حِينما أجِد نَفسِي أعَاني صُعوباتٍ في التَنفّس فهذا يَعني أن الشّخصَ الذي يَتحدّث مَعي هو كَائن لا تُطيقهُ أرض ولا سَماء، وغالبًا ما تَكون أحاسِيسي صَادقة، ولِهذا أيضًا أحكم بالقَطع دُون مَعرفة الآخر مَعرفةً تُخوّل لي حَقّ الحُكم عليه أخلاقّيّاً، نعم قد يَكون رِهانِي عَلى مَشاعِري خَطأ، لكنّني لا أتَراجع على الإطلاق، لم يَعد يَهمني بَقاء أو رَحيل أحَد، كما لا أجِدني بِحاجَة إلى مَحبّة كَائناتٍ تَرى نَفسها مِحورَ الكَون، هَذه القِردة البَشريّة التي تَتساوَى فِي القِيمة مع جِميع الحَيواناتِ الأخرَى، القِيمة التِي بِدورِها تَنعدم تَمامًا عِند الحَقيقةِ الوَحيدةِ الثّابتَة في الوُجود "الموت"، ومَا سِواهَا إلّا مَحض هُراء فَحسب. كل الأفكَار، الحَقائِق، المَفاهِيم، المَنظومَات الأخلاقِيّة، وَجميع تَسميّات الأشيَاء على اختِلافها ولفّها في أثوَاب بألوَان مُتغيّرة، كُل شَيء نَعرفُه مُجرّد هُراء، كَذب وَوهَم، تَزوِير وَتلفِيق، وهرُوبٌ من الحَقيقة، كل شَيءٍ بدَأ من الإنسَان، ومن صُنعِ الإنسَان، وبِرؤيةٍ بَشرية عَبر رِحلة بِداية الوَعيِ وتَطوّره، كَيف أثِق في الإنسَان؟ وأفكَارهِ وخَيالاتِه؟ وأنا بِدوري تِرسَانة كَامِلة ومُتكامِلة من التّناقضَات؟ كَيف أرمِي بِعقلي في حَقل تَجارِب لا تَخصّني؟ كَيف أرغِمُ عَقلي الخَارجِ عَن السّيطرَة بأنّ هُناك خُطّة ما مَوجودونَ جَميعًا لِتنفيذِها؟ والنّجاحُ أو الفَشل فيها هو مَا سَيُحدّد مَصيرَنا بَعد المَوت !!. أنَا لَم أختَر هَذهِ الحَياة، ولا هَذه المَدينة، لم أختَر وُجودي، لونِي، أفكَاري، مَشاعِري، لم أحَاول الإختّيار في يَومٍ من الأيّام، حَتّى اللغَة التي أكتُب بِها الآن، أنا ضَحيّة من ضَحايَا الوُجود، ولقَد تَعبتُ من ذَلك.
أنا عَابر السبيل الذي تَعب الطريق
تحتَ قدميهِ الهَائمين،
أسمَع صَوتًا يُنادِيني خَلف السماء
صَداه من أعماقِ روحي الهَائمة:
اُخرُج من مشيمةِ الوقت،
إلى الظّلامِ الأبديّ والعَدم
أكتُبْ قَصيدَة
وحين يطفو رماد جُثتك،
بقعةً مالحةً
في بحر دُموع أمك
وتأكلُ الكلابُ،
كل حروف الكلمات النابية
وحين ينهشُ الصمتُ
قلوب الجائعينْ،
والسكارى
وعاهرات القرى النائية الرخيصات
سَتُبعثُ سنبلةً ميتة،
تعجنها بائعة خبزٍ في الفجرْ
ويمضغُكَ النسيانُ
كأي واحد من أصدقائِك الطّيبين
كما يمضغُهم الصبرُ
والعزلة والأملْ ..
أنا عَابر السبيل الذي تَعب الطريق
تحتَ قدميهِ الهَائمين،
في ليالي الغرب الميتة
ودمائي جامدة
في مصب العروق
كأن موتا بلا رائحة
يسري في داخلي
من أخمص الماضي
إلى أعلى النجوم
حيث لا شيء
سوى صوت المواء الكاذب
مبعثرا في صدى الأكوان المظلمة
أنا عابر السبيل الذي تعب الطريق،
تحت قدميه الهاپمين
لم يمت جسدي
مازال يتفتت رويدا ككسرة خبز البارحة
لكن جوفي
مليء بدخان ضحكة قديمة
مدسوسة في خبز الشعير وليمون الجبل
لم يبق في لساني
سوى مرارة الرمان الشتوي
وقبلة مخطوفة فوق إسمنت الضياع
وجه أمي المتلاشي
وضحكة مهدورة
في صلاة الدفء
أنا عابر السبيل الذي تعب الطريق،
من ثقل قدميه الهائمين
هذا الليل البارد،
يُذكّرني بسقوط طروادة
سقوطُ الأحصنة من الركضِ
وسقوط الأغانِي من عروشِ الكرز
وسقوطُ الموت من ذاكرة النسيانْ
وحدي هنا أطفئ السجائر الشقراء في الجلد
أخيطُ الساحات الكبيرة
والطرقات والباصات التائهة ليلاً ..
والحزن المرابضُ في أحداق المتسوّلين
واللمعان الغريب في عيون السّكارى
حين يبولون على الأرصفة البعيدة
يجرّحُ عيونَ الحقيقة في ضمير هذا الكون النائمْ..
