصال عامًّا. فإذًا لو قال قائل: والأمم الأخرى المكذبة، هل تُجرى عليهم الفتنة في القبر؟ هل مؤمنهم وكافرهم يفتنون في القبر؟ هذا هو الأقرب، والراجح أنهم يُسألون عن أنبيائهم، وأنَّهم يفتنون في قبورهم.
نُلاحظ أن النصوص السابقة في فتنة القبر وعذاب القبر جاءت للمؤمن والكافر، وماذا عن الفاسق؟ وأهل الكبائر؟ والعصاة؟ المؤمن عُرِف أمرُه، يُثبته الله ونعيم القبر وفسح القبر، وتنوير القبر، و اخضرار القبر، و نومة العروس، وباب إلى الجنة. والكافر عرفناه، يضيق عليه القبر، تختلف أضلاعه، والمرزبة، ويصير ترابا ويُعيده الله كما كان، وضربة ينزل في الأرض، ويضيّق عليه القبر وتختلف أضلاعه، وعمله السيء يتعذب به، وبمنظَره وبِرائحته الكريهة، وبابٌ إلى النار والحسرة على باب الجنة الذي قُفِل.
ماذا عن الفاسق صاحب الكبائر، والعاصِي وهو مُوَحد، ما هو مصيره؟ نلاحظ أن النصوص تقريبا سكتت عن هذا، بيّنت المؤمن المؤمن والكافر الكافر. ولذلك فإنه يقال: من ثبَّته الله ثبت، ومن أزاغَه الله هلك. وقوع العذاب على أهل الكبائر في القبور مُؤَكِّدٌ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن الذي لا يستنزه من البول، والماشِي بالنميمة، وآكل الربا، والزاني والزانية، والكذاب الذي ينشر الكذب، وأخبر عن الذي ينام عن صلاة الفجر، هناك عذاب في القبر عليهم، لكن هل هؤلاء يُعذبون في القبر ثم يرفع العذاب إذا كان ما مضى مِنه مكفّرًا لسيئاتِهم؟ وإذا لم يكن كافيا استمر العذاب إلى أن يبعث الله من في القبور، ثم يعذّبون في المحشر بدُنو الشمس، والعرق والزحام والكربات. وإذا لم يكن يكفي دخلوا النار. فإذًا هو وسيئاته، فإذا كانت سيئاته كثيرة جدا، ربما يطول عذابه في القبر، وفي البعث، وفي النار. وإذا كانت أقل قد يكون ما يصيبه في القبر من الضغطة والعذاب واستمرار الضغط والضرب بالقبر - قد يكون كافيا في تكفير سيئاته وقد لا يكون، وقد يُعذَّب في قبره مُدَّةً ثُم يُرفع عنه العذاب. فحسب السيئات. {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون: 102-103].
الكافر هل يسأل في القبر؟ يُسأل، ولمَ لا يسأل؟ وقد ثبتت الأدلة على ذلك، وقد قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93]. وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. فإذا سُئِلوا يوم القيامة، فلماذا لا يُسأَلُون في قبورهم؟ هذا ما يتعلق بفتنة القبر، والسؤال وما يكون من عاقبة السؤال، ومَن الذي يُوقى فتنة القبر، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من فتنة القبر، ومن عذاب القبر، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الآخرة، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم بحول الله
نسال الله ان ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا علما
تمت هده السلسلة بحول الله
ان شاء الله استفدتم
شكري موصول للا خالياس الذي كان له اثر كبير من التشجيع والمتابعة
فشكرا لك وفي ميزان حسناتك ان شاء الله
لكم موعد مع سلسلة اخرى ان شاء الله