لا مكان لاصحاب القلوب الضعيفة

قصة رائعة بارك الله فيك
ننتظر البقية
شوقتينا بيها راح ننسخها و نطبعها ونقراها مليح
مشكوووووووورة
 
تنحو منحى الروايات أسلوبا
بوركت
 
آخر تعديل:
كانت مواجهة المصيبة أهون من انتظارها، كان هذا شعارنا ونحن نتقدم لمواجهة الرعب... إلى أغرب مواجهة لا يمكن أن يستسيغها العقل ولا يمكن أن تحدث في عالم الواقع... نتقدم إلى مواجهة لا تحدث إلا في عالم الخيال والأحلام وفي الأفلام فقط... مواجهة عجيبة غريبة: هل هناك من يتوقع أن تكون هناك مواجهة تحدث بين بشر وبين غربان؟؟؟ لا... لا يمكن أن يحدث ذلك ولا يمكن توقع ذلك أيضاً، لكن ما نشاهده ونسمعه كان أمراً واقعا... كنا نتقدم والجلبة والأصوات تتعالى، أصوات أجنحة الغربان الغاضبة وهى تطلق ذلك الصوت المنكر بقوة وغضب، يا إلهي كيف ستكون المواجهة؟؟ إنها ليست غربان عادية، فلا يمكن أن تهاجم الغربان العادية البشر... لا يمكن أبداً!! الغربان من أجبن الطيور ولا تقترب من البشر على الإطلاق، وحتى أعشاشها من العادة أن تكون في أماكن مرتفعة لا يصل إليها أحد، ولذلك كان يضرب بها مثل في البعد فيقال " وضعها أين ما وضع الغراب صغاره " فكيف تكون هناك غربان تهاجم البشر؟؟ شيء لا يصدق ولكن الواقع كان يقول عكس ذلك... فها نحن نتقدم والغربان تتقدم... المسافة تقصر والأصوات تقترب... وتقترب... وتقترب... حتى كاد حماسنا أن يخبو، وفكرة أن نستدير إلى الخلف ونركض كانت تراودنا.

كانت يدي ترتعش على قبضة المسدس، فهذه مواجهة من نوع خاص، ولكن المسألة كانت مسألة حياة أو موت، وإذا تراجعنا فذلك يعني الحكم علينا بالضياع داخل أنفاق الكهف، ولن تقوم لنا قائمة مع ذلك الكيان الذي لابد أن يكون هناك الكثير منه، وذلك ما جعلنا نتماسك ونصمم على المواجهة.

وصلنا إلى منعطف في النفق إذا انعطفنا منه تكون المواجهة، فالأصوات كانت تأتي منه وتقترب وحانت لحظة المواجهة وفجأة!!!!! ودون سابق إنذار!!!! توقفت جميع الأصوات ليغرق ذلك النفق في هدوء وصمت تام... هدوء مميت مخيف رهيب، فكان توقف أصوات الغربان مفاجأة تامة لنا... مفاجأة جمدتنا في أماكننا... صحيح أننا لم نشاهد أي غراب منذ دخولنا الكهف فقد كنا نسمع أصواتها فقط، ولكن توقف الأصوات بغتة... وذلك الصمت الرهيب... كان له أكبر تأثير على نفوسنا... فأحيانا يكون الصمت هو الرعب الحقيقي، ولذلك كان الليل مرعبا، فهو صامت... والصمت يجعلك تستمع إلى دقات قلبك وقد تتوهم سماع أصوات لا وجود لها، ولذلك كان الصمت مرعباً.

عشر خطوات كانت تفصلنا على انعطاف النفق... عشرة خطوات تقريباً كنا نجر أرجلنا فيها جراً، وعندما انعطفنا... كانت مفاجأة أخرى في انتظارنا... حقيقة كان هذا الكهف كهف المفاجآت... عندما انعطفنا وجدنا أن النفق يؤدي إلى شبه حجرة كبيرة جداً، ومن نهايتها ينبعث ضوء لبقايا النهار... رغم التعب والأجسام المنهكة إلا أن فرحتنا بالضوء كانت كبيرة جداً، فانطلقنا إليه لنجد المخرج، وعندما خرجنا كانت مفاجأة أخرى لنا، لقد كان خروجنا من الكهف التاسع!!

الشمس تحتضر وتكاد تعلن عن وفاة يوم آخر من أيام رحلة الرعب، ولكن الفرحة كانت تغمر قلوبنا وكأننا قد ولدنا من جديد، أعمار جديدة قد كتبت لنا، جلسنا على الأرض نتطلع إلى الفضاء المحيط بنا نكاد نعانقه، أخيراً خرجنا من ذلك الكهف؛ قال عادل: لنبتعد عن هذا المكان، وكأنه خائف أن يجتذبه مرة أخرى ويقع في براثنه.
إبتعدنا من الكهف... ما أجمل الحرية والتي لا نعرف قيمتها حتى نفتقدها... ما أجمل منظر السماء والشمس... كل شيء في تلك الجبال الموحشة كنت أراه جميلاً... أقسمت أن لا أدخل كهفا مرةً أخرى مهما كان السبب. عدنا إلى حيث تركنا سياراتنا، قال هاني:
- لنبتعد عن هذا المكان قدر الإمكان ولنبحث عن مكان نخيم فيه الليلة، فبعد قليل سوف يخيم الظلام ولا نريد أن يخيم ونحن في هذا المكان... أبداً. كنا نوافقه الرأي، فبعد ما مر بنا من أحداث لم نعد نتحمل مزيداً من الرعب.
تم تشغيل السيارات وانطلقنا نبتعد عن الكهوف... الطريق كانت صعبة والظلام يقترب، ولكن الفرحة بالنجاة كانت لها آثار جيدة في نفوسنا، وابتعدنا عن الكهوف... الظلام كان قد أسدل ستاره عندما توقفنا في مكان منبسط، وقد قررنا أن نقضي ليلتنا فيه. بدأنا ببناء الخيمة وأنزلنا أغراضنا، طلبنا من عادل أن يعد لنا أي شيء نأكله، فنحن لم نتناول شيئا منذ دخولنا إلى الكهوف، والجوع كان قد أخذ منا كل مأخذ، قال هاني مازحاً:
- ما رأيكم في العودة إلى الكهوف؟؟ كانت مزحة ثقيلة لم تعجب أحدا... الغريب أن هناك شيئا في نفسي كان ينبئني أن الرعب لم ينته بعد، وأن هناك أحداثا أخرى سوف تحدث... شعور غريب ذلك القلق الذي أشعر به إزاء الأحداث... لم تطمئن نفسي بعد، كنت أعرف أن الإستقرار لن يعود إليها حتى نغادر هذه الجبال الموحشة.

تناولنا وجبة عشاء أعدت من قبل خبير الطهي... التعب الشديد كان قد أنهك أجسادنا، فما صدقنا أن وصل كل واحد منا إلى فراشه، آويت إلى فراشي، لم يطرق النوم عيني رغم التعب الشديد... هناك في عالم أفكاري كنت أراجع الأحداث التي مرت بنا... نحن لم نشاهد الغربان داخل الكهف، أصواتها فقط ما كنا نسمعها، باستثناء ذلك الكيان لم نشاهد شيئا... ألا يمكن أن نكون نتوهم وقد عشنا أكبر وهم؟؟؟ لا لا يمكن... لو أن ما حدث حدث لشخص واحد فقط لكان من الممكن أن يكون وهما، ولكن ما حدث حدث لثلاث أشخاص، فلا يمكن أن يكون وهما... ثم وحيد هذا... إنه لغز محير في حد ذاته... لقد كان الحدث الذي حضر به غريبا واختفائه أيضاً كان غريبا... شيء ما يسكن في هذه الجبال؟؟ وااااه وااااه ياالله
 
شكرا لجميع متابعين القصة اترككم مع البقية
 
أصوات صراخ وتأوهات وأنين كانت تصدر من عادل المسكين، لابد أن تكون الكوابيس تهاجمه بعد ما مر به من أحداث مرعبة، أحياناً يصرخ ويتقلب ويصرخ: إبتعد... إبتعد... وكأن هناك من يطارده، جلست أنظر إليه فوجدت هاني أيضاً جالسا، قال هاني لابد أن أحلامه قد أرجعته إلى الكهف، استلقيت مجدداً... فقد أنهك التعب كل أعضاء جسمي، وانطلقت في رحلة عبر أفكاري أراجع فيها الأحداث التي مرت بنا، لقد كتب لنا عمر جديد، من قال أننا سنخرج من الكهف أحياء؟؟ من قال أن هناك أشياء غريبة تحدث؟؟ مثل هذه الأشياء الغريبة التي لا تحدث إلا في أفلام الرعب والأفلام الخيالية.

كنت أسبح في عالم خيالي، والتعب... والإرهاق... والخوف... والنوم... كل هذه العوامل والعوالم قد اختلطت عندي، وينتصر عالم النوم... والذي كان الأقوى، وصدق من قال أن النوم سلطان ظالم، ومن حلقة الوعي إلى حلقة اللاوعي... حيث انطلقت أصوات الغربان الغاضبة فوق الخيمة، أصوات كثيرة ومخلوقات غريبة دخلت الخيمة، مخلوقات كانت لها أجساد مثل أجسادنا ولكنها سوداء، ولها رؤوس مثل رؤوس الغربان، ولكن... كل ذلك بين الحلم واليقظة ويا سبحان الله... عالم غريب عالم النوم و الأحلام... عالم تنقلب فيه كل الموازين والقوانين المعروفة... عالم نسير فيه دون أن نستعمل أرجلنا، ونرى فيه دون أن نفتح أعيننا... عالم ليس فيه مسافات ولا مواقيت... عالم نخترق فيه الزمان والمكان... عالم تلتقي فيه مع الأموات وتتساوى فيه الحياة مع الموت... عالم غريب عجيب... وهو العالم الأقوى.

ومن اليقظة ونصف الوعي إلى ذلك العالم، حيث يتم البث المباشر لصوت الغربان وظلام الكهف، وما أدري إلا وهاني يهزني... استيقظت لأجد أن الساعة الثامنة صباحاً، والشمس... هذه العروسة الجميلة تتألق في كبد السماء لتقهر عالم الأشباح والرعب، كان الجو جميلا بمعنى الكلمة، ومنظر الجبال وهي تعكس أشعة الشمس يعطي رونقا جميلا. دب النشاط فينا مجددا، فقد ارتاحت أجسادنا ونفوسنا وكأنه لم يحدث معنا شيء، تم إعداد وجبة إفطار، وقمنا بحزم أمتعتنا استعداداً للمغادرة، والتي كنا قد اتخذنا قراراً بشأنها، لا شيء غير السكون أو الصمت كان يسيطر على الجبال، لا أثر لأي حياة... حتى الكهوف التي كانت تلوح من بعيد كانت غارقة في الصمت، قال هاني:
- خيل لي أنني سمع أصوات غربان البارحة قبل أن أنام، قلت له:
- لقد سمعت ذلك أيضاً، أما عادل المسكين فقال:
- لقد قضيت ليلتي في أحلام داخل الكهف، حيث كانت تطاردني المخلوقات الغريبة.
ضحكنا كثيرا على ذلك... روح المغامرة دب فينا من جديد... صحيح أن المغامرات عشق وإدمان يسري مع دمائنا... ضوء النهار بدد كل المخاوف، حتى أصبحت كأنها ذكريات بعيدة... وسبحان الله، الرعب أنواع ودرجات وكل نوع له شعوره الخاص، أن تخاف من حيوان مفترس نوع، وأن تخاف من مرتفعات عالية نوع، وأن تخاف على حياتك نوع، وكل هذه الأنواع تتشابه، ولكن الرعب من الظلام والعوالم المجهولة والأشباح يظل رعبا خاصا له وقع خاص على النفوس، ويظل هو الرعب الحقيقي لأنه يرعب الجسد والنفس... رعب كامل... الظلام له تأثير خاص ورعب خاص.