من يكونَ هذا المسخ في مرآة شاحنة متوقفة؟
آنَ يَتشظّى وجهه في قسماتِ الليلْ
يموت كأي كلبٍ صدمته سيارة رمادية
ثم يقومُ ويمضِي حاملاً جرائدهُ والنبيذ المكسور
ومن أنياب فمه الكبير يتقاطر دمُ الأرض
التي عضّهَا ..حين قبّلَهَا
أيها الكلبُ المُمجّدُ في موتكَ العابرِ على الرصيفِ
أحببتُك دون أن تلعقَ جُرحِي
أحسُّ لهاثَكَ في صَدْرِي وأنت تنازعُ الملاكَ
قوّاد الإله إلى أرواحنَا الزُّجاجية
أبانَا الذي في القصور والقناطر المهدومةِ
و الحاناتِ والمساجدِ والمسارحِ ومحطات القطارْ
تغمّد روحِي ..تلقّفْهَا كأنّهَا كرة ثلجٍ مفتّتة
لم يتبقّى منّا أنا والكلبُ إلاّ هديرُ الكريات اللمفاويةِ
كأنّه شلالٌ في العروق وعلى قارعة الطريقْ ..
بَعد لَيلةٍ هَلاميّةٍ قَضيتُها هَائمًا يَوم أمس في شَوارعِ مَدينَة وهرَان وهي تُعانِق الصّمت كَراهبٍ يَتربّع عَرش قِمّة جَبل آثوس، تَجرّني فيها قدمايَ بِخطوَاتٍ تَنقل من كُتلةِ اللّحمِ هذهِ التي أرتَديها وأمرّ بها بَين كَائناتٍ ليليّةٍ تَحمِل ما استطَاعتْ هي الأخرى من كُتلٍ لحميّة لم تَجد السّكينة في البُيوت بشكل أو بآخر، تُدركه أو تَجهله، الأمر سيّان في نِهايَة المَطاف، لا أحد هنا على كَوكبنا الهَزيل مَوجودٌ لِغرَض مُعيّن، جَميعنا كَائناتٌ تَبحثُ عَن المُتعة لِتشتيت اللاغاية التي يَخشاها الجَميع بأيّة طَريقة ولو كَانت بِسحقِ جَماجِمِ الآخرين، تَدفعنا أنانيتنا العَمياء وغَطرستنا البَلهاء لإفترَاس الآخرين وكَسرِ أرواحِهم إن هُم كَانُوا حَواجزَ بيننَا وبَين ما يُشبعُ غُرورنا ويُلبٌي احتِياجاتنا البيولوجيّة، ومِثلي كَعناصرِ الشرطة بزيّهم السخيف، والمُتسوّلين والمُتشردين على الرصيف والطريق، وبائعات الهَوى والمّتعة بِصدورهن المُكتنزة ومؤخراتهن العِملاقة، خَرجت أنا أيضًا للبَحث عن المُتعة بما هو مُتاح، فأنا لا أملِك سَوى قَدمين أعذّبُ بِهما هذه الأرض التي سَتبتلعُني عَمّا قَريب، المَشي لِساعاتٍ أصبحَ طَريقتِي للهُروب من نَفسي إلى غَاية الفَجر أينَ أجدِها بانتظاري عِند مَدخل المَسكن، نَتعانَق نِفاقًا ونحن وَاقفين، إذ يَعلم كِلانَا حَجم الكَراهيّة التي يَحملها كلّ منا للآخر، لذلك سَاعدنا النّفاق عَلى تَقبّل الوَضع العَام والتأقلم وتَبادل الأعطَاب ثُمّ التّطبيع مَعها بَدل فَتحِ الصّراع بين جَسدٍ مُتآكل ونَفسٍ مَلعونة، يَكفي ما يَصنعه العَقل من عَبث داخل العَبث الكبير (الحياة)، من شُكوكٍ وانتقادٍ لِكلّ شَيء، من قَلقٍ وُجودّي مُخيف واكتِئابٍ فِكريٍّ مُريع يَهويانِ على الجَسد والنّفس جَلدًا بالسوط ورَميا بالحِجارة. هِي ليلةٌ كنتُ قد بدأتها بنِصف مُشاجرَةٍ مع ديناصورٍ مُشعّر كادت لتصبح مُصارعة لَو لا تَدخل صَاحب المطعم ومن مَعه. كنتُ قد دَخلت مطعم الجيجلي لتناول وَجبة العشَاء، وَجدت الصالة الرئيسية فارغةً تمامًا من الحضور إلا أنا وشاب ضَخم الجَسد عَريض المِنكبين، يَبدو من لحيتِه وهَيئته وَهابيّاً لا غُبار عليه، وزوجته التي لا تَقلّ عنه حَجمًا في جِلبابِها الفَضفاض الوَاسع، كانت تَبدو مِثل خَيمةٍ تّم نَصبهَا بإحكام عند طَاولة الطعام، وزَوجها مِثل بِرميل من النّبيذ أو الشاي المنعنع، وعِند أول نَظرةٍ شرد عَقلي وغَرق في عَوالم أخرى في مُحاولة تَفكيك ومَعرفة أيّ العَدمين أرحم لي، عَدم ما قبل الوِلادة أو عَدم ما بَعد المَوت، أو أن كِلا العَدمين وَاحد، وإن كَان هذا أو ذاك، أين تَذهب مَشاعري وأحَاسيسي وعَذابات البَشريّة وآلامها؟ وفيما كان عَقلي يَلهو بِي ويَشحنُني بالقَلق شَعرتُ بِجسمٍ ضَخمٍ بِجوارِي، ورأيتُ ظِلّا هَائل الحَجم أمامي، كان يُغطّي كلّ القَاعة تَقريبًا، حَدثني بِصوتٍ خَشن كَان كَافيًا لإخرَاجي من حالةِ الشرود إلى دَهشةٍ كصعقة كهربائية أدركتُ من خِلالها أنني شردت وعَينيّ مُصوبتان نَحو الزوجة وهي تَرفع تلك القُماشة التي تُغطّي وَجهها لتَأكل ثم تُغطّيه من جَديد وهكَذا دواليك.. قال لي بِلهجةٍ عَنيفة: لماذا تَنظر إلى زَوجتي هكذا؟ ودون وَعيٍ مني، وبِكلّ حَقارة قُلت له: لِماذا تَجعلها تَتناول طَعامَها بِهذا الشّكل المُهين؟ لِماذا لم تَصعد بها للطابق العُلوي والذي هو مُخصص لِلعائلات لكي تتناول طعامها بأريحية بدل هذا الإزعاج والإحراج والإهانة؟ ثم إن أنت تَغار عليها من نَظراتِ الآخرين فعلا، لماذا أخرجتها من البَيت؟ حَتّى أدركتُ مَدى وَقاحتِي وبَدأت أتَلعثم في الكَلام، فِيما كان وَجهه يستَاء غَضبًا، والدّخان يَخرج من فتحتي أنفه الضخم كَثورٍ سَيحطّم عِظامي في أقَل من رَمشة عَين، من حُسنِ حظي أو سوئِه لا أعرف، نَجح صَاحب المَطعم في تَهدئته واحتوَى مَع مُساعديه الفَوضى والإحرَاج. تَناولت طَعامي بِسرعةٍ وبَدا لي دُون ذَوق وطعم، خرجت والمَرارة تَسبقني، وخَلفها أجرّ جَسدي هَربًا من الجَو الجَنائزي في الداخل، رَكضت إلى الشوارع التي لطالما احتضنتني في كل مَرة رَغبت فيها بِالدفء، ألقَيت بِكلّ شَيءٍ في اللاوعي فلا شَيء مُهم هُنا عَلى الإطلاق، عَبثيّة الحَياة بِحدّ ذاتها تُبيح وجودَ وحُدوثَ كلّ شَيء، وما نَحن هُنا سِوى لِ يَ*** أحدنا على الآخر في عَيشه ومِزاجه وسلامِه، بل حَتى في أحزانِه ووحدتِه وعُزلته، هذه هي الحَقيقة الأساسية للحَياة، وبالرغم من قَسوتها إلّا أنها تَحمل بَعض اللين، إذ يَكفي إدراكُها ابتلاع نِصف هُراءِ الخَياة مع قَليل من البِيرّة المُنعشة أو كَأس من الوِيسكي كمَشروبٍ رُوحيّ يَبعث الإنسان لنفسِ الحَياة لكن في قَالب مُغاير يَختلف عن النّموذج الأول القَائمِ على التّلقين والتوارُث. لست أدرِي لِمَ تَملّكني ذَلك الشّعور بِرغبةٍ خَارجةٍ عن السّيطرَة بالتّواجدِ في إحدَى المَقابر وقَضاء ما تَبقى من الليل وَسط القُبور التي وَجدَت قَدمايَ الطّريق إليها بِمساعدةِ كَهلين يَشربان النّبيذ في رُكنٍ ما ويَتبادلَان الشّتائم مِثل الأطفَال الصّغار، كانتِ السّاعة تُشير إلى مُنتصف الليل بالضّبط، ومَا من حَركةٍ دَاخل أو خَارج المَقبرة سِوى وَقع قَدمين خَفيفتين تَحملانِني إلى مُنتصفها لِكي أستطيع رؤيَة الجَميع. لم يُخطئ جَبل اليأس الروماني إيميل سيوران من زِيارة المَقابر ونصحِ الآخرين بِذلك، وكَما قال بالضبط: [إنّ المُكوثَ لِمدة عِشرين دَقيقة دَاخل مَقبرة يكفي، لا لِلقضاء على الإكتئاب، لكن، تقريبا لِجعله مُتجاوزاً.]
أمامي الآن مِئات من بَقايا كَائناتٍ انتهت أحلامُها وَتساقَطت رَغباتُها، انتهَى عَذابُها المُؤقّت وتَلاشَى من دُون رَجعة، كل هذه القُبور كَانت في أحَد الأيّام كَائنات غَير ضَروريّة على الإطلاق، تُريد وتَفعل، تَحلم وتَكدَح تَحت الوَهم حتى ثَبتتها الطّبيعة أو الإله على خَازوق المَوت ولم يَتطلب ذَلك الكثير من الوَقت أو الجُهد، لكن؛ وبالرغمِ من كل هذا الحُمق، هل من المَعقول أن يُولَد الإنسان لِيُعاني ويَعمل ويَبني ويُنجب الأطفَال ثمّ يَموت؟ أهذهِ هي الحَياة؟ ماذا استَفاد هَؤلاء من فَتراتِ وُجودِهم؟ أيَن ذَهبت مُخطّطاتُهم وأهدَافُهم؟ هنَاك شَيء ما في غَير مَحلّه دُون أيّ شَك، رُبّما لِهذا أشعر بالطمأنينَة الآن، رغمَ أن فِكرة تَدفّق الإنسَان من العَدم إلى الوُجود لِيَعيش سَبعون أو ثمانون عَامًا مَجهولًا بِسببِ نَشوة مُدتها خَمس ثَوانٍ فِكرة مُرعبة، بَل أرعبُ من الرعب بِحد ذَاته، لكن هَذه الحَديقة المَليئة بالعِظام تَبعث على الإطمئنَان وعلى تَقبّل الوُجود ولو كانَ فَارِغًا من أيّ مَعنى، زِيارة المَقابر طَريقة لِتحمّل هذا النوع من الفَراغ باكتساب وَعي بِالعدم، وَوسيلة مَجانيّة لإدراكِ مَدى تَفاهةِ تَجاربنَا ومَشاعرنا السلبيّة التي نَتصورّها في عُقولنا المَريضة على أنّها لا تُحتمَل.
