الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، أحمده وأثني عليه، وأصلي على نبيه محمد بن عبد الله أشهد أنه رسول الله، والرحمة المهداة البشير، والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي هذه الحلقة من عالم الموت والبرزخ نتناول تتمة الكلام عن الشهداء، في حسن الخاتمة، وأنواعهم، والحكم لمُعَيَّن بالجنة أو النار أو الشهادة، أو الرحمة والمغفرة، ثم بعد ذلك ندخل في سوء الخاتمة -والعياذ بالله- ما هي أسبابها وعلاماتها، ونماذج من سوء الخاتمة.
فضل الشهادة في سبيل الله:
أما بالنسبة لحسنها، فإن الشهادة في سبيل الله من أعظم حسن الخاتمة، قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171
ذكر الله تعالى فضل الشهادة في سبيله لتَنشط النفوس للتضحية في سبيل الله، والتعرض لهذا الموقف العظيم الذي لو ناله المسلم نال رضا الله عز وجل، والحياة العظيمة في أعلى عليين، والاستبشار وذهاب الخوف من المستقبل، والحزن على ما مضى، والتبشير بنعمة الله والفضل، وثبوت الأجر، وأن الله لا يضيعه.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((للشَّهِيد عند الله ستُّ خِصَالٍ: يُغفر له في أوَّل دفعَة، ويَرَى مَقْعَده من الجَنَّة، وَيُجَارُ من عذابِ القَبر، ويَأْمَنُ مِن الفزَعِ الأكْبَر)) -وهذا كله يتعلق بموضوعنا في عالم الموت والبرزخ- ((وَيُوضَعُ علَى رأسِهِ تاجُ الوَقَار اليَاقُوتَة مِنهَا خيرٌ مِن الدنيَا ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّج اثْنَتين وسبعينَ زوجَةً مِن الحُور العِين، ويشفع فِي سَبعين مِن أقَارِبِهِ)) [رواه الترمذي: 1663، وأحمد: 17221، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1375].
المقصود بالشهيد وأنواع الشهداء وحكم كل نوع.. وهو ثلاث انواع.. شهيد الدنيا والاخرة ... وهو من مات في حرب في سبيل الله ولا تطبق عليه احكام الموتى فيدفن في مكانه والصلاة عليه غير واجبة ويكفن في ملابسه. شهيد الدنيا..... وهو من مات في حرب في سبيل الله وكان ذلك رياء او ليقال فلان شجاع فتطبق عليه احكام الشهيد في الدنيا لكن في الاخرة لا ينال ثواب الشهداء . شهيد الاخرة.......... فهو المقتول ظلمًا من غير قتال مثلاً، المقتول ظلمًا من غير قتال، فهذا له أجر شهيد لكنه ليس مثل شهيد المعركة، وكَالميت بداء البطن أو بالطاعون أو بالغرق، أو من يموت محترقًا والنفساء التي تموت في الطلق. ونحو ذلك مما وردت به النصوص، ومعنى كونه من شهداء الآخرة أنه في الدنيا يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدفن في مقبرة المسلمين، ولكنه ينال شهادة في الآخرة دون رتبة ومنزلة وأجر وثواب الشهيد قتيل المعركة في سبيل الله، في الدنيا لا تطبق .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه : ((مَا تَعُدُّونَ الشهداءَ فِيكُم؟ قالُوا: يَا رسُولِ اللَّهِ مَنْ قُتِل في سَبيلِ اللَّه فَهُو شهيدٌ. قَالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقلِيلٌ، قالُوا: فَمنْ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: منْ قُتِل في سبيلِ اللَّه فهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في سَبيلِ اللَّه فهُو شهيدٌ، ومنْ ماتَ في الطَّاعُون فَهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في البطنِ فَهُو شَهيدٌ، والغَريقُ شَهيدٌ)) [رواه مسلم: 5050].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء 2 من الدرس
الموت بالطاعون شهادة. والموت بالطاعون فيه فضلٌ عظيم، فعن حفصة بنت سيرين قالت: "قال لي أنس بن مالك: بم مات يحيى بن أبي عمرة؟ قالت: قلت: بالطاعون قال: قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم: ((الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ))[رواه البخاري: 5732، ومسلم: 5053].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمةً للمؤمنين ليس من أحدٍ يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد". [رواه البخاري: 3474].