الجبال كانت تحوي مزيدا من الاكتشافات، ورغم أننا قررنا المغادرة فوراً حين تطلع الشمس، إلا أن هناك أشياء ما زالت تجذبنا إلى البقاء والتجول في تلك الجبال، قلت لهما:
- ما رأيكما أن نقضي ليلة أخرى في الجبال؟؟ قال هاني:
- أوافق على أن نبتعد عن هذه المنطقة!! عادل أيضاً اشترط ذلك...
هناك ألغاز لم أجد لها حلا، وكنت أخاف أن نغادر دون أن أشبع فضولي، فتظل حسرة في نفسي مدى العمر، ومن ضمن الألغاز: وحيد هذا من يكون؟؟ وماذا يفعل؟؟ وما الذي أحضره؟؟ وكيف اختفى؟؟ وهل هو من الإنس؟؟ لقد بدا شخصا مسالما، ورغم أني لم أرتح له - ربما من كيفية حضوره - إلا أنه لم يبدر منه شيئاً غريباُ سوى اختفائه الغامض، هذه الألغاز كانت تجذبني إلى البقاء، كنت لا أحب أن يمر بي حدث لا أعرفه... أحياناً كنت ألتقي بشخص يحييني ويرحب بي ولا أتذكره، فكان لا يهدأ لي بال حتى أعرفه!! ولذلك فرحت عندما وافق صديقاي على البقاء... فرحت وأنا لا أدري ماذا يخبئ لنا الليل من أحداث... فرحت رغم ذلك القلق الذي كان يراودني، لقد كانت رغبتي في الاكتشاف تغطي كل شيء.

غادرنا مكاننا الذي قضينا فيه الليل، واتجهنا نحو الجنوب في عمق الجبال... جبال أكاكوس... كنت أتمنى أن ألتقي بوحيد هذا، ولكن في ضوء النهار... الأحداث أنستنا موضوع الصيد ونحن أيضاً لم نشاهد أي طير... توقفنا بعد مسيرة دامت ساعتين، قطعنا فيها مسافة حوالي عشرين كيلومتراً، فقد كانت الطريق صعبة جداً، قال عادل الذي كان يستطلع المنطقة عبر منظار مقرب:
- يا إلهي... هناك مفاجأة... تعالا وانظرا ؟؟!!
لن أقول لكم أننا تعودنا على المفاجآت، فمنذ دخولنا إلى جبال أكاكوس وبداية هذه الرحلة والمفاجآت لم تنقطع، فكل يوم كان يحمل لنا مفاجأة، حتى أن صرخة عادل بأن هناك مفاجأة لم تحرك منا ذلك الشعور القوي، قال عادل:
- هناك كهوف أخرى في طريقنا مباشرة... كانت كلمة الكهوف هي المفاجأة الحقيقية بالنسبة لي، فقد كرهت حتى اسمها وسيظل يطاردني شبح الكهوف والأماكن المغلقة ما حييت، أخذت المنظار المقرب ونظرت إلى الاتجاه الذي كان ينظر إليه عادل لأرى مجموعة أخرى من الكهوف... يا إلهي، لقد هربنا من الكهوف ومنطقة الكهوف لنجد كهوفاً أخرى تنتظرنا، المشكلة أن الشمس كانت على وشك المغيب، وهي المصيبة الكبرى في نظري، لقد ابتعدنا مسافة لا بأس بها من الكهوف السابقة لنجد أنفسنا بقرب كهوف أخرى، الله أعلم بمن يسكنها وما قد تحويه من رعب، المشكلة أن الطريق الجبلية صعبة جداً... إنها عبارة عن مسارب ضيقة... يا إلهي، إذا رجعنا نعود إلى منطقة الكهوف السابقة حيث الغربان الغاضبة، وإذا تقدمنا نجد أمامنا كهوفا أخرى والشمس تكاد تغيب، أنكون قد علقنا بين المطرقة والسنديان؟ الكهوف السابقة تقطنها الغربان وهذه الكهوف الله أعلم بما يقطنها! قلت لهما:
- لن نتقدم؛ سوف نعسكر في هذا المكان، على الأقل لازلنا بعيدا عن الكهوف، ولا أخفي عليكم أنني بت أكره الكهوف وسيرتها، قال هاني:
- إنها فكرة جيدة! مكان لا بأس به هذا الذي توقفنا به، ولولا ما مر بنا من الأحداث لشعرنا بسعادة مطلقة، فالطبيعة كانت ترسم أجمل نقوشها في جبال أكاكوس... هذه الجبال السوداء والصمت، كان الصمت الشامل يخيم عليها بعيدا عن ضجيج السيارات وتلوث البيئة، بعيدا عن التكنولوجيا وما تحدثه من أضرار بالنفوس، ومن أمراض لا نعرفها ولم نتوصل إلى معرفتها، أمراض تصيب النفوس فتحدث بها نفورا غريبا وفتورا بالمشاعر، ربما نتج ذلك من الحقول الكهرومغناطيسية الناتجة عن مرور أسلاك الكهرباء، أو من ذلك الكم الهائل من الأشعة والذبذبات الصادرة من ملايين الأجهزة، وهذه حقيقة لا تستغربها عزيزي القارئ، ومثال بسيط على ذلك: عندما تكون مع أسرتك ستجد أن كل أفراد العائلة مشغولون؛ هذا على التلفاز وهذا على النت وهذا على النقال، وعندما ينقطع التيار الكهربائي يلتم الشمل على ضوء شمعة، وتهدأ النفوس وتتقارب القلوب ويبدأ مشوار الحكايات على ضوء الشمعة، أما انفجار القنبلة فهو عودة التيار الكهربائي، حيث يفترق الشمل وتتباعد القلوب وتضطرب النفوس و و و، على العموم... لا نريد أن نأخذ مسارا آخر بعيدا عن القصة، المهم أن هذه الجبال بما تحويه من رعب كانت النموذج الكامل للطبيعة وللسكون التام... لا أخفي عليكم أن حاستي السادسة أو ذلك الشعور المبهم الذى كان يراودني... كان ينبئني بأن شيئا ما سوف يحصل؟؟ لقد كنت قلقا وتمنيت أن نغادر هذه الجبال الموحشة.
انتهينا من تركيب الخيمة ووضعنا بها أمتعتنا، الشمس لم تكمل رحلة الغروب بعد، أردت أن أكتشف المكان في محيط المائة متر، كانت الصخور السوداء تحيط بنا، رغم لمسات الطبيعة الفذة للمكان إلا أني لم أشعر بالراحة على الإطلاق... يراودني شعور أنني مراقب، وأن هناك من يتبع خطواتي... كنت ألتفت فلا أجد أحدا ولكنى أشعر بذلك... أشعر أن هناك شخصا يمشي خلفي، لقد شعرت بالخوف ولذلك عدت أدراجي إلى الخيمة، جلست مع صديقي خارج الخيمة نحتسي أكواب الشاي ونراقب الشمس وهي تختفي... لتترك المجال لسيطرة عالم الظلال والأشباح... الليل قادم بتلك الظلمة الموحشة... الليل قادم بما يحمله للنفوس من خوف ورعب... كنت متأكدا أن هناك شيئا يحدث في هذه اللحظة بالذات، شعور في نفسي أخبرني بذلك ولكني أردت تجاهله، رغبة قوية كانت تدفعني أن أمسك المنظار المقرب وألقي نظرة على الكهوف... ولكني قاومت ذلك ولم أعر شعوري أي انتباه... ولكن هاني نظر إلى الكهوف وسمعته يزفر، فقلت له:
- غربان كثيرة أليس كذلك؟؟ نظر إلي باستغراب وقال:
- هل شاهدتها؟؟ فقلت:
- لا... ولكني كنت أتوقع ذلك، قال:
- إنها نفس الغربان التي شاهدناها في الكهوف السابقة، لم أستطع المقاومة أكثر وأخذت المنظار، وشاهدت ذلك المنظر المألوف عندي لمجموعة من الغربان تتزاحم على مداخل الكهوف... غربان سوداء... لا أعرف ما هذه الجبال! كل ما فيها أسود... قوة السواد والظلام تخلق رعبا لا حدود له، قلت لصديقي أنني إذا كتب الله لنا أن نعود بخير فلن أحضر مرة أخرى لهذه الجبال على الإطلاق! فعلاً السواد مخيف... القطط السوداء والغربان السوداء والكلاب السوداء كل ذلك مخيف.

عادل المسكين كان خائفا لقد لاحظت ارتعاش يديه عندما شاهدنا الغربان! لا ألومه... فبعد ما شاهدناه من الأحداث التي من شأنها أن ترعب قلب كل شجاع وتخيفه، فالخوف غريزة في البشر ولا بد أن نخاف. تناولنا وجبة العشاء وجلسنا داخل الخيمة نتجاذب أطراف الأحاديث، كنت متأكدا أن النوم لن يقارب عيوني وكنت مصمما على السهر إلى الصباح، وحتى نبتعد من هذا الجبل المنحوس رغبتي في الاكتشاف وفي معرفة سر وحيد تبخرت مع ظلام الليل... لا أريد أن أعرف شيئاً على الإطلاق، أريد فقط أن أغادر هذا المكان وفجأة... قاق قاق قاق؟؟؟؟ لقد بدأ الرعب.
 
إنطلق ذلك الصوت البشع المرعب، إنطلق بما يحمله لنا من ذكريات مخيفة، إنطلق ليبدد هدوء الليل وبقية الاستقرار من نفوسنا... وحتى وإن كنا نتوقع حدوث شيء ما، إلا أن انطلاق صوت الغراب دون سابق إنذار قد فاجأنا وأربكنا، قفزت جالساً لأجد أن عادل وهاني قد قفزا أيضاً فلم يكن أحد منهما قد نام بعد، إلتقت نظراتنا وهي تحمل كل معاني الرعب الذي لم نعد نخفيه عن بعض مثل ما كنا نفعل ونتظاهر في السابق، ولم يتحرك أحد... كانت القفزة للجلوس فقط!!

