لا مكان لاصحاب القلوب الضعيفة

لم تنقطع الأصوات طوال الليل... وعندما كنت أعلن أننا لن نعود للجبال مرة أخرى، كنا نسمع ضحكات شامتة تنطلق من الظلام... إنه عالم الظلام... عالم الجن... ما الذي أحضرنا إلى هذا المكان؟؟؟ كرهت الصيد وكرهت المغامرات... لم أعد أفكر في شيء... ولا أريد شيئاً سوى العودة إلى منزلي... قلت لنفسي: عندما أعود سوف أكتب هذه القصة للأيام والذكرى مع الرعب... ولم أكن أدري أنها البداية فقط مع الرعب... لم أكن أدري أن رعباً آخر سوف ينتظرني في مزرعة شبه مهجورة... ولكن تلك حكاية أخرى سأحكيها لاحقاً.



مرت اللحظات بطيئةً مرعبة... الساعة بلغت الرابعة صباحاً... ساعة واحدة تفصلنا على إشراق الشمس... ساعة واحدة تفصلنا على الحرية... الحرية من هذا السجن الكبير الذي يقع في جبال أكاكوس... أصوات الغربان تتعالى... أصوات غاضبة كأن هناك سوء تفاهم بينها... يا ألله، أيكون هناك شيء بخصوصنا؟؟ ماذا لو أن هناك من لا يريد خروجنا من هذا الكهف؟؟ لا بد أن تكون هناك مشكلة بخصوص ذلك... وإلا ما الذي نسمعه؟؟



لقد تعالت صرخات الغربان واقتربت أصواتها، وحالتنا يرثى لها... كنا نلتصق بجدار الكهف وننكمش مع بعض، وفجأة توقفت أصوات الغربان، ليسود الهدوء الكهف، ويغرق في ذلك الصمت الرهيب الذي هو أشد رهبةً ورعباً من سماعنا لأصوات الغربان، نصف ساعة فقط وتبدأ الخطوط الأولى للأشعة الذهبية في التسلل، ورغم أنها نصف ساعة فقط إلا أننا كنا نحسها دهراً كاملاً... قلت لهما:


- هيا لنقترب من مدخل الكهف، وعندما تشرق الشمس نخرج من الكهف. حتى إشراق الشمس لم يعد يعني لنا الأمان بعد الذي حدث مع عادل، ولكن كانت خطتي أن نركب سيارتينا وننطلق ونفر من ذلك الجبل الموحش، اقتربنا من مدخل الكهف الذي بدا واضحاً... لكون عيوننا قد تعودت على الظلام، كذلك لأن ضوء الشمس بدأ يتسلل، وهذا ما أشعرنا بالأمان وبث في نفوسنا بعض الطمأنينة... وأخيراً خرجنا من الكهف ثلاثتنا وابتعدنا عنه في خطوات مسرعة... وكأننا نفر من رعب يطاردنا، وبعد حولي ثلاثين متراً من الكهف... التفتت إليه لألقي نظرة أخيرة على كهف الرعب... ولكم أن تتوقعوا من الذي شاهدته واقفاً على باب الكهف؟؟؟



لقد كان هناك شخص واقفاً ولوح لي بيده... شخص لم تكن ملامحه واضحة، ولكن... بدا كأنه وحيد... ولم أجد إلا أن أرفع يدي لألوح له بكل رعب الدنيا... هل تتصورون؟؟ أرفع يدي لألوح لعفريت... الخوف دفعني إلى ذلك... قال هاني في نوع من الدعابة أنه قد نسي كاميرا في الكهف... ولكن حتى لو نسينا مليون دينار في الكهف فلن نعود لاستعادتها، توجهنا نحو سيارتينا وبسرعة كبيرة أدرنا محركات السيارات وانطلقنا... انطلقنا ولم نلتفت إلى الخلف... كنت أقود إحدى السيارتين وبجنبي كان عادل وهاني يقود السيارة الأخرى... انطلقنا... ابتعدنا... وابتعدنا... طوال ساعتين من القيادة الصعبة في تلك الدروب الملتوية لم نتوقف، ولم نتكلم، هدفنا كان أن نبتعد... وأخيراً خرجنا من منطقة الجبال وزدنا من سرعتنا، ولم نتوقف إلا بعد أن بدأت الجبال تلوح بعيدة... عند ذلك توقفنا لنستريح فقد أعيانا التعب.



الجبال كانت تلوح شامخةً من بعيد بمنظرها الرهيب... لا لن أدخل إلى منطقة الجبال مرةً أخرى مهما كانت الأسباب... تم إعداد وجبة فطور دسمة، فقد عادت النفوس المرحة والفرحة وابتعدنا عن الرعب... بعد أن تناولنا الإفطار والشاي... انطلقنا مرةً أخرى رغم التعب والنعاس، إلا أننا كنا نريد أن نبتعد عن هذه الجبال ولم نتوقف إلا في منتصف النهار، فقد تم تزويد السيارتين بآخر كمية من الوقود كنا نحملها معنا، وتناولنا غداءنا على عجل وانطلقنا مرة أخرى، لم نكن نريد أن نبيت ليلةً أخرى في الخلاء، فقد كنا نريد أن نصل إلى أقرب مدينة لنقضي فيها ليلتنا... وأخيراً وصلنا إلى قرية صغيرة، وجدنا بها فندقاً صغيراً، استأجرنا به غرفتين وأخلدنا للنوم.



كان التعب والإرهاق وعدم الشعور بالأمان قد حرمنا من النوم الهنيء، لم أكن أدري كم الساعة؟ ولا أين أنا موجود؟ عندما خيل لي أني سمعت رفرفة أجنحة... فتحت عيني ونظرت إلى الساعة التي كانت حوالي الواحدة ليلاً... يا إلهي، هل استغرقت في النوم كل هذه الفترة؟؟ حوالي تسع ساعات من النوم... أبصرت نافذة الغرفة مفتوحةً رغم أني متأكد أنها كانت مقفلة، دخلت الحمام لأخذ غسل سريعDouche ، وعند خروجي كانت هناك مفاجأة لم أنتبه لها في المرة الأولى عندما استيقظت... كانت الكاميرا الخاصة بهاني موضوعة على الطاولة الصغيرة بالغرفة، كانت مفاجأة بحق!! من الذي أحضر الكاميرا؟؟ خرجت مسرعاً وبيدي الكاميرا، ودخلت إلى الحجرة الثانية حيث عادل وهاني، لأجدهما قد استيقظا... وعندما شاهدا الكاميرا في يدي... غرقا في الضحك... فقد كان ذلك أحد مقالب هاني الذي أدعى أنه نسي الكاميرا، وتسلل إلى غرفتي وفتح النافذة ووضع الكاميرا على الطاولة... وبقية ما حدث كان نتيجة خيالي... ضحكت معهما، حتى في أسوأ الظروف كان هاني يفكر في المقالب. نزلنا إلى مطعم الفندق لنتناول العشاء، وبعد ذلك قضينا ليلتنا في الفندق، لننطلق في الصباح إلى ديارنا، وكل واحد منا يحمل قصةً... لها أحداث ألف ليلة وليلة، ولكن لن نجرأ أن نحدث أحداً بها... سوى أناس مقربين يعرفوننا ويثقون بنا وإلا... سوف نتهم بالكذب...



وهكذا... كانت هذه الأحداث بداية للرعب، الرعب الذي يسكن داخل كل واحد منا، ما يحجبه فقط هو أننا نكون في معظم الأوقات في أماكن التجمعات السكنية، ولو صادفنا الخلاء والسكون والعتمة والوحدانية...لخرج هذا الرعب من داخلنا ليرتسم على وجوهنا و و و


المهم... وكما ذكرت سابقاً، فقد حدثت معي قصة المزرعة المهجورة التي يقطنها الرعب... وإلى حين أن أحكي لكم ذلك- هذا إذا لم يكن لديكم مانع طبعاً – أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بقصة جبال أكاكوس، وأن لا أكون قد ثقلت عليكم، وأترككم في رعاية الله وحفظه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
المزرعة المهجورة
لقد وعدتكم أن أروي لكم أحداث قصة عجيبة غريبة، وقعت أحداثها في مزرعة في الجبل الأخضر، وكان ذلك في سنة 1995 ميلادي في نهاية فصل الشتاء تقريباً، وهذه القصة حقيقية ووقعت أحداثها كالآتي:



كان لي صديق اسمه عماد، قد تعرفت عليه عندما كنا في الكشافة، ودرسنا بالجامعة مع بعض، وتوطدت أواصر الصداقة بيننا... وكان له ابن خال يدعى باسم... لم أكن أعرفه، فقط كنت ألتقي به عند عماد... ولم تكن هناك أي بوادر إلى التقارب، كنت أحس أنه متكبر ومتعجرف... ولذلك لم أكن أعيره أي اهتمام... وعندما يتصادف وجودي معه، كنت أختلق حجة للذهاب... لأني - والحق يقال - لم أكن أطيقه... وبالمقابل لم أرد أن يحس صديقي بذلك... ولكن عماد لاحظ ذلك، وحاول أن يحطم ذلك النفور بعدة طرق... ولكني كنت دائماً أتحاشى باسم هذا... وكلما كنت آتي إلى عماد وأجد سيارة باسم، كنت أغير وجهتي.

وفي أحد الأيام دعاني عماد إلى بيته وذلك لأجل التخطيط لرحلة لصيد السمك، وهذه الهواية الوحيدة التي لم أكن أشترك فيها مع عماد، الذي كان يهوى صيد الأسماك والسباحة، فقد كان سباحاً ماهراً، وقد فاز في العديد من السباقات، المهم أني عند حضوري إلى بيت عماد، كانت مفاجآت من نصيبي، فقد كان باسم موجوداً مع عماد، الغريب أني لم أشاهد سيارته خارج البيت لذلك... شعرت أن هناك شيئاً ما... المهم، صافحت عماد وباسم وكتمت شعوري ووضعت ابتسامةً على وجهي... لا أعرف كيف بدأت وجلست! وأحضر عماد الشاي وخيم صمت على ثلاثتنا. حقيقةً... كل الكلام تبخر ولم أجد رغبة في التحدث، حاول عماد أن يقطع ذلك الصمت، ويبدد الجفوة التي اتضح أنها من جانبي أنا فقط... المسكين باسم لم يكن يحمل في قلبه شيئاً تجاهي... واستطاع عماد أن يلفت انتباهي ويجعلني أشترك في الحديث الذي بدأه مع باسم، وذلك بالتحدث عن مزرعة في منطقة الجبل...