وهذا معناه أن الطاعون رحمة للمؤمنين وشهادة لهم، ورجس على الكافر، وإذا وقع بالكفار فإنه عذابٌ عليهم.
وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون له الطاعون شهادة أم لا؟ فهذا فيه نظر، وليس من مسلم يقع الطاعون في بلده، فيمكث فيها صابرًا محتسبًا يعلم ويوقن أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، فإنه في هذه الحالة يكون له أجر شهيد.
ويخرج من هذا، من هرب من البلد، أو قعد فيها وهو يظن أنه من قعد في البلد، وهو على اعتراضٍ وتضجرٍ وتسخطٍ لقدر الله، وكراهة لقائه، ونحو ذلك، فإنه لو مات بالطاعون لا يكون له أجر شهيد. وعن عتبة بن عبد السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ نَحْنُ شُهَدَاءُ فَيُقَالُ انْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا رِيحَ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فيجِدُوهُم كذَلِك)) [رواه أحمد: 17688، وهو حديث حسن صحيح، كما في الترغيب والترهيب للألباني: 1407]. الموت بداء البطن شهادة: ومن شهداء الآخرة أيضاً: الموت بداء البطن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المَبْطُونُ شَهِيدٌ)) [رواه البخاري: 5733]. وفي رواية: ((وَمَنْ مَاتَ فِي البَطْنِ فَهْوَ شَهِيدٌ))[رواه مسلم: 5050].
وعن عبد الله بن يسار قال: "كنت جالسًا وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه -مات مقتولاً بمرض في بطنه-، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يَقْتُلُهُ بَطْنُهُ فَلَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ))؟ فقال الآخر: بلى. وفي رواية: صدقت"[رواه النسائي: 2052، وأحمد: 18336، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 1076، وأحكام الجنائز: 38].
البطن، بداء البطن قيل: الإسهال، وعلى ذلك يكون مرض الكوليرا الذي يسببه، ونحوه من الشهادة. وقيل هو الذي به الاستسقاء، وانتفاخ البطن، مرض يصيب البطن بالانتفاخ حتى يموت موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها. خامسًا: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، وفيه حديث عبد الله بن عتيك -رضي الله عنه- عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه:((وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدٌ)) [رواه أبو داود: 3113، والنسائي في السنن الكبرى: 7487، وأحمد: 22737، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1561].
وعن عبادة بن الصامت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة، فما تحوز له عن فراشه -لم يتنح؛ لأن السنة في ترك ذلك-، فقال: ((أَتَدْرِي مَنْ شُهَدَاءُ أمَّتِي؟)) قالوا: قتل المسلم شهادة، قال: ((إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقلِيلٌ، قَتْلُ المُسْلِمْ شَهَادة، وَالطَّاعُونُ شَهَادة، والمَرْأَةُ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا جَمْعَاء شَهَادَة)) [رواه أحمد: 22808، وصححه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز: 22]، ((يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الجَنَّة)) [رواه أحمد: 22836، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1396
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الدرس 2.. الموت دفاعا عن النفس أو العرض أو المال...
ومن مات في الدفاع عن أهله أو ماله أو عرضه أو نفسه فهو شهيد، قال عليه الصلاة والسلام:((مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) [رواه البخاري: 2480، ومسلم: 378].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ)) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قَاتِلْهُ)) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فَأَنْتَ شَهِيدٌ)) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هُوَ فِي النَّار))" [رواه مسلم: 377].
وعن مخارق قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني فيُريد مالي؟ قال: ((ذكِّرْهُ بالله)) قال: فإن لم يذكر، قال: ((فاسْتَعِنْ عليه بِمَنْ حَوْلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: ((فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ)) -اطلب الشرطة-، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: ((قاتِلْ دونَ مالِكَ حتَّى تَكُونَ مِن شُهَدَاء الآخِرَة، أوْ تَمْنَعُ مَالَكَ))" [رواه النسائي: 4081، وهو حديث حسن صحيح كما في أحكام الجنائز، للألباني، ص: 41]. طبعًا هذا يدل على الدفع بالأسهل فالأسهل. الموت في الدفاع عن النفس والعرض، قد ورد فيه أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ)) [رواه الترمذي:1421،
موت المرابط في سبيل الله... أما الموت مرابطًا في سبيل الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيه: ((رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيرٌ مِنْ صِيامِ شَهْرٍ وقِيامِهِ، وَإنْ ماتَ فيهِ جَرَى عَلَيْهِ عمَلُهُ الَّذي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزقُهُ، وأمِنَ الفَتَّانَ)) [رواه مسلم: 5047].
