"مشارك في مسابقة منتدى النقاش الهادف"
من ذكريات الماضي.
... أذكر بنتا من نفس الحي الذي كنت أسكنه ، عندما كنا صغارا في عمر 12 سنة ضربتني يوما بلكمة على وجهي فأوقعتني على الرصيف مما تسبب لي بإصابة مضاعفة و قد كانت أضخم مني في ذلك السن ، و ذلك على إثر ملاسنة حادّة بعد ما طلبت منّي بغلظة و فضاضة أن لا أمشي على الرصيف المحاذي لبيتهم ، و هذا السبب غير منطقي كما هو واضح ، و منذ ذلك الوقت أصبحت أتحاشاها و أرمقها من بعيد بحقد ، لكن بعد سنوات ( في مرحلة 18 سنة ) إنتهيت إلى فهمها جيدا و إنتبهت إلى أنها ليست شرّيرة بطبيعتها و إنما كانت مضطربة و تعاني من حالات نفسية قاهرة ، فلم أعد أحقد عليها أو أكرهها ، و إنما تحوّل شعوري نحوها إلى عطف بعد ما أحسست بمدى معاناتها ، و كأنها تحمل أفكار خاطئة و مشوّهة عن نفسها و عن هويتها كأنثى بالرغم من أن لها جمال خاص ، و أعتقد أن هذا التشوّه النفسي جاء نتيجة الجو الأسري المريض و العنيف الذي نشأت فيه إضافة إلى مساهمة المحيط الإجتماعي الذي لا يرحم.
و بعد فترة أحسست أنها أصبحت تستحي منّي بشكل خفي ، ربما بسبب ندمها على ضربي ، بالرغم من أن تلك الحادثة قديمة.
و بالرغم من أنها جدّ حريصة على إخفاء عواطفها إلاّ أنني لاحظت مدى إحترامها للأطفال الصغار و معاملتها الودودة و اللطيفة لهم ، فهي في الحقيقة بإمكانها أن تتعامل بحنان بالرغم من عدم حصولها على هذا الحنان يوما ، و هذه إشارة واضحة إلى القوّة الروحية و الشخصية لديها.
بعد مدّة بلغني خبر زواجها في حوالي عمر 27 سنة تقريبا ، لكن آخر مرّة رأيتها بالقرب من الحي و هي في شجار عنيف مع زوجها و كأنهما في ملاكمة إحترافية ، هو يضرب و هي تضرب و كأنها رجل مدرّب على القتال ، فكنت أنظر إليها ببالغ الأسى ، هذه المسكينة ، الفتاة الجميلة ، التي تملك قلبا غاية في الرقة و الطيبة ، هي الآن امرأة و لم تجد بعد من يفهمها.
لأسباب خارجية و أخرى ذاتية ، المسكينة لم تتمكن بعد أن تصل إلى فهم قيمتها كإنسانة ، و كأجمل مخلوق يمكنه أن يفيض ودّا و حنانا و بالمقابل يستحق كل الحب و كل الرعاية ....
لست أدري ما يمككني قوله بعد سرد هذه الذكريات الحقيقية ... ربّما علينا أن نعطي لأنفسنا فرصة كي نراقب جيّدا و نحلّل بعقولنا جيدا و بعمق و تركيز كبيرين مع إستحظار الصفة الإنسانية من أجل أن نفهم حقيقة أنفسنا و حقيقة غيرنا الإنسانية ... علينا أن نكون أقوى ليس بفهمنا لأنفسا فقط و إنما بفهمنا لغيرنا أيضا ... علينا أن نتوصل إلى القناعة بأن كل الناس ، ذكورا و إناثا ، كبارا و صغارا ، أقرباء أو بعيدين ، كلّهم يحتاجون كما يستحقون أن نفهمهم و أن نسامحهم و أن نرحمهم و نعطف عليهم ، فهم في النهاية ضعفاء مهما بدوا في الظاهر أقوياء ، و هم كما يمرحون هم أيضا يتألّمون.
نحن كبشر علينا أن نكون منبعا للعاطفة النبيلة و الحنان و ليس آلة للقسوة و التدمير ... و لكن علينا أيضا أن نثق في أننا نحن أيضا نستحقّ الحب و الرعاية ... علينا أن لا ندع شيئا مهما كان أن يغيّب عنّا هذه الحقيقة.