في البداية لم انتبه ولم أعر الموضوع أي اهتمام، ولكن بعد ذلك وجدت نفسي أنصت وبكل حواسي، فقد كانت القصة التي يرويها باسم غريبةً وعجيبةً... ونسيت كل تلك الجفوة التي كانت بيني وبينه... وطلبت منه أن يعيد رواية ما حدث من البداية لعدم انتباهي. لم يعارض باسم واتسعت ابتسامة عماد، فقد استطاع أن يستدرجني إلى هذا الفخ، مستغلاً فضولي وحبي الشديد للاكتشاف والأشياء الغريبة، وبدأ باسم في رواية القصة والتي سمعها من والده نقلاً عن أبيه عن جده:

كان الشيخ عبد القادر الباجي - وهو الجد الأكبر لباسم - تاجراً من التجار القدامى الذين يتاجرون على البغال، ويتنقلون بين القرى لترويج بضاعتهم المتمثلة في الأقمشة والمواشي والجلود، وأثناء تنقله في منطقة الجبل، تعرضت قافلته - التي كانت تمثل كل ما يملك - إلى هجوم من قطاع الطرق الذين نهبوا وسلبوا كل شيء، وتركوه مقيداً في جذع شجرة، والشمس تشرف على المغيب، صراخه وتوسلاته ذهبت مع الريح فلم يصغي له أحد من قطاع الطرق، وبقي لساعات مقيداً... واستطاع بطريقةُ ما أن يتحرر من قيوده... وبذلك كتب له عمر جديد، فالمنطقة كانت تعج بالذئاب، وأمضى بقية الليل على قمة شجرة خوفاُ أن يداعبه النعاس فتقضي عليه الذئاب، وفى الصباح وجد نفسه وحيداً في ذلك الجبل... لا مال ولا طعام ولا حتى ماء... ولكونه يعرف تلك الأماكن جيداً، فقد عبر بعض المسالك ليصل إلى أقرب تجمع به بعض البيوت، والذي يسمى بالنجع أو الربع... المهم تم استقباله من صاحب البيت الذي عرفه... فقد سبق أن باعهم أشياء، واجتمع رجال ذلك النجع حوله يستمعون لقصته ويعبرون عن أسفهم لما أصابه... وتمت ضيافته من قبلهم فقد اشتهر سكان ذلك الجبل بالكرم... وبقى عدة أيام في ضيافتهم... وكان يسأل نفسه، لقد أصبح معدماً لا يملك حتى قوت يومه... ليس له أحد، فقد توفي أبواه وعاش حياته يتيماً... استطاع أن يجمع بعض المال عن طريق اشتغاله بحرفة الرعي، وبعد ذلك جرب التجارة التي نجح فيها وكون قافلة، ولكن... كل ذلك ذهب مع الريح... ماذا يفعل يا ترى؟؟؟ لا بد أن يبدأ من جديد، فاليأس لم يكن يعرف طريقًا إلى قلبه، لا بد من الحصول على عمل... ولكن، لا يوجد أي عمل في تلك المنطقة عدا الرعي، وقد عرض على سكان ذلك النجع أن يرعى لهم قطعان الماعز... وتم الاتفاق على ذلك، أن يحصل على طعامه وشرابه وعنزة والدة في كل شهر... وحصل على عشة صغيرة تم بناؤها بعيداً عن النجع بقرب الحظائر... واستمر في الرعي، حيث كان يقوم في الصباح الباكر، وينطلق في ذلك الجبل، وتم تزويده ببندقية من الطراز الموجود فى ذلك الوقت، صناعة تركيا والعثمانيين، وذلك للحماية من هجوم الذئاب، أو إذا تعرض لغزو من اللصوص يتم دعمه عند سماع صوت البارود.

مرت الايام على خير ما يرام، وكل يوم يتوجه إلى جهة من الجبل، وكأن لديه الرغبة فى اكتشاف المنطقة، ممتلئاً بالحيوية والنشاط، له وجه يحمل دائماً ابتسامة حتى في أحلك الظروف، كان مرحاً محبوباً، كذلك كان يملك صوتاً حسناً ويجيد الغناء والعزف على المزمار... وفي يوم من الأيام، وعندما كان يرعى قطيعه انتبه إلى شيء عجيب قد حدث... فقد توقف الماعز واشرأبت أعناقه وآذانه وجفل القطيع... عرف أن هناك شيئاً أفزع القطيع، ولا شيء يفعل ذلك عدا الذئاب... وفي سرعة أمسك البندقية وتقدم فى ذلك الاتجاه الذى شاهد الماعز ينظر إليه... تقدم ويده على الزناد... وتوقف ليرتعد جسمه وتنتابه رعشة قوية... فقد شاهد أغرب منظر بحياته...
 
كادت البندقية أن تقع من يده من كثرة الارتعاد... فما يراه أمامه شيء لا يصدقه عقل، لقد شاهد آيةً من آيات الجمال، شاهد امرأة تجلس وترتدي ثوباً من الحرير الأسود، لم يشاهد أجمل منها طوال حياته حتى في أحلامه... حالة من الذهول انتابته... من أين جاءت هذه المرأة؟؟ لم يستطع الكلام، ولم يتوقف عن الارتعاد... عندما سمع صوتها... وكأنه غناء للعصافير أو لحن جميل... فقد قالت: أهلا عبد القادر... ليرتعد جسمه أكثر، تتجمد الدماء فى عروقه ويجف لعابه... كيف عرفت اسمه؟؟ ومن هي هذه المرأة؟؟ لقد سمع قصصاً عديدة عن العفاريت، ولكن لا يمكن أن تكون هذه المرأة الجميلة عفريتاً، لم يستطع أن يتمالك نفسه ولم يستطع أن يرفع عينيه عنها... عندما نادته مرةً أخرى: عبد القادر، لا تخف اقترب... أنا أسكن قريباً من هنا، تعال اجلس.


فقال وهو مازال يرتعد: ولكن كيف تعرفين اسمي؟؟


قالت: أنا أعرف عنك كل شيء، ألم أقل لك أني أسكن قريباً من هنا، وقد سمعت بقصتك من نساء النجع.


قال: ولكني لم ارك من قبل تحضرين الى النجع.


قالت: بلى كنت أحضر ولكن عندما تكون أنت مع القطيع.


جلس ولا زالت الدماء تحتقن فى أوردته، قال: ولكن أين تقيمين؟؟


قالت: ألم أقل لك قريباً من هنا.


قال: وكيف حضرت إلى هنا؟؟


قالت: دائماً أحضر إلى هنا لأجمع الأعشاب، وفتحت كيساً كان بجانبها، فإذا هو ممتلئ بالأعشاب.


قال: وماذا تفعلين بالأعشاب؟؟


قالت: هي لأمي، فهي تستعملها للعلاج.


بدأت الدماء تعود إلى أوردته وبدأ يستأنس بالحديث معها، ولم يشعر بالشمس وهي تكاد تغيب، عندما قالت له: لقد تأخر الوقت، أريد أن أذهب الآن... لم يعرف ماذا يقول!! لقد كان شيئاً أشبه بالسحر أو الحلم... كان لا يريد فراقها... قال لها: ولكن لم تقولي لي عن اسمك؟؟


قالت ضاحكةً: إسمي... وماذا تريد من اسمي؟؟


قال بارتباك: لا... لا شيء...


لوحت له بيدها وابتعدت وقلبه يقفز وراءها، وما هي إلا لحظات حتى اختفت بين الأشجار، كان شيئاً أشبه بالحلم، من تكون هذه المرأة ومن أين أتت؟؟؟ الحيرة كانت تسيطر على نفسه... لم تفارقه صورة تلك المرأة الجميلة... حتى عندما عاد بالقطيع، كان على غير عادته تائهً يفكر، ولم يداعب عينيه النوم في تلك الليلة إلا قرب الفجر... كان يسترجع ذكريات ذلك اللقاء...



وفي صبيحة اليوم التالي، ذهب مباشرةً إلى المكان الذي وجدها فيه... ولكن لم يجدها... وطوال النهار لم يبتعد عن ذلك المكان، حتى قاربت الشمس على المغيب، لكنها لم تأتي... وتكرر ذلك في اليوم الثالث ثم الرابع، لم يكن لها أي أثر... ماذا يفعل، صورتها لم تغادر خياله، هل يسأل عنها أهل النجع؟ لا... أخلاقه تمنعه من ذلك، اتخذ قراراً بينه وبين نفسه: صمم أنه في اليوم الخامس سوف يذهب للبحث عنها فى الاتجاه الذى أشارت إليه، ما عليه إلا أن يخبر أهل النجع أنه يريد أن يرتاح ليوم واحد، فهو يشعر بالتوعك... ويذهب للبحث عنها لعله يجدها، ولكن ما الذي يدفعه إلى ذلك؟؟ أيكون قد وقع في غرامها؟؟ إنه لم يرها سوى مرة واحدة... مرة واحدة فقط فعلت به كل ذلك!!