هذا المرابط الذي يحرس ثغور المسلمين، الأماكن الحدودية المجاورة لبلاد الكفار، أماكن خطيرة جداً؛ لأن الكفار يمكن أن يغِيروا منها في أي لحظة، أو يقصِفوها في أي لحظة، فالمُرابط هناك على الحدود بين المسلمين والكفار، هذا الحارس للمسلمين، هذا الذي يكون في ذلك المكان الخطير، هذا إنسان له ميزات، إذا مات جرى عليه عمله؛ كأنه ما مات، العمل مستمر، الثواب مستمر، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتَّان، جمع فاتن الفُتان، قال النووي: "الفتان بالضم، جمع فاتن، وفي رواية لأبي داود: ((أومن من فتَّاني القبر)) [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 13/61].
الدرس 3 قصة القصيمي – الذنوب والمعاصي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الله القصيمي هذا قصة وعبرة حقيقة. يقول بعضهم: إن صحراء المنطقة الوسطى ما انتجت مفكرا مثله مليح الأسلوب، ساحر الكلام، وألّف الكتب في الدفاع عن التوحيد والإسلام، والرد على المشركين والمبتدعة والملاحدة. الرجل هذا أصله من مصر، ويُكَنَّى بأبي محمد عبد الله بن علي الصعيدي القَصيمي، الرجل هذا وُجد في القصيم.
وهذا الرجل لما كتب أُعْجِب به العلماء، حتى أن عبد الظاهر أبو السمح إمام المسجد الحرام في ذلك الوقت، وخطيبه ومدير دار الحديث في مكة اعجب به ومدحه.
هذا الرجل انتكس انتكاسا وارتد ردة، وانقلب انقلاباً غاية في العجب، لدرجة أنه ألّف كتاب (هذه هي الأغلال) يقول عن الدين أنه أغلال، الدين مجموعة قيود، اكسروها، حطِّموها، بل قال: إنَّ الدين خرافة، وصرّح بالإلحاد، وكتب بعض الذين رافقوه حتى في فترة ردّته، قال: كان يجادلني في الله وفي النبي محمد ويمتلأ بغضاً له واحتقاراً .
وكان مولعا بقراءة صحيح البخاري، لكن المشكلة أن الرجل كان به داء الكِبر، لدرجة غريبة جدا، كان عنده كبر لدرجة فظيعة، يعني هذا الغرور المطبق، والكبر المتناهي الموجود عند رجل مثل هذا، كفيل بأن ينزله من علْياء عرش العلم إلى هاوية الإلحاد. ليس غريبا إذاً على من كان عنده الكبر مثل هذه الدرجة، أن يهوي. هذه قضية دسيسة، الرجل في قمة العربدة في الإلحاد. الدنوب والمعاصي....
قال ابن القيم في الجواب الكافي: "ومن عقوباتها -يعني المعاصي- أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن كل أحد محتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه، ومعاده، وثَمَّ أمرٌ أخوف من ذلك وأدهى وأمَرُّ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذَّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها".
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله -عند الموت لما نزل به- قال: شَاهْ، رُخْ، غلبتُك -لأنه كان مولعا بلعبة الشطرنج، كل حياته في الشطرنج- ثم قضى ومات.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء. وقيل لآخر قل: لا إله إلا الله، قال: ما ينفعني ما تقول، ولم أدَعْ معصية إلا ركبتُها. ثم قضى.
نسال الله ان يثبت قلوبنا على دينه ويختم لنا بالخير
الله امين
تم بحمد لله
عن زادي لتعلم الشرعي
الدرس 4.... الجزء-1- أسباب سوء الخاتمة أيضا العدول عن الاستقامة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ما هي أسباب سوء الخاتمة؟ تقدمت أسباب وأيضا منها العدول عن الاستقامة والانتكاس والانحراف، فمن عرف طريق الحق، ثم أعرض عنه وغيَّر وبدَّل، واختار طريق الغواية والضلال وآثره على سبيل الرشاد والهدى؛ فإن ذلك من أعظم أسباب سوء الخاتمة.