إستمر صوت الغراب، ولحظات بسيطة اكتظت السماء بعدها بصوت الغربان الذي كان يتجاوب بالصدى في تلك الجبال السوداء المرعبة... جبال سمعت فيما بعد أنها تسمى جبال الجن أو جبال الشيطان، وقد سميت بذلك نسبة إلى الكهوف وهي التي سميت بكهوف الجن في الأصل، إنتشرت الأصوات وكأن فريقا ضخما من الغربان يحوم فوق الخيمة ولم نتحرك من أماكننا، خطرت لي فكرة، فقلت:
- ربما نكون نعيش وهما كبيرا ونتخيل سماع الأصوات كما حدث في الكهف، عندما كنا نسمع الأصوات وخرجنا ولم نرى شيئاً. قلت ذلك رغم عدم قناعتي به، فالأصوات كانت فوق الخيمة مباشرة، والحق الحق يقال: لم نجد في أنفسنا الشجاعة الكافية للخروج وتفقد الأمر، الموقف كان يحمل قدراً كافياً من الرعب، ولا مكان للبطولات الوهمية في هذا الوقت، قد تمتلك شجاعة لمواجهة شيء تعرفه، ولكن شيئاً تجهله... فذالك أمر صعب جداً!!
كنت أتمنى أن أجد الشجاعة للخروج ومعرفة الأمر وما يحدث بالخارج، ولكن صدقوني... لم أجد للشجاعة أثراً؟؟ ولم ألم نفسي على ذلك، فالموقف كان غريبا بمعنى الكلمة، لحظات مرعبة مرت بنا... لحظات كنا خلالها ننظر إلى بعضنا فقط، وكأننا نقوم بتوحيد البقايا الموجودة من أثر الشجاعة في أنفسنا... كأننا نوحدها لنستأنس ببعضنا، أصوات كثيرة لغربان كثيرة كنا نسمعها... ربما لخمسين غرابا أو أكثر حسب تقديري كانت تحوم فوق الخيمة، لحظات عصيبة مرت بنا، وفجأة... ودون سابق إنذار... توقف كل شيء، توقفت الأصوات... لتعود منطقة الجبال إلى ذلك الصمت الرهيب، لا شيء سوى دقات قلوبنا المرتجفة التي أنهكها الرعب، ورغم توقف الأصوات ورغم أن الهدوء ساد المكان إلا أنه لم يتحرك أحد، فأحياناً يكون الصمت والهدوء أكبر رعب نواجهه، فغالبا ما كان الهدوء يسبق عاصفة.

لحظات تمر ببطء شديد... لحظات تمر دون أن يعلق عليها أحد وكأننا نخاف أن نتكلم، نخاف أن تسمع الغربان أصواتنا، من سيقطع حبال هذا الصمت الرهيب يا ترى؟؟ من سيتكلم؟؟ نفذت كلماتنا... نفذت تعليقاتنا... من سيبدد الصمت من من؟؟ رأيت وجه هاني يحمر ويحمر، فعرفت أنه من سيقطع حبال الصمت، وصح توقعي فقد قال بصوت جمع كل معاني الرعب والحشرجة والارتباك:
- لنجمع أشياءنا ونهرب من هذا المكان الملعون قبل أن تعود الغربان التي يعلم الله ماذا تخطط لنا؟؟ أثارت وأصابت كلماته صميم قلوب مرتعبة فكان لها أثرها الواضح، فقد هب عادل واقفاً وقال:
- هيا بسرعة لنهرب. كانت الفكرة رغم عدم منطقيتها شبه معقولة بالنسبة لقلوب أعياها الرعب وأنهكها!! وبالفعل كادت أن تتحول إلى فعل... لولا انطلاق صوت ذلك الغراب على فم الخيمة مباشرة، نطلق بصوت قوي جداً أقوى من المعتاد، انطلق لنتجمد في أماكننا وكأننا نشاهد فلماً... اللقطة فيه قد توقفت، يخيل لي أن قلوبنا قد توقفت عن النبض، خاصة بعد أن سمعنا صوت أجنحته ومخالبه ترتطم بباب الخيمة في محاولة للدخول... الباب الذي كنا نحكم إغلاقه منذ أن دخلنا هذه الجبال المرعبة، وبحركة لا شعورية وجدت يدي تمتد إلى قبضة ألمسدس لتقبض عليها بإحكام، إستمر وقوفنا بدون تحرك واستمر صوت المخالب على جدار الخيمة مصحوبا بذلك النعيق البشع لمدة نصف دقيقة تقريباً... وبعد ذلك توقف الصوت وسمعنا صوت الأجنحة يبتعد، واستمر وقوفنا بدون حراك للحظات لم نعد قادرين على الوقوف بعدها فجلسنا في أماكننا، ما هذه الرحلة المرعبة؟؟ ماذا فعلنا حتى يحدث لنا ما حدث؟؟ مجرد رحلة لصيد الصقور تنقلب إلى أسوء رحلة نرى الرعب في كل فصولها وأيامها... لم نعد ندري ماذا نفعل فقد اختلطت علينا الأمور، حتى لو أننا نفذنا فكرة الهرب... فإلى أين سنذهب في ذلك الليل وتلك الجبال الموحشة؟ فنحن نجهل المنطقة تماماُ.

توقفت الأصوات... لم نعد نسمع شيئاً على الإطلاق... غرقت منطقة الجبال في ذلك الصمت الرهيب، بالرغم أننا لم نغادر الخيمة... وبالرغم أننا لم نشاهد شيئا إلا أن الدقائق كانت تمر ببطًء شديد، وكانت تمر بنا أسوأ مرحلة رعب، فقد انكمشنا في وسط الخيمة ولم نقترب من جدرانها، وكأننا نخشى أن ينقض علينا أحدها من خلف قماش الخيمة، انكمشنا في وسط الخيمة نوحد بقية فضلات الشجاعة الباقية، ورغم أننا لم نتكلم ولم نتحرك إلا أنه عندما التقت نظراتنا كانت تتفق على شيء واحد... خاصة عندما وصلت إلى مسامعنا أصوات آتية من بعيد... أصوات كثيرة كثيرة!! لقد اتفقت نظراتنا على مغادرة تلك الجبال فوراً، ولكن إلى أين؟؟ قال هاني:
- هناك كهوف أمامنا وكهوف خلفنا على نفس الطريق. قلت لهما:
- لنخرج ونوقد أضواء السيارتين والكشافات، ولدينا كيس فحم... لنوقد فيه النار فربما تخاف تلك الغربان من النار... ورغم أننا قد اتفقنا على ذلك إلا أنه لم يتحرك أحد من مكانه، كأننا قد سمرنا فيها... أصوات تأتي على مسامعنا من بعيد، بداية كانت أصوات غربان ونعيق، وبعد ذلك تغيرت إلى أصوات شبه بشرية، بهمهمة غير معروفة، تجمع بين خليط من اللغات وكانت تقترب، توقفت قرب الخيمة... وبعد لحظات... سمعنا ذلك الصوت المألوف للمرة الثانية: يا سكان الخيمة؟؟؟؟
 
انك تسرحين بنا في كل مكان
أنت اختي ذكرت النقل اتمنى لو تعطينا بعض التفاصيل عنها
شكرا لك
بوركت
 
انطلق ذلك الصوت البشري غير المتوقع... انطلق بقوة مكررا النداء: يا سكان الخيمة؟؟ انطلق ليفجر قنبلة من الرعب البشري بيننا، انقطعت أصواتنا وأنفاسنا وتوقفت قلوبنا عن النبض، من يكون صاحب هذا الصوت؟؟ ومن أين أتى في هذه الجبال الموحشة؟؟ انطلقت عقولنا إلى اتجاه واحد فقط!! وحيد؟؟ ومع انطلاقة عقولنا إلى هذا الشخص زادت نسبة الرعب حتى كادت أن تصل حد الإغماء... لم يتحرك أحد؛ ولا أخفي عليكم أنه لن يتحرك أحد أيضاً، فقد فقدنا جميع الشجاعة ولم نعد نملك منها أي مقدار يؤهلنا للوقوف والخروج لاستطلاع الأمر، إذا كان وحيد صاحب الصوت فمن المؤكد أنه ليس بشراً أبداً، ليس بشراً على الإطلاق... جميع الدلائل والمؤشرات تشير إلى ذلك... إنه عفريت من الجن لاشك في ذلك، وإلا كيف يقترن ظهوره مع ظهور الغربان، لاشك أننا في ورطة كبيرة... كيف نتعامل مع هذا الوضع يا ترى؟؟

يا سكان الخيمة؟؟ إنطلق الصوت للمرة الثالثة... صوت قوي جهوري ولم نتحرك... كانت نفوسنا المضطربة هي من تحركت لتنكمش مع بعضها، في السابق كانت يدي تتحرك لتقبض على قبضة المسدس، أما الآن فلم أستطع أن أحركها من مكانها... فقد توقفت جميع أعضائنا عن العمل، لقد سمعت أن الرعب يشل الأعضاء وقد لمست ذلك بنفسي... تكرر الصوت: يا سكان الخيمة، عليكم مغادرة الجبل حتى لا يحصل لكم مكروه... لن نستطيع أن نحميكم؟؟ كانت الرسالة واضحة والبرقية عاجلة؛ لحظات بسيطة سمعنا على إثرها حركة أجنحة، وبعد ذلك نعيق غراب يبتعد... لو أني سمعت الصوت بنفسي لكان من الممكن أن يتهمني أحدهم بالجنون أو التخيل، ولكن الصوت وصل إلى ثلاثتنا واضحا جلياً... حركات هستيرية كانت تصدر منا، عندما تكرر الصوت تأكدت أنه صوت وحيد ولكن لماذا؟؟ هل من الممكن أن تكون هناك صراعات بين قبائل من الجن في هذا الجبال، بين مجموعة تقطن في الكهوف التي تركناها خلفنا ومجموعة في الكهوف التي أمامنا ؟؟ إذا صح ذلك فإن تحذير وحيد يكون كنوع من أنواع رد الجميل، فقد كان مصابا عندما حضر إلينا في المرة الأولى... ولكن نحن لم نؤذي أحداً ولم نفعل أي شيء يتسبب في طردنا من الجبل! كنا شبه منهارين عصبياً، وقفت جاهداً فقد كانت ركبتاي تصطفك، وقلت لهما بصوت جاهدت ليخرج سليمًا:
- ماذا سنفعل؟؟ أجاب عادل بصوت لا يفترق عن صوتي مما يحمله من رعب:
- نغادر... نغادر... لن نبقى في هذا الجبل الملعون أبداً... هذا الجبل مليء بالعفاريت. ولم يختلف صوت هاني ولا رأيه عن عادل، فقد كان أيضاً يريد أن نغادر.
- ولكن في هذا الليل؟ إلى أين؟ إلى رعب آخر؟ إلى الكهوف الأخرى التي أمامنا؟ قلت لهم ذلك، وازداد الموقف سوءً، فقد كانت الطريق التي أمامنا تقود مباشرةً إلى المجموعة الثانية من الكهوف، وإذا عدنا نعود إلى كهوفنا السابقة.