في صبيحة اليوم الذي قرر فيه الذهاب للبحث عنها، أخبر أهل القطيع بذلك، كتموا استغرابهم... فلم يكن من عادته، ولم يشتكي من شيء من قبل... احترموا طلبه، فقد كان مثالاً للأمانة والصدق والخلق الحسن طوال بقائه معهم... وانطلق عبدالقادر... انطلق إلى الاتجاه الذي أشارت إليه تلك المرأة... ولم يشاهد أي نجع... انتصف النهار وهو مازال منطلقاً في نفس الاتجاه... عندما شاهد من بعيد مباني... وعندما اقترب، شاهد مزرعةً كبيرةً محاطةً بسياج مبني من الصخور والطين، ويوجد داخل السياج ثلاث بيوت من البنى القديم... اقترب من باب المزرعة ولم يشاهد أحداً... دخل من الباب وأطلق السلام، لكنه لم يصادف أحداً.



كانت المزرعة مكتظةً بالأشجار المثمرة من التفاح، الزيتون، الخوخ، المشماش، التين الهندي وأنواع عديدة... ومن بين الأشجار... شاهد امرأةً عجوزاً كاد يقسم أنها لم تكن فى ذلك المكان... فلم يشاهدها عندما كان يدير عينيه داخل المزرعة... لكنه اتجه إليها وقال: السلام عليك يا حاجة.


نظرت إليه المرأة العجوز وقالت: ماذا تريد؟؟


قال أنه يبحث عن بعض الماعز الذي اختفى إثر هجوم من الذئاب. ابتسمت العجوز ابتسامةً ماكرةً - وكأنها تقرأ ما في نفسه – وقالت: لا، لم نشاهد أي ماعز.


فقال لها: من الذي يقيم في هذه المزرعة؟؟


قالت: لا أحد وضحكت...


إعتبر انها تمزح معه، وعندما رأته يبحث بعينيه قالت له: هل أنت متأكد أنك تبحث عن ماعز؟؟


خجل عبد القادر من نفسه وقال: آسف يا حاجة... سامحينى، واستدار وذهب وضحكات العجوز تلاحقه... ترك المزرعة خلفه واستمر في نفس الاتجاه... لكنه لم يجد شيئاً... وقرر العودة قبل أن يدركه الظلام... وعاد يجر أطراف الخيبة... وعندما مر بالمزرعة من بعيد، شاهد خيالات لأشخاص لم يتبين ملامحهم.


لم يصل إلى النجع إلا بعد العشاء، تسلل إلى خيمته، لكنه وجد رجالاً من النجع في انتظاره، فقد بحثوا عنه عندما لم يجدوه فى خيمته، حيث شكلوا حملة بحث عنه، فقد أخبرهم أنه مريض... ربما يكون قد أغمي عليه في أي مكان قريب... كانت تدفعهم الى ذلك أخلاقهم وأصولهم العريقة، فهم يعتبرونه وحيداً، وانهالت عليه الاسئلة مثل المطر: أين كنت وما بك وكيف هي صحتك...؟؟؟ لم يجب... أخبرهم أنه كان في حاجة إلى الاختلاء بنفسه والقيام برحلة للترفيه عنه... ومر ذلك الحدث بسلام...



في اليوم الثاني عندما ذهب مع القطيع، تكررت حادثة اجفال الماعز وعواء الكلاب الحزين... وخفق قلبه بشدة... خفق وخفق... واقترب من المكان الذي كان الماعز ينظر إليه... وقلبه يكاد ان يطير من الفرحة... عندما شاهدها هناك...
 
مراد مغني

شكرا على القصة
 
آخر تعديل بواسطة المشرف:
كانت جالسةً والابتسامة الجميلة على شفتيها، اقترب وقلبه يخفق، ومن وراءه الكلاب تعوي بذلك الصوت الحزين الخافت... رفعت إليه عينيها... تحركت تلك الرموش التى تحيط بأجمل عينين شاهدهما فى حياته... اضطرب المسكين وخفق قلبه ولم يدر ماذا يقول... فقد هربت منه كل الكلمات... قال بصوت بالكاد خرج من حنجرته: أين... أين.. أين كنت؟؟
ضحكت... فتدارك نفسه وزاد اضطرابه، قال: آسف... قصدي أين... المسكين، لم يدر ماذا يقول، قالت: ما بك يا عبد القادر تعال اجلس.
جلس المسكين... وكل خلجة من خلجات قلبه ترتجف... لم يستطع أن يبعد عينيه عنها... كان وكأنه يرتشف ذلك الجمال... ويتجرع من كؤوسه... لقد وقع فى غرامها، وقع حتى النخاع، عشقها من أول نظرة وأول مرة شاهدها فيها، قالت له ضاحكةً - وكأنها تعلم بما يدور فى عقله -: ما بك يا عبد القادر... لماذا تنظر إلي هكذا؟؟؟
إحمر وجهه المسكين وشعر بموجة من الخجل، لكنها تجاوزت ذلك لتخرجه من الاحراج الذي أوقعته فيه، فقالت: هل تأتي كل يوم إلى هنا يا عبد القادر؟؟
قال لها: نعم... نعم كل يوم.
قالت: هل أردت رؤيتي؟؟
لم يكن السؤال متوقعاً... لكنه انطلق بذلك الجواب: نعم، أردت ذلك بشدة. وخرجت تلك العبارة رغم إرادته ليحمر وجهه، ويحمر مع تلك الابتسامة العريضة التى لاحت على شفتيها...
قالت: نعم، أعرف ذلك.
قال: كيف؟؟؟
قالت: ألم تذهب إلى أمي بحجة أنك تبحث عن الماعز؟؟ قالت ذلك وتبسمت كي لا يشعر بالاحراج.
فقال: هل كانت تلك أمك؟؟
قالت: نعم، إنها أمي.
قال: وهل كان أبوك موجوداً حينها؟؟
قالت: لا، أبي كثير السفر.
قال: وماذا يشتغل أبوك؟؟
قالت: يشتغل بالتجارة ويسافر كثيراً.
قال: ومن يقيم معكم؟؟
قالت: إخوتي... لي ثلاثة إخوة، وهم الذين يشتغلون بالمزرعة.
قال: وهل المزرعة لكم؟؟
قالت: لا، ولكننا نستأجرها من صاحبها.
إستمر النقاش، وانطلقت عقدة لسانه، ليجد نفسه يتحدث فى شتى المواضيع، وقلبه يكاد يطير من السعادة والفرحة... عندما قالت: عبد القادر، الشمس تكاد أن تغيب، أريد أن اذهب.
قال: وهل أراك غذاً؟؟
تبسمت وقالت: لندع ذلك للظروف.
ومثل انسياب الطيف اختفت خلف الأشجار... والكلاب مازات تطلق ذلك العواء الحزين الخافت.. سعادة غامرة كانت تملأ قلب عبد القادر... كانت الألحان تنطلق من فمه... تارةً يغني وتارةً يطلق ألحاناً بصوت الصفير... سعادة لا تفوقها سعادة... المسكين وقع فى حبها... وتكررت اللقاءات... وكل يوم يرجع إلى النجع متأخراً... لم يعد يلتقي بأحد، مما أثار استغراب وتساؤلات رجال النجع: تغير تام طرأ على عبد القادر... الانسان المرح الذي كان يحب المسامرة والأحاديث والنقاش، لم يعد يخرج من خيمته عندما يعود في الليل... وفي الصباح ينطلق مبكراً.

أحد رجال النجع يدعى قاسم - وهو من ساعد عبد القادر وعهد إليه برعاية القطيع - لم تعجبه أحوال عبد القادر، وحدث ان سمعه وهو عائد بالقطيع يغني ويلحن، تعجب قاسم من ذلك، إنه الشعور بالسعادة، أليس غريباً أن يكون عبد القادر سعيداً إلى هذه الدرجة؟؟ أيكون عبد القادر قد أقام علاقة مع أحد نساء النجع؟؟ إنه رجل وسيم... لا يمكن ذلك، فهو لا يأتي إلى النجع، ولو أنه أقام علاقة لكان دائم التردد ولعرف ذلك من زوجته، فالنساء لا يخفى عليهن شيء مثل هذا... كذلك لا يوجد سكان ولا نواجع قريبة، أقرب نجع كان على مسيرة يوم على الاقل... كل تلك التساؤلات دارت في رأس قاسم، هذا ما جعله يقرر أن يراقب عبد القادر عندما يسرح مع القطيع، لعله يكتشف شيئاً... الفضول الشديد هو مادفعه إلى ذلك.

في اليوم الثاني بدأت مهمة قاسم، تسلل خلف عبد القادر وقد أخذ معه ما يكفي من الطعام والشراب، ترك مسافة كبيرة بينه وبين عبد القادر حتى لا تنتبه له الكلاب، وتبعه حتى وصل الى المكان الذي كان يسرح فيه، مضى نصف النهار الأول ولم يشاهد ما يريب... وجاءت ساعة العصر، عند ذلك شاهد عبد القادر ينحدر في أحد السفوح، بالقرب من بعض الأشجار الكثيفة التي حجبت عليه الرؤية... فاقترب واقترب... فضوله يدفعه الى ذلك ولم يعد يستطيع أن يقاومه... وعند اقترابه عصفت برأسه موجة من التعجب: لماذا لم تنتبه له الكلاب التى شاهدها تصدر ذلك العواء الحزين؟؟ كان قاسم يحاول جاهداً أن يختفي خلف الاشجار أثناء تقدمه... وتسلل قاسم وتسلل... واقترب واقترب... حتى شاهد ما لم يكن يتوقعه​
 
كملي يا شهرزاد زمانك
 
لم يكن قاسم يتوقع أن يشاهد ما شاهده، لقد كان عبد القادر جالساً يتحدث ويضحك ويشير بيديه ولكن... لنفسه... لم يكن معه أحد، ملأت الحيرة قلب قاسم، وشعر بالخوف... ماذا حدث لعبد القادر؟؟ هل جن؟؟ لا شك في ذلك، المسكين فقد عقله، وإلا لما تحدث بهذا الشكل، ربما كان الفراغ والوحدة سبباً لذلك... لم يكن قاسم مرتاحاً، شعور غريب كان يشعر به، لم يستطع أن يتقدم أكثر من ذلك، فتراجع بهدوء وانسحب، وعاد راجعاً إلى النجع والتساؤلات والحيرة يعصفان بفكره... ماذا حدث لعقل عبد القادر؟؟ لقد كان يبدو طبيعياً طوال الفترة الماضية، لكن في الآونة الأخيرة بدأت تطرأ عليه أمور غريبة... لقد جن الرجل... هكذا كان رأي قاسم عندما عاد الى النجع، اجتمع مع شركاءه فى القطيع وأخبرهم، فقرر الثلاثة ورابعهم قاسم أن يجالسوا عبد القادر، ويدعونه إلى العشاء، ثم يتسامرون معه تلك الليلة لمعرفة ماذا حدث له بطريقة سلسة، على أن لا يتطرق أحد إلى ما قاله قاسم، وحتى حضورهم يكون بطابع عادي لمجرد المسامرة.