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الحور بعد الكور، ما معنى الحور بعد الكور؟ أي النقصان بعد الزيادة، بعد التمام، يعني بعد تمام الإيمان يرجع وينحدر الإيمان، والاستعاذة من الحور بعد الكور في صحيح مسلم. قال في تفسيره: "وهو الرجوع من طريق الاستقامة، أو الزيادة إلى النقص"، قال الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف:175-176].
قال السعدي رحمه الله: "{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي: علمناه كتاب الله، فصار العالم الكبير والحبر النحرير. {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه.." لأنه لو كان صحيحا عنده علم حقيقي صحيح ما ترك هذا، "فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس. فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزَّه إلى المعاصي أزًّا. {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} بعد أن كان من الراشدين، وهذا لأن الله تعالى خذله ووكله إلى نفسه فلهذا قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} بأن نوَفقه للعمل بها، فيرتفع في الدنيا والآخرة... {ولكنَّه أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ}، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي ترك طاعة مولاه، {فَمَثَلُهُ} في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها، {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي: لا يزال لاهثا في كل حال، لا يزال حريصا، حرصا قاطعا قلبه، لا يسد جوعته منها شيء. {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} "
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ ممَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِداؤهُ الْإِسْلَامِ، اعْتَراهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ -في هذه الحال- انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ)) [السلسلة الصحيحة:3201].
قال أبو عبد الله القرطبي: "يروى أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان والصلاة وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة، فرقى يوماً المنارة على عادته للأذان" من زمان كانوا يؤذنون في المنائر "وكان تحت المنارة دار لنصراني ذمِّي، فاطلع فيها" المؤذن المفترض أنه يكون أمينا، وكانوا يختارون الأمين لأن لا ينظر ويطلق البصر في بيوت الجيران، لأن المناره تعلو على الدور "فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها ودخل الدار، فقالت له: ما شأنك ما تريد؟ قال: أنتِ أريدك. قالت: لماذا؟ قال: قد سلبتِ لُبي و أخذْتِ بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة" -النصرانية أكثر عفة منه في هذه النقطة تحديدا- "قال لها: أتزوجك، قالت له: أنت مسلم وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك قال لها: أتنصر. قالت: إن فعلتَ أفعل" أي أتزوجك "فتنصر ليتزوجها، وأقام معها في الدار. فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقَى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، فلا هو بدينه ولا هو بها، فنَعوذ بالله من سوء العاقبة وسوء الخاتمة".
النصرانية مستغربة، وفي النهاية سقط ومات، فلفَّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة.
تعلق القلب بغير الله عز وجل. ومن أسباب سوء الخاتمة تعلق القلب بغير الله عز وجل.
القلب الله عز وجل خلقه، لا يسعد ولا يسلم ولا يطمئن، ولا يسكن ولا يلتذ ولا يقر إلا إذا تعلق بربه. الله هكذا خلق القلب. وإذا تعلق القلب بغير الله يشقى ويبتئس ويحزن، ويضطرب.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالذي تعلَّق قلبه بربه، فهو قد توكَّل عليه وأحبه، ورجاه وخافه، واستحيا منه وصدق معه. لا يشقى؛ أما إذا تعلق بغير الله لزِمه الشقاء وحل البلاء.
قال ابن الجوزي: "قال سُنَيْدٌ: رأيتُ رجلاً عشق فتنصَّر، أي كان سبب دخوله في النصرانية العشق عشق امرأة نصرانية وتنصر- قال وسمعت شيخنا أبا الحسن علي بن عبد الله الزاغوني، يحكي أن رجلاً اجتاز بباب امرأة نصرانية فرآها فهَويها من وقته، وزاد به الأمر حتى غُلب على عقله، فحمل إلى المارستان -المستشفى دار المرضى معرب من الفارسية- ثم إنه زاد الأمر عليه، ونزل به الموت، فقال لصاحبه: لقد جاء الأجل وحان الوقت وما لقيت صاحبتي في الدنيا وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة. قال له صاحبه: كيف تصنع وكيف تلقاها في الآخرة؟ قال: أرجع عن دين محمد، وأقول عيسى ومريم والصليب الأعظم. فقال ذلك ومات -ما تمكن منها في الدنيا ويريد أن يجتمع بها في الآخرة فارتد وتنصر لكي يجتمع بها في الآخرة- فمضى صديقه إلى تلك المرأة، فوجدها مريضة فدخل عليها وجعل يحدثها، لكن لم يخبرها بما حدث لصديقه، فقالت النصرانية وكانت تعشقه أيضا: أنا ما لقيت صاحبي في الدنيا، وأريد أن ألقاه في الآخرة، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنا بريئة من دين النصرانية، فقال أبوها للمسلم: خذوها فإنها منكم. فقام الرجل ليخرج فقيل انتظر ساعة، وماتت.