غَادرت المَقبرةَ قَبل الفَجر بِقليل مُنتشيًا بانتصَار زَائِف بَعدما دَفنتُ بعضًا من الأوهَام العَالقة في دِماغي اللعين، ونّظفتُ ذِهني من جَميع الهُراء الذي اكتَسبتُه من إلتهَام الكُتب وتِكرار التّجارب المُتشابهة والتّافِهة، وعلى مَسافةٍ ليست بَعيدة من المَقبرة وَجدت حَديقة عَامّة ألقيتُ بِجسدي المُتعب على أحدِ كَراسيها الإسمنتية البَاردة، وَضعت سَماعات الأذن وخَشعتُ مَع آياتٍ من سورة البَقرة بِصوت محمد على العَجمي، إلى أن خَطفني النوم ولم أستَفق حَتى شَعرتُ بأولى أشعة الشّمس تُداعِب عَينيّ الزّجاجّيتين وتُلاطف بِدفئِها المَليء بِالحنان جَسدي الكَسول الذي تَعذّبت بإيصاله إلى البَيت، وعلى سَطحه تَسمّرت على كُرسيّ خَشبيّ مُهترئ، مَع عَزف العُود المَغربي الأصِيل وسَجائِر الحَشيش، وكوب قَهوةٍ خَاليةٍ من السكر، أفكِر في تَركِ وَصيّة لأخي، فهو الوَحيد من سَيحقق أمنيتي بِدفني عَموديّاً مُخالِفًا ثَقافةَ المُجتمع القُبوريّة السائدة..!!
وَحدها المُوسيقى من تَجعلني أتصالح مع الحَياة، وهي أيضًا ما يَجعلني أغفر للأب والأم العزيزين حَماقة قَذفي هُنا في هذا الحَفل البَائس كَضيفٍ غَير مرغوبٍ به، كَائن مَعطوب ومَليء بالثقوب في عَالمٍ تمّ طَردهُ منه بِالبطاقةِ الحَمراء، مِثل غَيمةٍ غَاضبةٍ وَوحيدةً تتوسّط السماء في يَومٍ صَيفيّ حَار وطَويل لا تَنفع ولا تضر، أو كرَجل الثلج المَصنوعِ في آخر ليالي الشتاء، تُذيبهُ شَمس بِدايةِ الصّيف الكَئيب خِلال دَقائقَ قَليلة..!!
مُنذ مدةٍ طَويلةٍ لم أكتُب إليك يا جَدتي، رُبّما لأن الأمر لا يَهم في نِهاية المَطاف كونِي على يَقين بِعدم وُصول رَسائِلي إليك، ولِلمرّة الأولى وربما الأخيرة أكتبُ إليك أيّها السيّد العَظيم الذي أسقَطني هنا في كَوكبِ القِردة والتمَاسيح نَتيجة نَشوةٍ حَمقاء لعنَت وُجودي كل هَذه السنَوات. بَعد أيامٍ قَليلة سأكمل عَامي الثالث والثلاثون داخل مِصيدة الفِئران التي أوقعتَني بها، أي أنني سأنهي عامِي السابع والعشرون في غِيابك الكَامل دون نقصان، هَذه السنوات الطويلة من الوحدة والصقِيع ومَضغِ الألم وابتلاعِه هي لا شَيء بالنسبة لي، لا شَيء غَير مَألوف في سِجلّ تَاريخنا البَشري السّخيف، لَم يَسقط عَليّ نَيزك من السّماء أو يَنمو في أحشَائِي تِنّين، كل شَيء حَدث وسَيحدث هو دَومًا طَبيعي وحَدثَ ويَحدث مَع آخرين، لِهذا لا طَائِل من الشعور بِالحزنِ كَالأرامِل أو النّحيب كالمُطلقات والأطفَال، ولا جَدوى من الشّكوَى والأنين والبَحث عن شَخصٍ أتَبادل معهُ الأعطَاب، فالجَميع يُعاني بِشكلٍ أو بآخرَ هنا في حَظيرة الدّواجنِ العِملاقة التي لَم يَسلم منها سِوى أمثَالك أنتَ وجَدتي وكذلك الكثير ممن هم تَحت التُراب في جَنّات العَدم..!!
في الحَقيقةِ لا أعرِف ماذا أقولُ لكمَا، أقصِد أنني لم أفكّر فيما قد أقوله ومَع ذَلك أشعُر بِرغبَةٍ لطِيفةٍ تُجبرني على الحَديث، على الكِتابة واستِفراغي من نَفسي، وعَلى ما أصبَحتُ عليهِ وما أدرَكته، وعلى ما سَحبني عَقلي إليه وقَذفَ به في جَوف الشّك واللايَقين، مُكتفيًا بالمُراقبةِ والتأمل والغرَق في مَقاطِعَ موسيقيّة تعزفُ المَوت. لم أعُد ذلك الكَائن الذي يَبحث عنِ الحُلول وتَفكيكِ عبثِ الحَياة وعَشوائتها اللامُتناهية التي دَومًا تُتنجُ الصّدف والمَواجع في كل دَورة، لو كَان الخلاص بِالموت لَمات الجَميع دُفعةً واحدة، لكننا في مَتاهةٍ عظيمَةٍ يا وَالدي، الشُحوب والهَالات السوداء في وَجهي هي السأم من هذا العَالم الذي أعِيش فيه، ومن صُمودي طِيلة سَنواتٍ في وَجه المَجهول فقط من أجل أمي التي لا شَيءَ يَقسم قَلبي سِوى أملُها في تَحصيل بَعض السعادة من خِلالي أنا بِصفة خَاصة وبَقيّة إخوتي بِصفة عَامة، وفِعلًا نَجحَ ثَلاثتهُم في زَرع الإبتسامةِ على وَجهِها المَلائكي الذي تَفننت الحَياة في نَقش نُدوبِها عَليه بِقسوةٍ مُبكرة..