عندما رجع عبد القادر إلى خيمته، حضر إليه أحد الصبية الصغار، وقال له أن قاسم يدعوه للحضور لمشاركتهم العشاء، استغرب عبد القادر تلك الدعوة غير المتوقعة، ولم تكن لديه رغبة في الحديث مع أحد، كان كل ما يريده أن يخلو بنفسه ويتذكر اللحظات التي قضاها مع ليلى... وكان اسم الفتاة... ويعيش ذلك الحلم الجميل، ولكن أخلاقه وأدبه يحتمان عليه تلبية الدعوة، فقام للصبي وذهب معه، وعند حضوره لخيمة قاسم وشركائه، حياهم وصافحهم وجلس، وبعد تناول الطعام، انساب الحديث بينهم بشكل عادي، وانطلق عبد القادر في أحاديثه... تسامر معهم إلى أن استأذن في الانصراف.

كانت قناعة الأخرين أن عبد القادر إنسان عاقل، ليس به أي جنون، وتفرق الكل على ذلك... قاسم فقط لم يكن مقتنعاً... شيء ما في عبد القادر كان غامضاً... وقرر قاسم أن يعيد الكرة فى متابعة عبد القادر... وفي اليوم الثاني انطلق عبد القادر مع القطيع، وعند الظهر انطلق قاسم، كانت انطلاقته إلى وجهة معينة كان قد قرر الذهاب إليها، وهي المكان الذي وجد عبد القادر جالساً فيه يتحدث مع نفسه، وعند وصوله إلى ذلك المكان، قام بالبحث هنا وهناك لعله يجد أي أثر، ولكن المنطقة كانت عادية ولا شيء يثير الريبة. جلس هناك ولم يطل انتظاره، فقد شاهد عبد القادر قادماً مع القطيع... وكانت مفاجأة لعبد القادر، فلم يكن يتوقع أن يجد أحداً غير ليلى في ذلك المكان، مكان اللقاء.

أطلق السلام على قاسم، الذي كان قد أعد العذر لهذا اللقاء، فقد جلب معه كيساً ووضع فيه بعض الأعشاب، كما جرت العادة في منطقة الجبل، وعندما سأله عبد القادر... أخبره قاسم أنه يبحث عن الاعشاب... انطلقت الشكوك إلى رأس عبد القادر، لماذا الاعشاب؟؟ وفي هذا المكان بالذات؟؟ لكنه صمت ولم يتكلم، جلوس قاسم هو ما أثار غضبه، فهذا يعني أن ليلى لن تأتي، ولكنه تحكم في أعصابه ووضع ابتسامةً عريضةً على شفتيه... بدت لقاسم أنها ابتسامة باهتة، فقد أدرك أن وجوده غير مرغوب فيه، ولكنه آثر البقاء بسبب الفضول الشديد، لعله يعرف المزيد عن شخصية عبد القادر... ودارت أحاديث بينهما عن الحياة والمعيشة، وكان قاسم يستدرج عبد القادر في أحاديثه، ولكون عبد القادر شخص طيب لم يعرف الخبث طريقاً إلى قلبه، فقد خطر له أن يسأل قاسم عن المزرعة التي ذهب إليها، كانت مفاجأة أخرى لقاسم الذى تغير لون وجهه، وقال لعبد القادر:
- هل تعرف تلك المزرعة؟؟
فقال عبد القادر: نعم.
قال قاسم: هل سبق أن ذهبت إليها؟؟
قال عبد القادر: نعم، ولكني لم أجد أصحابها، وجدت عجوزاً فقط.
كادت الدماء أن تجف في عروق قاسم وهو يسأل: متى ذهبت إليها؟؟
قال عبدالقادر: من حوالي شهر.
فقال قاسم وقد جف لعابه: ولكني أعرف أن المزرعة مهجورة منذ فترة زمنية طويلة جداً، بعد ان حصلت فيها كارثة وذلك من أيام جدي الذي حدثنا عنها، وقد تركها صاحبها منذ ذلك الحين، وهي مهجورة لا يأتي إليها أحد، وتدور حولها الشائعات عن وجود عفاريت وأشباح بها، والغريب أنها معروضة للبيع منذ زمن بعيد ولم يتقدم أحد لشرائها إلى هذا الوقت.

انحبست الدماء في عروق عبد القادر عند سماعه لكلام قاسم وجف لعابه، أيكون ذلك صحيحاً؟؟ إذاً من تكون تلك العجوز؟؟ لا.. لا.. لا بد أنه يكذب، ربما يريد أن يبعدني عن ليلى وإلا ما الذي أحضره إلى هذا المكان... لم يتكلم عبد القادر عند وصوله إلى هذه القناعة، آثر أن يجاري قاسم وكأنه يقتنع بكلامه. واستأذن قاسم ليعود إلى النجع... وذهب ليترك عاصفةً هوجاء من الأفكار تعصف بعقل عبد القادر:
أين ليلى ياترى؟؟
هل كانت هنا مع قاسم؟؟
هل قاسم يعرفها؟؟
أيكون قد اختلق تلك القصة ليبعده عنها وفي هذا المكان بالتحديد؟؟
ما الذي أحضر قاسم؟؟
بقي عبد القادر في ذلك المكان إلى أن كادت الشمس أن تغيب، لكن ليلى لم تأتي وذلك مازاد من قلقه وارتيابه... عند عودته كان يتلفت كلما سمع الكلاب تعوي بذلك العواء الحزين... في اليوم التالي لم يجد ليلى... ولا اليوم الثالث... كاد أن يجن عندما قارن اختفاء ليلى مع حضور قاسم... في اليوم الرابع كان عبد القادر قد اتخذ قرار الذهاب...
 
لقد قرر عبد القادر أن يذهب للبحث عن ليلى في المزرعة، فلم يعد يطيق صبراً على فراقها، لقد وقع في حبها إلى النخاع، ولكنه هذه المرة لن يخبر أحداً، سوف ينطلق في الصباح الباكر، يترك القطيع فى زريبته خوفاً من أن يتجسس عليه هذا الـ... قاسم، وفي الصباح كانت خطته التي رسمها قيد التنفيذ... فقد انطلق قبل بزوغ الشمس، انطلق إلى حيث المزرعة التى تقيم فيها ليلى... انطلق يدفعه الأمل أن يجدها... حمل معه قربة الماء ورغيفاً من الخبز. عند الظهيرة كانت المزرعة قد لاحت من بعيد وهو يجد في السير، والمزرعة تقترب وتقترب إلى أن بلغ سياجها المبني من الأحجار والطين، ماذا سيقول يا ترى؟ إنه لم يعد خطةً معينةً في حالة وجد أباها أو أحد إخوتها... دارت الأفكار في رأس عبد القادر، ولكنه لم يهتم بذلك، أجل... سيقول أنه يبحث عن بعض الماعز الذي فقده من القطيع، وكان حينها قد وصل إلى بوابة السياج المصنوعة من الأخشاب، والتي كانت مقفلةَ وقد التوت عليها قضبان حديدية رفيعة تمتلئ بالصدأ، يدل شكلها أنها قد بقت على هذه الحالة لسنوات، وذلك من منظر الأعشاب التى تحيط بالسياج، والتي نمت بشكل عشوائي.

ملأت الدهشة عقل عبد القادر، لقد دخل من هذه البوابة في الشهر الماضي، أيعقل أن تكون قد تغيرت إلى هذا الشكل!! تسلق الجدار لعله يجد بوابةً غيرها، ولكنها كانت الوحيدة... عند ذلك تسلل بعض الشك إلى عقل عبد القادر، فقد تذكر كلام قاسم، لكنه طرد كل تلك الشكوك... فقد كانت ليلى وصورتها تغطي على كل شيء... ليلى واقع ملموس، لا يمكن أن يكون وهماً. قرر أن يقفز إلى داخل المزرعة وليحدث ما يحدث، وبسرعة... تحولت الأفكار إلى تنفيذ فوري، فقفز داخل المزرعة، حيث كانت الاعشاب التي تنبت في كل مكان بشكل عشوائي، وكأن المزرعة مهجورة من سنوات عديدة، ولكن عبد القادر لم ينتبه إلى ذلك، الصورة الوحيدة التي كان يراها كانت صورة ليلى.