ومن أسباب سوء الخاتمة: التسويف بالتوبة.
فإن الإنسان إذا تيقن الموت، وأيِس من الحياة أفاق من سكرته، لكن بعد فوات الأوان. قال الحسن البصري: "اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت".
قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:54-56].
سُمِع بعض المحتضرين عند احتضاره، يلطُم على وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}. وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني .
قال بعض السلف: "أصبحتم في أمنية ناس كثير" -يعني الآن الميت يتمنى حياة مثلك، الأموات يتمنون حياة مثلنا كي يتوبوا ويرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويعملوا صالحا، فنحن ما دمنا نعيش في أماني الموتى فَلْنُحْسِن.
تم بحمد الله
عن زادي للتعلم الشرعي
نسال الله التوفسق والسداد لفعل الخير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الموت على عمل يغضب الله عز و جل. ولا شك أن من علامات سوء الخاتمة أن يموت العبد على عمل يُغضب الله عز وجل، فيكون ذلك خزيا له في الدنيا وفضيحة له في الآخرة، كمن يموت في أحضان فاجرة بغي، والعياذ بالله.
ذكر أبو عبد الرحمن اليماني: أنه لقّن رجلا ساعة الاحتضار شهادة أن لا إله إلا الله، فكان يحرك رأسه يمينا وشمالا وهو لا يتكلم، يعني رافض رافض رافض أن يقول لا إله إلا الله.
وقال ابن الجوزي: "سمعت شخصا يقول وقد اشتد به الألم: ربي يظلمني!" يقولها الآن على مخرج الدنيا، يتسخط على قضاء الله وقدره -الشقي.
استدان أحدهم مبلغا من المال، طلب منه صاحب المال المال رفض، قال له: بيني وبينك الله، ثم مات الدائن الذي أقرضه، فجاء الورثة يطالبون المدين، أنكر، ذهبوا للمحكمة، أقسم بالله أنه ما أخذ شيئا، فحكم القاضي ببراءته. ليست هناك بَيِّنَة. وهو خارج من قاعة المحكمة، بعد خطوات من باب المحكمة سقط ميتا. يخرج بيَمين غموس، كيف تكون خاتمته؟!
الموت بالخسف والمسخ والقذف. ومن سوء الخاتمة ما يكون بالخسف والمسخ والقذف.
هناك أناس من هذه الأمة، يبيتون على خمر ومعازف ويخْسف الله بهم الأرض، يموتون بالخسف، وهناك أناس يمسخهم الله قردة وخنازير من هذه الأمة غير اليهود. ((إذا ظهرَ الزِّنا...)) [أخرجه الطبراني:1/179،462، والحاكم:2261باختلاف يسير].
ومتى يكون هذا الخسف لهؤلاء؟ -سوء الخاتمة- في أهلِ القدر أيضا كما جاءت بذلك الأحاديث. وقال عليه الصلاة والسلام: ((فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الخُمُورُ)) [رواه الترمذي: 2212، وصححه الألباني]. القينات أي المغنيات، وقد ظهرن ظهورا ما بعده ظهور. هؤلاء قوم يمسخهم الله عز وجل قردة وخنازير قِسْمٌ، وقسم يضع عليهم جبلا ويخسف بهم سبحانه وتعالى.
ومن الناس من يكون مسخه في الدنيا شيئا عجيبا. قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الاستقامة)، عن أصحاب الأعمال الصالحة الذين يعبدون الله، ويشيب الواحد في طاعة الله قال: "وهذا الحُسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة يسري إلى الوجه من القلب إلى الوجه، والقبح الذي يكون عن الأعمال الفاسدة يسري من القلب إلى الوجه، فكلما كثُر البر والتقوى قوي الحسن والجمال". ولذلك تجد بعض العباد حتى الذين أصابتهم شيخوخة عليهم بهاء ووقار ونور الطاعة، مع أنه صار عمره ستين وسبعين وثمانين، قال: "فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن له من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه حتى ظهر ذلك على صورته، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا، ازداد حسنُها وبهاؤُها، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية، كلما كبروا عظم قبحها وشينُها" وقال: "إن بعض هؤلاء يُمسَخون خنازير" وجهه يتغير عند الموت.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله، ذكر أن هناك أناسا حصل تغيُّر في وجوههم -مسخ، وسيحدث في آخر الأمة أيضا.