وبقينا في حيرة مرعبة قاتلة، إنفتق بعدها ذهني عن فكرة غريبة، ورغم غرابتها فقد تكون أقرب إلى العقل، قلت لهما:
- لنفرض أن هذا الجبل تقطنه قبيلتين من الجن، وكل قبيلة تسكن في كهوف وتتحول إلى غربان - وهو ما شاهدناه بأعيننا - وأن الكهوف السابقة هي ما شاهدنا فيها الغربان تعتدي على غراب وتهاجمه، وذلك الغراب هو ما نعتقد أنه وحيد... إذاً تلك الكهوف ليست لقبيلة وحيد... وحيد يسكن الكهوف التي أمامنا... ولكون وحيد هو من أعطانا التحذير... إذاً وحيد يريد مساعدتنا رداً للجميل... لذلك لن تهاجمنا قبيلته، بل هي من ستدافع عنا!! كان تحليلي رغم غرابته أقرب إلى ما يمكن أن يكون واقعاً، وهذا ما أكده هاني. وعلى ضوء هذه المعطيات، كان قرارنا أن نستمر في طريقنا وعلى الفور... وبأيدي مرتعشة، كنا نحزم أمتعتنا وخيمتنا ونضع كل ذلك في السيارة، ولا أخفي عليكم أني كنت أريد أن يركب معي عادل... ولكني رأيت نفس الرغبة في عيني هاني، ولكوني أسبقه في العمر بعدة أشهر، ودائماً أتباهى بأني أكبر منه ويجب عليه أن يستشيرني هو وعادل، لذلك لم أتكلم وقلت لعادل:
- عليك أن تركب مع هاني. لأشاهد نظرة الإرتياح لدى هاني المسكين بعد أن سمع ذلك... قررنا العودة ومغادرة الجبل... إذا كتب لنا عمر وغادرنا هذا الجبل على خير، سنحمل معنا سره الذي لا نستطيع أن نحكيه لأحد... فلن يصدق أحد حرفاً منه، فكل شيء يتسم بالغرابة في هذا الجبل... كل شيء، لقد سمعنا حكايات تشبه الأساطير عن أحداث وقعت لأناس من سائقي الشاحنات والعاملين بالتهريب والصيادين، الكل وقعت معه أحداث بطريقه معينة، والكل رواها بنوع معين... وقد أكون قد بالغت أنا أيضاً في رواية ما حدث... ولكن ما حدث هو ما حدث... المهم أن نغادر على خير، فقد انطلقنا مباشرة بعد أن سمعنا أول نعيق في الجو.

قد يكون من أصعب الأمور أن تجد نفسك في جبال موحشة مجهولة ومرعبة، تجهل عنها كل شيء، والليل قد أسدل ستاره والظلام يحيط بك من كل جانب، إضافة إلى تلك الأحداث الرهيبة التي مرت بك... غربان تسكن الكهوف... غربان تهدد البشر... أشخاص يتحولون إلى غربان... أشياء غريبة وأحداث أغرب من الخيال وأغرب من التصور... كل شيء في هذه الجبال كان يوحى بالغرابة ويجسد كل معاني الرعب... تك الجبال الهادئة فاتنة الطبيعة تحت ضوء الشمس، تنقلب إلى جبال مرعبة مخيفة عند غيابها.

انطلقنا دون هدف ودون مسار معين، انطلقنا بدافع من الرعب والامتثال للتهديد والبرقية العاجلة التي وصلتنا، والتي مضمونها أن نغادر على الفور، انطلقنا وصوت النعيق يتجاوب صداه ليبدد هدوء الليل... لحظات بسيطة بعد الانطلاق... وامتلأت السماء بأصوات الغربان التي كنا نسمعها من الجانبين، غربان كثيرة وأصوات غاضبة... كانت سيارتي هي التي في المقدمة، يتبعني هاني وعادل، وكنت قد اخترت أن أكون في المقدمة بدوافع في نفسي، أولها أني وحيد في السيارة والثاني لا أريد أن أكون في الخلف، ربما بسبب خوفي أن أهاجم من الخلف... المهم كانت يداي ترتعش على المقود، ورجلي أيضاً ترتعش على دواسة البنزين، الغريب في الأمر أن الغربان كانت حسب اعتقادي وحسب ما تدل عليه حاسة السمع تشكل فرقتين، أحدها عن اليمين والثانية عن الشمال... وهناك مسافة كبيرة بينهما ولم تقترب من بعضها، وكأن هناك هدنة أو اتفاقا معينا يتضمن خروجنا من منطقة الجبال سالمين، ولكن المشكلة والمصيبة الكبرى أننا لم نكن نعرف إلى أين نتجه ولا إلى أين نذهب، فقد ضللنا الطريق، وما زاد من صعوبة الأمر أن الطريق كانت صعبة جداً، بها الكثير من الانحناءات والمطبات، الساعة كانت حوالي الثانية بعد منتصف الليل، ثلاث ساعات فقط كانت تفصل بيننا وبين طلوع الشمس، ثلاث ساعات فقط وتنطلق تلك الأشعة الذهبية الجميلة لتبدد كل هذا الرعب، لن نخشى شيئاً تحت ضوء الشمس، على الأقل نعرف من نواجه.

إستمرينا بالمسير واستمر نعيق الغربان، ذلك النعيق البشع الذي كرهته وسوف أكرهه طوال عمري، الطريق تلتوي أمامنا والمطبات تهز السيارة، وفجأة توقفت أحد فرق الغربان وسمعنا أصواتها تبتعد، واستمرت الفرقة الأخرى التي غيرت مكان طيرانها ليصبح فوق السيارتين مباشرة... كان ذلك أمراً غريباً، ولكن سرعان ما وجد عقلي تفسيراً لذلك، فقد اقتربنا من منطقة الكهوف الأخرى... ويا سبحان الله... كأن منطقة الجبال قد قسمت بينهما، كل فرقة لها منطقة نفوذها الخاص وأرضها الخاصة، ومثل عالم البشر تجري صراعات بينهم، لقد عرفت بالتوقع أن هذه الكهوف هي مساكن آل وحيد، وهذا ما أشعرني ببعض الارتياح، ففي ظل مثل هذه الظروف عليك بأهون الأمرين، ووحيد وقبيلته هو أهون الأمرين، وبالرغم أن المسافة إلى حيث الكهوف التي وصلنا إليها كانت حسب قياسي عندما رأيتها لا تتعدى بضع كيلومترات، إلا أننا قد أمضينا قرابة الساعتين والنصف حتى وصلنا إليها، وذلك بسبب صعوبة الطريق، الساعة كانت حوالي الرابعة والنصف صباحاً... نصف ساعة فقط تفصلنا عن بزوغ الفجر، فقد بدأت تتجلى الرؤية كذلك، بدأت أصوات الغربان تخفت وتبتعد، لم نستمر بالمسير سوى مسافة بسيطة لنشاهد بعدها ما كنا نتوقع مشاهدته؟؟
 
لقد شاهدنا إشراق الشمس، وكان أجمل إشراق شمس في حياتي كلها، فقد بزغ ذلك القرص الذهبي الذي كنا ننتظره بفارغ الصبر، بزغ ليبدد الظلام ويقهر الرعب ويزيح عالم الأشباح، إنتشر الضوء لينير كل شيء، حتى قلوبنا أنارتها الشمس وبعثت فيها دفء الطمأنينة، بعد أن كان يغشاها ظلام الرهبة والخوف... ويا سبحان الله: كل شيء قد تغير مع إشراق الشمس، كل شيء تبدد وتبخر مثل حبات الندى، كل الأحداث التي حصلت لنا باتت كأنها حلم وليس حقيقة، العفاريت السوداء التي تكتسب قوتها من قوة الظلام والسواد ليس لها تأثير مع نور الشمس، وحتى إذا شاهدناها فلن تكون درجة الرعب مثل مشاهدتها في الليل.

إشراق الشمس كان فرحة كبيرة بالنسبة لنا، فهي تحمل لنا فرصة كبيرة لمغادرة الجبال وعدم العودة إليها مطلقاً... فدون شك سنحاول جهدنا طوال ساعات النهار أن نستمر في المسير دون توقف حتى نغادر الجبال، وهذا أملنا الوحيد... فقد شاهدنا ما حدث، وليلة أخرى في هذه الجبال قد تعنى نهايتنا وإشعال حرب طاحنة بين الغربان، وهذا ما كنا نخشاه. توقفنا بعد أن لاح قرص الشمس بالكامل وكأنها تبتسم لجبننا، توقفنا وقد دب فينا النشاط والطمأنينة، ورغم أن توقفنا كان على بعد حوالي مائتي متر من الكهوف الأخرى، إلا أن ذلك لم يكن يشعرنا بنفس الرهبة الليلية، الآن نحن نعرف أن هذه الكهوف يقيم فيها وحيد وعشيرته... هذا ما استنتجناه من واقع الأحداث والله أعلم...
- منظر هذه الكهوف يثير الرعب أكثر!! هذا ما قاله هاني الذي كان ينظر إليها عبر منظاره المقرب، تملكني الفضول الشديد... أحضرت منظاري ونظرت إلى مجموعة الكهوف الثانية لأرى أغرب منظر... كانت حوالي أحد عشر كهفاً وتقع في أماكن عالية من الجبل... لن يستطيع أحد بلوغها إلا بواسطة الحبال... كهف واحد فقط كان أقل ارتفاعاً ويستطيع أي شخص بلوغه... ولقد صدق هاني... فقد كان منظرها يثير الرهبة في النفوس... وقد اعترتني تلك الرعشة لدى مشاهدتي لها، وتذكرت الأحداث السابقة، حتى أني قلت لهما:
- هيا نبتعد من هنا، وكأن هذه الكهوف سوف تلتهمنا. ضحك هاني من قولي، وضحكت أنا أيضاً، وذلك بعد أن رفعت المنظار عن عيني وأبعدتها عن منظر الكهوف.