كانت المزرعة كبيرة حوالي عشرة هكتارات، تمتلئ بأشجار الزيتون والكروم واللوز والصبار الشوكي و... يوجد بها ثلاث بيوت قديمة، كل واحد يقع في ناحية منها، ومبنى قديم وساقية قديمة هوائية، الغريب أن السكون كان يخيم على المزرعة، لا أحد رد على عبد القادر وهو يطلق السلام بالصوت المرتفع، لا أحد خرج من البيت الذي كان مقفلاً بذلك النوع من الأبواب القديمة، كانت الأعشاب قد نمت على الباب وشكله يوحي أنه لم يستعمل منذ سنوات طويلة، أكمل دورته على البيت ولم يشاهد أحداً، ذهب إلى البيت الثاني وتكرر نفس المشهد، كذلك في المبنى الثالث، وحتى المبنى الآخر الذي يوحي شكله أنه مخزن للحبوب، ذهب إليه ولم يجد فيه شيئاً، تسلل الخوف والرعب إلى قلبه، فهذا شيء لا يعقل، لقد شاهد منظراً غير هذا المنظر عند حضوره في المرة السابقة، أيكون قد ضل الطريق إلى المزرعة؟ أتكون المزرعة غير هذه؟

خرج عبد القادر وقد قرر أن يبحث في الجوار، ربما تكون هناك مزرعة أخرى، لكنه لم يجد شيئاً، مشاعر كثيرة تتصارع في قلبه... الشعور بخيبة الأمل والاستغراب والدهشة والخوف... وعاد يحمل في قلبه هذه المشاعر ومعها تساؤلات لا تنتهي، يجب أن يجلس مع قاسم هذا ويعرف الحقيقة... حقيقة كل شيء... غابت الشمس ومازال عبد القادر يجد في السير، فقد كانت المسافة طويلة إلى النجع، وخطوات الخيبة تختلف عن خطوات الأمل، فعندما كان قادماً إلى المزرعة لم يشعر بالتعب الذي يشعر به الآن، ولا بطول الطريق، المهم أن الشمس كانت تكاد أن تغيب... والغريب أن عبد القادر- لأول مرة - شعر بالخوف، هو لا يعرف السبب، إحساس بأن أحداً كان يتبعه، فيلتفت لكن... لا أحد، وأخيراً وصل إلى النجع وتسلل إلى خيمته، لمحه أحد الصبية عند ذهابه إلى الخيمة، لم يكن يعرف ماذا حدث بعد، المسكين لم يعرف أن هناك مصيبةً أخرى في انتظاره.

تسلل عبد القادر إلى خيمته، لكنه لم يكد يدخل إليها حتى سمع جلبةً وأصواتاً غاضبةً تناديه، خرج ليجد رجال النجع قد تجمعوا أمام خيمته، شعر بدهشة كبيرة... فلم يسبق أن حدث ذلك... هناك شيء قد حدث، خرج إليهم مرتبكاً، حياهم فقال له قاسم:
- أين كنت يا عبد القادر؟؟؟
قال بتلعثم: كنت، كنت أقضي حاجة خاصة بي.
فقال قاسم: وأين ذهبت بالقطيع؟؟؟
صدمة كبيرة لم يكن عبد القادر يتوقعها، فقال وقد تضاعف ارتباكه: أي أي قطيع؟؟؟
قال قاسم: القطيع الذي آمناك عليه لتقوم برعيه.
قال عبد القادر: ولكني لم أخرج بالقطيع، لقد خرجت لوحدي وتركته في حظيرته.
علت الهمهمة بين الرجال وارتفعت بعض الأصوات الغاضبة، لكن قاسم قال: اسمع يا عبد القادر، لم نعهد فيك الكذب ولا الخيانة منذ الزمن الذي كنت تشتغل فيه بالتجارة.
قال عبد القادر: لكني أقول الحق، لقد خرجت لوحدي ولم أخرج بالقطيع.
تعالت الأصوات الغاضبة من جديد، ولكن قاسم أسكتها بحركة من يده وقال: لقد شاهدك البعض وأنت تخرج بالقطيع.
كانت مفاجأةً لعبد القادر لم يكن يتوقعها، كيف يكون ذلك وهو لم يخرج بالقطيع؟ كيف يشاهده البعض؟ فقال: ولكني لم أخرج به، من الذي شاهدني؟؟
تقدم رجلان من الرجال وقالا أنهما من شاهده وهما متأكدان من ذلك.
لم يعد عبد القادر يدري ماذا يقول، اختلطت عليه الأمور وزاد عليه التعب والاجهاد، جلس على الارض والأصوات الغاضبة تتعالى:
- إنه لص،
- إنه يتعامل مع اللصوص،
- لقد باع القطيع، لنحمله الى الدرك،
قاسم وحده الذي لم يتكلم، فقد كان ينظر إلى عبد القادر بصمت، في أعماقه كان يشعر أن عبد القادر صادق، ويشعر أن هناك شيئاً آخر يحدث يجهله، الحيرة كانت تملأ عقله، لقد كان يعرف عبد القادر هذا من زمن طويل، وكان مثالاً للأمانة والصدق، فكيف يفعل ذلك؟؟ هناك سر في الموضوع.

كان عليه أن يتصرف بسرعة، فقد كان بعض الرجال يريد التهجم على عبد القادر وضربه وارغامه على الاعتراف، تكلم قاسم الذي كانت كلمته مسموعة في ذلك النجع، لأنه من أصحاب العقول النيرة، وكذلك كانت حالته المادية جيدة، فقد كان يملك أكثر من نصف القطيع، قال قاسم: اسمع يا عبد القادر، نحن لن نتهمك بشيء، نحن نعرف ظروفك وحالتك، إذا كان الشيطان قد غرر بك أخبرنا فقط ما الذي فعلته، وسوف نسترد القطيع ونسامحك.
قال عبد القادر: ولكني لم أفعل شيئاً، لقد خرجت لقضاء أمر شخصي.
فقال قاسم وقد شعر بذلك الشعور الغريب:هل نستطيع أن نعرف هذا الأمر الشخصي؟؟
صمت عبد القادر فترةً وجيزةً والصراع يدور في عقله: هل يخبرهم عن ليلى أم أنه لن يخبر أحداً؟؟ ثم قال: لا... إنه أمر شخصي لن أخبركم به.
وصل الغضب حينها بين الرجال إلى الذروة، فتقدم أحدهم يحمل عصى وكاد أن يهوي بها على عبد القادر، لولا أن قاسم أمسك به ونهره، ثم قال: إسمع يا عبد القادر نريد أن تصدقنا القول، هل خرجت بالقطيع؟؟
فقال: لا، لم أخرج.
فرد قاسم: وماذا تقول في من شاهدك وأنت تخرج بالقطيع؟؟
قال: لم اكن أنا... ربما شخص آخر.
كانت الاشكالية كبيرةً والحقيقة غامضة، وهناك حلقة مفقودة، الرجلان يقسمان أنهما شاهدا عبد القادر، وقد حيوه ورد عليهما التحية، وعبد القادر يقسم أنه لم يخرج بالقطيع ولم يراهما في ذلك الصباح.
هذا ما كان يدور في رأس قاسم، كان يشعر أن عبد القادر صادق برغم المعطيات والدلائل التي كانت تشير إلى عكس ذلك... وما لبث أن تكلم قاسم وقال شيئاً جعل جميع الأصوات تتوقف، لتملأ الدهشة العقول، فلم يكن أحد يتوقع أن يقول قاسم ذلك... أتدرون ماذا قال لعبد القادر؟؟
لقد قال: إسمع يا عبد القادر، نحن نحملك مسئولية ضياع القطيع، وعليك أن تذهب وتبحث عنه، فنحن نعتبره أمانة في عنقك.
لم يستطع الرجال أن يتمالكوا أنفسهم، فقال البعض معترضاً: كيف نسمح له بالذهاب ونسهل له طريق الهرب؟؟
لكن قاسم أسكتهم قائلاً: لقد قلت كلمتي. وأشار لهم بيده للإنصراف.
تحرك الجميع على امتعاض شديد... كيف يتصرف قاسم هكذا... كيف يسمح له بالفرار... لقد جن قاسم... ولكنهم لم يعترضوا، فهم يعلمون أن حوالي ثلثي القطيع لقاسم، وتفرق الرجال وقد تركوا عبد القادر في حيرة لم يشهد مثلها... ماذا عليه أن يفعل؟؟ أين سيبحث عن قطيع اختفى أو سرق؟؟ إذا كان هناك بعض اللصوص تسللوا إلى النجع وسطوا على القطيع أين يجدهم؟؟ ألم يتم الاستيلاء على قافلته في السابق من اللصوص؟؟
أسئلة وتساؤلات ملأت عقله ولم يستطع الاجابة عليها، لكنه قرر أن يذهب للبحث على القطيع، راجياً من الله أن يسهل الامور ولا يفضحه أمام رجال النجع، وبات رأيه على ذلك. أما قاسم فقد تجمع عنده رجال النجع لمعرفة سر ذلك القرار الغريب الذي اتخذه، وكان كلامه مختصراً ومقنعاً، فقد قال لهم: لو أن عبد القادر سرق القطيع كما تزعمون، هل من الغباء أن يعود؟؟ أليس من الأفضل له أن يلوذ بالفرار؟؟ كانت وجهة نظر في محلها، همهم له بعض الرجال بالتأييد... وقال البعض: وكيف تريد منه أن يبحث عن القطيع إذا لم يكن قد استولى عليه؟؟ فرد قائلاً: ذلك لحدس معين وغاية في نفس يعقوب. فقد كان قاسم يشعر أن هناك سراً ما.

في صباح اليوم التالي، وقبل حتى أن تطلع الشمس، انطلق عبد القادر المسكين الذي لم يغمض له جفن... انطلق في رحلة بحث بدون أمل... لا يعرف أي طريق يسلك... انطلق وجزء من عقله يربط أحداثاً معينةً ويحللها... جزء قد يكون من الحواس غير المعروفة... ربما يكون الحاسة السادسة والغريزة، فقد كانت قَدَمَا عبد القادر تسوقانه إلى المكان الذي وجد فيه ليلى، شيء في نفسه يشعره أنه سوف يجدها هناك... أليست لديه مشكلة؟ المسكين، لا أحد قريب من قلبه أكثر من ليلى، لا أحد يشاركه آلامه ومشاكله غيرها. اقترب من المكان وكله أمل أن يجدها ويشتكي لها ما آل إليه حاله... وصدق شعور قلبه... فقد كانت هناك جالسةً تبتسم تلك الابتسامة الجميلة التي تسحر القلوب، تقدم وقلبه يرتجف وينتفض، فقد كان الشوق والفرحة وكل المشاعر قد انطلقت من القلب، استقبلته بتلك الابتسامة والعينين الجميلتين اللتين كان يشعر أنه يذوب فيهما، لهفة اللقاء وفرحته أذهبت عنه كل الكلام، ازدادت ابتسامتها عرضاً وهي تشاهد ذلك الشعور بالاعجاب في عيون عبد القادر وقالت: ماذا حدث لك يا عبد القادر هل أضعت القطيع؟؟ قالت ذلك ضاحكةً، وكانت مفاجأةً أخرى لعبد القادر
 
كيف عرفت ليلى بقصة ضياع القطيع؟؟ ومن أين وصلت لها الاخبار؟؟ رغم أن فرحة اللقاء والعشق يملأ قلبه، إلا أن هذين التساؤلين عصفا بتفكيره، واستغرب من ذلك... لاحظت ليلى علامة التعجب فقرأت أفكاره وسارعت مجيبةً بأنها سمعت ذلك من نسوة النجع. راودت عقله المزيد من الشكوك لكنه لم يعرها اهتماماً... فقد كان كل همه أن ينظر إلى ليلى ويملأ عينيه من ذلك الجمال الذي افتقده لعدة أيام، وقد توقف كل تفكيره ونسي كل شيء عن القطيع وعن النجع، كانت كل حواسه مشغولةً بذلك الحب.