ذكر صاحب (تاريخ حلب)، مات رجل كان يسب أبا بكر وعمر، فخرج جماعة من شُبان حلب يتفرجون، فقال بعضهم لبعض: سمعنا أنه يسب أبا بكر وعمر وإن من يفعل هذا فلا بد أن الله عز وجل يعاقبه بشيء، فأجمعوا رأيهم على المضي إلى قبره، فمضوا ونبَشوه فوجدوا صورته خنزيرا ووجه منحرفا عن جهة القبلة إلى جهة الشمال، فأخرجوه على قبره، ثم بدا لهم أن يحرقوه بالنار، فأحْرقوه وأعادوه وأهَالوا عليه التراب.
اسوداد الوجه. ومن علامات سوء الخاتمة اسوداد الوجه. وقد نُقل عن بعض من قُتل مستهزئا بالله وبكتابه وأنبيائه، أنه لما صلب على الخشبة ورفعت خشبته وزالت عنْه الأيدي استدَار وتحول عن القبلة -يعني الخشب نفسه- فكَّبر الناس وكانت آية للجميع.
قال بعضهم: غسَّلت رجلا وكان لونه مصفرا، وفي أثناء التغسيل أخذ لونه يتغير إلى السواد، من رأسه إلى وسطه، فما انتهيتُ إلا وقد صار كالفحمة السوداء.
وأُتي بشاب إلى جامع من جوامع الرياض بعد أن مات في حادث ليُغَسل، وبدأ أحد الشباب المتطوعين يباشر التغسيل، وكان يتأمل وجه الشاب أبيض جميلا، لكن وجهه بدأ يتغير تدريجيا إلى السمرة ثم انقلب إلى الأسود كالفحم، فخرج الشاب المُغسل مسرعا خائفا وسأل عن وليه، قيل له: أبوه واقف هناك، فذهب إلى الأب فوجده يدخن، قال في مثل هذا الموقف تدخن وابنك في المغسلة؟ ماذا كان يعمل ابْنك؟ قال: لا أعلم. قال: هل كان يصلي؟ قال: والله ما كان يعرف الصلاة. قال: فخذ ابْنك والله لا أغسله، فحمله وذهب ولا يُدرى ماذا فعل به.
قال أحد المغسلين: غسَّلْتُ عددا كبيرا من الموتى سنين طويلة، وأذكر أني وجهت أكثر من مئة ميت كلهم صُرفت وجوههم عن القبلة. يعني حصل لهم تحول عن القبلة، واسوداد في الوجه.
قال القرطبي في (التذكرة): "أخبرني صاحبنا الفقيه العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد القصري رحمه الله، أنه توفي بعض الولاة فحفر له، فلما فرغوا من الحفر وأرادوا أن يدخلوه القبر، إذا بحية سوداء داخل القبر، فهَابوا أن يدخلوه فيه، فحفروا له قبرا آخر، فإذا بتلك الحية، فلم يزالوا يحفرون قبورا وإذا بتلك الحية، فلما أعياهم ذلك سألوا ما يصنعون؟ قيل لهم: ادفنوه معها".
ونختم بقصة البخاري وقصة المكّاس، أما قصة رواية البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رجل نصرانياً فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له -يعني هو الذي ألّف القرآن- فأماته الله، فدفنوه -طبعا هرب من بلاد الإسلام إلى بلاد النصارى- فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعْمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه [رواه البخاري: 3617، ومسلم: 2781]. وفي رواية مسلم: فتركوه منبوذا [رواه مسلم: 2781]. هذا مثال على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
قال ابن القيم حدثني أبو عبد الله محمد ابن الوزير الحرّاني، أنه خرج من داره بعد العصر إلى بستان، فلما كان بعد غروب الشمس، قال توسطت القبور فإذا بقبر منها وهو جمرة نار -القبر جمرة نار يتوهج- والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنائم أنا أم يقظان؟! ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، أنا أرى السور ويرى القبر كالجمرة، قال: ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مكّاس قد توفي ذلك اليوم". والمَكَّاس هذا هو أكّال الضرائب.