قمنا بإعداد وجبة إفطار سريعة، وجلسنا نأكل ونتحاور، وقد دب فينا المرح المفقود وكانت ضحكاتنا تعلو بشكل هستيري، وكأننا نفيض جميع أنواع المشاعر المكبوتة... فقد مرت بنا أيام يشيب لهولها الرضيع وتهترئ لها أشد القلوب شجاعة... كنا نتناول فطورنا بتلذذ شديد وكأنه مر علينا أعوام لم نأكل فيها، الغريب في الأمر هو ذلك الصراع الداخلي الذي يحدث في أعماق أفكاري أو نفسيتي أو كياني أو لا أدري أين، صراع غريب عجيب يشبه النداء الداخلي... أشعر برغبة قوية تدفعني للدخول إلى الكهوف... وكأنها نوع من الإيحاء النفسي... لا أدري؟؟؟ لحظات بسيطة صامتة مرت بنا لا أعرف كيف أصف ذلك... ولا كيف أعبر عنه بكلمات... ولكنه كان شيئاً عجيباً لم يحدث لي من قبل... صحيح أنني في بعض الأحيان أحس بوقوع خطب ما وفي أغلب الأحيان يحدث... وكأنه نوع من الشفافية الروحية... ولكن ما أحس به الآن يختلف... فذلك يشبه إلى ما يكون رسالة عقلية صامتة تقتحم جزءً من عقلي... رسالة تدعوني إلى اقتحام الكهوف مرة أخرى... بحثت في أعماقي علني أجد تفسيراً منطقياً لما يحدث... لكني لم أجد، قلت لنفسي:
- ربما ذلك يحدث نتيجة حبي الشديد ورغبتي في استطلاع كل شيء ومعرفة كل شيء؟؟ ولكون ذلك يعتبر من الرغبات التي أرغبها، ولكون هذه الرغبات قد تكون قد كبتت في أعماق نفسي نتيجة الرعب ونتيجة الأحداث التي مرت بنا، والخوف من المخاطرة مرة أخرى، فلذلك تكون هي سبب هذا النداء الغامض الذي يشبه الاتصال الروحي؟؟ الغريب في الأمر هو لحظات الصمت التي مرت بنا... فقد غرقنا ثلاثتنا في الصمت، وكأننا نستمع ونتصارع مع ذلك النداء الغامض والرسالة العقلية الموجزة الواضحة:
يجب الدخول إلى الكهوف مرة أخرى، وذلك ضروري جداً... لن تغادروا الجبال على الإطلاق إذا لم تدخلوا إلى الكهوف؟؟؟؟
 
قصة رائعة بارك الله فيك
 
حالة من الذهول أصابتنا... حاله تشبه لعمليات التنويم المغناطيسي، كنت أقاوم ذلك الصراع... لن يستطيع أحد أن يرغمني على دخول الكهوف مجدداً... لن يستطيع أحد لا تنويمي ولا إيحائي ولا هم يحزنون... انطلق ذلك الغضب المكبوت في أعماقي... انطلق بقوة... انطلق ليوقف ذلك الإيحاء السخيف الذي لا أعرف من أين يأتي؟؟ انطلق ليخرجني من حالة الذهول... انتفضت وقلت:
- هاني... عادل... هيا لنغادر الآن ودون تأخير.
فكرة أن أدخل الكهوف بعد ما حدث كانت كافية أن تهز كل كياني وتفجر جميع براكين المشاعر من الخوف والرعب... انتزعتهم من حالة الذهول، الغريب في الأمر هي حالة عادل، لقد أفاق هاني من حالة الذهول أما عادل فلا... فقد كان المسكين في حالة ذهول تامة وكأنه لم يعد يحس بالعالم الخارجي... كان يتمتم بكلمات غريبة ونظراته تائهة خاوية من المشاعر... قال هاني:
- ماذا أصابه يا ترى؟؟ قلت له:
- لا أدري؟ قال:
- ربما تكون صدمة عصبية نتيجة لما مر بنا من رعب. قلت له:
- لا يمكن ذلك، لو أنها صدمة عصبية لأصابته داخل الكهوف، عندما كنا نواجه الرعب مباشرة، وليس الآن ونحن في وضح النهار.
إقتربت من عادل فلم يشعر أو يحس باقترابي... يا إلهي ما الذي حدث له؟ هل أصيب بحالة من حالات الجنون لا أدري؟؟ اقتربت منه وصرخت في أذنه بأعلى صوتي:
- عادل... عادل... عادل، نظر إلي بنظرة خاوية وقال:
- ماذا ماذا... كانت نظرته غريبة... نظرة فارغة تخفي رعباً... نظرة ليست بشرية على الإطلاق... قلت لهاني:
- ربما أصابه مس، قال هاني:
- إنها الطامة الكبرى... يا إلهي، جبال موحشة وبعيدة عن المدن والمستشفيات ماذا سنفعل؟
كان عادل يتمتم بكلمات غريبة، اقتربت مع هاني منه فلم نفهم منها شيئاً سوى كلمتين فقط، اهتزت لها كل خلجاتنا وأبداننا وأعصابنا، وارتعشت لها أوصالنا... كلمتان كانت تحمل لنا رعب الدنيا كله... هل تتوقعون ماذا كان يقول عادل؟؟ لقد قال: سنعود إلى الكهوف... ومرة أخرى يكرر سنعود إلى الكهوف هي مسكني...

كانت صدمة لنا لم نكن نتوقعها على الإطلاق، أن يصاب رفيقك بشيء تجهله فهذه المصيبة الكبرى، لم نكن نعرف ماذا سنفعل فذلك لم نكن نتوقعه أبداً، أسرع هاني إلى تجميع أغراضنا ولحقت به وهمست له:
- أسرع... سوف نغادر على الفور، قلت له ذلك بصوت منخفض ورد بنفس الصوت:
- هذا ما كنت أفكر فيه أيضاً. انطلق صوت عادل بقوة ولهجة آمرة لم نعهدها فيه من قبل، قال:
- لن نغادر، سوف نعود إلى الكهوف. كان واقفاً ينظر إلينا بنظرات التحدي... يا إلهي، كيف سمعنا؟ لقد كانت المسافة قصيرة بيننا وتكلمنا بهمس، لقد تأكد لنا أن هناك شيء غير طبيعي يسيطر على عادل... يا إلهي... ما العمل؟ ولم لا ينتهي هذا المسلسل المرعب؟
إنفجرت كلمات عادل بيننا ليتوقف الدم في عروقنا ولنتأكد أن عادل لم يعد عادل الذي نعرفه، لقد سيطر عليه شيء غريب، قلت في السابق أن الشمس قادرة على أن تزيل الرعب وتقهر الأشباح... وذلك صحيح، لكن موضوع عادل كان يشكل لنا رعبا من نوع آخر، رعب اسمه عادل أو... لا أدري من أصبح؟؟ المهم نحن في ورطة كبيرة، ماذا سنفعل وكيف نتصرف؟؟ المغادرة تعني الصراع مع عادل وإرغامه على المغادرة معنا... صراع لا نعرف الجانب القوي فيه، فنظرات عادل كانت توحي بتصميمه على العودة وتعنى التحدي الكامل، والشراسة المستشفة من لهجته شراسة وعدوانية من كأنه لا يعرفنا، وهي عكس طبيعة عادل. الحيرة تملأ نفسي، ماذا سنفعل: قلت لهاني ذلك فانطلق الجواب من فم عادل: بسيطة... سنعود على الفور إلى الكهوف فهي موطني.
يا إلهي... لقد جن عادل بالتأكيد، وإلا كيف يقول ذلك؟؟ موقف لا يحسد عليه، موقف يحتاج إلى دقة التصرف والسياسة، قلت ذلك لنفسي، نظرت إلى هاني وقلت له:
- ليس هناك مشكلة، سنعود إلى الكهوف... كلماتي كانت صدمة لهاني المسكين، والذي نظر إلي نظرة غريبة مشككة كأنه يظن أنني قد جننت أيضاً، ولكني غمزت له بطرف عيني ليتفهم الوضع، فقال:
- حسن... على رأيك نعود، نعود.
لقد قلت لكم أنني من أول يوم دخلت فيه منطقة الجبال والمفاجآت والأمور الغريبة لم تنتهي... نفس الإيحاء السابق عاود مرة أخرى لأحس به بقوة، شيء يشبه أن يكون هناك من يتكلم داخل عقلي... لقد كانت كلمات واضحة تقول:
- لا ترجع إلى الكهوف السابقة وأدخل إلى الكهف الكبير مع رفيقيك ولو باستعمال القوة.
يا إلهي... ما هذا الذي يحدث بالتحديد؟؟ لقد تحطمت كل القوانين الطبيعية التي أعرفها، ودخلت قوانين جديدة... تسمع معها كلاماً دون أشخاص يتكلمون ودون أن ترى أحداً... كلام أشبه بالتخاطر العقلي... لطالما سمعت أن هناك تخاطر عقلي يحدث بين التوأم، ويحدث بين الأم وأبنائها الرضع، فتشعر الأم أن ابنها قد أزال غطائه وأنه بردان أو أنه جائع، وذلك باتصال دقيق أشبه بالتخاطر، ولكن... أن يحدث ذلك معي فهو شيء غريب... والغريب أنه عند سماعي لهذه الرسالة العقلية كما سميتها، نظرت لأجد أن نظرت التحدي والشراسة والحقد في عيون عادل قد زادت وتجلت واضحة... وازداد الموقف سوءً؟؟

لم نعد نستغرب شيئاً خلال هذه الرحلة المشؤومة منذ دخولنا إلى منطقة الجبال الرهيبة، فكل الأحداث كانت غريبةً مبهمةً وتسير بعكس القوانين الكونية التي كنا نعرفها... كل ما حدث لن تجد له تفسيراً منطقياً واحداً يصدقه العقل... بدايةً بالغربان ونهايةً بهذه الكلمات التي سمعتها في أعمق أعماق عقلي... كل الأحداث غريبة إلى درجة أننا أصبحنا نتوقع حدوث أي شيء، لكن ما لم يكن في الحسبان وما لم نكن نتوقع حدوثه... هو أن نضطر إلى أن نتقاتل مع بعض... مع عادل... كل المعطيات كانت تؤكد ذلك... عادل لم يعد عادل الذي نعرفه، لقد انقلبت نظراته إلى نظرات غريبة مخيفة رهيبة... كلها حقد وشراسة، لقد سيطر على عقله شيء ما دون شك... شيء رهيب مخيف... كان واقفاً ينظر إلي نظرة تحدي رهيبة، ازدادت شراسة بعد أن سمعت تلك الرسالة غريبة المصدر... وكأنه قد سمعها أيضاً.