صمت وصمتت ليلى... وكان يتمنى أن تطول تلك اللحظة التي التقت فيها عيناها بعينيه، كانت لحظةً جميلةً أغرقته في عالم لم يكن يعرفه، المسكين ما عرف الحب يوماً، فقد عاش يتيماً مشرداً، وهذا الشعور الجميل اللذيذ كان يفتقده، ولذلك... هاجر ورحل قلباً وقالباً في تلك العيون، ولم يرجعه إلى ذاته سوى ضحكة ليلى التي قالت مكررةً:
- عبد القادر أين ذهبت؟؟
فقال وهو ينتزع نفسه من تلك النشوة التي شعر بها وهو يبحر في عينيها: ليلى أني متورط في مشكلة كبيرة.
فقالت ضاحكةً: أعرف فقد سمعت ذلك من بعض النسوة.
فقال: لا أدري ماذا سأفعل، أنا لم أرى القطيع ولم أخرجه من الحظيرة، لقد كنت يومها أبحث عنك. قال ذلك وقد احمر وجهه من الخجل.
فقالت مبتسمةً: نعم أعلم ذلك. عند ذلك فقط انتبه عبد القادر إلى نقطة هامة وهي المزرعة، فقال:
- أولاً... كيف عرفت أني أبحث عنك؟؟
فقالت: من الطبيعي أن تفعل ذلك بعد أن غبت عنك، لأني أعلم أنك تحبني.
شعر بسعادة عند سماع ذلك لكنه استدرك وقال: ثانياً المزرعة... كيف تقيمين في المزرعة وقد ذهبت إليها ولم أجد أحداً؟؟ كأنها مهجورة منذ عدة سنوات؟؟
إبتسمت وقالت: نعم لقد أصبحت مهجورةً الآن لأننا تركناها.
قال: كيف ذلك؟؟
قالت: صاحبها الذي نستأجرها منه يريد أن يبيعها وقد أخرجنا منها.
قال: ولكنها كانت تبدو مهجورة منذ سنوات عديدة.
قالت: نحن لا نشغلها كلها، فقط الكوخ الصغير الذي يقع بالجانب الغربي فقط.
حينها تذكر أن الكوخ الذي تعنيه، كان في الجانب البعيد من المزرعة ولم يذهب اليه. غريبة هي ليلى دائماً عندها أجوبة لكل تساؤلاته، قال:
- وأين تقيمين الآن؟؟
قالت ضاحكةً: في بيت قديم صغير يقع في ذلك الاتجاه.
قال: وهل تأتين كل هذه المسافة؟؟ ألا تخافين؟؟
تعجبت ليلى من الاسئلة التي يطرحها، فلم يكن يفعل ذلك بالسابق، وشعرت أن هناك بعض الشكوك تحوم في داخله، قالت:
- إنني دائمة البحث عن الأعشاب التي تعتبر مصدراً من مصادر الرزق لدينا، وأنا لا أخاف لأني أحمل هذه. وأخرجت من ثوبها بارودة صغيرة (مسدس).
ذهل عبد القادر، فلم يكن يتوقع أن تحمل فتاة بمثل هذا الجمال بارودة، قال:
- وهل تجيدين استعمالها؟؟
قالت: نعم، فقد دربني أبي على ذلك.
قال: وهل تستعملينها إذا تعرض لك أي شخص؟؟
قالت: نعم... أليس من حقي أن أدافع عن نفسي. قالت ذلك بثقة كبيرة واعتزاز بالنفس.
تعجب عبد القادر من شجاعة ليلى، وزاد إعجابه بها، وهي من جهتها محت كل شكوكه، استطاعت أن تزيلها بذلك الوجه البريء.
قالت: وماذا سوف تفعل الآن يا عبد القادر؟؟
قال: لا أدري... كل شيء يهون إلا أن يفقد أهل النجع ثقتهم في، ويعتقدون أني سرقتهم، فهذا ما يؤلمني.
قالت: ولكنك إنسان شريف تتمتع بخلق عالي، فمن غير المعقول أن يسيئوا بك الظن!!
قال: ولكنهم البعض منهم فعلوا...
قالت - وقد تغيرت لهجتها وبدت على وجهه مظاهر الجدية: اسمع يا عبد القادر... سوف نتفاهم، أريد منك خدمةً واحدة، وسوف أحل لك كل مشاكلك، بدءاً بالقطيع.
قال - وقد تعجب من ذلك التغير الذي طرأ عليها: عيوني لك... ماذا تريدين؟؟
أخرجت كيساً صغيراً رمته إلى عبد القادر الذي التقطه، وقالت له:
- افتح هذا الكيس.
عندما فتح عبد القادر الكيس، اتسعت عيناه... وارتعشت يداه... فقد كان الكيس...
 
شكرا لك بارك الله فيك و جازاك الله كل الخير
ودي....
 
شكرا لك بارك الله فيك و جازاك الله كل الخير
ودي....
 
كان الكيس ممتلئاً بالدنانير الذهبية، نظر عبد القادر إلى الكيس ويداه ترتعشان من ملمس الدنانير الذهبية، التي كانت في ذلك الوقت تشكل ثروةً كبيرةً جداً، ليس من السهل أن يحصل عليها إلا كبار التجار وكبار الدرك والباشاوات، فكيف حصلت ليلى على هذه الدنانير؟؟ وما هي الخدمة التي تريدها؟؟
كاد تفكيره أن يتوقف، فكل ما كان يزيل الغموض عن ليلى، كانت تزداد غموضاً، لم يستطع أن يكتم دهشته أكثر، فقال:
- من أين حصلت على هذه الدنانير؟؟
فقالت ضاحكةً - وقد شاهدت لهفته ونظراته المشككة: اسمع يا عبد القادر، لن أقول لك شيئاً الآن، بل أريدك أن تعدني أن لا تسألني عن شيء حتى أحدثك عنه بنفسي. بعد أن وعدها عبد القادر قالت: وأنا أعدك أن أشبع فضولك في حينها، المهم أريدك أن تسمع ما أقوله لك:
- أولاً أريدك أن تزيل كل هذه الشكوك التي تملأ عقلك حتى تستطيع التفكير بطريقة سليمة.
- ثانياًبالنسبة للقطيع، فقد تم العثور عليه عن طريق رجال الدرك، وقد تمت إعادته كاملاً لم ينقص منه شيء، لكن اللصوص الذين سرقوه هربوا ولم يتم القبض عليهم، ورجال النجع يبحثون عنك الآن للاعتذار منك، وأحدهم - ويسمى قاسم - يتجه إلى هذا المكان، ربما يصل إلى هنا بعد نصف ساعة، لذلك أريدك أن تسمع ما أقول، وكما وعدتني لا أسئلة.
قال عبد القادر: لحظة لحظة... كيف تقولين أن اللصوص قد شوهدوا من طرف الدرك ولكنهم هربوا، وهناك من قال من رجال النجع أنه شاهدني أنا؟
قالت: ألا يوجد من الشبه أربعين، لقد وعدتني أن لا تسأل... لا مزيد من الأسئلة، وإليك الآن ما عليك فعله: أريدك أن تذهب إلى صاحب المزرعة وتشتريها منه، هو يقيم حالياً في البلدة المجاورة، ويسمى الحاج عبد الجواد، عليك أن تذهب إليه وتخبره أنك من طرف برهام، وأنك تريد شراء المزرعة، وعليك أن تتم معه إجراء الشراء عن طريق القاضي في الدائرة القضائية، وتأخذ منهم وثيقة الشراء، على أن لا تخبر قاسم بذلك، على الأقل إلى أن يتم الشراء، بعد ذلك سوف نلتقي بالمزرعة وتستطيع حينها أن تسأل ما شاء لك من الأسئلة. والآن أستأذنك في الذهاب، فقاسم يتسلل مقترباً من هذا المكان.