فكانت هذه رحلة في عالم سوء الخاتمة، عرفنا أسبابها، وأمثلة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن رحلة الروح عظيمة وعجيبة، وقد أخبرنا النبي صلى ﷲ علیه وسلم في الحديث الصحيح عن هذه الرحلة.
حضور الملائكة خروج الروح ثم أخبرهم أن ((الْعَبْدَ المؤمن إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا))، يعني إدبار عن الدنيا، ((وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ))، أي اتصال بالآخرة، خروج من هذه ودخول بالأخرى، فهذا هو وقت الاحتضار، وهو وقت الانقطاع عن الدنيا وإدبارِها والإقبال على الآخرة والاتصال بها. ((نَزَلَت إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ)) وهذا للطف والعناية، ((كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ)) يعني وجه كل واحد كأنه الشمس في نورها وإضاءتها ولمعانها، إذن ملائكة الرحمة وجوههم مضيئة لامعة كأنها الشمس، ((مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ)) يعني من الحرير، والدليل على ذلك ما رواه النسائي وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى ﷲ علیه وسلم قال: ((إِذَا حُضِرَ المُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بحَريرَةٍ بَيْضاءَ))، فإذا نستفيد أن ما تأتي به الملائكة لروح المؤمن من الجنة حرير، واللون أبيض، بحريرة بيضاء، ((فيقولون: اخرُجِي راضيةً مَرْضِيًّا عنكِ)) وهذا إخبار له برضا الله تعالى ((إلى رَوْحِ اللهِ ورَيْحانٍ، وربٍّ غيرِ غضبانَ)) [النسائي:1833]، هكذا يبشرونه في الحديث. فأين ستوضع الروح إذا أُخرجت؟ في حريرة بيضاء من الجنة، مع ملائكة الرحمة؛ والطِّيب؟ ((وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ)) فهذا مسك وطيب مجلوب من الجنة، الحرير من الجنة، والمِسْك: هو الطيب الذي يُخْلَط لأَكفان الموتى وأجسادهم، أي الحَنُوط مجلوب من الجنة أيضًا. معهم حرير ومعهم المسك، معهم القماش ومعهم الطيب، استعدادا لتلقي روحه لأن هذا هو الفراش الذي سيصعد عليه إلى السماء، هناك فراشٌ سترقُد عليه الروح وطِيبٌ، واستعدادٌ للصعود؛ ((حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ)) فإذًا يكونون قريبا جدا منه، وهم يجلسون أي الملائكة، ويراهم أمامه مَد البصر، فعدَدُهم كثير جدا، مد البصر، ينتظرون خروج الروح منه، لماذا يجلسون؟ لانْتظار خروج الروح؛ ينتظرون من؟ ملك الموت، لأنه هو الذي سيَنزعها، ثم يسلمهم إياها. فهناك إذًا استلام وتسليم، ثم يأتي الملك الكبير ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فهو أقرب إليه منهم، ملك الموت يكون عند رأسه، ليس عند رجليه ولا عند وسطه، ((عِنْدَ رَأْسِهِ))، ماذا يفعل ملك الموت؟ يتكلم فيقول: ((أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ))، أو ((المطمئنَّة))، وهذا يقوله ملك الموت وحده، ولكن وردت رواية أخرى عند أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى ﷲ علیه وسلم قال: ((الميِّتُ تحضرُهُ الملائِكَةُ، فإذا كانَ الرَّجلُ صالحًا، قالوا: اخرجي أيَّتُها النَّفسُ الطَّيِّبةُ)) حديث صحيح، [أخرجه ابن ماجه: 4262]. ويُحتَمل أنهم كلهم يقولون ذلك، ويُحتَمل وهو الأظهر أن الذي يقول ذلك هو رئيسهم -ملك الموت، للحديث والرواية المتقدمة. فهو الذي يتكلم بالنيابة عنهم، هو رئيسهم. ملك الموت يقول: "أخرجي راضية" يخاطب الروح، الآن الكلام مع الروح، مِن قِبَلِ المَلَك: ((اخْرُجِي)) وهذا فعل أمر، ((أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ)) وهذا ثناء عليها، إلى أين؟ ((إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ)) وهذا تبشير، ليس أمامها إلا المغفرة والرضوان، والبشارة بدفع العذاب وحضور الثواب، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30]، هذا معنى الآية. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "وهذا تُخاطَب به الروح يوم القيامة، وتُخاطب به وقت السياق والموت". تم بحمد الله
عن زادي للتعلم الشرعي