قَبل حَوالي شَهر قُمت بِزيارتِها بَعد غِيابٍ طَويل، استمتَعت بِدفِء القُرب منها لِمدّة يَومين، أمي هي أمي دَومًا يا جَدّتي، أرَاكِ من خِلالها فلا أشعُر بِغيابك، تَمامًا كمَا يَرَاكَ البعضُ يا وَالدي من خِلالي، للتشابه الكبير في المَلامح والبنية والطول رُغم عَدمِ اقتِناعي بِذلك. لا أعرف إن كانَ من السّوء أو من الجَيد أن أخبرك بأنني لا أشعر على الإطلاق بِشيءٍ منك، لستُ امتدَادًا لك فقط لأنني من إنتاجك، ومن نطفتكَ التي سَاهمت في تَكويني، فأغلبُ الرّجال يَعتقدون بأن حَيواناتهم المنوية مميّزة وتَأتي بِكائناتٍ سَتغيّر من إيقَاع العالم وبدِعمها سَنعيش في الفَضاء، لكنهم يَكتشفون مُتأخرين بأنها مادة لا تأتي سِوى بالعَبيد من أجلِ بَقاء النّوع وتَغذيةِ المَوت، ولأنّهم مُجرمون أخلاقِيّاً وأنانيّون حَد الفظاعَة لا تُحرجهم إطلاقًا هذه الحقيقة، بل يُفكرون في استِغلال أطفَالهم عند التّقدم في العمر والإصابة بالعَجز..!!
بالنسبةِ لي هذا أكثر شَيءٍ تَجنّبته منك، ولو بالطَريقة المُخيفة التي غَادرت بها هذه الحَياة إلى الأبد، أتَصوّر في مُخيّلتي بَعض المَشاهد من حِين لآخر لِتلك اللحظَات الأخيرَة من مَوتك وأتسَاءل: فيما كنتَ تُفكّر ويَديك مُقيّدتين وأنتَ تَقف على رُكبتيك، تَحت رَحمة سّكين يَقطعُ رأسك في ثَواني قَليلة..!! أتوقّع أنك فَكرت بي، بأمي وإخوتي، وأصدقائك وأهلك، ثُم ذَلك الأمل البَائس بالنجاة وغَريزة البَقاء اللعينة تَدفعك للمقاومة في مَنظرٍ مُثيرٍ لِلشفقة..!! أتصوّر شَريط حَياتكَ وهو يَمرّ عليكَ ثم فَجأةً يَختفي كل شَيءٍ إلى الأبَد..!! وهكذا أفهَم الحَياة الآن يا والدي، إنها حَلبة وَاسعة لِقطعِ الرؤُوس وسَحق الجَماجم، ونحن جَميعًا خَاسرون إذ لا يَنتصر هنا أحد، كلنا نَمرح ونَتقاتل ونقتل ونُقتَل ونُمارس هِوايَة التّمويهِ والتّجذِيف تَحت المقصَلة.. ومن أجل ماذا..!!
لقَد عِشتُ المَوت في غِيابِك لمراتٍ عَديدة، كنتُ أموتُ في كل مَوقف احتجتك فيه، وكَان أكثرَ شَيءٍ يَقهرني بِثقله هو عَدم وُجودِ قَبرٍ لك كما الآخرين، تُؤلمني فِكرة رَمي جَسدك في محجرةٍ للحَصى، ودَفنكِ هناك وسط الحجارة التي يَحصلون عليها من تَفجير الجِبال بالديناميت، أخبرني.. أليسَت إهانةً أن لا تُدفن بطقوس الثقافة القبورية السائِدة في المُجتمع؟ ألا تَستحق قَبرًا كالآخرين يُكتَبُ عليه اسمك؟ كنتُ لأزورَك لو كان لك قبر كما أفعلُ مع جَدّتي لكن لا أثَر لك هنا في عَالمنا، لقد اغتَالك النسيان يا وَالدي كما اغتَال الكَثيرين من قَبلك ومن بَعدك، لكنّها الحَياة..!! هي هكذا على الدوام، تَبتلعُ الجَميع في جَوفها، ولا تَحمل سِوى حَقيقةً وَاحدة هي المَوت، وما نحن فيها سِوى جُزء من الطَبيعة، نَسير في دَربٍ مُظلم بالنسبَة لِمصير الكَون، ربما لهذا أفعل ما يُبقيني أعيش في سَلام حتى أصِل المَوت ويَكون لنا لِقاء ولو في قَوالبَ أخرى.. أنا لا أعرف!!
نانا أم هَاني؛ عَظيمتي التي لا يُفارقني طَيفها الخَفيف مثل رَقائق الثلج، صَاحبة القَلب الحَنون الأبدي بِطيبته، كما أخبرتك يا جَدتي، كنتُ قد زرتُ أمي مُؤخرًا وجَرى بيننا حَديث مُطول استحضرنا فيه الكثير من الذكريَات اللطيفة من المَاضي الجَميل، وفي سِياق الكلام عن ضَرورة أن يكون الإنسان طيّب القلب أخبرتني عن فردٍ من العَائلة يَمر بِضائقةٍ هذهِ الأيام، كنتُ أنظر في عَينيها وهي تتحدّث، آهٍ لو تَعرفان يا جَدتي و يا والدي حَجم البُؤس الذي عَاشته في غِيابكما، حُزن أشاهده وهو يَتسلّل إلى داخلي كامِلًا دون نُقصان، يُمزّقني في العمق، ويَنعكسُ في عَينيّ بِشكلٍ تَفهمه بِوضوحٍ هي الأخرى، وقبل أن تُكمل حَديثها بشأن محنة القَريب وافقتها على ضَرورة تَقديم المُساعدة بِما هو مُتاح، مما جَعل إخوتي يَتمعضون على ذلك. قالت لي أمي: "لم يَبقَ في هذا البّيت طَيبون سوى أنا وأنت" قالتها والدمع يَسبقُها، وراحت تَذكر لنا مَحاسنك اللامُتناهية التي وَرثتها عَنك كهروب ديبلوماسي ذكيّ منها. إننا نفهمُ ألم بعضنا البَعض بمجرّد أن تلتقي أعيننا يا جدتي، لِهذا فَضلتُ حَياة التجوال والتَسكع، لِكي أبقَى بَعيدًا مُخفيًا عَذاباتِي التي لا يُمكن شَرحها لها أو لأيّ كَائنٍ آخر، إذ ليسَ من المَعقول أن أخبرها بأن الحل النهائي للألم والعَذاب هو المَوت وليسَ الزواج وإقحامِ كائناتٍ تَنام في سلامٍ سرمدي إلى هذا السيرك الكَبير..!!