وقفت ولوحت له بيدها وانسابت بسلاسة لتختفي بين الأشجار وكأنها حلم، ليبقى عبد القادر مشدوهاً، ينظر إلى الاتجاه الذي اختفت فيه، وعقله يسبح في بحر من الحيرة التي تركته فيها، من هي ليلى، من تكون؟؟ كيف تعرف كل شيء؟؟ أسئلة محيرة تدور في خلده، لكنه كان يبرر لنفسه بأنها وعدته أن تخبره بكل شيء عندما يشتري المزرعة، وذلك ما كان يريح نفسه، ولم يخرج من تلك الحيرة إلا على صوت قاسم الذي كان ينادي: عبد القادر... عبد القادر. أسرع عبد القادر وخبأ الكيس في ثيابه، بعدها قال قاسم: لقد كنت أعرف أني سأجدك هنا، واحتضنه قاسم، لقد عثرنا على القطيع، كنت أعلم أنك بريء، ونحن نعتذر منك على ما حدث ونرجوا أن تسامحنا.
سحبه من يده عائداً به إلى النجع، ليجد رجال النجع قد أسرعوا إلى ملاقاته وهم يحتضنونه ويطلبون السماح، وقام قاسم بذبح ثلاثة جديان لإقامة مأدبة لعبد القادر المراد بها الاعتذار، وشعر عبد القادر بسعادة بالغة وفرحة عارمة، فقد رُد إليه اعتباره أمام أهل النجع، بعد أن كان بنظرهم سارقاً.
إنتهت الوليمة، عندها أستأذن عبد القادر في الذهاب إلى النوم، وقبل أن يغادر قال لقاسم أنه يعتذر عن رعاية القطيع لمدة يومين أو ثلاثة، حيث أنه يريد الذهاب إلى البلدة المجاورة لبعض الأعمال. لم يتكلم قاسم ولم يمانع، رغم أنه لازال يراوده شعور غريب تجاه عبد القادر، وتجاه ما يحدث... هناك شيء ما يحدث... لاشك في ذلك. ذهب عبد القادر إلى خيمته، ليعود إلى أفكاره ويراجع كل الأحداث التي جرت معه، كان - هو أيضاً كما قاسم - يشعر أن هذه الأحداث مليئة بالغرابة.

في الصباح انطلق إلى البلدة المجاورة راكباً على حمار أعاره له قاسم، وكانت البلدة بعيدةً بعض الشيء، لذا لم يتوقف خلال الطريق إلى أن كادت الشمس أن تغرب، عندما توقف للاستراحة وهو يفكر بأن يقضي ليلته في ذلك المكان، لكنه شعر أن هناك حركةً غريبةً تأتي من خلفه، التفت ليشاهد ثلاثة رجال كانوا لاشك يتبعونه، شكلهم يوحي أنهم من قطاع الطرق، كانوا يحملون الخناجر، صاح فيه أحدهم: أخرج نقودك يا هذا إذا كنت تريد الإبقاء على حياتك. وتقدم منه، كانت مفاجأةً قاسيةً لعبد القادر، سوف يستولون على كيس الذهب أو يقتلونه إذا قاوم، هو لم يستطع إحضار بارودة ليلى معه خوفاً من الدرك، ولن يستطيع مقاومة الثلاثة معاً، فجأةً... حصل شيء عجيب، فقد صرخ أحد الرجال برعب شديد: يا إلهي، ما هذا؟؟؟ وتبعه صراخ الآخرين وهم ينظرون في نفس الاتجاه. إلتفت عبد القادر إلى حيث ينظرون، لكنه لم يشاهد شيئاً، ثم نظر إلى اتجاه الرجال الذين انطلقوا وهم يطلقون صرخات الرعب، وكأن هناك من يطاردهم، تاركين عبد القادر في حالة أخرى من الذهول والحيرة!! ما الذي حدث للرجال؟؟؟ خيم صمت مخيف على تلك الغابة، وشعر عبد القادر بالخوف الشديد حتى أنه ابتعد من ذلك المكان بقدر ما استطاع، وبقدر ما سمحت له الرؤية، فقد خيم الظلام.

في تلك الليلة لم يغمض له جفن، وتذكر تحذير قاسم من قطاع الطرق والذئاب، وكيف أخبره بأن لا يسلك الطريق الرسمية، وأن يبحث عن مكان آمن يأوي إليه قبل الظلام، خشية أن تفترسه الذئاب، ولذلك فقد كان يخشاها برغم أنها لم تقترب منه... كانت أصواتها في ذلك الجبل تشق سواد الليل وتخترق جدار الصمت... لكنها لم تقترب منه... وهذا أيضاً كان يحيره... وعند أول خيط من خيوط الفجر انطلق مرةً أخرى في اتجاه البلدة، وقبل الظهيرة وصل إليها، وعرج إلى أحد المحلات، تلاحقه النظرات مثل أي غريب يدخل البلدة... سأل صاحب المحل عن بيت الحاج عبد الجواد، فوصف له البيت... ولم يكن عبد القادر يريد أن يضيع وقته، فقد انطلق على الفور إلى البيت الذي وصفه له صاحب المحل، طرق الباب... وخرج له رجل في منتصف العمر، فقال له عبد القادر: أريد الحاج عبد الجواد. فقال الرجل: تفضل أنا الحاج عبد الجواد. ودعاه إلى الدخول فدخل عبد القادر إلى حجرة المضيفة... وقال للحاج عبد الجواد أنه قد حضر من أجل المزرعة وأنه يرغب في شرائها.

ارتعدت نظرات الحاج عبد الجواد وهو ينظر إليه بتمعن، وقال والكلمات تخرج منه ببطء شديد:
- ولكني بعت المزرعة!!
فقال له عبد القادر: لقد حضرت إليك من طرف برهام.
ارتعش ارتعاشاً واضحاً، وشاهد عبد القادر ذلك عندما سمع بإسم برهام.
قال الحاج عبد الجواد: حسن... لا مانع لدي من بيعها، فهذه المزرعة لم تجلب لي سوى النحس.
قال عبد القادر: وبكم تريدها؟؟
قال الحاج عبد الجواد: أريدها بعشرين قطعة من الذهب.
قال عبد القادر: حسن... إنني أشتريها، هيا لنتم إجراء البيع في دائرة القضاء.
وخلال ساعة... كان مستند الشراء قد تم تدوينه في سجلات الدائرة القضائية، وتم توقيع بعض الشهود، وحصل عبد القادر على نسخة منه، عند ذلك تنفس الصعداء، وانطلق عائداً إلى النجع.
 
كانت تدور في رأسي تساؤلات كثيرة، وكنت أكاد أسبق الأحداث، فقد وضعت عدة توقعات ولكني... لم أرد أن أقاطع باسم... كنت أنصت بكل حواسي... واستمر باسم في روايته...
شق عبد القادر طريق العودة إلى النجع، يحمل معه عقد الشراء وكيس الذهب الذي يحوي عشرين قطعةً ذهبيةً باقية... أفكار كثيرة كانت تدور في رأسه... ما الذي يحدث بالتحديد؟؟ من أين حصلت ليلى على القطع الذهبية؟؟ ولماذا تشتري المزرعة؟؟ لكنه لم يشأ أن يصدع رأسه، ولم يشأ أن يضع أي اتهام يمس بليلى التي كان حبها قد طغى على كل كيانه... كان يشق الغابة ممتطياً ذلك الحمار ومشهد قطاع الطرق والرعب الذي حدث لهم كان مازال في مخيلته، وشعور غريب يقول له أن هناك من يتبعه، لكنه ألتفت مراراً وتكراراً فلم يجد أحداً، وقبل أن يذهب إلى النجع... عرج على مكان لقائه بليلى آملاً أن يجدها هناك... لكن المكان خال... لا أحد... نادى بأعلى صوته: ليلى... ليلى... ولكن لا أحد، أصداء صوته تتردد في تلك الغابة فقط.
رجع إلى النجع بخيبة أمل... إستقبله قاسم وبعض الصبية الذين كانت صرخاتهم تتردد: رجع عبد القادر... رجع عبد القادر... وكأنه قد أصبح بطلاً في نظرهم بعد الذي حدث، كان قد أخفى وثيقة البيع وكيس القطع الذهبية في ثيابه، ودار نقاش طويل بينه وبين قاسم حول موضوع استمراره في الرعي، لكن عبد القادر لم يعد بشيء... كل ما قاله أنه قد يترك الرعي في أي وقت، وكأنه كان يحس بشيء معين، وفي تلك الليلة... كان عبد القادر يستعجل النوم ليخرج بالقطيع ويتوجه إلى حيث يجد ليلى، لكنه لم يجدها... وفي اليوم الثاني أيضاً لم يجدها فكاد يجن.
في تلك الليلة، قال لقاسم أنه سوف يذهب لإنهاء بعض الأمور الخاصة به في الغد، وأنه لن يخرج بالقطيع، لم يمانع قاسم الذي كان يشعر أن وراء عبد القادر سراً كبيراً ... وفي صبيحة اليوم الثالث انطلق عبد القادر إلى تلك المزرعة، وقد صمم على حسم الأمر، وفي الطريق راودته خاطرة أن يعرج على مكان اللقاء، وهناك... كانت واقفةً ترتدي ثوباً أخضر من الحرير الهندي ... زاد أضعاف الأضعاف من جمالها... حتى أصبحت كأنها لوحة جميلة اكتملت فيها كل الألوان... حرارة سرت في عروقه وغطت كل كيانه... هو لم يرها في هذا الجمال الذي يزداد كل يوم... فرحة ورجفة وابتسامة وصرخة انطلقت من كل كيانه: ليلى... أين كنت؟؟ ابتسمت ابتسامةً خيل له - من كثرة جمالها - أن العصافير غردت... والورود تفتحت... قالت:
- أهلاً عبد القادر... آسفة جداً على غيابي، لم أكن متواجدةً خلال يومين.
قال: وأين كنت؟؟
قالت: في زيارة لبعض أقاربي في مكناس.
دارت الدنيا بعبد القادر ورد مستغرباً: مكناس البلد المغربي.
قالت: نعم... وما الغريب في الأمر؟
قال: ولكن كيف وصلت إلى هناك؟؟ المسافة ليست قريبة على الإطلاق، فعندما اشتغلت بالتجارة كنت ألتقي ببعض الحجاج القادمين من بلاد المغرب، وكنت أسألهم عن المسافة التي قطعوها، فيخبروني أنهم قد قطعوا مسافة شهرين سيراً، فكيف قطعت أنت هذه المسافة في مدة يومين!!!
قالت: اسمع يا عبد القادر... اجلس ودعني أقص عليك، لكن لا تقاطعني حتى أنتهي من سرد قصتي، إذا قاطعتني فسوف أتوقف عن السرد، ولن أخبرك شيئاً آخر.
جلس وجلست بجنبه، وقبل أن تبدأ حديثها، أخرج كيس النقود والوثيقة ومدهما إليها... ابتسمت وسألته عنهما، فقال:
- إنها بقية القطع الذهبية.
قالت: إنها أتعابك، فهي لك...
تلعثم واندفعت الدماء في عروقه واحمر وجهه، وشعرت هي بذلك فقالت: لا تغضب، أنا أعرف شعورك جيداً، وأعرف أنك قدمت لي هذه الخدمة لأنك تحبني، ولكن اعتبر هذه القطع الذهبية هديةً مني وكذلك الوثيقة... والهدية لا ترد.
لم يعرف المسكين ماذا يقول ولا ماذا ينطق... ما الذي يحدث ؟؟ كيف يكون ذلك؟؟ عشرون قطعةً ذهبيةً إضافةً إلى تلك المزرعة الكبيرة... لقد أصبح ثرياً بين عشية وضحاها... ثم... يا إلهي... لقد زارت مكناس... مكناس البعيدة التي تبعد آلاف الأميال... بدأت الخيوط ترتبط في رأسه... نظر إليها... إبتسمت ابتسامةً شعرت من خلالها أنه أدرك... قال لها: ليلى... هل أنت...؟؟؟
 