تأزم الموقف ولم نعد ندري ماذا نفعل؟؟ هاني المسكين كان ينظر إلي وكأنه يتمنى أن أجد حلاً لهذه المصيبة... الموضوع يحتاج إلى استعمال السياسة... قلت لنفسي ذلك، فلم يكن هناك حل آخر غير ذلك، قلت لهاني:
- عادل على حق... سوف نعود إلى الكهوف. كاد هاني أن يقع على الأرض عندما سمعني قلت ذلك، لكني غمزت له بطرف عيني ففهم ذلك بسرعة، وقلت له:
- هيا يا هاني... إجمع أغراضنا بسرعة. تكلم عادل حينها وقال:
- نعم أسرع لنعد ونبقى هناك إلى الأبد.
كلماته ارتعشت لها كل خلايا جسمي وعقلي، ولكني سيطرت على ذلك... وانطلق عقلي المضطرب بسرعة يفكر... علني أجد حلاً واحداً لهذه المصيبة... كانت المعطيات التي اهتدى إليها عقلي ثلاثة:
1- عادل أصيب بمس أو نوع من أنواع الجنون.
2- إذن سوف يقاتلنا إذا امتنعنا عن العودة، أو سيعود ويتركنا إذا لم يستطع إجبارنا على الرجوع إلى الكهوف، وهذه في حد ذاتها مشكلة كبيرة لنا... أن نعود بدونه وأن نترك رفيق الدرب رغم أنه قد أصبح شخصاً آخر أو كياناً آخر مرعبا.
3- نحن لا ندري ما الذي يسيطر على عقله وما مدى قوته البدنية؟؟
بعد صراع داخلي بين وبين نفسي، اهتديت إلى حل ظننت أنه الأحسن من بين مجموعة من الحلول خطرت على عقلي المضطرب، وهو أن ندخل به إلى الكهف الكبير كما قال صاحب الصوت، وهذا رغم خوفي من الكهوف ورغم أني أقسمت ألا أدخل أي كهف... فربما شفاء عادل من حالة المس التي أصابته، تكمن في دخولنا.
أشرت إلى هاني إشارة فهم معناها... السنوات الطويلة وفترة الطفولة ومشاكلنا بالمدرسة والحي... كانت كفيلة بخلق نوع من التفاهم العقلي بيني وبين هاني، فقد كنا نشكل فريقاً مشاكساً مع بعض... ولذلك فقد فهم مغزى إشارتي مباشرةً... وكانت إشارتي هي الانقضاض على عادل.

كان هناك هاجس في نفسي ينبئني أننا إذا عدنا إلى الكهوف السابقة، فلن يكتب لنا النجاة على الإطلاق، وستكون هناك قبورنا... ولذلك كان الأمل الوحيد أن ننتصر على عادل ونقيده وندخل به إلى الكهف الكبير... وكان أنسب وقت عندما يدخل السيارة... سنمسك به ونقيده وهكذا كانت الخطة ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان فقد ...........
 
فقد استدار عادل عندما قلت له هيا اركب السيارة... استدار وانطلق يركض... وفي اتجاه الكهوف، ليزيد الوضع سوءً وتعقيدا، كان هاني قد أدار محرك السيارة، فقفزت جانبه وقلت له: هيا لننطلق. المسافة بين الكهوف والكهوف السابقة كانت حوالي 12 كيلومتراً تقريباً، وهذا بحسب عداد السيارة، وعادل كان ينطلق بسرعة كبيرة مثيرة للعجب... قواه البدنية لم تكن تسمح بذلك... عادل الذي يكره ممارسة الرياضة ينطلق بهذه السرعة؛ قال هاني:
- عجيب ما أصاب عادل، لم أعهده يستطيع الركض بهذه السرعة أبداً، لا أدري لماذا فعل ذلك؟؟ لا بد أن يكون قد شك في الأمر... أو أن هناك قوة خفية معه كانت ترصد تصرفاتنا وتحركاتنا، وإلا لما فعل عادل ذلك، فقد كان من يسيطر على عقله يعرف بخطتنا التي فشلت من أول مراحلها.
كانت المطاردة بين شخص يركض على رجليه، وسيارة في الظروف العادية، ليست وجه مقارنة، ولكن في هذه التضاريس الصعبة للجبال والطرق الملتوية والصخور، كان الوضع يختلف... السيارة كانت تحتاج إلى أن تلف وتدور وتبحث عن طرق ممهدة، ولكن عادل لم يكن يحتاج إلى ذلك... لقد انطلق من بين الصخور يتقافز في سرعة كبيرة وبدراية بكل المسارب... دراية خبير بالمنطقة... وكأنه يعرفها بالشبر... ويعرف كل مسالكها ودروبها... قال هاني:
- لن نستطيع إدراكه بالسيارة، فقد سلك طريقاً أخرى غير ممهدة... وستكون مشكلةً كبرى إذا بلغ الكهوف قبل أن نمسك به... ماذا سنفعل؟؟ - ستكون نهايتنا إذا دخلنا خلفه،أجبته بذهول... فرد هاني:
- هناك فكرة أخرى... أن نقطع عليه الطريق وذلك بأن ننطلق بسرعة أكبر.
حيث أن الطريق كانت تأخذ منعطفاً كبيراً يشبه نصف الدائرة... وعادل كان ينطلق بشكل خط مستقيم حيث المسافة تكون أقرب... اتبع هاني قوله بالتنفيذ، فالوقت كان ضيقاً و لم يكن يسمح بالنقاش... لم يكن يسمح على الإطلاق... وانطلق هاني بسرعة مكتسبة من تراكم عدة مشاعر في نفسه... من الخوف والاضطراب والشعور بالمسؤولية... فقد كان هو صاحب فكرة رحلة الصيد هذه كذلك... انطلق بحكم خبرته الرهيبة في قيادة السيارات، فقد كانت هوايته المفضلة السباقات والدوران بشكل دوائر، ولذلك كانت انطلاقته سريعة، وكان يتفادى الصخور وينعطف ويدور بطرق تثبت تمكنه من فن القيادة، وكنت أتمنى أن يعطي ذلك نتيجة... أن نصل إلى النقطة التي نقطع فيها على عادل طريق العودة والدخول إلى الكهوف، ونستطيع الإمساك به وإرغامه على العودة أو دخول الكهف الكبير حسب ما نقرر في حينها... وبالنظر إلى السرعة التي ننطلق بها وقياساً بسرعة الإنسان، فإننا سوف نصل قبل عادل بفترة زمنية كافية... نستطيع أن نتدبر فيها أمورنا وهكذا كنا نأمل.

كنت قد أخرجت قطعة حبل نحتفظ بها لأي طارئ، وقطعت منها قطعة بطول مترين والألم يعتصرني، فقد كنت أعدها لتقييد صديقي، ولكن لم يكن هناك حل آخر أمامنا، كان لابد أن نمسك به ونقيده. وبعد حوالي أربعين دقيقة وصلنا إلى ارض منبسطة، كانت تقع في منتصف الطريق بين منطقتي الكهوف، وكان لا بد لعادل أن يمر منها، ولكن المفاجأة أننا لم نشاهد له أي أثر... أخرجنا المناظير المقربة وفحصنا المنطقة إلى امتداد الصخور ولكن لم نره... قال هاني:
- لا يمكن أن يصل إلى هنا بهذه السرعة أبداً، قواه لن تساعده بعد كل هذه الأحداث، كذلك عادل لا يمارس رياضة الركض حتى يستطيع أن ينطلق مسافة ثمانية كيلومترات دون توقف... لا لا لا يمكن ذلك. قلت له:
- دعنا نقترب بالسيارة. ولكوننا كنا ننطلق بالسيارة نوع TOYOTA Land Cruiser ، فقد قفزت بالصندوق الخلفي ومعي منظار مقرب، حتى أكون مرتفعا وأستطيع المشاهدة بوضوح، وقلت لهاني أن يتقدم في الاتجاه المعاكس ببطء، كنت خلاله أمشط المنطقة تمشيطاً كاملاً... والحق أن خطة هاني كانت خطة فعالة، فقد قطعنا طريق الكهوف، ولا يمكن لعادل أن يعود ويمر بنا دون أن نراه. قال هاني:
- ألم تشاهده بعد؟؟ قلت:
- لا . فقال:
- ماذا لو أنه سوف يختبئ إلى أن تغرب الشمس ويعود إلى الكهوف دون أن نراه؟؟
انفجرت كلمات هاني مرة أخرى لتقلب كل الموازين، فلو أن عادل فعل ذلك... لن نجده على الإطلاق، فالصخور كانت في كل مكان... صخور كبيرة مثل ما شاهدتم في الصور... ويستطيع فيلق كامل أن يختبئ فيها دون أن تراه... فما بالك بشخص... ولكن كنت أتمنى في أعماقي أن لا يحدث ذلك... لأنه إذا حدث فسوف تنقلب كل الموازين ضدنا... هذا إذا كتبت لنا النجاة... كنت مازلت متمسكاً بأمل أن نجد عادل... ولذلك لم أتوقف لحظة واحدة عن تمشيط المنطقة... وفي جزء من اللحظة خيل لي أني رأيت شيئاً على الصخور... صرخت في عادل أن يتوقف حتى لا تهزني السيارة وأستطيع المشاهدة بوضوح... قال هاني:
- هل شاهدت شيئاً؟؟ قلت له:
- ربما وربما أكون واهماً.
قفز هاني جانبي بمنظاره... أعدت النظر إلى البقعة التي شاهدت فيها ما خيل لي... إنها بقعة أو قطعة ملابس على الأرض... وبعد محاولات تمكنت من رؤية ذلك... لقد كان هناك شيء على الأرض... شيء لم أتبينه بوضوح ولكنه كان مثل الجسم، قلت لهاني بأن ينطلق وحددت له الاتجاه... لم يتركني أكمل كلامي حتى انطلق نحو الاتجاه الذي حددته له... وأصبحت المسافة تقترب... والرؤية تتضح... حتى وصلنا... ويا لهول ما رأينا...
 