وَالدي العَزيز.. لقد حَلّ ديسمبر، أي أنني مُقبلٌ على عُزلةٍ طَويلةٍ قد تَكون الأخيرة هذه المَرة، إذ مَبدئيا ونِهائياً انتهت حَاجتي إلى جَمال الحَياة، عِشت فَارغًا في غِيابك وسَئمتُ مَلءَ ثُقوبي بِالوَهم، الحَياة غَير مُمكنةٍ لإنسانٍ شَحنتهُ الطبيعة بِوعيٍ زَائدٍ وحَساسيّة مُفرطة، الأمر في غَايةِ القَسوة، لا يُحتمَل، ولا يُطاق، العَيش بإعاقاتٍ عَاطفيّة وسوءٍ في الرعايَة الذّاتيّة لا يأتي سِوى بالأمراض والعُقد النّفسية، أنا مِثل سَهم أدركَ مُطلقِه بأنّه أخطَأ رَميَ الهَدف، سَهمٌ يَستحيل إعادة تَوجيهه مَرّة أخرَى على هَدفٍ ما أو إعَادته إلى الخَلف، أنا مُجرّد رميةٍ عَشوائيّة لن تُصيبَ أيّ شَيء، ما الذي أفعَله في هذا العَالم المُخيّب للأمَل؟ هذا السُؤال يُؤرقني يا والدي فأنا لا أنتَمي إلى هنا، رُبّما كان أولى أن لا اُولَد فأنا مُمل ومُنطوِي على ذَاتي، كلّ حَياتي غَلطة وكلّ ما أتقنُه لا يَتجاوز الحَديث عن الجُثث، فأنا مَهووس بِالموت، أفكّر طوال الوَقت في المَشانق والسّم والرصَاص اللمّاع، كل يَومٍ أفكّر مُطولاً في قَتل نَفسي وتَخليص العَالم من كَائنٍ مَريضٍ ومُثقلٍ بالمَلل والضّجر. أنا لا شَيء يا وَالدي، لا أحد وَسط كل هذا الزّخام، لا أصلحُ لِشيءٍ غَير التّأمل في سَقف الغُرفة وسَحق الحَشرات المُزعجة بلامُبالاةٍ مُفرطة. أنا ضَحيّة من ضَحايا كَوننا المُخيف ولقد تَعبتُ من ذَلك..!!
في هذا الشهر أبعَث كل عَام يا وَالدي، وكانَ من نَصيبي فيه كل مَرةٍ أن أمشي على الجَمرات وأقطِف ثَمراتِ الألم والصّقيع في نِهاياتِ الدروب. الحَياة لم تَكن قَابلةً للعَيش من دُون الألم، هذا ما أدركتُه وأنا فَأر صَغير يَخشى الأقفاص والأماكن الوَاسعة، يُذكرني هذا الشهر بِجميع الخَيبات في سِلسلةٍ مَليئةٍ بالتفاهة والأخطَاء، أكبرُها مِيلادي، لحظة قَذفي هنا عنوةً، لأوَاجهَ الحَياة في حَربٍ غير عَادلة مُطلقًا، نَتيجةُ مَعاركها الخَسارة لا مَحالة، لكن لا بأس أن يَعيش الرجل مُحطّمًا يا وَالدي في عَالمِ القُيودِ والأغلال بلا رُوح، مَا دامتِ الحَياة تَكسر الجَميع، الصالحون والأشرَار والطّيبون والطغاة والشجعان والجُبناء، و مادَامت لا تُخيّر أحدًا على الآخر، تَسحقُ العظام فَحسب ولا تَهتمّ لأمرِ كَائناتٍ مِجهريّةٍ مثلنا..!!
سأشقّ هذا الجَسد يا وَالدي وأخرجَ إلى العَالم عَاريًا وحَقيقيّاً كَروحٍ شِريرة شَاردة، لقد تَعبت من العَيش على رَصيف الوُجود، إذ ليسَ من الضروري أن يَعيش الإنسان من أجل هَدف في سِجنٍ عِملاق، يُمكنني الحَياة بلا هَدف، دون أمل، وبلا إيمان، ودون عَلاقات، وبلا رَوابطَ تَمزجني في الوَاقع، فكل رَغبةٍ مهما كانت بَسيطة في ظاهرها إلا أنها سَبب كافٍ يُساهم في تَداخل حَياتي مع حَيوات الآخرين، لِتتشابكَ المَصائر وتَظهر القيود، وهذا أكثر من كافٍ لِخلق المَزيد من المَتاعب وجعلِ الأمور أكثرَ تَعقيدًا على نَفسي وعليهم، فأولئِك الذين ألِفوا الشمس ويَركضون في النور لن يَكفيهم ضوءُ شَمعة، أمّا الغُربانُ أمثَالي فَيسيرون وَحيدين في العَتمة. لقد تَعلمتُ من حَرائق رُوحي يا نانا أم هاني أن أبلغَ المَوت كل يَومٍ مُتسلّقًا أحزَاني لكن دُون أن أصِلكما ودون النجَاة من الحَياة، وآن الوقت للحَفر في الجَليد والحَجر، وصُنعِ الثقوبِ للتنفس من حَماقاتِ تَاريخ جِنسنا المَريض..!!