هل أنت... كانت الكلمات تتبعثر في حلقه وكأنه لا يريد أن يخرجها، شاهدت هي ذلك واتسعت ابتسامتها... فقد أدركت أنه فهم كل شيء... وأخيراً استطاع أن يخرج الكلمة، فقال جاهداً: ليلى.. هل أنت جنية؟؟
ابتسمت وأومأت برأسها علامة الموافقة، فكاد المسكين أن يغمى عليه، كيف يكون ذلك؟ إنه يراها أمامه إمرأةً بكل مفاتنها وجمالها... إنها واقع... لقد أمسك بيدها أكثر من مرة... لم يكن فيها شيئاً مختلفاً... إنها لحم ودم... ملأت الحيرة عقله، لم يعد يدري ماذا يقول... شعرت هي بذلك فقالت:
- اجلس يا عبد القادر، سوف أشرح لك كل شيء، لقد كنت أراقبك منذ زمن، وقد أعجبت بك كل الإعجاب... وكنت كثيراً ما أتبعك... فأنا من أخفت قطاع الطرق... وأنا من قام بسرقة القطيع وأنا من أعاده.
لم يستطع عبد القادر أن يتمالك نفسه، فقد سرت تلك الرعدة في كل كيانه، ولاحظت هي ذلك فقالت: عبد القادر، هل أنت خائف مني؟؟
فقال لها: نعم.
قالت: ولكني لا أريد أن أؤذيك، أنا أحبك وأريد أن نتزوج.
فقال: كيف يكون ذلك؟؟ وهل من الممكن أن يكون هناك زواج بين الإنس والجن؟؟
قالت: نعم.
قال: ولكني لم أسمع بذلك مطلقاً.
قالت: يوجد كثير من الحالات التي تم فيها الزواج بين الإنس والجن، ونحن شعوب مثلكم، نختلف عنكم ببعض الأشياء... مثل القدرة على التشكل والطيران والاختفاء.
فقال: لكن أنت مخلوقة من النار وأنا مخلوق من الطين فكيف يتم بيننا الزواج؟؟ وهل سننجب أطفالاً؟؟ وهل ستكون لهم قدرة الإنس أم الجن؟؟ ثم... هل أنت مسلمة؟؟؟
قالت: نعم، أنا مسلمة... وسوف نتزوج بالطريقة الإسلامية... ولتعلم أنني كنت في جدال شديد مع أهلي... وأخيراً استطعت الحصول على موافقتهم، سنعيش في المزرعة التي تم شراؤها... ولن يزعجنا أحد... فكل سكان المنطقة يخشون هذه المزرعة.
كان عبد القادر المسكين في حالة صدمة شديدة، لم يستوعب ذلك ولم يدري ماذا يقول، لو أن له أهل وإخوة ربما اختلف الوضع، لكنه لم يتعلق بأحد غير ليلى التي كانت تعني له كل أسرته وكل شيء، ولذلك لم يعارض ولم يتكلم واعتبرت ليلى سكوته موافقةً... فقالت: سوف نحتفل بالعرس الأسبوع القادم وفي المزرعة، إذهب إلى أهل النجع واستأذنهم في الرحيل... واخبرهم أنك سوف تقيم في المزرعة لحصولك عليها من خلال ميراث... قاسم سيشك في كل شيء ولن يصدق ذلك... ولكنه شخص ذكي... سوف يتفهم الموضوع. والآن وداعاً وسوف ألتقيك بالمزرعة بعد ثلاثة أيام.
ذهبت ليلى وتركت حيرة الدنيا في ذهن عبد القادر، الذي رجع إلى النجع تعصف به كل الأفكار المرعبة... كيف يكون ذلك؟؟ هل يتزوج جنية؟؟ وكيف يقضي بقية عمره مع الجن؟؟ وهل أهلها لطفاء مثلها؟؟ إنه يعرف أن الجان عفاريت، ولطالما كان يخشى العفاريت... فكيف يقيم مع عفريتة من الجن؟؟ صحيح أن شكلها جميل وهي امرأة فاتنة... ولكن هي جنية... أخيراً وصل إلى النجع واستقبله قاسم استقبالاً جيداً، حاول عبد القادر أن يضع ابتسامةً على وجهه، لكنها كانت ابتسامةً شاحبةً لا تعني شيئاً، حيث كانت كل أفكاره مضطربةً قلقةً... لاشك أنه على حافة الجنون... وإلا كيف سيعيش في تلك المزرعة المهجورة ومع من؟؟ مع عفريتة من الجان!!
لاحظ قاسم ذلك الاضطراب والشحوب الذي يعتري وجه عبد القادر، وكان حدسه ينبئه بحدوث أمر ما، سأل عبد القادر عن سبب هذا الحزن والشحوب، أخبره أن ذلك من آثار التعب، فالرحلة كانت طويلةً وشاقةً، واستأذنه في الذهاب إلى خيمته للراحة... وذهب تاركاً قاسم في حيرة شديدة... كان الفضول يملأ عقله: من هو عبد القادر بالتحديد؟؟ وما الذي يحدث له؟؟ هو ليس مجنوناً ولا مريضاً، هناك أمور ما تحدث كان يتمنى أن يطلع عليها... لكن يظل عبد القادر في نظره لغزاً يحتاج إلى الكثير من التحليل والمراقبة.
أما عبد القادر، فقد آوى إلى خيمته تعتليه الوساوس وتعصف برأسه الأفكار، لقد وقع في ورطة لا يعرف كيف سيخرج منها، ماذا سيقول عنه الناس وكيف سوف يعيش مع جنية، إنه يحبها ويعشقها ولكنه أصبح يخشاها، وقضى ليلته يتخبط في تلك الأفكار السوداء، لا يدري متى استغرق في النوم... وفي اليوم التالي تأخر في النوم ولم يذهب مع القطيع، كانت مفاجأة لقاسم الذي لاحظ ذلك، وأرسل في طلب عبد القادر الذي حضر على الفور، سأله قاسم عن سبب عدم خروجه بالقطيع وهل صحته جيدة... وبعد تردد أخبره عبد القادر أنه يعتذر عن الاستمرار في الرعي، وانه يستأذن في الرحيل. إستغرب قاسم وقال:
- ولكن لماذا؟؟ هل ضايقناك في شيء...
قال: لا ...
فقال له: إذاً لماذا تريد الرحيل وإلى أين؟؟ نحن نريدك أن تقيم معنا وسوف نزوجك بأحد فتيات النجع.
كان موقف عبد القادر مخجلاً جداً مع نفسه، فمع ذلك الكرم الذي يحفه به سكان النجع - خاصةً قاسم - إلا أنه كرر الاعتذار، وأخبره بأنه ورث مزرعةً قريبةً من أحد أعمامه، وأنه يرغب في الإقامة بها واستصلاحها. تعجب قاسم... كانت مفاجأةً له، كيف حصل ذلك... وقفزت إلى رأسه المزرعة الملعونة كما يسمونها، فقال:
- أهي تلك المزرعة التي تقع على مسيرة نصف يوم من هنا؟؟
فأجاب عبد القادر: نعم...
عند ذلك استيقن قاسم كل الأمور، وشعر برعشة تسرى في كل أوصاله، لقد كانت ظنونه في محلها، عبد القادر هذا يدور حوله الكثير من الغموض... وهو لاشك أنه يتعامل مع الجان، لكنه كتم ذلك في نفسه ولم يظهره، وقال:
- إسمع يا عبد القادر، كنت أتمنى أن تبقى معنا وتكون فرداً منا وأخاً لنا، لأنك إنسان فاضل محترم، لكني لن أقف في وجه رغبتك، ولا أطلب منك شيئاً سوى أن تسامحنا على كل شيء... وإذا احتجت إلى شيء تأكد أننا إخوتك، أنا لا أعرف كيف ولا لماذا هذه المزرعة بالذات، أشعر أن هناك أموراً غريبةً تحدث... ولكن ليوفقك الله ويرعاك وانتبه إلى نفسك.
سقطت دموع صادقة من عيني عبد القادر عند سماعه لكلام قاسم، فقد عاش حياته مشرداً لم يجد أحداً يهتم به غير ليلى، ولذلك فقد وقع أسير حب كان يفتقده، وعند سماع كلام قاسم... شعر أن هناك شخصاً آخر يحبه، فأغرق في البكاء... وسقطت دموع قاسم أيضاً تأثراً بالموقف.
في مساء ذلك اليوم... اجتمع أهل النجع على حفل عشاء أقيم لوداع عبد القادر، وكان موقفاً صعباً مر به، شعر أن قلبه سوف يتقطع، لقد تآلف معهم وألِفوه، وشعر من أعماقه أنه يودع أهلاً له. وفي صباح اليوم الثاني، كان يقود بعض الماعز الذي كان قد تحصل عليه مقابل الرعي... وفى طريقه إلى المزرعة...
 
بوووووووووووركتييييييييي
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top