مشااااااااااااااااااء الله والله قصة رائعة
 
لقد وجدنا عادل مرمياً على الأرض وقد أنكفأ على وجهه... وكان جثةً هامدةً، وآثار الدماء قد سالت من أنفه، كانت صدمة ارتجت لها كل أعضائنا... ماذا أصابه؟؟ كان دخوله للكهوف أهون علينا من أن نجده جثة هامدة بهذا الشكل...
أسرع إليه هاني وقلبه على ظهره وتحسس قلبه؛ يا إلهي... هل مات عادل؟؟
كانت هذه أصعب لحظة مرت بي في حياتي كلها... ماذا نفعل إذا كان عادل قد مات؟؟؟ لم أعد قادراً على الحركة ولا الكلام... كنت أنتظر فقط أن يقول هاني أن عادل قد مات، وطال الانتظار... وشاهدت هاني يقوم بعمل تنفس صناعي لعادل ويضغط على قلبه، ولم أستطع الحراك... حتى سمعت هاني يصرخ:
- إنه حي... أسرع وأحضر الماء.
كلماته أطلقت الفرامل التي كانت تقيدني ... بعد سماع كلماته تحركت بسرعة تجمع بين الارتعاش والاضطراب... أحضرت الماء بأيدي ترتعش... وقام هاني بسكب قطرات من الماء داخل فم عادل وغسل به وجهه... المسكين كان في حالة يرثى لها، وربما لو أننا تأخرنا لحظات بسيطة لفارق الحياة... جسمه كان منهك القوة... لقد ركض دون توقف لمسافة ثمانية كيلومترات تقريباً، وهذا ما لم يحتمله جسده المنهك... أحضرت علبة عصير عنب وسقيناه منها لعلها تعطيه بعض القوة، كان يبتلع قطراتها بصعوبة... فتح عينيه بعدها ونظر إلينا بنفس النظرات الغريبة، وتمتم بكلمات لم نفقه منها شيئاً... كلمات بلغة غريبة لم اسمعها من قبل على الإطلاق... ولكنها أثارت فينا الرعب... قلت لهاني:
- لنحمله إلى السيارة. عند ذلك تكلم عادل ويا لهول ما قال!! أتعلمون ماذا قال وهو في حالته التي هي نصف وعي فقط؟؟ لقد قال:
- احملوني إلى الكهوف... احملوني إلى الكهوف أيها الأنذال... وإلا فالويل لكم!!
كلمات أثارت فينا الرعب مجدداً... كلمات صدرت من هذا الجسد المنهك، الذي لا يملك من القوة ما يستطيع به أن يتحرك... كلمات أرعبتنا في وضح النهار... لقد كانت تشكل تهديداً مباشراً... إذا لم نحمله إلى الكهوف فإن الويل لنا... ماذا سنفعل وكيف نتصرف؟؟ عادل لم يعد عادل الذي نعرفه، لقد سيطر عليه كيان آخر... كيان مرعب يعيش في الكهوف ويريد أن يعود به إلى الكهوف، رغم أن المسكين مصاب في رجله وقد تجمدت عليه الدماء من آثار وقوعه على الأرض... ورغم حالته المنهكة إلا أنه كان يحاول النهوض... الجسد المنهك لم يساعده على ذلك فترنح ووقع... قلت لهاني:
- هيا لنحمله ونعد به بسرعة... الغريب أنه فتح عينيه مجدداً وقال بصوت مرعب يشبه فحيح الأفاعي... صوت لم يكن يشبه صوت عادل أبدًا:
- إلى الكهوف أيها السفلة والأوغاد وكلمات بذيئة أخرى لا أستطيع كتابتها... كلمات كانت تجمع بين التهديد والوعيد والشتائم... ولكن كان يجب أن نحمله... قاوم ذلك الجسد المنهك، قاوم وقاوم ووقف، كان الكيان الذي يسيطر عليه يستنزف كل قواه، وأراد أن ينطلق نحو الكهوف ولكنه وقع... لم يعد الجسد المنهك يحوي أي قوة، اتخذت قراراً بيني وبين نفسي وأسرعت إلى تنفيذه... لقد أسرعت إلى السيارة وأحضرت الحبل، وقلت لهاني بأن نقيده، فقال هاني أن وضعه الصحي لا يتطلب التقييد... ولكني أصررت على ذلك، وتم تقييده مع صراخه المرعب وأصوات الشتائم البذيئة.
تعاونا على وضعه بالسيارة، كان المنظر مؤسفاً، أن نقيد صديقنا كانت الطامة الكبرى... لو أنه توفي وهو مقيد ستكون جريمة قتل نتهم بها... لن يصدق أحد قصتنا على الإطلاق... لن يصدق أحد... ولذلك كنت أدعو أن لا يحدث ذلك... وضعناه في السيارة من الخلف... كانت عيونه قد انقلبت وتجلت فيها كل معاني الرعب... نظرة مخيفة خالية من البشرية... نظرة تحمل كل رعب الدنيا وكل الحقد... طلبت من هاني أن يقود السيارة وركبت بجانب عادل... حالة غريبة كان يمر بها المسكين... لقد كان يخرج من فمه رغوة بيضاء تشبه رغوة البحر التي تحدث مع الأمواج... وذلك السيل من التهديد والشتائم ولكني لم أنظر إليه... ولا أخفي عليكم أني كنت خائفاً منه فلم يعد عادل الذي نعرفه أبداً... كانت الساعة حوالي الخامسة والنصف مساءً، ولا يفصلنا على غياب الشمس سوى ساعتين ونصف فقط... ساعتين ونصف وينطلق الرعب ولا نعرف بعدها ماذا سيحدث... كان من المفترض أن نكون غادرنا منطقة الجبال لولا هذا الذي حدث لعادل... غياب الشمس في هذه الجبال الموحشة، خاصةً في ظل هذه الأحداث المرعبة، كان يعتبر مصيبة كبرى بالنسبة لنا... مصيبة تحمل لنا رعب الدنيا... سينطلق الرعب من معاقله... ماذا سنفعل وأين سنكون؟؟؟ طلبت من هاني أن يسرع، فقد كان الاتفاق بيني وبينه أن نحمل عادل إلى الكهف الكبير ونغادر قبل أن تغرب الشمس.
وبأسرع ما يمكن كان هاني يقود السيارة، وأصبحت المسافة إلى الكهوف الأخرى والكهف الكبير تقترب وتقترب... ومع اقترابها كانت حالة الهياج تزداد مع عادل وتزداد حتى ...
 
حتى أصبح يصرخ بأعلى صوته وكأنه سيواجه رعب الدنيا، نحن لا نعرف كيف حدث ذلك؟؟ ولا لم حدث ذلك مع عادل ولم يحدث معي أو مع هاني؟؟ كل الأمور كانت تحيرني: الكهف كبير جداً، وأغرب ما فيه أن الضوء لا يتعمق فيه كثيراً، وكأنه قطعة من الليل... الظلام دامس في الداخل...لم نتقدم سوى بضعة أمتار حتى حدث شيء عجيب غريب... لقد كنا نحمل عادل ونتقدم إلى داخل الكهف، ورغم مقاومته ورغم صراخه وتشنجاته إلا أننا كنا نسيطر عليه بصعوبة ونتقدم به إلى الداخل... الشيء الغريب هو أن وزن عادل قد زاد وكلما تقدمنا داخل الكهف كلما زاد وزنه، حتى كدنا أن نعجز عن حمله، وفعلاً... لم نتقدم سوى بضعة أمتار أخرى ووضعناه على الأرض لعدم قدرتنا على حمله، فقد عجزنا تماماً عن زحزحته... أمر آخر أصبح يحدث داخل الكهف: لقد سمعنا صوت طنين يأتي من بعيد ويقترب... طنين يشبه طنين النحل.

مدخل الكهف كان يلوح بعيداً بمسافة حوالي عشرة أمتار أو يزيد قليلاً، وكانت الشمس قد غربت تماماً ويكاد يختفي حتى لون الشفق الأحمر، والظلام سيطر على الأفق... صوت الطنين يقترب ويقترب وفجأة... حدث أمر مخيف جداً جداً... أمر لم نكن نتوقعه ولا نحسب حسابه... لقد ازدادت حالة هياج عادل وازدادت... وازدادت... وهوووووب... قطع جميع الحبال مرة واحدة... يا إلهي كيف ازدادت قوته بهذا الشكل؟؟ كيف استطاع أن يفعل ذلك؟؟ لقد كانت الحبال تحيط به إحاطةً تامة، بل وأصبح يشبه المومياء من لف الحبال حول جسمه، ولكم أن تتصوروا ذلك... وفجأة، يقطع كل الحبال مرةً واحدة ويقف، التصقت بهاني من الرعب... نظر إلينا نظرةً يفترض أن لا نشاهدها في ظل ذلك الظلام الذي يغرق فيه الكهف ولكن... بذلك النوع من العيون، لقد شاهدناها فقد كانت عيونه حمراء ملتهبة... نظر إلينا نظرة افتراس انكمشنا على إثرها مع بعض ونحن تكاد قلوبنا تتوقف عن النبض... يا إلهي كيف تحول عادل إلى ذلك؟؟

تحرك نحونا وهو يرمقنا بتلك النظرة التي تحوي غضب الدنيا، تقدم نحونا فكادت أن تشل أوصالنا وعجزنا عن الوقوف وإلا لانطلقنا هاربين ولكن فجأة... حدث أمر غريب آخر في عالم الغرائب... لقد شاهدنا مدخل الكهف يغشاه السواد مرة واحدة... حتى اختفى ولم نعد نراه... عند ذلك توقف عادل وصرخ... وحينها فقط سمعنا الصوت الذي كنا نفتقده... صوت نعيق الغربان الذي انطلق من كل مكان... ومع انطلاقته انطلق عادل هارباً... ولكن إلى داخل الكهف... ولا أعرف كيف يستطيع الرؤية في ذلك الظلام الدامس... انطلق بسرعة كبيرة حتى أنه اختفى في لحظة عن أنظارنا... وتوقف صوت الطنين... توقف فجأة... وسمعنا صوت الأجنحة لعدد كبير من الغربان كانت تنطلق بقوة إلى داخل الكهف في أغرب عملية مطاردة حسب اعتقادي... فكل المعطيات كانت توحي بأن هناك مطاردة لعادل من قبل الغربان... صوت نعيق الغربان كان يبتعد ويبتعد... قلت لهاني بصوت مرتجف:
- ماذذذااا سنفعل؟؟؟؟ فأجاب بصوت أكثر ارتجافاً:
- لاأأأأ دررري...
الظلام كان يطبق على الكهف وعلى نفسي، فقد كنت لا أحب العتمة، تلمست الحقيبة وأخرجت مصباحاً كهربائياً وأشعلته... وانطلق نوره يشق ظلام الكهف ويبعث قليلاً من الطمأنينة في نفوسنا، قلت لهاني:
- هيا لندخل ونستطلع الأمر ونبحث عن عادل... كان الفضول في نفسي يتغلب على كل شيء... أريد أن أعرف ماذا حدث في الداخل وماذا يحدث... رغم خوفي الشديد... رغم العتمة التي أكرهها إلا أني أردت أن أعرف ماذا يحدث في الداخل.
تقدمت مع هاني إلى داخل الكهف... أصوات الغربان كانت بعيدةً جداً... كانت تأتي من أعمق أعماق الكهف، كنا نتقدم بسرعة... داخل ذلك الكهف هناك أشياء مرعبة تسكنه... لقد شعرنا بذلك ونحن نتقدم... السؤال الذي كان يطرح نفسه: أين وحيد؟؟ إذا كان هذا مسكنه فلماذا لم نشاهده؟؟

كنت مع صراع في نفسي... بين أن أشاهد وحيد إرضاءً للفضول... وبين أن لا أشاهده فهو ليس من البشر... إذاً هو عفريت... ولكن لم نشاهد أحداً، ومازلنا نتقدم حتى سمعنا صراخ عادل... كان يصرخ ويصرخ... ووجهت الضوء إلى مصدر الصراخ...
 
شكرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
 
لكم أن تتصوروا ما حدث... لقد كان عادل واقعا على الأرض، وقد أحاطت بجسمه عشرات الغربان التي كانت تنعق بصوت غاضب، وهو يقاومها ويحرك يديه ليضربها... وعندما وقع ضوء المصباح عليه وقف بقوة كبيرة وانطلق مرة أخرى تتبعه الغربان... وكأنه استمد قوة من ضوء المصباح... أو أن ضوء المصباح أزعج الغربان، عند ذلك... أبعدت ضوء المصباح عن الغربان، وقلت لهاني: هل شاهدت ماذا حدث؟؟ كان هاني يقف مشدوهاً وقال أنه شاهد ذلك.