وَالدي... نانا أم هاني؛ سأترككُما الآن تَنعمانِ في هُدوئكما المُطلق، إذ لا جَدوى حتى من الكِتابة وتَبذير الحرُوف ما دامَ لا أحَد غَيري يَشهد على ما أعيشُه دَاخل عَقلي، فالكآبة الفكريّة شَيء يَستحيل شَرحه في أيّ حَالٍ من الأحوَال، تَمامًا كما لا يَنفع معها كل شَيءٍ آخر كونها نَتيجة إدراك لاجَدوى الوُجود، ورغم هذا قلت الكَثير من الهُراء والسّخافات التي تَسحقُ دِماغي تَحت ثِقل ضَرباتِ ليَالي دِيسمبر التي يَخشى فيها الليل البَقاء وَحيدًا، ولو لا المُوسيقَى أيّها النبيلان لمَا وُجدَ ما يَمنح هذا الوَحش القَابع دَاخل جُمجمة رأسِي القَريب من الإنهيَار والجُنون فَواصل من بَقايَا سَلامٍ قَديمٍ ألملمُ على بِساطها شتات رُوحٍ مَزّقتها الأقدَار وقَلبٍ يَحمل عُكازَهُ ويِبكي غِيابكما مع أمَل رَخيص جَفّف بُحيراتٍ كاملةٍ من الأمَاني والأمنيات على نَحوٍ صَنع مني كَائنًا لا أعرفه لن يَنعم بالراحة سِوى تَحت التراب..!!
تعتبر الرغبة عند الإنسان حيلة الطبيعة لاستغلال الكائن البشري بجعله مهرجها المفضل على غرار باقي الكائنات الأخرى، إذ يعتبر الإنسان الكائن الوحيد المعقد بسبب طبيعته المركبة فهو الكائن الميتافيزيقي، اللغوي والراغب بإمتياز. إن البشر لغز وقفزة نوعية في سلم التطور، وبهذا يشعر الكائن البشري بمركزيته في سَرابٍ يُصور وجوده على أنه مهم للغايَة، مُنصبًا نفسه سيدًا على مَمالك الحيوان كلها، فيما أنه في الحَقيقة لا فرق بَينه وبين أي حَيوانٍ آخر، مجرّد حطبٍ يَحترق مثلها لاستمرارِ حَلقةٍ لعينة تَقوم على حتميّة إنتاج المزيد من المادة، إذ يُمارس اثنان من "كائنات غير ضرورية" الجنس في حَالة سكرٍ دِماغي، وبعد بِضعة أشهر يَخرج كائن جَديد يُشبه المَلائكة، يتحوّل بعد عامين إلى شيطان صغير، يَتم بِوحشيّة غرس أفكارٍ مُشوّهةٍ دَاخل جُمجمتهِ، يُدمج ضِمن القَطيع بأفكارٍ جَاهزة يَعيش في إطارها ويعبدُها ويَقتل من أجلها إذا تَطلب الأمر، يَذهب إلى المدرسة، يتم ملؤه بالمزيد من الهراء، تَهريج وتَزوير وخرافات، حتى يَجد نفسه عَالقًا في حِيلة الجَزرة والحمار، كائن مضطرب ومجنون، عبدٌ لرغباته البيولوجية والغريزية، كتلة من اللحم والعظام والمشاعر الفوضوية، مُبرمجة على الصراع مع الآخرين حول كل شَيء ومن أجل لا شيء، يطارد رغباته ببلاهة تحت غطاء منح المعنى للأشياء فيما تجلد الحَياة ظهره بالسوط، مَخلوق مثير للشفقة يجد المعنى والطمأنينة والسلام في احتكاكه مع الآخرين والإلتفاف حول فكرة أو معتقد، ويستنجد بعبارة "إذا عمّت خفّت" يغطي بها الأخطاء والخطايا، يراوغ معاناته بأمَل رَخيص في تَحسن أموره، بضربة حَظ عَشوائية أو بصدفة تتمثل في وقوعِ حَدثٍ سيريالي يُغيّر قدَره ويرفعه إلى السحاب، فهو يُؤمن بأنه يَستحق الأفضل وبأن وراء هذا الألم سعَادة عَظيمة نتيجةً لِلصبر والطاعة والخضوع، لأنه لا يفهم الحَياة ولا يَستوعب أن الألم هو العُرف الشائع في الأرض، وبأننا مَوجودون لكي نحاولَ العيش أقل ألمًا وليس في سَعادة، فالسعادة لا وُجود لها إلا في عُقولنا المَريضة، أليس مَا يُسعدنا هو ما يُحزننا أيضًا؟ ألا نحزن بموت من نشعر بالسعادة في وجودهم؟ ألا يُورّطنا المَال في المَتاعب كَيفما يُمتّع أوهَامنا المُشتركة؟. سيبقى الكائن البشري دومًا أغبى من أن يُدرك حقيقته، إذ ليس من الممكن أن يفهم العوام الحِيلة التي تَستخدمها معهم الطبيعة لاستنساخ نفسها من خلالهم، بحيث كل فردٍ يتوهم بأنه مهم للغاية مع أنه في الحقيقة لاشيء ضمن لاشيئية أكبر، فتجده غارقًا إما في ماضٍ سببي قوي أو في مستقبل مهم للغاية، وبذلك يَتنازل ويَستغني ببلاهة عن حاضره الذي هو أثمن ما يملكه، بل كل ما لديه، فنحن للأسف لا نملك إلا الآن، والماضي والمستقبل أوهام موجودة الآن أيضا، وحتى مع إدراكنا الكامل باستحالةِ تغيير الماضي، وصعوبة جعل المُستقبل كما نريده أن يكون إلا أننا لم نستوعب فكرة كوننا أغبى المخلوقات في الكون، وأن الفكرة التي تقول بأننا أذكى الكائنات هي محض هراءٍ لا وجودَ له سوى في عُقولنا المَريضة، وعلى الأغلب نَحتاج إلى قُرونٍ أخرى للإدراك السليم وتَصحيح المَسار، إذ لا تُوجد طريقة أخرى لطعنِ هذه المنظومة العَمياء سوى التوقف عن الإنجاب وجر المَزيد من الضحايا إلى جَحيمها، فكل وِلادةٍ تَعني الموت بِالضرورة ولا شَيء غَير المَوت، هذه هي القاعدة الوحيدة المُتفق عليها عالميّاً، ومع ذلك مازال البَشر يُؤمنون بالإنجاب، فالجنس من الرغبَات التي توقض القرد بداخل الرجل، وتَفضح المصلحة عند المرأة كونها كائن تافه ومختل إلا في حَالاتٍ نادرة. لم يخطئ شوبنهاور حين امتعض وصفهن بالجنس اللطيف، ونفى أي جمال فيهن، وبالفعل، ماذا تمتلك المرأة للضغط على الرجل غير عضوها التناسلي؟ فشيء مثل المشاعر في العلاقة بين القرد وآلة الجنس هو غرور واحتياج فَحسب، تمثيل مزدوج يُمارسه الرجل والمَرأة لتَحقيق الأهداف الوَاضحة، تحصيل الرغبة والحُصول على المُتعة، لكن بأسلوب حَضاري يَحمي هذه الكَائنات داخل مجمتعاتٍ منافقة تُقدّس الدّجالين والطبقة الحاكمة، هؤلاء الحَمقى الذين يُشجعون الأغبياء من القردة/الرجال للإرتباطِ بآلات التّفريخ/النساء لجر المَزيد من البعوض إلى هذا المُستنقع الذي أصبحَ غَير قَابلٍ لِلعيش. بالنسبة لي كَفأرٍ أدرك عَبثية المِصيدة التي وَقعنا فيها، كنتُ كلما فَكرت في تكوين عَلاقةٍ مَع الجِنس الآخر لا أجِد أيّ مَعايير أو أساسيّات لِلبناء عَليها، إذ أتَساءل دَومًا: "ماذا بعد الإنبهار والإنجذاب ومناقشة الأعطاب وإصلاحها بالهراء؟ ثم تبادل المعارف والأفكار وعناوين الروايات والقِطعِ الموسيقية؟ المَلل هو النّهايَة في جَميع الأحوال، سَيبلتعني دون أيّ شَك، وكَأيّ قردٍ آخر سأرى بأن الحَلّ هو مُمارسة الجنس، بَعد طقُوسٍ بَلهاء تُباركني مَع حَمقاء من نَفس النوع، لإرضاء العائلة والمُجتمع بِضرورة إنتاج فَردٍ جديد. لكن! سَوف أشعُر بِالمَلل مَرّةً أخرَى؟ هذا ما تُخبرني به بَرمجتي كل يوم، أنا أعرفَ دَورة عَملي، أريد شَيئًا وحين أحصل عليه يَتبعه المَلل، وإن لم أحصل عليه شَعرت بالإحباط، هَذه هي الخُدعة..!"
نَعم، مُعظم الرجال يَشعرون بِالملل تجاه زَوجاتهم، فِيما يَشعرن هُن بِالقَرف منهم، لا يبقى من العَلاقة سِوى جَسدين مُثقلين بِالندم، ورُوحين استَفرغتهما الإلتزامات والمَسؤوليات والجنس والصرَاع من أجل البَقاء، يَجمعون أشلاءهم عَلى جُثَثِ أطفالٍ يُقحمونهم عنوةً إلى الحَياة لِكي يَموتوا، يُغطون فَشلهم بإنتاجِ المَزيد مِنهم، في سيناريو مُكرّر ومُقيت يُساهم في تَمديد عُمر البُؤس البشري، مَن مِنا يَخطر عَلى بَاله بَدل الجِنس جَد وَالدِه مَثلًا؟ أو جَد جَدّه؟ وهل مَازالت قُبورهم مَوجودة؟ وما هي إنجازاتهم؟ كيف عَاشوا وكيف مَاتوا؟، بَرمجتنا المَدفوعة بالحمقِ والغرور تُعمي عُقولنا بِرغباتٍ جَعلتنا عَبيد بِالتُوارث، نَرثُ المَوت ونُورثه، وخِلال رِحلتنا القَصيرة لن نَعيش في سَلامٍ، لن نَعيش حبنا المفترض وأخوتنا المفترضة، وصداقتنا المفترضة وكل ما أعطيناه إسمًا مُفترضًا ودلالة مُفترضة عَبر تَاريخنا الحَافل في الدين والفَلسفة، ولأننا مَخلوقات متغَطرسة وأنانيّة لن يَنجحَ الكَائن البَشري في عَيش جَنته المُفترضة وهو يَجعل حَاضره ولَحظته الراهنة جَحيمًا عَلى نفسه وعَلى الآخرين، إننا مُجرّد دُمى لِرغباتِنا كمَا قال الفيلسوف المتصوف"أوشو"، دُمى غَبيّة ومُزعجة لن تَعقلَ حَتى تَدرك مَدى غَبائها ثم ضَرورةِ انقراضها.