إبتعدت أصوات الغربان وكذلك صرخات عادل... ابتعدت في أعماق الكهف وتركتنا في حيرة ماذا سنفعل؟؟ التساؤلات تملأ أنفسنا... إذا كانت الغربان عفاريت من الجن فما الذي يضمن أنها لن تهاجمنا؟؟ وماذا إذا كانت كل هذه الأحداث فقط لاستدراجنا إلى الدخول إلى الكهف؟؟ وكيف نثق في وحيد؟؟ الكثير من البشر لا يستحقون أن نثق فيهم رغم أننا نعرفهم معرفة جيدة ومنذ سنوات... فكيف نثق في وحيد هذا الذي لم نعرفه ولم نره إلا في ليلة واحدة فقط؟؟ هل وقعنا في فخ؟؟ خاصةً وأن مدخل الكهف قد اختفى ونحن لا ندري إذا كنا سوف نجده، فالمعطيات لا توحي بذلك... فقد أظلم فجأة واختفى... ثم ماذا إذا عاد عادل وداخله ذلك الوحش الذي لمسنا قوته ووزنه من قطع الحبال؟؟ سوف يمزقنا شر تمزيق، ولن استطيع استعمال المسدس ضد عادل مهما تكن الأسباب... هل ستكتب لنا النجاة؟؟

لقد كنت دائماً متفائلاً... ولكن في هذه اللحظات العصيبة... كل الأمور توحي بأننا لن ننجو... عصفت أفكاري بكل ذلك حتى عجزت عن الوقوف، طلبت من هاني أن نجلس على الأرض... فقد كانت رأسي تدور بشدة... جميع العوامل كانت تساعد على حصول حالة انهيار عصبي أو حالة إغماء، ولكني قاومت كل ذلك، جلسنا على الأرض... ومن بعيد سمعنا صرخات ونعيق وطنين... فتارةً نسمع الطنين وتارةً الصراخ وتارةً أخرى النعيق والأجنحة... المهم أننا انكمشنا في جدار الكهف نترقب الأحداث التي كانت تجري في الداخل.

بعد ذلك حدث أمر آخر... لقد أصبحت جدران الكهف تهتز وتهتز، فقلت لهاني: يا إلهي... إنها هزة أرضية دون شك... ولكن الاهتزاز توقف ليعود بعد لحظات... ثم توقف مرة أخرى، وهكذا... تكرر ذلك حوالي خمس مرات، بعدها سمعنا أصوات غربان تأتي من مدخل الكهف... أصوات غربان كثيرة... وحينها فقط لاح لنا مدخل الكهف على ضوء النجوم والقمر، لنشاهد عدداً كبيراً من الغربان تحوم على مدخل الكهف ولم تدخل... ولكن كانت تطلق أصوات نعيقها بقوة... ماذا يحدث يا ترى؟
إذا كان ما أتصوره هو ما يحدث فستكون طامة كبرى لن ننجو منها على الإطلاق... فقد كانت المعطيات داخل عقلي تقول أن الغربان التي تحوم على مدخل الكهف، هي من نفس فصيلة الكيان الذي يسيطر على عادل، وهم سكان الكهوف السابقة التي دخلنا فيها، وحضورهم يعني أنهم إما يبحثون عن الكيان الذي سيطر على عادل؟؟ أو أنهم يعرفون أنه في الداخل؟؟ وفي كلا الحالتين... الموضوع لا يدعو إلى الطمأنينة... فذلك يعني أنه سوف تحدث حرب بينهم... لا ندري أي نوع من الحروب ستكون، ولا من سينتصر فيها، ونحن نعلق آمالنا على وحيد، الذي ربما يقتل في هذه الحرب... عند ذلك سيكون مصيرنا مصير عادل بدون شك.
أفكار شؤم كانت تدور في رأسي، قبل أن يقاطعها هاني قائلاً: لنترك الأمور تسير مثلما تسير، فقد تعبنا من تحليلها ودعنا ننتظر ما تجود به الأحداث... وكنا لا نملك سوى ذلك...

أصوات الغربان التي كانت تأتي من أعماق الكهف أصبحت تقترب وتقترب... وما هي إلا لحظات حتى شعرنا بشيء يشبه تيار الرياح يمر بجانبنا... حيث اشتد السواد واشتد... ولم يبتعد تيار الرياح عنا حتى سمعنا صوت الغربان مرة أخرى... وعلى مدخل الكهف، وفي مشهد أغرب ما يكون... حطت الغربان على الأرض أو هكذا خيل لنا، فقد كانت الغربان سوداء والكهف مظلماً... ولكن توقعنا أن تكون قد حطت على الأرض، لأننا لم نعد نشاهدها ترفرف... فقط صوت النعيق لم ينقطع... فتارةً نسمعه بقوة... وتارةً بهدوء... وكأن هناك حواراً يدور بينهم... حوار غريب في أحداث غريبة لا تصدق... وأعرف أن هناك الكثير الذين لا يصدقون حرفاً واحداً من هذه القصة، ولكن الجبال موجودة واسمها جبال أكاكوس، وسبق أن نشرت صورها، وفيما بعد علمت أنه حتى الكهوف تسمى بكهوف الجن، لما دارت عنها من حكايات لا يصدقها عقل... والرعب موجود وعالم الجن مؤكد وجوده... وهناك حكاية أخرى سوف أرويها لكم عندما أنتهي من سرد هذه القصة حدثت معي في مزرعة... حكاية غريبة عجيبة... فعالمنا عالم العجائب والغرائب... نحن فقط لم نكتشف ماذا يدور من حولنا... نحن فقط نعيش فى دائرة ضيقة مفرغة المهم كنا نترقب ماذا سيحدث... عندما توقف نعيق الغربان فجأةً... وطارت الغربان التي خارج الكهف، وسمعنا أصواتها تبتعد، أما الغربان التي داخل الكهف، فقد عادت إلى الداخل بنفس الطريقة السابقة، ويبدو أنهم قد حصلت بينهم هدنة أو اتفاق... لا أدري... المهم انتظرنا قليلاً وقلت لهاني: هيا لندخل إلى أعماق الكهف ولنستطلع الأمور... وقفنا وأردنا أن نسير إلى الداخل... عندما انطلقت تلك الصرخة البشرية...
 
لقد كانت صرخات عادل من أعماق الكهف، كانت صرخاته مذعورة... انطلقنا على آثارها نركض إلى أعماق الكهف... فقد شعرنا بعودة صديقنا... كنا نركض وقد نسينا أين نحن... نسينا خوفنا ورعبنا... كل همنا هو أن نصل إلى مكان عادل المسكين الذي كانت صرخاته تتردد في أرجاء الكهف... وعلى ضوء المصباح الكهربائي... شاهدنا عادل المسكين... كان يصرخ ويصرخ وهو جاث على ركبتيه... وعندما شاهدنا انهار المسكين... كان يبكى ويضحك ويصرخ بشكل هستيري... حالته توحي أنه أصيب بانهيار عصبي... من يلومه؟؟ من يمر بموقفه قد يصاب بالجنون... لقد غادره ذلك الكيان ليجد نفسه في ظلمة تطبق عليه من كل مكان... لا يدري أين هو بالتحديد... لقد وقف... قوة السعادة تشبه قوة الخوف... رغم ما أصاب جسمه من إعياء وإنهاك، فقد وقف وعانقنا عناقاً اختلط بالدموع، وهو يتمتم بكلمات الفرحة والشكر لله... وبعد ذلك ترنح وأغمي عليه...لقد تحمل جسده ما لا طاقة له... أسندناه على الأرض ورفعنا رجليه إلى أعلى حتى يعود الدم إلى رأسه... لحظات وعاد إليه وعيه... أخرج هاني من حقيبته علبة عصير عنب ووضع أنبوب الشفط في فم عادل، وقال له أن يشربها... لقد كان منهكاً جداً ويحتاج إلى أقساط من الراحة بعد ما حدث معه... فرحتنا بعودة عادل أنستنا كل شيء... أنستنا الكهف... والعفاريت... ووحيد... والغربان... وكأننا في بيتنا...

قلت لهاني بأن يخرج لنا بعض الأطعمة... أسندنا عادل على جدار الكهف ليتناول معنا الطعام، كان المسكين ينظر إلى آثار الحبال على يديه والتساؤلات تملأ عينيه... وأطلق ذلك السيل من الأسئلة:
- ماذا حدث؟؟ وما الذي أحضرني هنا؟؟ وما هذه الآثار على يدي؟؟
لم يتذكر شيئاً مما حدث، فقلت له لا ندري... لم أرد أن أخبره ولكن المسكين... كنت أحس بما يعتمل بنفسه، فقد قال:
- ماذا حدث؟؟ ولماذا كنت مقيداً؟؟ هل أصبت بالجنون؟؟
عند ذلك ونتيجة إلحاحه الشديد، لم نجد إلا أن نخبره بالحقيقة كاملة، وشاهدنا وجهه يسود ويضطرب، ولكني قلت له بأنه قد انتهى كل شيء... ولكن الشحوب الشديد لم يفارق وجهه.
كانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل، وقد أعطت العصائر مفعولها، فقد عادت الدماء إلى وجه عادل الذي لم يتوقف عن الأسئلة، قلت لهم:
- ما رأيكم أن نغادر الكهف. ولكن هاني قال أنه يرى أن نقضي الليلة في الكهف، فنحن لا ندري ماذا ينتظرنا في الخارج في ظل ما حدث... على الأقل بقاؤنا هو أهون الأمرين، وكان كلامه منطقياً، رغم شعورنا بالرعب من هذا الكهف الذي تفاعل من جديد، بعد أن انتهت فرحتنا بعادل قلت لهما:
- عندما نخرج من الكهف لن نبقى لحظة واحدة في هذه الجبال... وأني أقسم أني لن أضع قدمي فيها مرة أخرى... عند ذلك انطلقت ضحكة من أعماق الظلام كادت أن توقف أنفاسنا من الرعب... لننكمش مرة أخرى على بعض... لم يستطع أحدنا النوم، حتى عادل الذي كان منهكاً لم يستطع النوم في كهف العفاريت.

لم نشاهد وحيد.. ولا نريد أن نشاهده... ولا نريد أن نشاهد أحداً... نريد الخروج فقط والذهاب إلى بيوتنا... وكانت أطول ليلة مرت بي في حياتي... رغم أننا أوقدنا شموعاً إلا أن تراقص أضواء الشموع زاد من الرعب، وطوال الليل ونحن نسمع أصوات الغربان... وتارة صوت ذلك الطنين... حاولنا أن نتسلى بأي حكاية، ولكن لم تكن لدينا حكايات... فالمعطيات لا توحي... الساعات تمر بطيئةً مملة... كنا نستمع إلى دقات قلوبنا... هل يعقل أن يحدث ما حدث في عصرنا؟؟؟ حكايتنا هذه لن يصدقها أحد أبداً، ولكن لا يهم، لن نحكيها... المهم أن نعود ونخرج من هذا الكهف وهذه الجبال المرعبة... جبال العفاريت والجن...
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top